هذا كتاب لطيف مؤثر ..
ويقول أيضا: "إن المقاتل على
الجبهة يثق بأن حل مشاكل الوطن الداخلية والصراع ضد الاستعمار هو بالمزيد من
القتال".
اللهم اجعل كلامى وكتابتى خالصة لوجهك الكريم، اللهم لا تجعل لأحد سواك فيها نصيبا، اللهم طهرها من الرياء والعجب، والغرور والكبر، والعناد والانتصار للنفس، وحب الشهرة وحب المدح.. اللهم إن كان فيها الخير فيسرنى لها ويسر نشرها وقراءتها، وإن كان فيها الشر فأبعدنى عنها وعسرها لى واكتب لها الموت والفناء.. إنك نعم المولى ونعم النصير.
هذا كتاب لطيف مؤثر ..
ويقول أيضا: "إن المقاتل على
الجبهة يثق بأن حل مشاكل الوطن الداخلية والصراع ضد الاستعمار هو بالمزيد من
القتال".
ثمة مشكلة جوهرية في مدرسة التاريخ
الغربية عموما، تلك هي شغف المؤرخ بإنتاج نظرية تفسيرية، يؤرخون لهذا منذ فولتير
الذي سمع شكوى معشوقته مدام دي شاتيليه من أن التاريخ المسرود هو حشد من الأحداث
الصغيرة المتقطعة، لا يبدو مفهوما، ولا يقدم إفادة.. فابتدأ الفيلسوف الفرنسي نمطا
من التاريخ يقول عنه: "يجب أن يُكتب التاريخ مفلسفا".
وكان فولتير -مع إدوارد جيبون وديفيد هيوم- أول من شرعوا في هذا النمط من التاريخ الذي هو ليس مجرد بحث وتنقيب وسرد، بل هو فوق ذلك ومعه تحليل وتفسير واستنباط.. وصار هدف المؤرخ من ذلك الوقت أن يخرج كتابه كقصة مكتملة الأركان والزوايا، يقرؤه القارئ كما يقرأ الرواية المؤلفة..
ومن هاهنا لم يعد المؤرخ يتكلف البحث في الوثائق والأرشيف ويستخرج المعلومات، بل عليه بعد ذلك أن يتكلف التحليل والتفسير، فعليه أن يغوص في أغوار النفس، وأن يزيد من معارفه في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والجغرافيا بل والمناخ والتربة.
يقول قائل: ما المشكلة في هذا؟
والجواب: المشكلة أن أندر الناس من يطيق هذا كله.. ومن هنا فإن سيادة هذا المنهج وانتشاره، بفعل انتشار الجامعات وأقسام التاريخ، ثم بفعل الهيمنة الغربية على العالم كله، لم يُخرج لنا مؤرخين على هذا النمط أبدا.. بل أخرج لنا كثيرا ممن يفشلون أن يبلغوا هذا!
تماما مثل الجامعات الكثيرة التي تدرس الفلسفة، ولا يخرج منها إلا قليل جدا من الفلاسفة الحقيقيين!
إن استخراج نظرية هو عمل عظيم يأتي عادة بعد بلوغ النضج العلمي، بعد سنين طويلة من الخبرة والمعرفة والتجربة، ولا يؤتاه بعد ذلك إلا أفذاذ الناس وأذكياؤهم.. لكن طالب التاريخ في عصرنا -لا سيما إن درس في جامعات غربية وشغف بطريقة الكبار منهم في استنباط نظرية- إن لم يكن مُطالبا بنظرية تفسيرية يتبعها أو يبتكرها، فهو شغوف بأن يستخرج من عند نفسه نظرية يفسر بها ويتبعها.. وهذه أزمة!
يشبه الأمر أن تُكَلِّف المراسل -الذي مهمته نقل الخبر- أن يكون محللا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون والجريمة، فهو عند كل خبر ينقله -من أول لقاءات الرئيس حتى الحادثة التي وقعت في مصنع- يجب أن يكون محيطا بالتفاصيل العلمية والفنية التي تُمَكِّنه من تقديم رواية متماسكة وافية عن الموضوع.. فانظر كم مراسلا يستطيع أن يفعل ذلك؟!
فإن كان هذا صعبا في المراسل الذي يحلل حدثا حاضرا، فكيف يكون في شأن المؤرخ الذي يحاول استعادة الماضي الغائب المغمور؟!!
هذا الكتاب من هذا النوع.. نقطة ضعفه القاتلة هو محاولة المؤلفة ابتكار نظرية تفسيرية، أسمتها "الإمبراطوريات المتخيلة".. لو أنها لم تأبه لهذا، لكان كتابها أفضل كثيرا كثيرا مما صار إليه.
لقد غطى هذا الضعفُ في النظرية المُتَكَلَّفة على المجهود القوي الذي بذلته المؤلفة في استخراج الأخبار من الوثائق والأرشيفات والسجلات القديمة.. وبدلا من أن يتوقف المرء بالإعجاب أمام ما استخرجته من تفاصيل، يجد نفسه مصطدما دائما بالتعسف المبذول لتطويع هذه المعلومات ومحاولة حشرها في سياق النظرية!
خلاصة فكرة الكتاب أن الصعيد المصري يمثل حالة تنكسر عليها مقولات المدارس التاريخية التي تجعل الإمبراطورية كيانا قويا ومهيمنا على أجزائه، تقول المؤلفة: الصعيد يثبت أن الإمبراطوريات التي حضرت إلى الصعيد كانت فاشلة، وأن وجودها لا يعدو أن يكون وجودا مُتَخَيَّلًا، فقد واجهت مقاومة كبيرة من أهل الصعيد، أخفقت معه في تثبيت نفسها فيه، كما أنها جلبت إلى الصعيد أحوالا من البؤس والفقر والدمار لا يتفق مع دعاوى هذه الإمبراطوريات التي تزعم فيها أنها تغير حياة الناس إلى الأحسن!
ووفقا لهذا المنظور: درست المؤلفة أحوال الصعيد تحت خمس إمبراطوريات قالت إنها كانت جميعا على هذا النمط:
(1) الإمبراطورية العثمانية
(2) الإمبراطورية الفرنسية (سنوات
الحملة الفرنسية)
(3) إمبراطورية محمد علي وأولاده
(4) الإمبراطورية الإنجليزية (زمن
الاحتلال الإنجليزي)
(5) الإمبراطورية الأمريكية (زمن
السادات ومبارك)
وأخذت المؤلفة في تتبع أمرين في كل إمبراطورية؛ الأول: ما أحدثته هذه الإمبراطورية من الدمار والخراب والبؤس. والثاني: ثورات الصعيد ومقاومته لوجود هذه الإمبراطوريات.
يتمثل العيب الثاني الخطير لهذا الكتاب في الانحياز اليساري (الشيوعي) للمؤلفة، فقد أثَّر هذا الانحياز في اختيار وانتقاء أخبار المقاومة وأبطالها من بين الأرشيف الصعيدي الزاخر، ثم أثَّر في تفسير حركات المقاومة التي اندلعت في الصعيد..
كان الاختيار يأخذها دائما نحو: الطبقات الفقيرة والعُمَّال والمرأة (والعدو طبعا هم السلطة والأثرياء والوجهاء ورجال الدين).. ولا بأس إذا اجتهدت فأدرجت في عِداد المقاومين أصحاب الجرائم وقُطَّاع الطرق ممن عرفوا بالفلاتية ومطاريد الجبل.. ويجد المرء حرجا واضحا في عباراتها حين تذكر أمثال خُطّ الصعيد وعزت حنفي ونوفل ونحوهم.
وكان التفسير يأخذها دائما نحو أسباب الفقر والتهميش والنزعة الذكورية والدين الذي يُدَجِّن الناس لحساب الأغنياء والحكام.
ولهذا خرج الكتاب رواية يسارية ضعيفة لتاريخ الصعيد، فلم يستطتع أن يحقق بأدلة شبه كافية نظريته التي تقول بأن الحضور الإمبراطوري في الصعيد كان هشًّا ومتخيلا، ولا أن ثورات الصعيد كانت شيوعية!
وها هنا توضيح مهم يجب قوله: لست أعترض ابتداء على أن يوصف الفلاتية والمطاريد بالمُقاوِمين طالما خرجت الأدلة الكافية على هذا، بل هم في هجومهم على رجال السلطة وممثليها ومشاريعها يندرجون في أعمال المقاومة بغير شك.. وذلك لأكثر من سبب:
1. منها: أنه لا توجد ثورة شعبية ولا توجد حركة مقاومة نقية تلتزم بالقانون أو حتى بالدين، بل الثورة عمل شعبي لن يخلو أبدا من مساهمة "المجرمين" فيه، فهم من أبناء الشعب على كل حال، وكثيرا ما تكون مساهمتهم مفيدة وفاصلة، وكثيرا ما تكون مضرة ومربكة.. وهذا أمر لا مناص من ذكره كحقيقة اجتماعية، ولو كره الثوار المثاليون!
2. ومنها: أن هؤلاء الفلاتية والمطاريد إنما هم في كثير من الأحوال ضحايا لظلم السلطة وإجرامها، ولا يمكن إدانة المظلوم إذا انتهز فرصة ينتقم فيها من ظالمه وجلاده.. والقانون الأعور وحده -مثل الثائر المثالي الأعور الملتزم بالقانون الأعور- هو من يبصر خرق هؤلاء للقانون، ولا يُبصر الجريمة الكبرى، وهو أن نفس هذا القانون قد وُضِع لتقنين وشرعنة الظلم والإجرام.
ومع هذه الاعتبارات المذكورة، فإن الحديث عن هؤلاء المطاريد والفلاتية في سياق كونهم إفرازا صعيديا للمقاومة ضد وجود الإمبراطوريات، هو الأمر الذي يجب أن توجد عليه أدلة كافية قبل الإقدام عليه.. وهو الأمر الذي لم تستطعه المؤلفة! فهذا موضع النقد الذي أقصده هنا! فهي قد بذلت جهدا كبيرا لكي تجمع شتات أخبار هذه "المقاومة"، وتكلفت في العبارات، واقتصت اقتصاصا معيبا (يتبدى بوضوح لمن يراجع مصادرها وراءها) لكي تحتفظ بأكبر قدر من قصص هؤلاء الفلاتية والمطاريد، في سياق أنهم استهدفوا السلطة.
كذلك، فإن المؤلفة تأرجحت بين دعويَيْن متناقضتيْن، فهي تتحدث عن وجود متخيل للإمبراطوريات الخمسة (وهذا ما يُفهم منه أن المقاومة كانت أكبر من الهيمنة الإمبراطورية)، وتتحدث في الوقت نفسه عن أن هذه الإمبراطوريات قد جلبت معها الدمار والخراب والبؤس والفقر وأحالت حياة الناس إلى جحيم (وهو ما يُفهم منه أن الإمبراطوريات كانت مهيمنة فعلا وأنها متغلبة على المقاومة الصعيدية).
وظلت المؤلفة طوال الكتاب تردد هذا الكلام دون أن تنتبه للتناقض بينهما، إلى حد يثير الحيرة والدهشة، وتضيف إليهما إدانة الإمبراطوريات التي لم تحقق ما زعمته لنفسها من تحسين أحوال المواطن والفلاح والمرأة.. كأنها تدينه لفشله، ومتى كان المحتل صادقا في دعاواه؟!!!
ولكن المحتل -مهما كان كاذبا- فإن فشله وما سببه من بؤس وخراب ودمار هو دليل وجوده.. فوجوده هنا ليس متخيلا ولا متوهما!
تلك النظرة اليسارية القومية (الصعيدية) -إن صح التعبير- جعل المؤلفة تجمع بين الإمبراطوريات الخمسة في سياق واحد.. فالصعيد قاوم العثمانيين كما قاوم الفرنسيين كما قاوم الأسرة العلوية كما قاوم الإنجليز والأمريكان.. وهذا في واقع الحال غير صحيح، ولا يحتاج المرء أن يسعى في نقضه لشدة تهافته!
فالعثمانيون لم يحفلوا أصلا بالحضور المركزي في الصعيد، على عادتهم في سائر الولايات، فضلا عن أن الصعيد -ولا حتى الشمال- لم ير العثمانيين كمحتلين ولم يسع في مقاومتهم.. وذلك على خلاف الفرنسيين والإنجليز.. بل ولا يمكن القول أن الصعيد نظر إلى محمد علي وأسرته كمحتلين (مع أنهم فعلا أسوأ من الاحتلال.. لكن لا يمكن إطلاق هذه الدعوى)، وكذلك أيضا: الأمريكان!
لقد كان فصل الأمريكان هذا هو الفصل الأضعف في الكتاب! ولا زلت أستغرب أنها وضعته كأنما هو دليل على مقاومة صعيدية، أو على وجود متخيل للإمبراطورية.
توقعتُ، أن المؤلفة ستتوقف طويلا عند فصل "الجماعات الإسلامية" في الصعيد، كدليل بارز على المقاومة الصعيدية للحضور الأمريكي، لقد قام العديدون من اليساريين بتفسير هذه الحقبة تفسيرا يساريا اجتماعيا، وحاولوا حشر تجربة الجماعات الإسلامية في السياق الطبقي الاجتماعي.. ولكن المؤلفة لم تفعل، ولم تذكر شيئا عن هذا الفصل مع أنه أشد الفصول بروزا وحضورا في تمردات الصعيد، وهو أقربها إلى الواقع.. لم تفعل المؤلفة إلا أن قفزت فوق كل هذا وذهبت تذكر حضور الصعيد في مظاهرات ثورة يناير.. ومن عجيب ما فعلت أنها نقلت هذه الفعاليات عن موقع "قنا أون لاين" الذي هو موقع الإخوان المسلمين في قنا (لست أدري هل كانت تعرف هذا وتكتمه، أم أنها لا تعرفه).
ثمة الكثير من التفاصيل والمعلومات يمكن التوقف عندها في هذا الكتاب، وفيه غرائب ليست بالقليلة: لقد أرادت المؤلفة تحميل مسؤولية انتشار الطاعون في الصعيد للدولة العثمانية والمماليك!! وأن حضورهم في الصعيد هو الذي جلب الطاعون!! واتخذت هذا دليلا على الحضور الإمبراطوري المتخيل المسبب للدمار والبؤس والخراب!!
ومن الغرائب أن تستعمل الكلمة ذاتها مرة دليلا على زعمها، ومرة ترد عليها وتحسبها من توهمات قائلها
ومن الغرائب مرورها العابر على ملف الأقباط والتصاقهم بالإمبراطوريات القائمة في الصعيد، تذكر ذلك في أوجز عبارة ممكنة، وشغفها في توريط الفقهاء والعلماء المسلمين في هذا الالتصاق مع افتقاد الأدلة على ذلك.
وأمور أخرى سيكون الخوض فيها من التفصيل والتطويل غير المناسب لهذا المقام، ولعل الله ييسر فنفرد لذلك دراسة خاصة مطولة.
لا يزال تاريخ الصعيد، وتاريخ سائر المناطق المهمشة في عالمنا الإسلامي، بحاجة إلى مؤرخين أصلاء، ينظرون إلى الأمور بعين أهلها المسلمين، ويستطيعون استخراج النظريات التفسيرية الطبيعية لحركة التاريخ في المجتمعات المسلمة، وليس حشر حركتهم في نظريات غربية أو متكلفة. عرض أقل
دخلت الحملة المباركة، حملة مقاطعة
المنتجات الفرنسية، ألفيتها الثانية بعد أن جاوزت ألف يوم، ما انبعث لها إلا عوام
المسلمين وبعض المستقلين من علمائهم ودعاتهم، وطفقوا يحافظون عليها طوال هذه المدة
بغير دعم من نظام أو دولة أو حكومة أو حتى مؤسسة دينية رسمية!
بل على العكس، أوحت هذه الحملة إلى بعض
أهل العلم والمشيخة أن يُحَوِّلوا هم مجهودها إلى نظام ومؤسسة، فمن رحم هذه الحملة
الشعبية العفوية، وُلِدت فكرة "الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام ﷺ"
بعد تمام العام من انطلاق الحملة، وهذه الهيئة العالمية قد صارت لها فعاليات
ونشاطات، منها هذه المجلة التي بين يديك، مجلة "أنصار النبي ﷺ"، ومنها
"أكاديمية أنصار النبي ﷺ"، ومنها مؤسسة البراق لدعوة الناطقين بغير
اللغة العربية، فضلا عن العديد من الأنشطة الأخرى.
والآن وقد جاوزت هذه الحملة ألف يوم،
ودخلت في ألفيتها الثانية نحتاج أن نتوقف عند بعض دورس وأمور، نتذكر بها أصل
المعركة وسياقها.
يبدو السؤال الأهم والأول قائما: لماذا
يبغض هؤلاء النبي ﷺ ولماذا يعادونه؟ ثم لماذا هم يعادونه بينما أتباعه اليوم ضعفاء
مغلوبين وقد سيطر هؤلاء الأعداء على أرضهم ومواردهم بل صاغوا لهم حتى ثقافة
الإعلام ومناهج التعليم وألزموهم بأنظمتهم الاقتصادية وأنماطهم الاجتماعية؟!
ثم يأتي السؤال الثاني المكافئ لهذا
الأول: ولماذا تبدو هذه الأمة المغلوبة المستضعفة بعد طول الزمن ومع فارق القوة
غير مستسلمة ولا قابلة بهذا الغالب؟! لقد كان الفصل الأول في معركة المقاطعة
الحالية هو ذلك الفتى الشيشاني الذي انبعث ليقتل المدرس الفرنسي الذي أساء إلى
النبي ﷺ، مع أنه في بلد العداء ومجرّدًا من كل قوة، لقد قام فعليا بعملية
استشهادية قُتِل على إثرها.. في هذا الفتى تُختصر قصة الأمة التي تُقاوم بلا أي
حساب لميزان القوى، وتكافح وتناطح من ليست لها بهم قوة، ولا تتراجع عن ذلك، كلما
هلك قوم خرج آخرون!
(1)
من بديع ما أخرجته العقول البشرية، هذه
الكلمة النورانية للإمام ابن القيم، وهو يقول: المعاصي على ثلاثة أنواع: شهوات
وشبهات وشرك، فمن أسرف على نفسه في الشهوات وقع في الشبهات، ومن أسرف على نفسه في
الشبهات وقع في الشرك. أ.ه
إنه ما من إنسان يُتبع نفسَه شهواتِها
حتى يصل إلى حدٍّ يتشكك فيه في الدين نفسه، فإن الذي تعوّد على تلبية شهواته لا
يرى في الدين إلا قيْدًا عليه، ويظل يتسرب إليه التشكك في أحكام الدين، حتى يروق
له أن ينبذ الدين على الجملة، فينتقل بهذا من الشهوة إلى الشبهة إلى الشرك. وهو في
رحلته هذه لا يبغض شيئا في هذه الدنيا أكثر من حَمَلة الدين، أولئك الذين تكون
مجرد رؤيتهم نوعا من تنغيص الحياة عليه!
وهذا الإنسان في رحلته من الشهوة إلى
الشرك يُنتج لنفسه الأفكار والمبررات والنظريات التي تجعل عمله هذا هو العمل
الصحيح المقبول، وهو التصرف الطبيعي البديهي، بل هو التصرف الحضاري الراقي، فمن
طبيعة الإنسان ألا يجمع في نفسه التناقض والتعاكس والتشاكس بين أفكاره وأعماله،
فإن لم تنسجم أعماله مع قناعاته، لا بد أن تتغير قناعاته لتنسجم مع أعماله.
وفي كتابه المهم، "الاغتيال
الاقتصادي للأمم" كشف جون بيركنز أن هؤلاء الرجال المهيمنين على سياسات
العالم، لم يعودوا يسعون وراء اللذة والمصلحة فحسب، مع أنهم يملكون أنهار الأموال
ويتحكمون في مقدرات الأمم، ولكنهم فوق ذلك طَوَّروا عقائد تجعل أعمالهم هذه هي
الحق الوحيد، يقول: "بدأت أفهم أن معظم هؤلاء الرجال (قادة العالم وصانعي
السياسة) يعتقدون أنهم يفعلون الصواب. كانوا مقتنعين مثل تشارلي أن الشيوعية
والإرهاب قوى شريرة أكثر من اقتناعهم بردود الأفعال المتوقعة إزاء القرارات التي
اتخذوها هم وأسلافهم، وأن عليهم واجبا نحو بلادهم ونحو أولادهم ونحو الله حتى يهدي
العالم للاقتناع بمذهب الرأسمالية. وهم كذلك متشبثون بمبدأ البقاء للأصلح، وبدلا
من الشعور بالامتنان والاستمتاع بالثروات الطائلة والتحول إلى طبقة متميزة وعدم
المعاناة من النشأة في أكواخ من الكرتون - يعملون على ضمان توريث هذه الثروات
لذريتهم".
وقد استطاعت الحضارة الغربية المعاصرة كسر
سائر الأديان والحضارات، حتى القلاع الحضارية الشرقية مثل روسيا والصين واليابان
والهند، قد اكتُسحت حضاريا، حتى صارت مدنها وعمرانها وأزياؤها ونظمها الاقتصادية
نسخة من الحضارة الغربية، وصار الصراع بين هذه المراكز وبين الغرب صراعًا على حدود
القوى والنفوذ والسيادة، لا صراعًا في أصل التصور لقضايا الإنسان وعلاقته بغيره
وبالكون من حوله.
إن القيم الكبرى مثل حب الدنيا واتباع
الشهوات واضطهاد الضعفاء والسعي إلى العلو في الأرض قد تواطأ عليها هؤلاء جميعا،
ويلتمسون إلى تحقيقها ذات الوسائل التي اخترعتها وأنتجتها الحضارة الغربية
الغالبة. وما بقي في هذه المراكز الحضارية من رواسب شرقية أو صوفية أو فلسفية أو
روحانية إنما ينزوي في المعابد والجبال والبرامج الروحية التي يمارسها الناس
لإطفاء أشواقهم الروحية في وقت الراحة والإجازة الذي تمنحهم إياه الآلة المادية
الجبارة التي تدير حياتهم وتسيطر عليها.
لم يبقَ في العالم الآن من يُقَدِّم
البديل الحضاري، ويهاجم أصل المبادئ التي أسست عليها الحضارة الغربية سوى الإسلام،
فالإسلام يقف كصخرة عظيمة كأداء أمام انتشار القيم الأساسية لطغاة العصر، فالله
وحده هو صاحب السيادة لا البشر، وهو الذي له حق التشريع ليس الذي غلب من البشر،
وهو مصدر المعرفة والقيم لا من كتب الدستور أو سيطر على الإعلام والتعليم ومنافذ
الثقافة، وحب الدنيا –في الإسلام- هو رأس
كل خطيئة، واتباع الشهوات هو علامة انحلال وفساد وليست علامة حرية ورقي، والتكاثر
في البنيان والأموال ليس دليلا على الصواب بل قد يكون دليلا على الطغيان، وانفراد
الإنسان بالتشريع وبأن يكون مصدر القيم والمعرفة هو شرك بالله وكفر به وجحد له!
وهذا العالم ليس نهاية المطاف ولا هو آخر السبيل.
ومع ما فيه المسلمون من الهزيمة
والاستضعاف فإن مبادئهم الدينية والروحية لم تكتفِ أبدا ولم تستسلم لأن تكون في
الزوايا والتكايا والخلوات والجبال، بل سرعان ما تتحول إلى برامج عملية سياسية
واقتصادية واجتماعية تكافح وتناضل في واقع الحياة، وضد هذه الآلة الغربية. وعلى
نحو ما يقول علي عزت بيجوفيتش: ما من حركة إسلامية صادقة مع نفسها ودينها إلا وهي
حركة سياسية!
إن الأخطر من هذه العقائد والأفكار
"الخطيرة"، كما يراها الطغاة والمستكبرون الذين يمتصون أموال الشعوب
ودماءها، أن هذه العقائد تبعث رجالها ليغيروا الحياة لا ليتكيفوا معها، وهي تلهبهم
وتحفزهم على العمل مهما كانت موازين القوى، ولذلك لم ينقطع سيل من
"الاستشهاديين" الذين يخوضون المعركة مهما كانت خسارتهم حتمية! وكيف
يمكن الوقوف أمام رجل يرى في موته حياة أخرى سعيدة في جنات النعيم؟!!
إذا حاولتَ أن تتلبس عقلَ طاغية جبار،
وتتقمص روحه ونفسه، فستجد نفسك في لحظة واحدة أمام عداوة مباشرة مع هذا الشخص الذي
كان أصل هذا كله: مع محمد ﷺ.. نعم، هذا هو الرجل الذي أخرج هذه الكتائب المتتالية
من المقاوِمين، أولئك الذين يتجددون ولا يموتون، يعملون ولا يفترون، وقد تصلبت
رؤوسهم وانطوت قلوبهم على دين صلب لا يتزحزح ولا يتشقّقّ!
إن محمدا ﷺ لا يزال يؤرق كل من يريد
استعباد الناس وظلمهم، وكل من يريد التربح
بالضغط على غرائزهم وإثارة شهواتهم، وكل من يريد سحب هذه الإنسانية من الكرامة
التي وهبها الله إياها إلى الانحطاط المادي الذي يريده لها الشيطان وأتباعه.
(2)
لهذا كانت المعركة ضارية منذ لحظتها
الأولى، منذ بُعِث محمد ﷺ نبيًّا، فإذا بأصحاب المصالح والشهوات والمنتفعين من
استعباد الناس ينقلبون عليه في الحال، وبعدما كان "الصادق الأمين" جعلوه
كاذبا وكاهنا وساحرا ومجنونا!
إن التعريف بالنبي ﷺ من واجبات
المسلمين، ونعم، يوجد كثيرٌ من الناس يعادون النبي لأنهم لا يعرفونه فهم يجهلون
حقيقته وشمائله، ولكن يجب أن نعرف في ذات الوقت أن أعرف الناس بالنبي ﷺ كذبوه لما
ناقضتْ رسالتُه مصالحهم ومطامعهم وشهواتهم، فلا نتوقع –والحال هكذا- أن تكون مجرد
معرفة النبي مفضية إلى اتباعه والإيمان به، لن يفعل هذا إلا أسوياء الناس وخيرهم
ممن تعلو مبادئه على مصالحه، ويغلب ضميره على غرائزه.
ولهذا، فمثلما كان المسلمون –منذ عصر
النبوة- مكلفين بإبلاغ الإسلام وتعريف الناس بنبيهم ﷺ، كانوا مكلفين كذلك بالدفاع
عنه ونصرته وتأديب من يسيئ إليه ويعاديه، وكان لنا في صفوتنا الأولى من الصحابة
الأسوة والمثل، فهذا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، قال للنبي ﷺ: "إن
كنتَ آمرًا بقتل أبي، فمُرْني أنا بذلك، فما عرفت العرب أبرَّ بأبيه مني".
إن المقاطعة الاقتصادية للمنتجات
الفرنسية والهندية والسويدية، وغيرها، هي لا شكّ عمل عظيم، وقد يدخل في باب
الجهاد، لا سيما لمن لا يملك سوى ذلك.. وهي عملٌ يُحيي الأمة وينبهها إلى عظمة
نبيها وقدره وواجبها نحوه، كما ينبهها إلى عداوة المنحطين له وبغضهم إياه. وكل هذا
مفيدٌ بل جليل الفائدة لأمة يُقصف وعيها ليل نهار، ويُراد لها أن تغفل وتضل.
ومهما كانت نتائج المقاطعة على هذه
الدول، فالمعنى الأهم منها هو أن الأمة لا تزال حية، ولا يزال الذي يريد أن يبيع
منتجاته عندها محتاجا إلى أن يحترم مقدساتها.
ولكن هذا كله يجب ألا ينسينا الحقيقة
القائمة، وهي أن المقاطعة الاقتصادية وحدها هو فِعْل أمة مهزومة مستضعفة، فالواقع
أن هذه المقاطعة لم تشارك فيها حتى حكومات الأنظمة والبلدان
"الإسلامية"، بل إن بعض هذه الأنظمة والحكومات عَاكَسَ رغبة الأمة، فذهب
يعقد الصفقات المليارية مع فرنسا! ويجدد علاقات الود مع الهند! فما أبلغ هذا
المشهد الذي يتجسد فيه قول الله تعالى {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]، وقوله تعالى: {بَشِّرِ
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ
الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 138، 139]
وإذا أردنا حقا أن نمتلك الأدوات
الفعالة للدفاع عن نبينا ﷺ ونصرته، فلن نجد حلًّا إلا أن نتحرر ونقوى، ولن يكون
هذا إلا إذا امتلكنا إرادتنا وصارت أنظمتنا وحكوماتنا من اختيارنا، نُنَصِّبُها
بقرارنا وأمرنا، فحينئذ يحكمنا من هو مِنَّا، هذا الذي هو مِنَّا هو الذي ينتقض لا
شعوريا إذا أسيئ للنبي ﷺ، وهو الذي يبحث قدر طاقته عما يفعل في الردِّ على ذلك.
وفيما قبل هذا التحرر، سيظل كل جهد في
نصرة النبي ﷺ مشكورا، بداية من تغريدة ينشرها محب على شبكة التواصل يُعرِّف بها من
لا يعرف، وانتهاء بتضحية الفتى الشيشاني بنفسه ليتهدد به وبأمثاله كل من يفكر في
الإساءة! والله أعلم بكل امرئ وطاقته وقدرته، وعلى ذلك يحاسبه، ورسول الله ﷺ
سيلقانا يوم القيامة وهو يعرف ماذا بذل كل منا لنصرته، فلن تنفع التغريدة ولا
المقاطعة لمن قدر على أقوى منها.
لقد أنزل الله كلاما شديدًا فيمن يتخلى
عن النبي ﷺ أو يتولى عنه أو يتكاسل أن يجاهد معه، وهذا الكلام الشديد جديرٌ بأن
نُعَلِّقه في بيوتنا وعلى هواتفنا لنتأمله صبحا وعشيا، كي لا ننسى ولا نغفل أننا
في معركة حقيقية، قائدنا فيها محمد ﷺ، قال تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ
(20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ
اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ
فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ
مُعْرِضُونَ (23)
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 20 - 24]
نشر في مجلة أنصار النبي، أغسطس 2023