السبت، يوليو 30، 2011

الدروس المستفادة من جمعة الإسلاميين

كان يوما في غاية الثراء والامتلاء بالتفاصيل، ويمكن أن يكتب كثيرا في أشياء كثيرة، غير أن أهم ما ينبغي أن يُكتب –برأيي- هي الدروس المستفادة من هذا اليوم.

ثمة ملحوظة انتشرت جدا في إعلام النخبة مفاده أن الإسلاميين نقضوا العهد ورفعوا شعارات مخالفة، وهذا قول خاطئ تماما، فالذي اتفق لم يكن إلا جماعة الإخوان المسلمين وهؤلاء التزموا بما اتفقوا عليه، غير أن الميدان لم يكن قاصرا على الإخوان، كان فيه سلفيون وأعضاء من الجماعة الإسلامية، ومن جماعة الجهاد، وإسلاميون مستقلون.. وهؤلاء أيضا فصائل وشرائح، وقد صرح د. صفوت حجازي بأن اللجنة التنسيقية لجماهير الثورة المصرية (وهي الكيان الذي يضم تحالفات وائتلافات الثورة) لم يتفق مع أحد على أي شيء إلا على تسمية الجمعة "وحدة الصف والإرادة الشعبية".. أعرف أن ثمة مجموعة من الشباب حاولت صنع حالة من التوافق لكنها اكتشفت فشلها في ذلك، ربما لم يعلموا أن من حاولوا الاتفاق معهم ليسوا كل الميدان، وربما علموا وأحبوا تبرير فشلهم بالإنحاء باللائمة على الإسلاميين!!

***

الدرس الأكبر المستفاد أن الإسلاميين قوة لا يمكن تجاوزها في هذا البلد، بل هي القوة الرئيسية فيه، وقد اتخذت التيارات غير الإسلامية قرارا فادح الخطأ حين أعلنت انسحابها من الميدان فأثبتت من تلقاء نفسها ودون ضغط من أحد أنها لا تساوي شيئا ذا بال على المستوى الجماهيري، وأنها مجرد صوت عال. ولست أدري كيف اتخذوا هذا القرار الخاطئ تماما والذي لم يستفيدوا منه شيئا، بل لحق بهم ضرر انكشاف حجمهم ثم ضرر إعادة شق الصف (الذي أراد له البعض أن يبدو متوحدا، ولم يكن يستطع).

ليس هذا تعاليا ولا غرورا، ونعوذ بالله من هذا، ولا أقصد به –والله- إلا مجرد التوضيح لصورة واضحة لم يعد التشويه فيها مجديا. كما أن الخطأ الأكبر الذي يرتكبه الإسلاميون أن يتوقفوا عند هذه الصورة للمفاخرة بأعدادهم، فكم من أعداد كثرت ولم تغن عنهم من الله شيئا.

وعلى الجميع أن يتذكر أن الإسلاميين لم يحاولوا "استعراض عضلاتهم" إلا حين بدا أنهم لا يُحترمون ولا يلقى لهم بال في هذا الوطن رغم أنهم مكونه الأصيل، حين استجاب المجلس العسكري لطلب بوضع وثيقة حاكمة ومبادئ فوق دستورية، وهذه إهانة لهم وانقلاب على إرادة شعبية ما كان لهم أن يسكتوا إزاءها، ولم يكن ينفع الصبر في موطن الاستهزاء والاستفزاز، وقد قال الشافعي: من استُغضب فلم يغضب فهو حمار.

***

وأما الدروس المستفادة فهي بنظري كالآتي:

دروس للإسلاميين:

1. الإسلاميون طاقة كبيرة ينقصهم اتفاق القيادات وتوحدها وإدراكها اللحظة.. كم ستكون جريمة وعارا في حق قيادات العمل الإسلامي الآن إن سرقت الثورة على يد فصائل هامشية أو على يد العسكر.

2. الإسلاميون أقرب لبعضهم من غيرهم، وفي وقت الشدة لن يجدوا أحدا معهم، لا نخبة، ولا إعلام علماني، ولا عسكر، ولا تيارات أخرى.

3. الإسلاميون بحاجة إلى ترشيد، كثير من سنوات القهر والكبت جعلت رد الفعل عفويا جدا، وفي هذه العفوية كثير من الشدة والغلظة والخطاب الجاف الذي لا يليق أن يكون سمتا للإسلاميين.

4. سلوك المجلس العسكري بعد هذه الجمعة سيحدد كثيرا من نواياه، فإن كان مخلصا فيما يعلن فسيثتمر هذه الجمعة في مقاومة ضغوط النخب العلمانية والخارج، وإن كان غير ذلك فسيبدأ في إعادة إنتاج الفزاعة الإسلامية داخليا وخارجيا، وفي ضرب القوى السياسية بعضها ببعض، فإما بدأ بإغراء الإسلاميين حتى ضرب الآخرين (كما فعل عبد الناصر من قبل) أو بدأ بالعكس (كما هو في نموذج الجزائر).. وعلى الإسلاميين أن ينتبهوا لهذا جيدا ففيه يكمن طريق المستقبل كله.

5. ضرورة الخروج من حالة رد الفعل إلى حالة المشاركة في صناعة القرار، وهو حق أصيل، ولا يستحق أحد مهما كان ومهما بلغ أن تضع فيه ثقة مطلقة، ولو كانت هذه المظاهرة قبل شهر مثلا، لاختلف الوضع بوضوح!

للمجلس العسكري:

1. ما زالت التيارات الإسلامية تثق في الجيش وتؤيد بقاءه دون غيره لإدارة الفترة الانتقالية، إلا أن هذه الثقة قد تعرضت لخدش كبير بإعلان الوثيقة الحاكمة، فكانت مظاهرات اليوم أقرب إلى العتاب، ومحاولة تشكيل ضغط مقابل ليظل الجيش مستمسكا بموقفه في حماية الشرعية.

2. الإسلاميون أحرص التيارات على الهدوء والاستقرار ولم يحاولوا النزول أو استعراض القوة إلا حين بدا انقلاب المجلس العسكري على الإرادة الشعبية والاستهانة بهم لسكوتهم.

3. من دواعي الوطنية والحرص على مصلحة البلاد ألا يُعامل هذا التيار بالتجاهل فضلا عن الإقصاء والهجوم.

4. اللحظة الآتية هي الأمثل في استيعاب هذه التيارات بما لا يخلق مشكلات خارجية أو داخلية، ذلك أن إجراء الانتخابات في أقرب وقت هو الكفيل بوجود تمثيل واسع للتيارات السياسية في ظل عدم منافسة الإسلاميين على الأغلبية البرلمانية، وفي ظل عدم استعداد كثير من الفصائل الإسلامية لدخول معركة الانتخابات إما لأنها خرجت حديثا من السجون وتحتاج الوقت لتنظيم نفسها ومؤسساتها من جديد وإما لأن العمل السياسي كله غريب عليهم ويشعرون إزاءه بالتردد.. إن أي تأجيل للانتخابات يعطي فرصة متزايدة للإسلاميين على حساب غيرهم، وفي هذا ما قد يثير مخاوف داخلية وخارجية تجعل التحول الديمقراطي أصعب إزاء هذه المخاوف التي لا يسعكم تجاهلها كما يعرف الجميع.

5. كذلك فإن الإسراع بالانتخابات هو القادر على تحويل الحراك السياسي والصراع السياسي في مصر إلى حراك مأمون الجانب، يسلك مسارات سلمية هادئة كالانتخابات والاحتكام إلى القضاء ومؤسسات الدولة، فيم يعني التأجيل للانتخابات أن يظل الوضع قلقا مضطربا عند الجميع، فالكل يخاف على نفسه ويخاف من خصمه السياسي، ولا يجد أحدهما إلا الشارع سبيلا لحل النزاع، وهو وإن كان سلميا إلى هذه اللحظة فإن طول فترة القلق والاضطراب قد تدفع إلى غير هذا، فالمندفعون والمتهورون والمتحمسون موجودن لدى كل الأطراف، وهم عامة خارج السيطرة ويستطيعون إشعال المواقف لا سيما إن تمت اختراقات خارجية دفعت بهم في إطار خطة نشر الفوضى!

للتيارات غير الإسلامية:

1. التوافق واحترام كل الأطراف أفضل للجميع، وحالة العداء الشديد والهجوم العنيف التي ترتكبها وسائل الإعلام ليست في صالح أي طرف، وهي لا تؤثر فعليا في ميزان القوى، فمن المصلحة الوطنية ألا يتم التهييج والتحريض ضد طرف أصيل، ما زال قائما ومتواجدا رغم ما نزل به في المائتي عام الأخيرة عموما، وفي الستين الأخيرة منها على وجه الخصوص.

2. سيكون أبشع ما تفعل أن تأخذ من هذا اليوم بعض التفاصيل والمواقف لكي تريح ذهنك وتثبت وجهة نظرك وتظل على رأيك، من طبيعة من يحترم نفسه أن يحاول قراءة المشهد بما يضيف إليه جديدا لا البقاء على الحال الأولى، والتركيز على الأخطاء لن تغير –على الأقل في المدى القريب. وفي ظني ولا البعيد- من تأثير وجود التيارات الإسلامية بين الناس، فمن المستفيد من حالة الاستعداء هذه إلا أطرافا غير وطنية؟

3. ما زال الإسلاميون –لا سيما المُمَثَّلون في جمعيات منظمة كالإخوان وكثير من السلفيين والجماعة الإسلامية- على استعداد لتوافق وطني في الانتقال بهذا الوطن إلى حكم ديمقراطي رشيد، وحتى إن وصل الإسلاميون إلى السلطة في ظل نظام مدني حديث فإن حرية النقد والاعتراض والهجوم ستكون أفضل منها ملايين المرات في ظل حكم عسكري –هو بطبيعته سينزع نحو الاستبداد- فحينئذ لن يكون مسموحا بالوجود إلا للمتملقين المنافقين، وسيتم ضرب الجميع.. وأولهم كل من ظن في أن الحكم العسكري خير من حكم الخصم السياسي!

4. لو أن قنواتكم وصحافتكم فتحت لرؤية هؤلاء بصدق لتغيرت كثير من المفاهيم وذهبت كثير من المخاوف وانتزعتم من صدور الكثيرين أسبابا للعداء.. ولمجرد التدليل على هذا: قارنوا بين ردة الفعل الإسلامية على لقاءيْ الشيخ حازم أبو إسماعيل مع كل من إبراهيم عيسى ويسري فودة، فعيسى حين حاول التحريض والتهجم والتسفيه من كلام ضيفه اكتسب عداوات جديدة كثيرة، على عكس ما فعله فودة الذي اكتسب احتراما كبيرا من كل المختلفين معه سابقا حين أدى دوره بمهنية واقتدار.

5. الحقيقة التي أحب تذكيركم بها، أن شق الصف وزرع الاستقطاب بدأ من صحافتكم وقنواتكم، واستمر فيها وترعرع وتضخم ونما، ومنها أيضا يمكنكم الرجوع إلى حالة التوافق الوطني.. فالكرة في ملعبكم، والأمر إليكم فانظروا ماذا تفعلون؟

***

لن يخلو عمل من سلبيات، غير أن سلبيات أي عمل لا تدفع من قاموا به إلى تغيير كل منهجهم، وهذا ما ينطبق على الجميع، والأحرى بالنقد والتصويب أن يكون هادئا محبا لكي يجد آذانا صاغية.. أقول هذا، وأعلم أن البعض يراني لا أجيده، وقد يكون الحق لديهم، غير أنني وإن بدت مني حدة فإنها تنطلق من مصلحة وطنية خالصة، والله على ما أقول شهيد!

نشر في شبكة رصد الإخبارية

الثلاثاء، يوليو 26، 2011

إصلاح النفس بالنظر إلى مخلوقات الله

اقترح على القارئ الكريم القيام بهذه التجربة التخيلية:

اجلس وحدك خاليا من كل المؤثرات، واضغط على ذهنك وتخيل شيئا واحدا فقط: تخيل أن هذه الدنيا قد خلت من كل الكائنات الحية التي عليها، ولم يعد سوى الإنسان والجماد فحسب! وانظر ماذا ترى؟!

حتى الذين يعيشون في المدن ولا يستعملون الحيوانات في زراعة أو ركوب لا يسرهم مشهد الكون إذا خلا من مخلوقات الله الأخرى، وكلما طال بك التخيل كلما كان استفادتك من السطور القادمة أكثر، فلعلك أيها القارئ الكريم تقبل رجائي وتتخيل أكثر وأعمق.

***

ربما هي المرة الأولى التي ستشعر فيها كم أنت بحاجة إلى مخلوقات أخرى ذات روح تسري حولك، تطير أو تزحف أو تمشي، إن المتابعين لعالم الحيوان يأسرهم سلوك المخلوقات في السعي إلى الرزق ورعاية الأولاد والتخفي من الأعداء والصراع على مناطق النفوذ.. إنه شيء يثري الحياة والذهن والخيال، ويشرق في النفس إشراقة روح هائمة تبصر في غيرها مواطن دقة وروعة وجمال.

كان لا بد من العودة إلى الخالق العظيم في كتابه المسطور الذي يفسر به هذا الكتاب المنظور، فكيف أخذ القرآن الكريم بالأنظار والقلوب نحو هذه المخلوقات الأخرى؟

فوجدنا هذه الصورة:




أولاً: لذة الإنسان

وهي لذة مستفادة من طريقين: طريق المنفعة والتمتع، وطريق النظر والتأمل والتعلم.

فأما طريق المنفعة والتمتع، فلقد امتنَّ الله على بني آدم بأن خلق لهم الأنعام وذلَّلها لهم فانتفعوا بها: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}. وعدَّد -سبحانه- فوائدها {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِن رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

وحتى تلك الطيور التي تسرح في فضاء السماء الرحب مسخَّرة للإنسان: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}؛ فهذه النحلة تقوم برحلة طويلة، وتقع على مئات الآلاف من الزهور، لكي تُخْرِج عسلاً صافيًا فيه شفاء، {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

وفي الآيات إشارت إلى الجمال بخلاف مجرد المنفعة {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ}، و{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، و{شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ}، فالجمال نعمة كنعمة المنفعة تماما، وحسبك أن تتخيل حجم الضيق والشدة والأزمة لو أن كل ما تنتفع به كان سيء المنظر قبيحا! ولذا قال القرطبي: "جمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بالأبصار موافق للبصائر"[1].

وأما طريق التأمل والتعلم ففي وصف القرآن الكريم تلك الكائنات بأنها أمم مثل أُمَّة البشر، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}.

قال ابن القيم: "هذا يتضمَّن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأكل والتقدير الأول، وأنها لم تُخْلَق سدى، بل هي معبَّدة مذللة قد قُدِّر خلقها وأجلها ورزقها، وما تصير إليه"[2].

وأوضح ما يبين هذا الاتفاق وهذه المثلية ما حكاه القرآن الكريم عن النملة التي وقفت تُحَذِّر قومها من موكب أو جيش سليمان عليه السلام: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}. ففي هذه العبارة الموجزة نرى حب الفصيلة والحرص عليها، والإخلاص في النصيحة، والدقَّةً في الوصف (سليمان وجنوده) والنزاهة في عرض الخطر (وهم لا يشعرون).

ومن الاتفاق والمِثْلية أيضا ما حكاه القرآن الكريم عن الغراب {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ}، فهذا موطن تشابه -بل موطن تفوُّق- بين الإنسان والمخلوقات: صراع وقتال وقتل، ثم دفن وتورية.

والعديد مما لا يُحصى من المشاهدات التي تحدث يوميًّا في الحياة ويراها البشر تدلُّ بما لا شَكَّ فيه أن هذه الكائنات أمم كأُمَّة البشر، بل إن مؤرخ الحضارة ول ديورانت يعتبر المخلوقات المنشئ الأول للمدنية: "فالكلب الذي اختزن تحت الثرى عظمة فاضت عن شهيته، وإنها لشهية الكلاب، والسنجاب الذي ادَّخَر البندق لوجبة أخرى في يوم مقبل، والنحل الذي ملأ خليته بالعسل، والنمل الذي خزَّن زاده أكداسًا اتِّقاء يومٍ مطيرٍ- هذه جميعًا كانت أول مُنشئ للمدنيَّة؛ فقد كانت هي وأضرابها من المخلوقات الراقية أوَّل مَنْ عَلَّم أجدادنا فنَّ ادِّخار ما نستغني عنه اليوم إلى الغد، أو اتخاذ الأهبة للشتاء في أيام الصيف الخصيبة بخيراتها"[3].

يقول الأستاذ سيد قطب: " إن عقيدة المسلم توحي إليه أن الله ربَّه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقًا مساعدًا متعاونًا، وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمَّل فيها، ويتعرَّف إليها، ويتعاون وإياها، ويَتَّجِهَ معها إلى الله ربه وربها"[4].

ثانيا: قدرة الله

وهذا أيضا عن طريقين: قدرة الله على الخلق والإبداع، وقدرته على العقاب والإفناء

فأما طريق الخلق والإبداع فإن الكائنات دليل قائم وآية ناصعة على طلاقة قدرة الله تعالى {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}، و{وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

فمن المادة الواحدة ينشئ الله السلالات والأنواع {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

ومن بعد الخلق والإنشاء الإلهام والهداية {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}، ومن بعد ذلك تكفله برزق وإعاشة كلَّ ما يدبُّ على الأرض {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وإحاطته –سبحانه- علمًا بكل شأنها {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.. فكل هذه أنواع من القدرة ليست إلا لله سبحانه وتعالى.

وقد ضرب الله على قدرته مثلا بليغا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.

وأما طريق العقاب والإفناء ففي أن هذه المخلوقات إنما هي جند من جنود الله عز وجل {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}؛ قائمة على أمره خاضعة له {أَلَمْ تَرَ أَن اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ}.

ولقد سلَّط الله تعالى خلقًا من الحشرات والزواحف على آل فرعون لما كذبوا موسى فقلبت حياتهم جحيمًا {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ}. فأكل الجراد زروعهم وثمارهم؛ بل كانت تأكل السقوف والأبواب حتى تنهدم ديارهم[5]، ثم أرسل عليهم القُمَّل –وهو السوس- فكان يدمر ما في مخازنهم من الحبوب[6].

وأعجب من هذا أن يكون العذاب بالضفادع، وهو الكائن الذي لا يخشى منه أحد، روى الطبري عن سعيد بن جبير قال: بينما موسى جالس عند فرعون، إذ سمع نقيق ضِفْدَع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا؟! فقال: وما عسى أن يكون كيدُ هذا؟! فما أَمْسَوْا حتى كان الرجل يجلس إلى ذَقْنه في الضفادع، ويهمُّ أن يتكلَّم فتثب الضفادع في فيه[7].

وأرسل الله طيرا أبابيل على جنود إبرهة الذي أراد هدم الكعبة {طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ}. فمنهم من هلك سريعًا في ذات اللحظة، ومنهم من جعل يتساقط عضوًا عضوًا وهم هاربون، وكان أبرهة ممن يتساقط عضوًا عضوًا، حتى مات[8].

***

إذا تأملت مليا فيما سبق، كان حالك مختلفا حين تقرأ قول الله تعالى {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}.

إن رسائل الله المكنوزة في كونه لا تنقضي، يقرؤها كل من كان له بصر يتأمل وعقل يتفكر وقلب يشعر، وهي دائما رسائل إصلاح للنفس:

1. إصلاح حين تسري فيها الطمأنينة والحب تجاه المخلوقات جميعا.

2. وإصلاح حين يستقر فيها أن الكون وما فيه إنما هو مخلوق لنفع الإنسان وتحقيق لذته.

3. وإصلاح حين تبصر قدرة الله وعظمته وإبداعه فتتأمل وتتعلم {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.

4. وإصلاح لها أيضا حين يسري فيها خوف من معصية الله والخروج عليه فالكون في قبضته وتحت سلطانه.

أدرك هذه المعاني أبو العتاهية حين قال:

فيا عجبا كيق يُعصى الإله ... أو كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 10/71.

[2] ابن القيم: شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل ص41.

[3] ول ديورانت: قصة الحضارة 1/12.

[4] سيد قطب: في ظلال القرآن 1/25.

[5] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 7/268.

[6] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/465.

[7] الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن 13/58.

[8] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/486.