ثمة مشكلة جوهرية في مدرسة التاريخ
الغربية عموما، تلك هي شغف المؤرخ بإنتاج نظرية تفسيرية، يؤرخون لهذا منذ فولتير
الذي سمع شكوى معشوقته مدام دي شاتيليه من أن التاريخ المسرود هو حشد من الأحداث
الصغيرة المتقطعة، لا يبدو مفهوما، ولا يقدم إفادة.. فابتدأ الفيلسوف الفرنسي نمطا
من التاريخ يقول عنه: "يجب أن يُكتب التاريخ مفلسفا".
وكان فولتير -مع إدوارد جيبون وديفيد هيوم- أول من شرعوا في هذا النمط من التاريخ الذي هو ليس مجرد بحث وتنقيب وسرد، بل هو فوق ذلك ومعه تحليل وتفسير واستنباط.. وصار هدف المؤرخ من ذلك الوقت أن يخرج كتابه كقصة مكتملة الأركان والزوايا، يقرؤه القارئ كما يقرأ الرواية المؤلفة..
ومن هاهنا لم يعد المؤرخ يتكلف البحث في الوثائق والأرشيف ويستخرج المعلومات، بل عليه بعد ذلك أن يتكلف التحليل والتفسير، فعليه أن يغوص في أغوار النفس، وأن يزيد من معارفه في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والجغرافيا بل والمناخ والتربة.
يقول قائل: ما المشكلة في هذا؟
والجواب: المشكلة أن أندر الناس من يطيق هذا كله.. ومن هنا فإن سيادة هذا المنهج وانتشاره، بفعل انتشار الجامعات وأقسام التاريخ، ثم بفعل الهيمنة الغربية على العالم كله، لم يُخرج لنا مؤرخين على هذا النمط أبدا.. بل أخرج لنا كثيرا ممن يفشلون أن يبلغوا هذا!
تماما مثل الجامعات الكثيرة التي تدرس الفلسفة، ولا يخرج منها إلا قليل جدا من الفلاسفة الحقيقيين!
إن استخراج نظرية هو عمل عظيم يأتي عادة بعد بلوغ النضج العلمي، بعد سنين طويلة من الخبرة والمعرفة والتجربة، ولا يؤتاه بعد ذلك إلا أفذاذ الناس وأذكياؤهم.. لكن طالب التاريخ في عصرنا -لا سيما إن درس في جامعات غربية وشغف بطريقة الكبار منهم في استنباط نظرية- إن لم يكن مُطالبا بنظرية تفسيرية يتبعها أو يبتكرها، فهو شغوف بأن يستخرج من عند نفسه نظرية يفسر بها ويتبعها.. وهذه أزمة!
يشبه الأمر أن تُكَلِّف المراسل -الذي مهمته نقل الخبر- أن يكون محللا في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون والجريمة، فهو عند كل خبر ينقله -من أول لقاءات الرئيس حتى الحادثة التي وقعت في مصنع- يجب أن يكون محيطا بالتفاصيل العلمية والفنية التي تُمَكِّنه من تقديم رواية متماسكة وافية عن الموضوع.. فانظر كم مراسلا يستطيع أن يفعل ذلك؟!
فإن كان هذا صعبا في المراسل الذي يحلل حدثا حاضرا، فكيف يكون في شأن المؤرخ الذي يحاول استعادة الماضي الغائب المغمور؟!!
هذا الكتاب من هذا النوع.. نقطة ضعفه القاتلة هو محاولة المؤلفة ابتكار نظرية تفسيرية، أسمتها "الإمبراطوريات المتخيلة".. لو أنها لم تأبه لهذا، لكان كتابها أفضل كثيرا كثيرا مما صار إليه.
لقد غطى هذا الضعفُ في النظرية المُتَكَلَّفة على المجهود القوي الذي بذلته المؤلفة في استخراج الأخبار من الوثائق والأرشيفات والسجلات القديمة.. وبدلا من أن يتوقف المرء بالإعجاب أمام ما استخرجته من تفاصيل، يجد نفسه مصطدما دائما بالتعسف المبذول لتطويع هذه المعلومات ومحاولة حشرها في سياق النظرية!
خلاصة فكرة الكتاب أن الصعيد المصري يمثل حالة تنكسر عليها مقولات المدارس التاريخية التي تجعل الإمبراطورية كيانا قويا ومهيمنا على أجزائه، تقول المؤلفة: الصعيد يثبت أن الإمبراطوريات التي حضرت إلى الصعيد كانت فاشلة، وأن وجودها لا يعدو أن يكون وجودا مُتَخَيَّلًا، فقد واجهت مقاومة كبيرة من أهل الصعيد، أخفقت معه في تثبيت نفسها فيه، كما أنها جلبت إلى الصعيد أحوالا من البؤس والفقر والدمار لا يتفق مع دعاوى هذه الإمبراطوريات التي تزعم فيها أنها تغير حياة الناس إلى الأحسن!
ووفقا لهذا المنظور: درست المؤلفة أحوال الصعيد تحت خمس إمبراطوريات قالت إنها كانت جميعا على هذا النمط:
(1) الإمبراطورية العثمانية
(2) الإمبراطورية الفرنسية (سنوات
الحملة الفرنسية)
(3) إمبراطورية محمد علي وأولاده
(4) الإمبراطورية الإنجليزية (زمن
الاحتلال الإنجليزي)
(5) الإمبراطورية الأمريكية (زمن
السادات ومبارك)
وأخذت المؤلفة في تتبع أمرين في كل إمبراطورية؛ الأول: ما أحدثته هذه الإمبراطورية من الدمار والخراب والبؤس. والثاني: ثورات الصعيد ومقاومته لوجود هذه الإمبراطوريات.
يتمثل العيب الثاني الخطير لهذا الكتاب في الانحياز اليساري (الشيوعي) للمؤلفة، فقد أثَّر هذا الانحياز في اختيار وانتقاء أخبار المقاومة وأبطالها من بين الأرشيف الصعيدي الزاخر، ثم أثَّر في تفسير حركات المقاومة التي اندلعت في الصعيد..
كان الاختيار يأخذها دائما نحو: الطبقات الفقيرة والعُمَّال والمرأة (والعدو طبعا هم السلطة والأثرياء والوجهاء ورجال الدين).. ولا بأس إذا اجتهدت فأدرجت في عِداد المقاومين أصحاب الجرائم وقُطَّاع الطرق ممن عرفوا بالفلاتية ومطاريد الجبل.. ويجد المرء حرجا واضحا في عباراتها حين تذكر أمثال خُطّ الصعيد وعزت حنفي ونوفل ونحوهم.
وكان التفسير يأخذها دائما نحو أسباب الفقر والتهميش والنزعة الذكورية والدين الذي يُدَجِّن الناس لحساب الأغنياء والحكام.
ولهذا خرج الكتاب رواية يسارية ضعيفة لتاريخ الصعيد، فلم يستطتع أن يحقق بأدلة شبه كافية نظريته التي تقول بأن الحضور الإمبراطوري في الصعيد كان هشًّا ومتخيلا، ولا أن ثورات الصعيد كانت شيوعية!
وها هنا توضيح مهم يجب قوله: لست أعترض ابتداء على أن يوصف الفلاتية والمطاريد بالمُقاوِمين طالما خرجت الأدلة الكافية على هذا، بل هم في هجومهم على رجال السلطة وممثليها ومشاريعها يندرجون في أعمال المقاومة بغير شك.. وذلك لأكثر من سبب:
1. منها: أنه لا توجد ثورة شعبية ولا توجد حركة مقاومة نقية تلتزم بالقانون أو حتى بالدين، بل الثورة عمل شعبي لن يخلو أبدا من مساهمة "المجرمين" فيه، فهم من أبناء الشعب على كل حال، وكثيرا ما تكون مساهمتهم مفيدة وفاصلة، وكثيرا ما تكون مضرة ومربكة.. وهذا أمر لا مناص من ذكره كحقيقة اجتماعية، ولو كره الثوار المثاليون!
2. ومنها: أن هؤلاء الفلاتية والمطاريد إنما هم في كثير من الأحوال ضحايا لظلم السلطة وإجرامها، ولا يمكن إدانة المظلوم إذا انتهز فرصة ينتقم فيها من ظالمه وجلاده.. والقانون الأعور وحده -مثل الثائر المثالي الأعور الملتزم بالقانون الأعور- هو من يبصر خرق هؤلاء للقانون، ولا يُبصر الجريمة الكبرى، وهو أن نفس هذا القانون قد وُضِع لتقنين وشرعنة الظلم والإجرام.
ومع هذه الاعتبارات المذكورة، فإن الحديث عن هؤلاء المطاريد والفلاتية في سياق كونهم إفرازا صعيديا للمقاومة ضد وجود الإمبراطوريات، هو الأمر الذي يجب أن توجد عليه أدلة كافية قبل الإقدام عليه.. وهو الأمر الذي لم تستطعه المؤلفة! فهذا موضع النقد الذي أقصده هنا! فهي قد بذلت جهدا كبيرا لكي تجمع شتات أخبار هذه "المقاومة"، وتكلفت في العبارات، واقتصت اقتصاصا معيبا (يتبدى بوضوح لمن يراجع مصادرها وراءها) لكي تحتفظ بأكبر قدر من قصص هؤلاء الفلاتية والمطاريد، في سياق أنهم استهدفوا السلطة.
كذلك، فإن المؤلفة تأرجحت بين دعويَيْن متناقضتيْن، فهي تتحدث عن وجود متخيل للإمبراطوريات الخمسة (وهذا ما يُفهم منه أن المقاومة كانت أكبر من الهيمنة الإمبراطورية)، وتتحدث في الوقت نفسه عن أن هذه الإمبراطوريات قد جلبت معها الدمار والخراب والبؤس والفقر وأحالت حياة الناس إلى جحيم (وهو ما يُفهم منه أن الإمبراطوريات كانت مهيمنة فعلا وأنها متغلبة على المقاومة الصعيدية).
وظلت المؤلفة طوال الكتاب تردد هذا الكلام دون أن تنتبه للتناقض بينهما، إلى حد يثير الحيرة والدهشة، وتضيف إليهما إدانة الإمبراطوريات التي لم تحقق ما زعمته لنفسها من تحسين أحوال المواطن والفلاح والمرأة.. كأنها تدينه لفشله، ومتى كان المحتل صادقا في دعاواه؟!!!
ولكن المحتل -مهما كان كاذبا- فإن فشله وما سببه من بؤس وخراب ودمار هو دليل وجوده.. فوجوده هنا ليس متخيلا ولا متوهما!
تلك النظرة اليسارية القومية (الصعيدية) -إن صح التعبير- جعل المؤلفة تجمع بين الإمبراطوريات الخمسة في سياق واحد.. فالصعيد قاوم العثمانيين كما قاوم الفرنسيين كما قاوم الأسرة العلوية كما قاوم الإنجليز والأمريكان.. وهذا في واقع الحال غير صحيح، ولا يحتاج المرء أن يسعى في نقضه لشدة تهافته!
فالعثمانيون لم يحفلوا أصلا بالحضور المركزي في الصعيد، على عادتهم في سائر الولايات، فضلا عن أن الصعيد -ولا حتى الشمال- لم ير العثمانيين كمحتلين ولم يسع في مقاومتهم.. وذلك على خلاف الفرنسيين والإنجليز.. بل ولا يمكن القول أن الصعيد نظر إلى محمد علي وأسرته كمحتلين (مع أنهم فعلا أسوأ من الاحتلال.. لكن لا يمكن إطلاق هذه الدعوى)، وكذلك أيضا: الأمريكان!
لقد كان فصل الأمريكان هذا هو الفصل الأضعف في الكتاب! ولا زلت أستغرب أنها وضعته كأنما هو دليل على مقاومة صعيدية، أو على وجود متخيل للإمبراطورية.
توقعتُ، أن المؤلفة ستتوقف طويلا عند فصل "الجماعات الإسلامية" في الصعيد، كدليل بارز على المقاومة الصعيدية للحضور الأمريكي، لقد قام العديدون من اليساريين بتفسير هذه الحقبة تفسيرا يساريا اجتماعيا، وحاولوا حشر تجربة الجماعات الإسلامية في السياق الطبقي الاجتماعي.. ولكن المؤلفة لم تفعل، ولم تذكر شيئا عن هذا الفصل مع أنه أشد الفصول بروزا وحضورا في تمردات الصعيد، وهو أقربها إلى الواقع.. لم تفعل المؤلفة إلا أن قفزت فوق كل هذا وذهبت تذكر حضور الصعيد في مظاهرات ثورة يناير.. ومن عجيب ما فعلت أنها نقلت هذه الفعاليات عن موقع "قنا أون لاين" الذي هو موقع الإخوان المسلمين في قنا (لست أدري هل كانت تعرف هذا وتكتمه، أم أنها لا تعرفه).
ثمة الكثير من التفاصيل والمعلومات يمكن التوقف عندها في هذا الكتاب، وفيه غرائب ليست بالقليلة: لقد أرادت المؤلفة تحميل مسؤولية انتشار الطاعون في الصعيد للدولة العثمانية والمماليك!! وأن حضورهم في الصعيد هو الذي جلب الطاعون!! واتخذت هذا دليلا على الحضور الإمبراطوري المتخيل المسبب للدمار والبؤس والخراب!!
ومن الغرائب أن تستعمل الكلمة ذاتها مرة دليلا على زعمها، ومرة ترد عليها وتحسبها من توهمات قائلها
ومن الغرائب مرورها العابر على ملف الأقباط والتصاقهم بالإمبراطوريات القائمة في الصعيد، تذكر ذلك في أوجز عبارة ممكنة، وشغفها في توريط الفقهاء والعلماء المسلمين في هذا الالتصاق مع افتقاد الأدلة على ذلك.
وأمور أخرى سيكون الخوض فيها من التفصيل والتطويل غير المناسب لهذا المقام، ولعل الله ييسر فنفرد لذلك دراسة خاصة مطولة.
لا يزال تاريخ الصعيد، وتاريخ سائر المناطق المهمشة في عالمنا الإسلامي، بحاجة إلى مؤرخين أصلاء، ينظرون إلى الأمور بعين أهلها المسلمين، ويستطيعون استخراج النظريات التفسيرية الطبيعية لحركة التاريخ في المجتمعات المسلمة، وليس حشر حركتهم في نظريات غربية أو متكلفة. عرض أقل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق