الاثنين، يناير 30، 2012

الرئيس قبل الدستور، هكذا أراد الشعب

هل يجوز لحاكم جاء إلى منصبه بانتخابات حرة نزيهة أن يستبد بالناس ويمارس الطغيان عليهم إذا رأى أن هذا هو الأصلح له؟

هل يجوز للوكيل على الأموال، بما أنه اكتسب ثقة الموكل عنه بلا ضغط ولا إكراه، أن يتصرف في هذه الأموال على رغبته وإن خالفت رغبة صاحب المال؟

بل هل كان يجوز للنبي أو الرسول أن يشرع من عند نفسه طالما أن الإله قد اختاره لتبليغ الرسالة؟ أما قال الله تعالى (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين). والمعنى النبي لو ذكر أقوالا من نفسه وادعى بأنها من عند الله لبطش الله به وقطع شريان قلبه (الوتين) وما استطاع أحد أن يقف أمام عقاب الله

***

نقول هذا في سياق ما بدأنا نراه من اتجاه لدى الأحزاب الإسلامية لكتابة الدستور أولا وقبل انتخابات الرئاسة، ويسري خفية أن حصولهم على ثقة الشعب وأغلبية البرلمان قد يجعلهم مفوضين في تغيير مسار نقل السلطة الذي أقره الشعب في الاستفتاء على التعديلات الدستورية.

ونحن من موقع الناصح الأمين، والمحب المشفق نحذر هؤلاء الكرام الفضلاء من الإقدام على هذه الخطوة، ففيها من الخطر الكثير، وهو خطر يحيق بالوطن ويحيق بصورتهم أيضا، وهذه هي الأسباب:

1. شرعا لا يجوز للوكيل أو المفوض أو المؤتمن التصرف بغير رغبة صاحب الحق الأصلي، وصاحب الحق هنا هو الشعب، وإرادته التي عبرت عنها نتيجة الاستفتاء تظل أقوى من أي تفويض آخر، لأنها ممارسة مباشرة من صاحب الحق لحقه الأصيل.

2. أخلاقيا، لا يجوز مخالفة الإرادة الشعبية، وإلا لصار الإسلاميون كالنخبة والتيارات العلمانية التي لا تحترم إرادة الشعب إلا حين توافق هواها، فإن خالفت هواها استكبروا عليها وصدوا عنها وشيطنوها، وهو السلوك الذي قال عنه الإسلاميون أنفسهم قبل ذلك –عن حق- إنه كصنم العجوة، يعبدونه وقت الرخاء فإذا جاعوا أكلوه.. فالله الله في أنفسكم، ودينكم، ورسالتكم.. لا تكونوا كمن نكص على عقبيه، وانهزم في ميدان المبادئ والأخلاق أمام خصمه وإن انتصر عليه في ميدان المعركة.

3. إن مخالفتكم للإرادة الشعبية وانقلابكم عليها يرسخ ما قيل عنكم من شبهات دائما، وأبرزها أنكم تتخذون الديمقراطية وسيلة للوصول إلى غايتكم ثم تمنعونها، سلما تصعدون عليه ثم تركلونه أو تحرقونه.. حينها سيصدق عليكم –مهما أنكرتم- أنكم "الحزب الوطني فرع المعاملات الإسلامية" وأنه "لا فرق بينكم وبين النخبة إلا اللحية".. وسيكون هذا أكبر إثبات عملي يصب في صالح العلمانية التي ترى أنه لابد من فصل الدين عن السياسة لأن دخول الدين في السياسة يلوثه ولا يطهرها، وهو الأمر الذي طالما جادلنا لإثبات عكسه.. فالله الله في أنفسكم ورسالتكم والأجيال القادمة.

4. التعديلات الدستورية تنص صراحة على أن رئيس الجمهورية سينتخب قبل وضع الدستور، هذا نص المادة 189، وهذا ما أكد عليه رئيس اللجنة التي وضعت التعديلات المستشار طارق البشري بوضوح في أكثر من لقاء وأكثر من مقال.. بل إن هذا ما أكده اللواء ممدوح شاهين نفسه أول الأمر حين كان يشرح التعديلات الدستورية.. كل هذا الوضوح يجعل من محاولة وضع الدستور قبل الرئاسة إهدارا وانتهاكا لإرادة الشعب، ولا أريد أن أقول: خيانة للشعب، فما زلنا نفترض حسن النوايا.

5. أيهما تفضل: مجلس عسكري غير منتخب يملك القوة المسلحة يمارس صلاحيات رئيس الجمهورية كما هو في الإعلان الدستوري؟ أم رئيس مدني منتخب يمارس نفس الصلاحيات ولا يملك أن يكون مستبدا أصلا، لأن الاستبداد يحتاج سنين من السيطرة على مراكز القوة.. فأيهما تفضل؟

6. صحيح أن المثالية الحالمة تدفع باتجاه انتخاب رئيس على قواعد وصلاحيات محددة في الدستور، لكننا –للأسف- لسنا في الحالة المثالية المستقرة، بل نحن نجاهد لاستخلاص البلاد من الحكم العسكري المستبد، وقد أثبتت الشهور القليلة الماضية أن سياسة المجلس العسكري لا تختلف كثيرا عن سياسات الستين عاما الماضية.. ولو أنك –يا أخي الكريم- تصر على المثالية، فقد كان يجب عليك رفض تكليف المجلس العسكري بإدارة شؤون البلاد (فهذا ليس دستوريا ولا قانونيا) أو أن تشكل أربع حكومات بلا وزير دفاع، أو أن تصدر القوانين والمراسيم من جهة غير منتخبة كالمجلس العسكري.. نحن لسنا في حالة مثالية لكي ننتظر انتهاء الدستور ثم ننتخب الرئيس، نحن في حالة خطر وضرورة.

7. وضع الدستور قبل انتخاب الرئيس يضعنا بالفعل رهينة في أيدي العسكر عبر أكثر من طريق:

· من أراد أن يتخلص من حكم العسكر فليرض بالدستور الذي وضع مهما كانت سلبياته وثغراته.

· ومن لم يرض، فلينتظر في ظل العسكر سنين عددا، فالدساتير المحترمة لا توضع في أيام ولا شهور، ويمكننا أن نسرد بعض الأمثلة التاريخية الكثيرة ولكن المقام لا يتسع، ويكفي أن نعرف أن تعديلات المواد التسعة استغرفت من لجنة التعديلات أكثر من عشرة أيام (من 15/2/2011 حتى 26/2/2011 م)، وعليه فإذا لم يعجبك هذا الدستور فأنت في قبضة العسكر لحين تشكيل لجنة أخرى تضع دستورا آخر يعجبك!

· العسكر بما يملكونه بالفعل من سلطة وأجهزة قادرون على التأثير على تشكيل لجنة الدستور، وعلى صياغة الدستور، بالأساليب المشروعة وغير المشروعة، وبالترغيب والترهيب، وهذه القدرة تنخفض إذا اكتمل تسليم السلطة قبل صياغة الدستور، فلن يكون لهم وقتها أي شرعية للتدخل والتأثير.

8. ثم دعنا نتذكر: إذا كنت ترى المصلحة في وضع الدستور أولا، فكيف كنت تحشد الناس للتصويت عليها بنعم في ذلك الوقت؟ وكيف خضت المعارك الكبيرة طوال العام الماضي ليكون الدستور آخرا لا أولا؟.. هل يصح عقلا وخُلُقًا أن تنقلب على مواقفك وتنقض بنفسك كل كلامك وحججك؟.. راجع كلامك أنت –أيها الإخواني والسلفي- في الرد على النخبة وعلى البرادعي وعلى الإعلام الذي وضع كل ثقله خلف دعوة "الدستور أولا"؟.. هل كنت في ذلك الوقت تدرك ما تدركه الآن وتخوض المعركة بالباطل؟؟!!

***

أخي النائب المحترم، في عنقك الآن مصير بلد، وبلد مؤثر في مسار التاريخ، وقد كان من قبلك أناس لم تكفهم حسن نواياهم في الإصلاح فأضاعوا البلاد ستين سنة، وضاعت معها الأمة كلها، ولقد كانت ستين سنة في عمر الزمان وقرونا في عمر الحضارة والتفوق العلمي.

أخي النائب المحترم، لا ينجيك في هذا الموقف إلا أن تجتهد ما وسعك الجهد في استجلاء المصلحة، ثم تجتهد ما وسعك الجهد في المفاضلة بين المكاسب والخسائر، ثم تجتهد ما وسعك الجهد في أن تتجرد لله وتبتعد عن الهوى وحظ النفس لتختار الطريق الصحيح ولو كان صعبا (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته)..

أخي النائب المحترم.. إنا وإياك كالخليفة الراشد، اختاره قومه ليقودهم، فما استقام لهم استقاموا له، فإن رأوا انحرافا نصحوه وقوموه، وما كان له أن يتكبر على نصحهم أو أن يتلبس قول الطاغية (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، بل كان رشده وخيرته في قوله (لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها).

نشر في رابطة النهضة والإصلاح

الأحد، يناير 29، 2012

حازم أبو إسماعيل.. الرجل الثائر

بداية، هذا المقال لبيان دور هذا الرجل في إعادة إشعال الثورة وليس نفيا لأدوار غيره في هذا الأمر.

تعرضت الثورة المصرية إلى لحظات خطيرة بالفعل، ولولا الله ثم الله ثم الله لكانت الثورة الآن قد سُرِقت وانتهى أمرها، وملخص الحكاية كالآتي:

أخطأ العسكر خطأ وحيدا، كلفوا لجنة وطنية محترمة بصياغة التعديلات الدستورية، فأنتجت هذه اللجنة تعديلات في قمة الدقة والروعة، رسمت بها مسارا بلا ثغرات لانتهاء المرحلة الانتقالية بأسرع وآمن طريق ممكن.

وهنا ثارت ثائرة العلمانيين في مصر، وسخروا كل قنواتهم وصحافتهم وأموالهم، بخلاف الأموال التي تدفقت عليهم، لشيطنة الإسلاميين ورفض التعديلات الدستورية التي تمثل كارثة عليهم في عنصرين تحديدا: انتخابات عاجلة لتقصير الفترة الانتقالية، ودستور جديد تكتبه لجنة يختارها أعضاء البرلمان المنتخبون. ولما كانوا بلا حجم في الشارع فضلوا مصالحهم الشخصية على مصلحة الوطن، وفَضَّلوا حكم العسكر على حكم مدني إسلامي، وسارعوا لإشاعة أن صفقة تمت بين الإخوان والعسكر، وشملت حملتهم مهاجمة المجلس العسكري الذي سمح للإسلاميين بمجرد الوجود، وشهدت الشهور الآتية حملة شيطانية إبليسية فاجرة لقلب المسار ونسف التحول الديمقراطي..

كان من فوائد هذه الحملة أنها ركزت الضوء على جرائم العسكر وانتهاكاتهم، وكسرت هيبة الجنرالات في نفوس الناس، وجعلت مهاجمة المجلس العسكري أمرا معتادا بعد أن كانت الهيبة العميقة في نفوس الناس تمنعهم من مهاجمة الجيش لا سيما وقد أرادوا تصديق أنفسهم في أن الجيش قد انحاز إليهم وحمى ثورتهم..

حين ذاك وجد الإسلاميون أنفسهم في معسكر المجلس العسكري بغير رغبة ولا إرادة، ولا صفقة بطبيعة الحال، وتراوحت مواقفهم إزاء الجنرالات بين التأييد المطلق والتأييد الخافت والسكوت على جرائمهم واحتمال أذى المرحلة الانتقالية، والتماس العذر لإدارتهم السياسية.

من ناحيته، حاول المجلس العسكري تكفير الخطيئة التي ارتكبها، فتقدم للعلمانيين بكثير من الرسائل لكنها لم تكفهم: شكل حكومتين، ومجلس أعلى للصحافة، ومجلس أعلى لحقوق الإنسان بدون أي شخصية إسلامية، وتباطأ في الفترة الانتقالية وإصدار قانون انتخاب مجلسش الشعب والشورى حتى اللحظة الأخيرة.. والإسلاميون من ناحيتهم لا يريدون اشتباكا ولا صداما، لا سيما وقد ظهر لهم أن رفاق النضال من العلمانيين ليسوا إلا معارضين لمبارك لا للديكتاتورية وأنهم مجرد نماذج أخرى منه، فلئن أمسكوا بالسلطة فسيكونون أظلم منه وأشد بطشا. والعلمانيون من ناحيتهم لا يرضون بأقل من كتابة الدستور بأنفسهم أو على الأقل كتابة مبادئه الأساسية الملزمة لكل الناس، وليذهب الاختيار الشعبي إلى الجحيم.. ولا بأس أن يذهب الشعب كله إلى الجحيم أيضا.

فئات أخرى ظلت حائرة في هذا المشهد الحافل بالاستقطاب، إسلاميون وغير إسلاميين يرون جرائم المجلس العسكري وانتهاكاته وإطالته للفترة الانتقالية وتنازلاته للعلمانيين وعدم احترام وعوده، همهم الأول هو إنهاء الحكم العسكري وتثبيت الحكم المدني الديمقراطي ولو جاء بالإخوان أو السلفيين أو الجن الأزرق!

وبينما ظلت الفئات غير الإسلامية لا تجد لها ناظما ولا قائدا، خرج بين الإسلاميين ذلك الرجل الفذ العظيم: حازم صلاح أبو إسماعيل.

سيذكر التاريخ هذا الرجل، وستذكرون ما أقول لكم، باعتباره مشهدا فارقا بين الحالة الإسلامية قبله وبعده، لقد جمع بين الثورية (التي بدا أنها حكر في هذا الوقت على العلمانيين) والإسلامية (التي بدت في صف المجلس العسكري) ثم جمع بعد كل هذا خطابا شديد الوضوح إسلاميا (لم يجرؤ عليه حتى كثير من السلفيين) وشديد الوعي بالسياسة ومسار المجلس العسكري (لم نجده عند أحد من العلمانيين).. فكان الإسلامي الثائر الذي نبه في لحظة صمت سائدة إلى حقيقة أن المجلس العسكري يسرق الثورة وأن جنرالاته إنما هم "ذئاب وثعالب".

استطاع حازم أبو إسماعيل جذب الكثير من الشباب الإسلامي، وبالأخص أولئك الكثيرون الذين انسحبوا من حركة الإخوان والسلفيين فيما قبل الثورة أو بعدها لاختلافهم مع ضعف النهج الثوري في هذه الحركات، وبدا الرجل كفارس جديد يداعب خيال الشباب الإسلامي الذي رأى لأول مرة في جيله رجلا يقدم خطابا إسلاميا واضحا ومتمسكا بالثوابت، لا يتراجع ولا يتلجلج ولا يناور أمام محاكم التفتيش الإعلامية، ثم هو بعد ذلك يستوعب أوضاع السياسة والاقتصاد والقانون، ولديه رؤية ناهضة واضحة.

على كل حال، ليس هذا هو المقصود بالمقال، وإنما المقصود أن هذا الرجل كان هو الزعيم الوحيد.. وأكرر: الوحيد، الذي جابه المجلس العسكري وفضح مؤامراته في سرقة الثورة والتآمر عليها، ولم يكن أحد من مرشحي الرئاسة جميعا يتكلم بذات القوة أو الوضوح التي يتحدث بها، ثم كان هو الوحيد الذي "يعمل" في مواجهة مخطط العسكر، فلم يكن أحد غيره من مرشحي الرئاسة أو الشخصيات العامة من يحشد لمقاومة سرقة الثورة.

ثم تلقينا جميعا صاعقة هائلة في يوم 1/10/2011، إذ استطاع رئيس الأركان سامي عنان التغرير بقيادات الأحزاب جميعا، واستخلص منهم توقيعا على وثيقة العار والفضيحة والجريمة في حق الوطن والثورة، وهي الوثيقة التي تنسف تماما التعديلات الدستورية وتضرب الإرادة الشعبية في مقتل، وتسمح للعسكر باستعادة الحكم في مصر، وملخصه أن الفترة الانتقالية قد طالت إلى سنتين ونصف بحد أدنى، وأن الدستور سيوضع في حكم العسكر، وستوضع له مبادئ فوق دستورية تعهدت الأحزاب بالالتزام "الشرفي" بها، بالإضافة إلى جدول زمني ممطوط للانتخابات البرلمانية، وإبقاء حالة الطوارئ (بالمخالفة للاستفتاء والتعديل الدستوري)، ثم تأييدا مطلقا للمجلس العسكري!

لم يعد أدنى شك في أن قيادات الأحزاب هؤلاء يتراوحون بين السذاجة والمكر، وكانت صدمة الإسلاميين هائلة في رئيسي حزبي "الحرية والعدالة" و"النور" على وجه التحديد، أما الأحزاب الأخرى فهم ميئوس منهم أصلا، لا سيما وقد صرح محمد أبو الغار –رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وهو أحد الأحزاب التي يمولها ساويرس- بأنه وقع على الوثيقة لأن "القوى المدنية" لم تستطع أن تتفق أو تتحد في وجه التيارات الظلامية (يعني: الإسلامية)، وهو ما يعني أنه ألقى بنفسه في حضن العسكر هروبا من ديمقراطية تأتي بالإسلاميين..

صحيح أن مصطفى النجار –رئيس حزب العدل- سحب توقيعه بعد الثورة عليه، وأصدر حزب النور تصريحا يحمل ضمنيا عدم رضاه، ثم أصدرت جماعة الإخوان بيانا معناه رفض الوثيقة دون التصريح بسحب التوقيع، وكل هذا تم بفعل الشباب الثائر الذي ملأ وسائله الإعلامية بالاحتجاج على وثيقة العار هذه.. إلا أن الصحيح أيضا أن العسكر تجاهلوا كل هذا ومضوا في تنفيذ هذه الوثيقة وأصروا عليها، ولم يعبأوا بكل هذا..

وهنا بدا أن الثورة قد سُرِقت بالفعل، لكن الله قيض لها شبابا ثائرا رائعا، وقيض لها هذا الرجل: حازم صلاح أبو إسماعيل الذي بذل كل طاقته في الحشد لمليونية في 28/10، وأعلن أنها جمعة "المطلب الوحيد: تسليم السلطة" وإعلان موعد فتح الترشيح لانتخابات الرئاسة.

وبالفعل: وبعد خفوت ميدان التحرير في الشهور الماضية وضعف الحشود، استطاعت هذه الجمعة أن تعيد هذا الزخم إلى الميدان، وظلت الآلاف ساهرة حتى الليل تنتظر قرار الاعتصام من عدمه، وجرت أشياء كثيرة في الدهاليز أسفرت عن تأجيل الاعتصام إلى جمعة 18/11، ثم حشد الشيخ لهذه الجمعة بكل طاقته أيضا، وحشد معه كل الرافضين لحكم العسكر على اختلاف توجهاتهم، وكانت الجمعة الثانية التي أعادت صوت ميدان التحرير، وكان عشرة آلاف على الأقل مستعدون للاعتصام، وأعرف بشكل شخصي عددا من الشباب نزلوا من أعمالهم في الدول العربية لتجديد هذه الثورة بأثر من دعوة الشيخ.

أما المجلس العسكري الذي فوجيء بهذا التجدد للثورة التي ظن أنه سرقها، فقد استعمل العنف في إنهائها، وعلى حين فَضَّل الشيخ حازم عدم الاعتصام فانصرف الناس والكآبة تعلو وجوههم، إلا من أعداد قليلة أصرت على الاعتصام ومنهم أسر الشهداء والمصابين في الثورة، فانقضت قوات الأمن عليهم بكل ما كانت تحمله من ثأر للثورة ورغبة في سحقها والانتهاء منها.

وهكذا.. حين عادت الداخلية إلى ثوبها القديم، وأسفر المجلس العسكري عن نيته في سحق الثورة، عاد الشعب إلى الشوارع من جديد، ووقف الشباب المصري الباسل أمام قوات الأمن التي تحاول اقتحام ميدان التحرير من شارع محمد محمود، وكلما سقط الشباب وافتضح العسكر، كلما زاد هذا من التفاف الناس حول الثورة، وبالدم وحده سقطت وثيقة المبادئ فوق الدستورية، وقصرت الفترة الانتقالية عاما على الأقل، وما زالت الثورة مستمرة.. وما زال المصريون يجاهدون في سبيل حريتهم.

ومما أراه الآن في التغطيات الإعلامية، لا أجد واحدا يتذكر فضل حازم أبو إسماعيل في تجديد الزخم الثوري على الإطلاق، فكان لزاما أن تكتب مثل هذه الكلمات تذكيرا بتاريخ ينساه البعض سهوا ويتناساه البعض عمدا ولا يشير إليه أحد رغم أنه تاريخ لم يمض عليه إلا أيام!!

نشر في: شبكة رصد الإخبارية، ورابطة النهضة والإصلاح

اقرأ:

أيها الإسلامي لا تخن ضميرك

قصة طالوت تتكرر في مصر

الحركة الإسلامية والرئيس التوافقي

الخميس، يناير 26، 2012

الثورة والبرلمان بعضهم أولياء بعض

المشكلة المصرية تتلخص في أن الملايين الهادرة لا تجد لها قائدا، فهي تبذل الجهد والتعب والنصب بل والدم ثم لا تجد من يحصد هذا في أروقة السياسة والحكم، أسفرت سنوات الاستبداد عن تيبس جيل الكهول الذين فقدوا الحد الأدنى من الثورية، فلم يفكروا في الثورة إلا حين صنعها الشباب واقعا، فكان خيرهم حالا من التحق بها، وظل كثير منهم يترقبون..

حتى وصلنا إلى هذا الوضع الشاذ الغريب..


الجماهير بالملايين تطالب بتسليم السلطة من المجلس العسكري إلى مجلس الشعب المنتخب، ولكن مجلس الشعب المنتخب هو من يرفض! إذ القوى الإسلامية ترى أنها غير مستعدة لتحمل أعباء الحكم، كأنما يريدون أن يشيروا ويستمتعون أن يطالبوا ويهمهم أن ينقدوا أداء الحكومة والمجلس العسكري دون أن يتكلفوا تحمل المهمة، هل استعذب الإسلاميون موقع المعارضة حتى بعد أن صاروا أغلبية؟؟


لدى الثوار طرح آخر، أن تُجرى انتخابات رئاسية مبكرة، وأن تؤجل أو تلغى انتخابات الشورى، لكن الأغلبية البرلمانية أيضا لا تريد ذلك ولا تدفع باتجاهه، بذريعة التمسك بالإعلان الدستوري (الذي هو أصلا قد خالف الإرادة الشعبية وارتكب تزويرا خطيرا وإن كان ناعما في المواد المستفتى عليها).. بل إن الأخطر والأعجب من هذا أن ترى الأغلبية الشعبية تريد أن ترتكب هي جريمة مخالفة الإرادة الشعبية بأن تكتب الدستور أولا وقبل انتخاب الرئيس وفي ظل الحكم العسكري، وهي نفسها التي عاشت العام الماضي معارك "احترام الإرادة الشعبية" حتى انعكست الأمور: فصارت الفئات الثورية غير الإسلامية تطالب بالانتخابات أولا لتتخلص من حكم العسكر الذي ثبت بالدليل وبالدماء أن استمراره خطر على مصلحة البلاد والجيش، ثم نجد أن القوى المتصدرة للمشهد الإسلامي هي التي تسعى نحو كتابة دستور تحت الحكم العسكري!!


من كان يحلم أن يرى هذا المشهد في مصر: غير الإسلاميين يناشدون الإسلاميين تسلم السلطة للخلاص من الحكم العسكري، والإسلاميون يمتنعون ويتمسكون بالوفاء بالخطة التي وضعها العسكر، والتي قَصَّروها مجبرين تحت ضغط الشارع وبثمن مقابل: أربعين شهيدا ونحو ألفي جريح!!


إن الواجب الشرعي –قبل كل التقديرات الأخرى- تحتم على الإسلاميين قيادة المشهد، فما لهم عذر أمام الله وقد رفعهم الناس بالانتخاب إلى البرلمان، ثم يطالبهم من لم ينتخبهم بتحمل المسؤولية، ولا تغني عنهم ذرائع التخوف من الفشل شيئا أمام الله وأمام الناس.


وأما التقدير السياسي فله حديث ينبغي أن يكون مفهوما لدى الجميع وخلاصته كالآتي:


من يمتلك القوة هو من يحكم، بغض النظر عن شرعيته أو الحق الذي يحكم به، وكل التجربة الإنسانية في تنظيم الحياة البشرية متلخصة في "كيف نجعل القوة مرتبطة بالحق والشرعية لا منفصلة عنها"، وخاضت البشرية تجربة طويلة من النظريات والتطبيقات وصلت كلها في النهاية إلى مبدأ واحد وهو "الفصل بين السلطات" حيث جوهر التجربة يتمثل في أن تكون "القوة" محايدة، وأن يكون الجهاز الأمني والعسكري خاضع للسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وأي فشل في التجربة إنما يعود لاختلال هذا الخضوع، وخروج "القوة" عن هيمنة السلطة التشريعية والقضائية.


يمكن أن نطيل كثيرا في ضرب الأمثلة من التاريخ والواقع المعاصر، وهذا المعنى كتبت فيه الكثير من الدراسات والبحوث التي يعرفها أهل التخصص، بل هذا المعنى يُدرك بالفطرة السليمة وبالعقل المجرد غير المطلع على بحوث وكتابات، ذلك أن حكم القاضي يظل حبرا على ورق مالم تسعى جهة تنفيذ الأحكام القضائية (التي تملك القوة) لتنفيذه، ويظل القرار والقانون والمرسوم حبرا على ورق ما لم تخضع له الجهة (التي تملك القوة) ويُناط بها التنفيذ.. ونحن ما زلنا في العهد الذي يمكنك تعطيل حكم القضاء فيه برشوة لموظف متوسط في هيئة تنفيذ الأحكام القضائية!


المقصود في سياقنا الآن هو مطالعة الحالة المصرية، وفيها يتبدى بوضوح أن البرلمان لن يعدو أكثر من جلسات دردشة، أو نواح في أقصى حالاته، لو لم تخضع له السلطة التنفيذية، وأهم عناصرها هي: وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، بكل ما يتبعهما وما يرتبط بهما من أجهزة أمنية واستخباراتية، وإذا كان الجميع يعلم الوضع الذي يسود في هذه الأجهزة فعلى الجميع ألا يتفاءل بمجرد الحصول على البرلمان.


بل أذهب أبعد من ذلك فأقول: إن البرلمان لا يحميه إلا الثورة الشعبية، ولولا هذه الثورة ويقظتها لاستطاعت تلك الأجهزة حل البرلمان واعتقال نوابه وإلغاء الانتخابات ونتائجها، وقد حدث هذا في الجزائر سابقا، وحدث في غزة (لولا أن حماس تمتلك قوة عسكرية لتمت تصفيتها وما أغنت عنها أصوات الناس شيئا)، وبقدر ما بقيت هذه الثورة يقظة بقدر ما بقيت الحماية المتوفرة للبرلمان، وبقدر ما استطاعت الثورة إنجاز التحول الديمقراطي في لحظة فورانها بقدر ما نجحت في التغيير! ففي لحظات الهدوء الشعبي واختفاء القوة الشعبية من المعادلة تعود موازين القوى لتحدد طبيعة ونتائج الصراع!


لهذا، فما لم يتقدم الإسلاميون لتشكيل الحكومة والإمساك بمفاصل الدولة الحقيقية (وأهمها الدفاع والداخلية وما يتبعهما) فسيظل برلمانهم في مهب الريح، يتربص به الجميع، فمتى عاد الشارع إلى الهدوء عادوا هم إلى السجون كما في الجزائر، أو في أحسن الأحوال صاروا بلا أثر ملموس وجزءا من النظام القديم ذي الطلاء الجديد كما في كل البرلمانات غير المؤثرة: الكويت والأردن وباكستان والمغرب.


النظام البرلماني لا يصلح في الدول غير المستقرة، عرقيا أو دينيا أو سياسيا، ونحن من الدول غير المستقرة سياسيا لأنها تحاول الخروج من نفق التبعية الطويل الذي عاشت فيه قرابة قرن ونصف، وللدول الخارجية وأجهزتها أيادي متغلغلة في مفاصل الدولة وأجهزتها وأحزابها وتياراتها السياسية، فمحاولة توزيع السلطة بين هذه التيارات المتشاكسة ستبوء بالفشل، لا سيما إن حاولت الأغلبية تحسين صورتها وبحثت عن التوافق (وهو خرافة) مع القوى الأخرى، فهنا تكون كمن يبحث عن المشكلات لنفسه بنفسه، وفي عالم السياسة لا مكان للصدقات ولا للهدايا، والأحزاب التي تحوز الأغلبية الكافية لا تتصدق على غيرها بل تمارس حقها كاملا، وهذا هو الواقع في كل الدنيا، بل وكان واقعا في بلادنا فيما قبل انقلاب يوليو، حيث كان الإنجليز والقصر يتلاعبون بأحزاب الأقلية كالسعديين والأحرار الدستوريين، ولم يكن الوفد –صاحب الأغلبية- يقبل بتشكيل حكومات ائتلافية مطلقا!


بقي لدينا النموذج الأسوأ في الأنظمة البرلمانية: نموذج العراق ولبنان، ففيهما يظهر أسوأ ما في النموذج البرلماني: أحزاب تقتسم المناصب السياسية بالمحاصصة الطائفية، ويملك كل منها أن يُسقط الحكومة لأن شيئا ما لم يعجبه أو لم يرضه، وتضطر الدولة والدول الصديقة والعدوة إلى التدخل وعقد المؤتمرات وجلسات الصلح وتتكاثر الجولات المكوكية والزيارات والوساطات، فلا يتوصلون بعد هذا كله إلا إلى صيغة ترضي الأطراف ثم تكون بطبيعتها هشة متهالكة تنتظر أن تسقط وتتأزم من جديد!


إضافة إلى هذا فإن الحكومة لا تسيطر على "القوة" الموجودة على الأرض، فكل جلسات البرلمان وقوانينه، وكل الحكومة وقراراتها، لا تساوي الحبر الذي كُتِب به إذا لم يرغب من يمتلك القوة على الأرض في تنفيذه، ولذا يمكنك أن تجد نائب رئيس الوزراء مطلوب للاعتقال ولا يستطيع العودة إلى العاصمة (طارق الهاشمي في العراق)، ويمكن للبرلمان اللبناني أن يدعم المحكمة الدولية أو يرى ضرورة نزع السلاح وتوحيده (بغض النظر الآن عن الصواب أو الخطأ) لكنه لا يملك تنفيذ شيء طالما لا يعجب حسن نصر الله، ويمكن لمن يملك القوة أن يصنع دولة داخل الدولة فعليا ثم إذا شاء أعلن عنها (كما في حالة كردستان العراق) وإذا لم يشأ لم يعلن (كما في حالة حزب الله في الجنوب اللبناني)


الخلاصة، أن البرلمانات دون خضوع السلطة التنفيذية لها لا تساوي أكثر من جلسات دردشة أو جلسات صياح ونواح، وهذا ما ينبغي أن يكون موضوعا في الذهن والخاطر، وينبغي للبرلمان أن يعلم أنه في حماية الثورة، وعليه أن يمثلها ويكون رأس حربتها ليحفظ نفسه ومصير البلد كله، ويستطيع إنجاز التحول الديمقراطي على خير ما يكون.
اقرأ:


مقالات الباحث خالد خطاب

السبت، يناير 21، 2012

الرجل الواضح

ويسألونك عن محاكم التفتيش؟

قل: هي نوعان؛ نوع نصبه الكاثوليك في أوروبا ليفتشوا عن إيمان الناس، وكان أكثر من ناله العذاب فيها هم المسلمون في الأندلس حتى صارت محنتهم واحدة من أبشع المحن في التاريخ الإنساني! ونوع نصبه العلمانيون في مصر على الفضائيات ليفتشوا عن إيمان الإسلاميين بحرية العري والأحضان والخمور وأكل الربا (يسمونها حرية الفن والتعبير والإبداع، وحرية السوق).. فأما الأولى فقد صمد أمامها المسلمون ستة قرون، وأما الثانية فقد شهدت تنازلات مريعة لمن تحدثوا باسم الإسلاميين حتى كأنه إسلام جديد لا نعرفه ولم نسمع به!

قبل دقائق من كتابة هذه السطور (مساء الخميس 19/1/2012) نصبت قناة (نايل سينما) محكمة تفتيش لأحمد أبو بركة –المستشار القانوني لحزب الإخوان المسلمين- ليختبروا إيمانه بحرية الأحضان والقبلات، وكالعادة كان الرجل على غير المستوى المأمول، وكان حديثه مليئا بالمناورات والتنازلات، رغم أنه الحزب الفائز بالاختيار الشعبي الحر في الانتخابات النزيهة، وكأنما كُتِب على الجماهير أن تتبع دين الأقلية التي ساقتها ظروف النكبات الوطنية لأن تكون النخبة المتسلطة التي تريد فرض نفسها ودينها على الناس بالإكراه.

الأمر بسيط ويفهمه كل الناس، الإسلامي صاحب الرسالة عرض نفسه على الناس كإسلامي وصاحب رسالة، وهم اختاروه لأجل هذا تحديدا، فأغلب المرشحين بلا تاريخ ولا شهرة ولا نضال طويل، وما فازوا إلا بحملهم للرسالة التي يُقبل الناس عليها، وهو يريد أن ينفذ هذا البرنامج الذي يراه رسالته المأمور بها شرعا ودينا قبل أن يكون المحمول بها على أكتاف الجمهور إلى مقاعد البرلمان!!

من أراد أن يقبل هذا الخيار الشعبي فليقبله، ومن لم يرد فليقاومه عبر الطرق القانونية، وليسقطه في الانتخابات القادمة، لكن المذهل المدهش المثير للأعصاب أن تأتي الأقلية لتحاول فرض رأيها على الأغلبية، والأنكى أن من فاز بأصوات الناس يقبل بهذا فيناور ويداري ويتنازل!!

من أجل هذا ينتصب الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل كمثال يداعب خيال المسلمين الذين يحبون الوضوح والصراحة، ولا يخجلون من التعبير عن أهدافهم ورؤاهم، وبهذا الوضوح يعرضون أنفسهم على الناس، فإن قبلوهم فبها ونعمت، وإن لم يفعلوا نشروا بين الناس دعوتهم حتى يقبلوهم أو يُعذِروا أنفسهم أمام الله!

هكذا قال حازم أبو إسماعيل "أنا مرشح رسالتي لا غير"، لهذا فهو لا يغازل أحدا، لا القوى الدولية ولا مراكز القوى في مصر ولا التيارات الثورية، ولا حتى الإسلاميين الذين يعدون مركز الثقل بالنسبة لهم! وبأثر من هذا الوضوح لا تجد تناقضا في تصريحات الرجل، ولا تقلبا في مواقفه، ولا تزيده الأيام إلا وضوحا ونقاء!

اللهم هيئ لهذا البلد أمر رشد، واحفظه وأهله ممن أراد بهم أو بثورتهم سوءا!

نشر في رابطة النهضة والإصلاح

قصة طالوت تتكرر في مصر!

بين فلاسفة التاريخ خلاف: هل الظروف التاريخية هي من يصنع البطل، أم أن البطل هو من يحفر وينحت في الصخور حتى ينبي مجده ومجد قومه ويصل إلى ما يريد، وليس الهدف في هذا المقال أن نفصل في الخلاف، وإنما المؤكد أن كثيرا من الظروف التاريخية كانت تنتظر بطلا ولم تجد، والمؤكد أيضا أن الظروف أحيانا كانت أقوى من البطل فلم يصل إلى ما يريد.. المؤكد الثالث: أن وجود البطل في اللحظة التاريخية هو أمر حتمي لتفعيل الأفكار والتصورات والرؤى ليجسدها على أرض الواقع في شخصه، وبدونه تظل الأفكار أحلاما وخيالا وأمنيات!

***

مرت على بني إسرائيل كثير من فترات الذل، منها تلك التي استبيحت فيها حرماتهم وأرضهم حتى استولى العدو على أثمن مقدساتهم: التابوت الذي يحوي تراث آل موسى وآل هارون، قيل: كان فيه عصا موسى وآثار الألواح التي كتبت فيها التوراة أول مرة.. وعاش بنو إسرائيل حالة الذل والقهر وكانت كل الظروف تدفعهم للجهاد إلا أنهم افتقدوا شيئا واحدا "البطل"، ذلك الرجل المناسب للحظة التاريخية.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)

ورغم أن الله بعث فيهم نبيه شمويل[1] (عليه السلام) إلا أنه لم يكن رجل اللحظة التاريخية عسكريا، وقد توسل إليه بنو إسرائيل أن يدعو الله لكي يبعث فيهم ملكا يقودهم في الجهاد لاستعادة التراث واستعادة أيام العزة والمجد والسلطان.

وها هنا يجب أن ننتبه إلى معنى شديد الحساسية، ذلك أن النبي نفسه، وهو أعلمهم بالله وأكثرهم خشية وأولهم في درجة التقوى لم يكن مناسبا لقيادة القوم في الجهاد، تماما مثلما كان موسى خير عند الله من الخضر تقوى وورعا لكن غاب عنه ما علمه الخضر، وتماما مثلما كان سليمان خيرا عند الله من الذي أوتي علم الكتاب لكنه لم يقدر على ما استطاعه ذلك الرجل الذي حمل إليه عرش اليمن قبل أن يرتد إليه طرفه!

إن رجل اللحظة التاريخية لابد أن يكون على علم وعلى تقوى ولديه استيعاب للمنهج لكن لا يُشترط أن يكون أعلم قومه أو أتقاهم أو أفصحهم[2]، وهكذا بعث الله لهم من توفرت فيه إمكانيات ومواهب اللحظة التاريخية، رجلا من أوساطهم لم يكن ذا ثراء ولا نفوذ ولا شهرة، طالوت.

(وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)

فهو يمتاز عنهم بالعلم في السياسة والإدارة التي لا بد منها للملك، وبالجسم الذي لا بد منه للجهاد والحرب، وهكذا تجاوز الاختيار الإلهي أعلمهم بالله: نبيه صمويل، وأوسعهم مالا وثراء ونفوذا: قادة بني إسرائيل، واختار لهم عبده طالوت الموهوب في السياسة والإدارة والحرب!

ولأن بني إسرائيل كانوا قوم سوء لا يصدقون الأنبياء (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون)، أرسل الله إليهم معجزة باهرة: إذ جاءهم التابوت المقدس من أرض العدو تحمله الملائكة كدليل على أن طالوت هو الاختيار الإلهي.. (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

***

تولى طالوت قيادة من استسلم لأمر الله من بني إسرائيل، واتجه بهم نحو تحرير الأرض المسلوبة، ولكنه اختبر الذين معه، إذ سار بهم حتى بلغ العطش منهم مبلغه ثم أمرهم ألا يشربوا من النهر إلا غرفة واحدة وإلا فصلهم من الجيش، ولكنهم شربوا منه إلى ان امتلأت بطونهم فلم يبق معه إلا القليل.

ثم إن هؤلاء القليل منهم من ارتاع لعدد القوة الباقية في الجيش، والتي لا تكفي أبدا للصمود أمام قوة العدو الكبيرة التي يقودها الملك الجبار جالوت، لولا أن فئة قليلة من القليل آمنت بالله واستمسكت بما هي عليه من الحق وقررت الثبات في المواجهة

(فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)

وتحقق وعد الله، والتقى الجيشان، وفي خضم المعركة استطاع غلام حديث السن أن يقتل الملك الجبار، ذلك هو داود الذي سيكون بعدئذ نبي بني إسرائيل وملكهم، والذي سيؤسس أقوى مجد لهم في التاريخ ليبلغ في عهد ابنه سليمان ما لم يبلغه أحد من العالمين!

(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)

***

إن قصة بني إسرائيل هي قصة الشعوب العربية في وقتنا هذا، الأمة المستعبدة المقهورة التي سلبها العدو أعز ما تملك من الأرض والمقدسات والإرادة، وقد دخلها الوهن، ولقد أدركت الأمة ماذا تريد، إنها تريد القائد، فكم نادت على ألسنة الشعراء والكتاب والخطباء والمؤلفين: أين صلاح الدين؟

وهنا سأكتفي بالحديث عن الواقع المصري كمثال ولا أوضح على تشابه القصتين:

لقد ظل الناس ينتظرون ثورة، وكانت أحاديث البيوت والمقاهي والحافلات والانترنت تحفل بالغضب ونفاد الصبر، فلما جاءت الثورة (تولوا إلا قليلا منهم) فاستخفهم الإعلام والشيطان حتى تولى عن الثورة بعض العمائم ووقفت ضدها عمائم أخرى، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ثم أنزل الله بالطاغية معجزة لم يتصور أحد أن تكون بهذه السهولة، وانهار الجبار الكبير فيما يشبه تماما أن يأتي التابوت إلى بني إسرائيل تحمله الملائكة، وخرج من وسط الركام فارس كان مغمورا لا يعرفه إلا طلبة العلم والنهضة: حازم صلاح أبو إسماعيل.

فلقى أبو إسماعيل مثلما لقي طالوت (أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه) ونزلت به اتهامات التشويه جميعها: متخلف، ومتشدد، ومتهور، لا يزن الأمور، لا يقدر العواقب، لا يستشير أحدا، خرج عن إجماع العلماء، يهوى الصدام.. واتهم كذلك من فصائل ثورية بالنقيض: جبان، متراجع، متردد، خائف.. إلى آخر القائمة.

لكن أهم ما في الأمر ليس الدرس المستفاد للنفوس المتولية، بل الدرس المستفاد للنفوس المستعدة للبذل والتضحية، وهي في قصة طالوت ثلاثة دروس أراها أهم ما في القصة في سياق واقعنا:

الأول: أن النفوس التي استجابت لرغبة الله فاستعدت للجهاد وقبلت بأن يتملكها رجل من أواسطهم وجهزت نفسها وانطلقت في جيش طالوت.. هؤلاء لم يصلوا جميعا، لقد سقط كثير منهم في اختبارين: اختبار النهر حيث انتصرت شهوة النفس على إرادة العقل، وهنا ينبغي أن يفتش كل واحد عن شهوات نفسه ليحكم السيطرة عليها قبل اللحظة الفارقة.. قبل أن يجد نفسه خارج ركاب المؤمنين الذين صنعوا النصر، وفازوا برضا الله! والثاني: اختبار الهول، حيث غلبت على البعض موازين القوة في الدنيا، فرأوا المشهد ماديا حسابيا بحتا فقالوا (لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)..

لم يصمد في الاختبار إلا الذين انتصروا على شهوة نفوسهم ومادية عقولهم، فهؤلاء هم من قالوا (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين).

الثاني: أن الله نصر الفئة المؤمنة القليلة، ولم يأخذهم بذنب الكثرة من قومهم، وفي هذا دليل على أن المطلوب للمواجهة قلة مؤمنة تحقق معنى الإيمان لكي تنتصر، وأن اللحظة الفارقة لا تستدعي تأجيلها حتى نستعد ونحاول نشر الدعوة بين من لم يستجيبوا بعد، وهذه "فتنة التدرج" التي هبطت علينا في الواقع الإسلامي المصري من حيث لا نحتسب، وهي دعوى تريد تضييع اللحظة مقابل التدرج في الإصلاح ونشر الدعوة بين المزيد من الناس.. ها هي قصة طالوت تثبت أن الأمر نزل فجأة، فثمة من استجاب وأخذ في إعداد العدة، وثمة من تولى، فلم ينتظر أحد من تولى بل تقدموا بمن استعد.. ثم انتصروا على الملك الجبار، على القوى الدولية التي اهتز لها ذات حين بعض المؤمنين فقالوا لا طاقة لنا فلم ينته الأمر إلا وكان نصر الله حليفهم.

الثالث: أن ثمة جنديا مجهولا غاب طوال القصة ولم يعرفه أحد، لم يدر حوله نقاش ولا صراع، بل لم ينتبه إليه أحد، غلام فتى صغير، لم يعرف إلا في لحظة فاصلة.. ذلك هو داود، الفتى الذي كتب الله على يديه الإنجاز الكبير في المعركة!.. أفلا ينبغي للمؤمن أن يتمنى مقام داود في نصرة قومه؟ وإذا تمنى، أفلا ينبغي أن يستعد؟!..

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] يعرب على شمعون أو صمويل، ومعناه "سَمِع الله" وقد أوردت كتب التفسير المطولة سبب تسميته بهذا الاسم مما يخرج عن موضوع مقالنا الآن.

[2] ناقشنا هذا بتفصيل أكبر في سلسلة: فقه اختيار الرجال للأعمال http://melhamy.blogspot.com/2011/04/1.html

في مواطن الموت

أتذكر أني كنت مرعوبا حين حضرت المظاهرة الأولى في حياتي، كانت لدعم الانتفاضة الفلسطينية عام 2000م، وكانت في "المجمع النظري" بجامعة المنوفية في شبين الكوم، طوال الطريق من منوف (حيث كليتي: الهندسة الإلكترونية، وإقامتي) وحتى الوصول إلى شبين الكوم كنت أذكر الله طمعا في أن يطمئن قلبي (ألا بذكر الله تطمئن القلوب).. بعد هذه المرة كان الأمر أيسر وإن كان الخطر أشد، وساعتها علمتُ بيقين أن الخوف ليس إلا كائنا داخل نفوسنا، ابتلانا الله به ليختبر الإيمان بالرسالة والقيمة والدين، وكل هذه أسماء لشيء واحد (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم، دينًا قِيَمًا، ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين).

***

بعدها بسنوات عدت إلى منزلي في قنا فوجدت أمي غارقة في البكاء، وإني لأحسبني من أرقاء القلوب ومن البارين بأمهاتهم، فعظم ذلك عندي جدا، وحاولت تهدئتها حتى هدأت، ثم علمت أنه قد جاءها في غيابي رسول أمن الدولة يطلبونني لأكون لديهم في الغد!

أتذكر أن القلق انتابني على أمي وأبي حتى استطعت تهدئتهما، ثم اشتعل القلق في نفسي على نفسي، فتحت إذاعة القرآن الكريم لكي أطمئن نفسي، فوجدت الشيخ محمود علي البنا يقرأ (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل، ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى * قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العُلى * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى)

وما بالك بمكروب في جوف الليل يسمع هذه الآيات؟ لقد انسابت الآيات إلى قلبي، ونمت ليلة من أهدأ وأنعم الليالي، ثم ذهبت إليهم في الصباح، فحبسوني حتى الثالثة، ولولا إصراري على صلاة الجمعة ما تركوني أصليها في المسجد..

وفي المسجد كان الخطيب يتحدث عن "خالد بن الوليد"، فروسيته وقوته وشجاعته، وكيف أنه تعرض للمهالك ثم مات على فراشه قائلا قولته الخالدة الباقية "فلا نامت أعين الجبناء".. فكانت رسالة إلهية أخرى أعادت إلي بعض ما فقدته من اطمئنان في ساعات الانتظار، وما أطولها في أمن الدولة!

عدت إلى أمن الدولة بعد الجمعة، فحبسوني مرة أخرى حتى استدعاني الضابط المسؤول، عصبوا عيني وقادوني إليه، وقتها فقط عرفت قيمة العين، إنها ليست أداة للرؤية فحسب بل هي وسيلة للأمان، حين تفقد عينيك تشعر أن حصن الأمان قد انهار من حولك، وأنك في الظلام المخيف المجهول، لا تدري من أين تأتي لك الضربات!

حاول الضابط تخشين صوته وخاطبني بأداء مسرحي سخيف، لكني أقسم بالله أني ما شعرت باطمئنان قدر ما شعرت به في مكتب أمن الدولة وأمام هذا الضابط، لقد نزل الثلج في صدري، وصرت كأني في حلم رائق.. لم أشعر بغير الصفعة الأولى، هي التي أثرت في نفسي لمدة، ولم يُزِلْها إلا أن أعدت على نفسي سيرة الصالحين الذين عُذِّبوا في الله ما ضعفوا ولا استكانوا!

***

في شارع محمد محمود، في اليوم الثالث أو الرابع لاشتعال الأحداث، تغيرت خطة الأمن في ضرب القنابل المسيلة للدموع، بدل أن كانوا يضربون الواحدة والاثنتين والثلاثة لغرض التفريق، أصبحوا يضربون العشرة مرة واحدة، كان الشباب المصري الباسل يتهافت على القنبلة ليمسكها ويعيد إلقاءها عليهم أو إلقاءها بعيدا أول الأمر، أما حين تُضرب عشر قنابل مرة واحدة فإنه يسود الشارع سحابة بيضاء ويعود لا مجال لفعل أي شيء، لا سيما مع الاختناق الرهيب والسعال الحارق الذي تسببه الأنواع الجديدة من القنابل..

في أثناء واحدة من هذه المشاهد وبينما أتراجع أمام سيل القنابل إذ تعثرت في الحجارة المتكومة على الأرض، فوقعت على وجهي، وكنت بدوري سببا في تعثر من خلفي فوقع علي، ثم كان بدوره سببا في وقوع آخرين.. لا أحد يرى شيئا، والهجوم عنيف، لم يعد لدي شك في أني سأموت تحت الأقدام، فالمحاولات الأولى للنهوض بسرعة قبل تكاثر المتعثرين باءت بالفشل..

ولمرة أخرى مذهلة.. لم أشعر بالخوف من الموت، وشعرت بنفسي تستسلم له وتنتظر استقباله كأي شيء عادي!!

ما لبث الله أن فرجها فقام المتعثرون وقمت من تحتهم بجروح بسيطة، ولكن هذا الشعور ظل يلازمني ويدهشني ولا أجد له تفسيرا!

***

في محمد محمود رأيت ما لم أره قط! الدماء التي تنبثق من الرأس، الشاب الذي يسقط مصابا، فتيات باسلات مدهشات، رجل يجاوز الثمانين صار متخصصا في الجري على القنابل ثم الجري بها وإعادة رميها، كنا نصاب بالخرطوش ونستمر في مواجهة قوات الأمن، شعرت بألم حارق في ذراعي فقلت لأحدهم: انظر، هل ثمة دم أو نزيف؟ فقال لي: لا تقلق، إنه خرطوش، وكشف لي عن ذراعه وظهره الممتليء بالخرطوش ليثبت لي أنه أمر بسيط ثم عاود الرمي، أمسكت به وصحت فيه "روح المستشفى الميداني" فنظر لي ساخرا ومشفقا وعاد إلى جهاده!

***

إنني الآن أقرب من أي وقت مضى لفهم التاريخ الإسلامي، مجال اهتمامي وعملي وغرامي، أفهم كيف فتح المسلمون في ثمانين سنة ما لم يفتحه الروم في ثمانية قرون، وكيف انطلق رعاة الإبل والغنم في غفلة من التاريخ السياسي والحضاري ليفتحوا العالم شرقا وغربا ويؤسسوا دولتهم الشاسعة الواسعة في أقل من نصف قرن! وينتصرون على الامبراطوريتين الكبيرتين في وقت واحد! في وقت واحد! في وقت واحد!!!

لقد انطلقوا وهم يؤمنون أن الآخرة خير لهم من الدنيا، وأن الواحد فيهم حين يقذف نفسه في قلب المعركة فلن يصيبه إلا ما كتب الله له، فإن قُدِّر له العودة والنصر فسيعود، وإن قدر له الموت فسيموت ولو على فراشه (يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ما قُتِلنا هاهنا، قل: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتِب عليهم القَتْل إلى مضاجعهم، وليبتلي الله ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم، والله عليم بذات الصدور)!

اللهم انصر ثورتنا، واجعل بلادنا أمنا وإيمانا، سلما وإسلاما، سخاء رخاء، وسائر بلاد المسلمين.

نشر في شبكة رصد الإخبارية

الاثنين، يناير 16، 2012

رسالة إلى المجلس العسكري

لم أكن أتخيل أن كلماتي قد تصل إليكم، غير أني علمت بوصولها بشكل مؤكد حين عدت يوم 18 نوفمبر الماضي لأجد باب بيتي مكسورا، ومحتوياته مقلوبة رأسا على عقب، ثم لم يُسرق منه إلا جهاز لاب توب، وفلاش ميموري فقط.. وأشارت الدلائل إلى أن هاتفي مراقب، ومنه تم تحديد المسكن الجديد الذي لم أكمل فيه شهرا، ولا يكاد يعرفه أحد..

وعليه، فإني أقرب من أي وقت مضى لتصديق أن هذه الكلمات تصل لبعض المهمين المتنفذين!

أيها المجلس العسكري الحاكم..

حين نزل الناس إلى الشارع يوم 25 يناير، وحتى 28 يناير، لم يكن أحد يتوقع الرجوع إلى بيته، بالتأكيد فإن الموت برصاص الشرطة له نفس مذاق الموت برصاص الجيش، تعدد الرصاص والموت واحد، وطعم الشهادة واحد! يغفر الله للشهيد عند أول دفقة من دمه، سواء كان برصاص الشرطة أو الجيش.

ولا شك أنكم علمتم هذا بالمشاهدة في أول نزولكم عصر يوم 28 يناير.. لقد كان موقفكم سديدا –بغض النظر عن دوافعه التي كانت في الكواليس- بعدم ضرب الجماهير.. ترى هل كنتم ساعتها تنطلقون من عقيدتكم القتالية بعدم ضرب الشعب؟ أم كانت تلك محصلة توازن سياسي ما؟.. لا أدري، وإن كان ما جرى في العام الماضي يشكك جدا في أنها نابعة من عقيدة قتالية!

أيها المجلس العسكري:

لماذا فرطت في تلك الفرصة التاريخية التي تجعلكم أبطالا كبارا وعلامة فارقة في التاريخ المصري كله؟ بالله عليكم.. قولوا لماذا؟

لقد كان الشعب ملتفا حولكم، ويريد نسيان كل ما من شأنه أن يخدش موقفكم، ومستعد للتنازل عن كل أخطاء كنتم قد اقترفتموها في أي لحظة من حياتكم، كنا مستعدين أن نصنع منكم أصناما، وربما كنا سنجاهد ألا يقدسكم الناس وألا يرفعوكم إلى مقامات الأنبياء والأولياء.. لماذا ضيعتم هذه الفرصة.. لماذا؟

كل ما كنتم تريدون الحصول عليه كان سيمكنكم الحصول عليه، كل حصانة، كل رفاهية، كل وجاهة اجتماعية، كل شهرة إعلامية، الخلود في كتب التاريخ، مفخرة أبنائكم وأحفادكم طول الدهر.. كل هذا كنتم ستحصلون عليه بتسليم السلطة إلى المدنيين في ستة أشهر!

ستة أشهر فقط.. إنها لفرصة نادرة ثمينة أن تجيد العمل في ستة أشهر في آخر عمرك لتكون بعدها بطل الحاضر والمستقبل، ولتنزل عليكم المدائح والقصائد والأدعية وشكر الناس..

بالله عليكم.. لماذا فرطتم في هذه الفرصة؟ لماذا؟ لماذا؟

والأهم، فرطتم فيها في مقابل ماذا؟ خوفا من فتح ملفات يملكها الخارج مثلا.. لم يكن أحد سيعيرهم اهتماما، ولو أعارهم أحد اهتماما لقدَّر وغفر وصفح وقال: يكفي ما فعلوه في الثورة..

في مقابل سلطة؟ كانت ستأتيكم السلطة نفسها، سلطة الحب والفخار في قلوب الجماهير، والبرلمان، والرئاسة، ستكون الكلمة من أحدكم هي الكلمة النافذة الصادرة من خبير عسكري وطني له مواقفه المشهودة في البطولة والفداء (عسكريا) وفي التقدير الصائب (سياسيا).. وبها كنتم تستطيعون أن تحوزوا بالمودة ما تحاولون حيازة بعضه قسرا.

في مقابل مال؟ ما أحسب حاكما مهما بلغ من قوة كان يستطيع أن يفتح ملفاتكم المالية السابقة أو يحاول تهديد المكاسب القائمة، وكل هذا لدوركم في الثورة، وهو الدور الذي سيرى الناس أنكم تستحقون عليه من التكريم ما لا يستطيعونه..

كان الناس سينسون ولاءكم السابق للمخلوع، ووقوفكم على الحياد يوم معركة الجمال والبغال، وكشوف العذرية، والتعذيب في المتحف والسجون الحربية، والتضييق على الميدان ومنع الطعام والدواء عنه لأيام، والعلاقات المفتوحة مع الأمريكان، والفساد الخاص بالأبناء والأقارب.. وكل تلك الملفات التي انفتحت من حيث لا تحتسبون..

أيها المجلس العسكري:

إن الثورات تُسْرق ولا تُضْرَب، ولقد كنتم تسيرون في طريق سرقتها على أتم حال حتى أخطأتم الخطأ الفادح بالإصرار على مبادئ فوق دستورية، ثم هذا التعامل الغاشم مع اعتصام 18 نوفمبر وأحداث مجلس الوزراء.. فحينئذ تكشف للناس ما كانوا يحاولون تجاهله ولا يريدون تصديقه، ولا شك أن أجهزتكم الأمنية تنقل لكم نبض الشارع بأفضل مما أراه، وهو على كل حال نبض تراجع كثيرا ويوشك فعلا على النفاد!

ولهذا، فمن الغباء حقا الإصرار على وضع خاص في الدستور أو مبادئ فوق دستورية أو مواجهة الشعب مرة أخرى بالضرب سواء في 25 يناير القادم أو ما بعدها، ولو شئتم النصيحة، فإني والله أقولها لوجه الله ولمصلحتكم: سلموا السلطة في أقرب وقت وأسرع وقت، فالمواجهة مع الشعب هي من الأشياء التي لا يملك أحد على الإطلاق توقع نتائجها، بكل ما يحمله هذا من احتمالات انشقاق داخل الجيش أو تدخل أجهزة استخباراتية لتصعيد قيادات وسيطة تحقق مصالحها وتصالح الشعب بالتضحية بكم.. التوترات والاضطرابات لا يمكن لأحد إدراتها، وحدها الأطراف الواضحة هي من تدفع الثمن، ولا مستقبل لأحد في مواجهة شعب في لحظة ثورة!

أيها المجلس العسكري:

كفى ما أنزلته بالشعب من ضحايا، وما أنزلته بنفسك من انهيارات.. وهناك وقت ينفع فيه العلاج الجذري، فإذا فات فسندخل في وقت العلاج الجزئي، فإذا فات وجب على الطبيب التضحية بالعضو المريض ببتره.. فبالله عليكم، لا تضيعوا الوقت، فالشعب باق والسلطة زائلة..

أيها المجلس العسكري:

بالله عليك، استحلفك بالله، أناشدك الله والرحم والوطن..

اعلم أن كل إنسان سيموت، وبعد الموت سيحاسب، وهناك يوم القيامة، وكلكم –أطال الله أعماركم في الخير- في خريف العمر وتنتظرون نداء الله.. فلا تجعلوا أنفسكم كمن خسر آخرته الخالدة بأيام معدودة أمسك فيها بالسلطة.. السلطة زائلة إلى غيركم قطعا وبلا أدنى شك، بحكم قوانين الكون وسنن الحياة.. فاستقبلوا آخرتكم بخير ما تملكون، وبهذا تتركون لأنفسكم سيرة خالدة في الدنيا كذلك!

نشر في: رابطة النهضة والإصلاح، وشبكة رصد الإخبارية