السبت، مايو 14، 2022

آخر ما عندي من الكلام في موضوع شيرين أبو عاقلة

 


 1. لم يطلب الذين تمسكوا بدينهم إلا الامتناع عن ثلاث كلمات: الشهيدة، الترحم، الدعاء بالمغفرة.. بينما سائر معاجم اللغة واللغات الشقيقة تتسع للكلام في رثاء مراسلة صحفية موهوبة، كان صوتها محفورا في أذهاننا وأعماقنا، مرتبطا بقضيتنا المقدسة!

 لكن الذين يحبون الخلاف والمكايدة، تمسكوا بهذه الكلمات الثلاثة تحديدا وحصرا.. ليس لفرط رحمتهم ولا تهذبهم، فقد رأينا الأنياب المكشرة والأساليب المحرضة فضلا عن الشتائم.. بل لأسباب أخرى، ليس أولها هوان الدين في النفوس وليس آخرها حب الشهرة وإشعال المعارك.

 وحين يطلب طرفٌ ما الامتناع عن ثلاث كلمات فقط، ثم يصر عليها الطرف الآخر متغاضيا عما تتسع له اللغة.. فالتطرف والتشدد والإساءة هنا من نصيب الطرف الثاني.

 2. فلماذا طلبوا الامتناع عن هذه الكلمات الثلاث تحديدا؟

 الجواب البسيط المباشر والواضح: لأنها كلمات دينية، ولها مدلولات خاصة.. وفي الدين من نصوص القرآن والسنة وإجماع العلماء النهي الصريح الواضح عن استعمالها في حق غير المسلم..

 فلم يكن طلبهم الامتناع عن هذه الكلمات مجرد نزوة نفس، أو مؤامرة دبرت بليل، أو تنفيذا لرسائل التوجيهات القادمة من الموساد.. كان هذا النهي نهيا دينيا!

 وأدل دليل على هذا أنه حين يموت المشهور من فساق المسلمين ومجرموهم لا يندفعون للإنكار على من ترحم عليه واستغفر له، ربما فعل بعضهم هذا كنوع من الورع أو الحذر، لكن كم مرت بنا في السنوات الماضية وفيات لمشاهير في التمثيل والرقص والسياسة، ولم تشتعل معركة الترحم عليهم!!

 ربما انقسم الناس إلى من يدعو له بالجنة ومن يدعو له بالنار، لكونه إعلاميا مجرما محرضا على الدماء مثلا، لكن لن تجد أحدا منهم يُحَرِّم الدعاء له بالمغفرة والرحمةـ أو يهاجم الصلاة عليه!

 فالمسألة عندهم مسألة علمية دينية!

 3. أما الذين وقفوا في جانب الترحم والدعاء لها بالمغفرة ووصفها بالشهيدة، فقد كانوا مهرجانا ومسخرة.. وفي اللحظة التي كانوا يهاجمون فيها الآخرين بدعوى احتكار الدين وأن عندهم مفاتيح الجنة والنار.. كانوا هم يوزعون مفاتيح الجنة لمن شاؤوا ويمنعونها عمن شاؤوا!!

 وصار الدين جدعنة وسخاء، والعاطفة مع البلطجة غلبت على كل كلام، حتى صار مشهدهم مؤسفا مريعا.. بعضهم باع دينه صراحة، وبعضهم صرح أن دينه قد تحرف تحريفا لم يحرفه دين من قبل، وبعضهم صار يقطع منه ما يحب ليأخذه ثم يرمي بالباقي في سلة الزبالة! وبعضهم أعلن أنه لن يدخل الجنة ما لم تدخلها شيرين أبو عاقلة!!

 وهكذا صحّت النكتة القائلة: ضحى بالأم والجنين لكي تنجح العملية.. فإذا بالذي كان يدافع عن الأقصى لأنه قضية دينية مقدسة ولأنه مسرى النبي، قد هدم دين النبي كله وانخلع منه لأجل تعاطفه مع المراسلة!!

 وبدلا من أن كنا نجاهد لأجل فلسطين في سبيل الله، صار علينا أن نترك الله ودينه ورسوله من أجل فلسطين!!

 وهكذا، لا دين ولا علم ولا عقل.. بل عاطفة غبية تضرب ولا تبالي!!

 وقد وصل الأمر إلى الدعاء أن يجعلها الله مع النبيين والصديقين والشهداء في الفردوس الأعلى من الجنة.. بل وصل الحال إلى إقامة صلاة جنازة عليها، وهو الأمر الذي لم يُبِحْه أحدٌ قط، حتى أولئك الذين قاموا بمجهود وافر وولاة عسرة أرادوا بها استخراج أي شيء يقول بجواز الترحم عليها والدعاء لها بالمغفرة!!

 ولعل هذا الحد ينبههم إلى أي مدى يجب عليهم أن يحذروا من ضياع الدين!

 4. لا أعرف من هذا الذي اخترع التفرقة بين "المغفرة" و"الرحمة".. ثم ذهب يلتمس ويتكلف أن يجعل المغفرة ممنوعة .. أسأل الله أن يتوب مما فعل، فإن لم يفعل، فلقد ضل بضلالته هذه خلق كثير.. وأشد من ضلالتهم، أنهم حسبوا أنفسهم قد وقعوا على تفريق دقيق عميق من خفي العلم، فصاروا يرمون غيرهم بالجهل!!

 وهذا التفريق بين الرحمة والمغفرة اختراع اخترعه واحدٌ من عند نفسه، وهو مخالف لما في النصوص القرآنية والنبوية من أن الكافر لا يُدعى له بالمغفرة، وأنه يائس من رحمة الله!!

 وأولئك الذين ذهبوا يخلطون -لا أدري عن عمد أم عن جهل- بين دلالة المنطوق ودلالة المفهوم، وبين مسائل التفسير ومسائل الأصول، وبين القول الشاذ والقول الضعيف، وبين ما يُستدل له وما يستدل به.. أولئك أسأل الله أن يتوب عليهم.. فوالله لقد ثلموا في هذا الدين ثلمة لا أحد يدري متى ترتق!!

 فعليهم وزرهم، ووزر من أخذ بقولهم!!

 والاجتهاد، كما قال بعض مشايخنا، ليس مقامرة مضمونة النتائج (أجر أو جرين)، فليقل كل من شاء ما شاء.. بل هو أمر عظيم كم تورع عنه العلماء، ولم يجترئ عليه إلا من هو دونهم.

 5. وأما هؤلاء الذين يتشوقون إلى كل قول يوافق أهواءهم.. إنكم لتذهبون إلى أكثر من طبيب، فإن اتفق اثنان تركتم قول الثالث.. فكيف ترضون لدينكم أن تتركوا قول الآلاف وتأخذوا بقول الواحد والاثنين، هذا إن صح أن هذا الواحد والاثنين من جملة العلماء أصلا؟!

 إنه بقدر ما يُدان الذين يفتي بهواه، يدان كذلك الذي يأخذ ما يحب من الأقوال ولا يحتاط لدينه كما يحتاط لجسده من أخطاء الأطباء، أو يحتاط لماله من أخطاء الموظفين، أو يحتاط لإجراءاته من أخطاء المحامين!!

 وما الذي يجبر أي مسلم على خوض هذا المسلك؟؟ وفي عبارات التعاطف سعة، وفي الحزن سعة.. لماذا يرتكب المرء ما قد يدفع ثمنه من دينه وأخراه إذا كان غيره ممكنا؟! ولماذا يخوض المرء في أمر لن ينفع الميت ولكنه قد يودي بمصير الحي في دنياه وآخرته؟!!

 ألا رحم الله الواقفين على ثغور الدين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر!

الخميس، مايو 12، 2022

لماذا لا يترحم المسلمون على غير المسلمين؟!

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..

في نهاية يوم حزين مؤلم، أحسب لا بد من تسطير هذه الكلمات، وأسأل الله أن يشرح صدري وييسر أمري ويحل عقدة من لساني، وأسأله تعالى أن تلقى هذه قلوبا وعقولا تفقهها وتحملها على أحسن وجوهها.

1. أصبحنا اليوم على الخبر الحزين المؤلم المؤسف، بمقتل مراسلة الجزيرة #شيرين_ابو_عاقلة التي كانت بالفعل جزءا من وعي الجيل عن فلطسين، ذلك الجيل الذي تابعها على القناة العربية الأشهر: الجزيرة، في البقعة الإسلامية المقدسة: بيت المقدس، عبر الزمن الملتهب الساخن الذي لم يهدأ.. حتى صارت صورتها وصوتها محفوران لا إراديا في عمق الذاكرة!

هذا فضلا عن أنها موهبة حقيقية، وكان تقريرها وجبة دسمة عن اليوم الحافل.

2. لم أعرف أنها مسيحية إلا بعد مقتلها، كنتُ قد كتبتُ "رحم الله شيرين أبو عاقلة"، فلما تبين لي أنها مسيحية، حذفت المكتوب، واستعملت العبارة الأنسب التي لا تخرج بي عن حدود ديني، وتقوم في ذات الوقت بالتعبير عن إدانة الظلم والقتل والتعزية اللائقة بالمسلم في المقتول ظلما من غير المسلمين.

لكن سرعان ما انفلت الأمر على مواقع التواصل، فالبعض احتشد لينبِّه على ضرورة الانضباط في الترحم عليها ووصفها بالشهيدة، إذ هذا مخالف لديننا، وفي العبارات متسع ومندوحة، والبعض على الضفة الأخرى شملته العاطفة -وربما غاب عنه أنها ليست مسلمة- فترحم عليها ووصفها بالشهيدة..

ثم دخل على الخط من يناكف ويكايد ويصفها بالشهيدة ويترحم عليها في عبارات تثير السخط أكثر مما يعبر بها عن عضبه وحزنه، وقابلهم على الجهة الأخرى من يرد ويدفع.. وابتدأت الدائرة السيئة التي جعلت حزن هذا اليوم حزنيْن، وكآبته كآبتيْن!!

يقول كل طرف: هم الذين بدؤوا، وإنما كنتُ أدافع وأردّ.. وفي مواقع التواصل، لكل شخص قصته الخاصة وروايته الخاصة، بحسب التغريدة أو المنشور الذي رآه أولا.

3. ولأننا في عصر صار فيه الإسلام أهون شيء، فسرعان ما تتحول أي قضية من قضايا التناقض بين (الإسلام) و (الثقافة الغالبة) إلى معركة..

فأصحاب الثقافة الغالبة والمتأثرون بها يريدون حمل الإسلام على إسباغ الشرعية على ما يريدون، وينبت في هؤلاء من يقدم لهم نسخة الإسلام التي يحبونها..

وهو الأمر الذي يستفز المسلمين ويثير حساسيتهم فيأخذون في دفع هذه المحاولات ومهاجمتها كما تفعل الأجسام المناعية في أي جسد ضد الخطر، وفي النهاية: فإن أي قضية إذا وزنت بقضية الإسلام طاشت أمامها، فلا قيمة لشيء ولا لأحد إن كانت نصرته تخصم من معالم الإسلام أو تشوهها..

وإذا كان أبو طالب سيدخل النار، فكيف بمن هو دونه؟!

وهذا مقتضى الدين، وهو كذلك مقتضى العدل.. فإذا كان أبو طالب سيدخل النار فكيف نُدخل نحن الجنة من أحببناه إذا لم يستوفِ شروطها؟!

4. هذه المعركة ليست قاصرة على شيرين أبو عاقلة أو غيرها، بل هي تتردد في كل لحظة احتكاك وتناقض بين الإسلام وثقافة العصر.

فهي تخرج -مثلا- عند كل قصة تحرش بفتاة متبرجة.. إن الفعل يدينه الجميع بطبيعة الحال، لكن أنصار التبرج يحرصون على جعل التبرج حقا من حقوق المرأة، فيخرج في المقابل من يدفع هذا ليؤكد على أن التبرج معصية وإثم وأن المتبرجة لها نصيب من المسؤولية فيما وقع عليها.. فتشتعل المعركة!

وهي تخرج -مثلا- عند كل عيد لغير المسلمين: هل نهنئهم أم لا؟.. فأصحاب الثقافة العصرية المصبوغة بالعلمانية والتي لا تجعل الدين أمرا عظيما ومهما في علاقات الناس يسرفون في التهنئة، ويجدون من يستخرج لهم أقوالا ضعيفة وشاذة في الفقه المعاصر المهزوم، أو يحاول بعضهم جعلها من العادات الدنيوية المحضة.. فيخرج في المقابل من يؤكد على حرمة التهنئة ويستدعي إجماعات العلماء وأقوالهم الكثيرة.

وهي تخرج -مثلا- عندما يخرج فيلم أو كتاب أو مسرحية فيها إساءة للدين وتهجم على النبي.. فإذا بأهل الثقافة الغالبة والمزاج العصري يدرجون ذلك في حرية الفن وحرية الرأي والتعبير، وإذا المدافعون عن الدين ونبيه وصحابته يقفون مستنكرين أن يكون هذا من الحرية، بل هو من الممنوع والمحظور.

فحقيقة الخلاف في كل هذا ليس قائما حول شخص، بل هو قائم حول منهج وثقافة وطريقة حياة.. العصر الذي تهيمن عليه الثقافة الغربية العلمانية وابنتها الدولة الوطنية الحديثة تفرض معايير للحياة غير معايير الإسلام.. والمسلمون المقهورون الضعفاء يدافعون عن أحكام الدين المستقرة لئلا تتميع وتُحَرَّف تحت هذا القصف المستمر.

5. نعم، تضيع في هذه المعركة التي لا يملك أحد زمامها كثير من المصالح ومواطن الاتفاق.. ذلك أن كل طرف يرى أن قضيته الكبرى أرفع وأعلى وأسمى من القضية الصغرى المثارة الآن.. فإسباغ الشهادة على غير المسلم قضية أعلى عند الطرفين من شخصية شيرين أبو عاقلة أو أي مخترع غربي شهير! وجعل التبرج حقا للمرأة أو منعها من ذلك أسمى وأهم عند الطرفين من شخصية الضحية المتحرش بها، وتثبيت جواز التهنئة لغير المسلم أو تحريمه أهم وأسمى عند الطرفين من فلان الذي سيهنئ جاره أو زميله في العمل، والذي لن يملك أحدٌ منعه أو إجباره على ذلك!

ولستُ أكلمك هنا عن الطرفين، وكأنما أنا العاقل الذي يقف على مسافة واحدة، أو الحكيم الذي يشاهد صراع الصغار.. أنا منحاز بكليتي للفريق الثاني، فريق المدافعين عن أحكام الدين أن تتبدل وتزور وتغير خضوعا لثقافة الواقع.. وإنما أتحدث بهذه الصيغة لمجرد الوصف والتوضيح.

6. يعترف الذين قالوا بجواز الترحم والدعاء بالمغفرة لغير المسلم بضعف موقفهم العلمي، فليس في أيديهم إلا نقليْن أو ثلاثة على أقصى تقدير، وهي عند التحقيق نقول عليهم وليست لهم، ولو صحَّ أنها لهم فليس فيها حجة، فالمتقرر الذي يعرفه من طلب العلم يوما أنه إذا شذ واحد أو اثنين أو ثلاثة من العلماء عن إجماع مشهور، فإنه يهدر قوله ويعد شاذًّا، ولا تتحول المسألة بقوله هذا إلى أن تكون خلافا معتبرا.

ويزداد الحال ضعفا إذا كان هذا الذي شذّ من المتأخرين زمنا، أو كانوا في زماننا هذا المعاصر.. فالمسائل التي لا تتغير (ومنها مسألتنا هذه في جواز الترحم على غير المسلم والدعاء له بالمغفرة) بتغير الزمان والمكان لا تعد من النوازل الجديدة التي قد تختلف فيها الفتوى.

والأخطاء التي يتحدث بها القائلون بالجواز أخطاء ظاهرة وواضحة، لا تخفى على أحد طلب العلم يوما.. وبعض الذين يقولون بهذا لا أشك أنهم يعرفون ويعلمون خطورة ما يقولون، وخطورة ما يؤدي إليه منهجهم.. وإنما هي فتنة!

ولو كان يمكن التعلق بقول الواحد والاثنين وترك قول الجميع، لكان سعد الهلالي إمام العصر، ولكان الخلاف في القاتل السفاح سائغا مقبولا، بل لكان التفريط في الأقصى قولا مقبولا.. فلم تخل مسألة من قول شاذٍّ قيل فيها!!

وكنتُ هممتُ أن أكتب، أو أسجل ردًّا على هذه النقولات التي تعلق بها القائلون، ثم رأيت بعض إخواني ممن هم أعلم وأخبر قد فعلوا بعض ذلك، وبعضهم ينويه.. فأكتفي بأن أتكلم فيما أحسب أنه قد يكون جديدا.

7. إذا كنتَ عزيزي القارئ قد تحملتني ووصلت معي إلى هذا السطر.. فلك عندي مكافأة، ربما تكون مفاجأة أيضا..

إن كل فكرة لها خطوطها الحمراء، وهؤلاء الذين يتصورون أن الإسلام متشدد حين يقصر الشهادة على من مات مسلما، لا ينتبهون في غمرة انفعالهم وتأثرهم بهذا العصر إلى أنهم يقبلون نفس ذلك الأمر ولكن في أشكال أخرى..

خذ عندك هذه الأمثلة البسيطة الساذجة:

- إذا مات لاعب كرة قدم، هل تُكَرِّمه وكالة الطاقة الذرية، لأنه كان على خلق أو لأنه أمتع الجماهير؟!

- إذا قررت دولة قطر مثلا أن تعطي لأسرة كل مواطن متوفى مبلغ مليون ريال، هل سيطالبها أحد أن تعطي هذا المبلغ لكل متوفي صومالي أو بنجلاديشي لأنه أكثر فقرا واحتياجا؟!

- هل تعرف دولة من الدول تسمح بنشر أفكار تخالف مبادئها الأساسية، أو تكوين جمعيات على خلاف قواعدها الدستورية؟!

- لماذا لا يكون نشر أفكار داعش -مثلا- من قبيل حرية الرأي والتعبير؟!.. لماذا لا يكون تمزيق العلم الوطني من قبيل حرية الفكر والمعارضة؟!.. لماذا لا يكون حمل السلاح -في الدول التي تحظر حمله على المواطنين- من قبيل حق الدفاع عن النفس؟!

- في أي دولة يكون من حق الأجنبي الترشح لرئاسة الجمهورية وتولي المناصب الحساسة؟ أو حتى يكون من حقوقه أن يُعفى من الضرائب أو يحصل على المزايا التي يحصل عليها المواطنون؟!

إن كل فكرة، كل دولة، كل ثقافة.. لها خطوطها الحمر، لها قاعدتها الأساسية التي بناء عليها تفرض الولاء والبراء، وتفرض العقوبة، وتمنح المزايا!

لن يمكنك التمتع بمزايا المواطن الأمريكي إلا إن كنت أمريكيا، وستعاقب على مقاتلتك في صفوف أعداء الأمريكان لأنك تخون الوطن، ولن يلتفت أحد إلى رأيك في عدالة هذه الحرب أو غيرها، ولن يقتنع أحد بدوافعك مهما كانت نبيلة إن ارتكبت مخالفة ظاهرة للقوانين الأمريكية.

يتميز الإسلام عن سائر هذه الأفكار والأنظمة في أن قرار انتماءك له هو قرارك أنت.. فأنت لن تكون أمريكيا لأنك تريد هذا، بل لأن الدولة أصدرت قرارا بهذا.. بينما في النظام الإسلامي أنت الذي تختار أن تكون مسلما فتكتسب في تلك اللحظة كل حقوق المسلم، ويكون عليك واجباته أيضا.

الردة عن الإسلام عقوبتها القتل، مثلما خيانة الوطن والتخابر مع أعدائه عقوبتها الإعدام.. في كل الأنظمة ولاء وبراء، ولكن القاعدة هنا هي الدين، والقاعدة هناك هي الدولة.

8. للمزيد في توضيح بعض هذه الأمور، إن كنت ما زلت هنا، وإن كنت ما زلت ترغب في المزيد، انظر:

لماذا حول المسلمون آيا صوفيا إلى جامع

https://melhamy.blogspot.com/2020/07/blog-post_11.html

الدولة الإسلامية أم الدولة النيوزيلاندية

https://melhamy.blogspot.com/2019/04/blog-post_3.html

تهنئة غير المسلمين بأعيادهم.. لماذا يتكرر الجدل

https://t.me/melhamy/4820

ولمحبي الفيديو، تفضلوا:

تهنئة غير المسلمين بأعيادهم

https://youtu.be/ePKmcT_35sE

كيف نقرأ تاريخنا بأعين أعدائنا، وكيف يؤثر هذا علينا

https://youtu.be/KYLudimiyXk

الأربعاء، مايو 04، 2022

عن لجنة العفو السيساوي، والمأساة التي تتكرر

 بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..

أمران في رمضان كانا يضغطان على نفسي للكتابة فيهما، الأول: التسريبات التي أذعيت لقيادات الإخوان وعبد المنعم أبو الفتوح في مسلسل الاختيار، والثاني: الحديث الحقوقي الذي يملأ مصر بخصوص العفو عن المعتقلين في سجون #السيسي_عدو_الله

أما الأمر الأول، فأؤجله لوقت أكون فيه أكثر هدوءا، فإنه يحتاج إلى حكمة وهدوء وضبط للألفاظ.. وأما الثاني، فنستعين بالله ونقول:

1. الذين كانوا يتصورون في 2013 أن إنهاء حكم مرسي هو امتداد للثورة، وأن ما فعله السيسي ليس انقلابا عسكريا.. هؤلاء يجب دائما، يا عزيزي القارئ، أن تفقد الثقة في تفكيرهم وعقلهم.. وإذا هم صدقوا مع أنفسهم، فيجب أن يتوقفوا عمليا عن الإفتاء في شأن السياسة.. لأن الخطأ البشع في الموقف الصريح الواضح، يعبر عن خلل في طبيعة التفكير وفي تصور الأمور.. وإذا عجزوا عن رؤية ما حصل في 2013، بل كانوا جزءا منه، فهم أعجز عن رؤية ما سواه وما هو أخفى منه!!

وهذا مع افتراض حسن الظن فيهم، وأنهم كانوا مجرد مغفلين وطنيين حسبوا أنهم بهذا يحققون مصلحة الوطن، فكانوا يُساقون إلى حتفهم وهم لا يشعرون.. فأما أن يكونوا ممن داعبتهم شهوة السلطة والوزارة والمكانة، أو أن غلبت عليهم كراهيتهم للإسلاميين، فهؤلاء لا نتحدث عنهم.. فإنهم هم العدو!

تبدو هذه الجملة خارج السياق، ولكني أكتبها الآن لأني سأحتاجها فيما بعد!

2. لئن كان مسلسل #الاختيار3 يريد تزوير التاريخ، وربما يكون قد نجح في هذا جزئيا عند بعض الشرائح الصغيرة السن، أو التي تسكن كومباوندات المناطق الراقية، فإن ميزته العظمى أنه رجع مرة أخرى إلى لحظة الثورة والانقلاب..

عن نفسي، أنا سعيد بعودة الحياة إلى هذه اللحظة التي سار قطار السيسي والدولة المصرية بكل القوة والجبروت في طريق إنهائها وطمسها وحذفها من العقول والقلوب..

من يهتم بالتوثيق والتسجيل وشأن الذاكرة يعرف إلى أي حد خاض السيسي ونظامه خوضا جادا لتجاوز اللحظة وإنهائها وتغييبها.. كان من فضل الله علينا وعلى الناس أنه هو نفسه كان يبعثها من جديد للذاكرة ليعلق عليها شماعة فشله، كما في سد النهضة أو في أزماته الاقتصادية.. لقد كانت كلمته عن الثورة تعيد النقاش من جديد، فينهدم بهذا عمله وعمل نظامه في طمسها وتغييبها!

نعم، من الأهمية القصوى أن نظل دائما نتناقش حول لحظة 2011 و2013.. نعم، نعم.. هذه هي اللحظة المفصلية التي تقرر فيها مصير البلد، والنقاش حولها ليس نقاشا حول الماضي، بل هو في عمقه نقاش حول المستقبل وحول طريق الخلاص.

تركز النقاش حول لحظة الثورة ولحظة الانقلاب هو نصف الحل بلا أدنى مبالغة.. لأن نقاشنا حول أي لحظة أخرى معناه أننا نتوه ونغيب في سراديب الأفكار والأحداث وغابات الفلسفة والتنظير.

لهذا فأنا سعيد حقا، بأنه صنع مسلسلا يعيد إلى الأذهان، وبشكل مكثف النقاش حول لحظة الثورة والانقلاب.. لقد حاول أن يقدم روايته المزورة.. ولكن هذه المحاولة هي التي ستثير غيره لتقديم روايتهم أيضا.. وكفى به مكسبا عظيما.

3. نأتي إلى ما حصل في 2011 وفي 2013..

كانت ثورة شعبية، سكت عنها الجيش بإذن الأمريكان، والتقت المصالح حول إزاحة مبارك، فكان!

ثم اختلفت الغايات، وتضاربت المصالح، وأسفرت الأحداث عن انتخابات نزيهة فاز فيها الإسلاميون، وسرت صعقة كهربائية في الإقليم المستبد وفي إسرائيل، وفي الشرائح العلمانية، وفي دولة العسكر، وبعد أخذ ورد وتردد قرر الأمريكان الاستجابة لإسرائيل والخليج وتنفيذ انقلاب عسكري في مصر بيد عبد الفتاح السيسي.

تصور الجميع أن الانقلاب سيكون سهلا، وقد كان يمكن أن يكون كذلك، لولا أمرين: الأول أن مرسي لم يستسلم كما فعل مبارك، والثاني: أن الإسلاميين كانوا قد خرجوا إلى الشارع قبل عزل مرسي!

لو استسلم مرسي لانتهى الأمر وكان الانقلاب سهلا!

لو كان الأمر بيد قيادة الجماعة لقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وفكروا في الحياة في ظل النظام الجديد (لأن قيادة الإخوان تحت عوامل الاختراق الأمني المنتشر في صفوف قياداتهم، والانهزام النفسي التام في صفوف قياداتهم غير المخترقة لم يؤمنوا لحظة بأنها ثورة شعبية وأنها لحظة فارقة.. ولهذا حديث آخر).

لكن مرسي لم يستسلم.. والناس قد نزلوا إلى الشارع بالفعل.. فانفلت القرار من يد قيادة الجماعة، وصارت الدولة أمام جسد الجماعة السائل، ومن وراء الجماعة الشعب الكبير الذي رأى أحلامه تتبدد ويعود للحظيرة من جديد.

(هنا لا أنفي أبدا أن السيسي كانت له شعبية، وأن كثيرا من الناس نزلوا في 30 يونيو.. لكنني أنفي تماما وبشدة أن هؤلاء كانوا أغلبية بل ولا شبه أغلبية.. وهذا أمر أذكره هنا كتوضيح جانبي لا أكثر.. وليس هو موضوعنا)

4. الجسد السائل للجماعة، والحالة السائلة للشعب أسفرت عن أمرين متداخلين: قيادات الجماعة -خصوصا مع الضربات الأمنية التي استهدفتهم- لا تستطيع إعادة الناس للبيوت، ولا تستطيع التصرف مع المفاجأة الصاعقة (كانوا يعتقدون حتى اللحظة الأخيرة أن السيسي رجلهم).. والدولة نفسها التي تراخت تعمدا في زمن مرسي بعد ارتباكها منذ ثورة يناير لم تستطع بدورها فرض السيطرة التامة على المشهد!

والحالة الثورية التي لا تزال باقية من يناير، مع الحالة الثورية التي ضخّتها آلة العسكر لتجميل الانقلاب، أسفرتا معا عن حراك خارج التنظيمات وداخل التنظيمات!

والتقت إرادة قيادات الإخوان المخترقة والمنهزمة نفسيا في القاهرة وفي الدوحة على الاختفاء والصمت والسكون.. ويوما ما سيُكتب ويُنشر كيف عملت بعض القيادات بجد واجتهاد على تسكين وتثبيط وإسكات طاقات الجماعة كأنما هم أكفأ ضباط لأجهزة الأمن!

هذا الاختفاء، هو الذي أدى إلى بروز بعض المخلصين مثل الشهيد محمد كمال وإخوانه (جميعهم جرى قتلهم فيما بعد)، ليحاولوا إعادة الجماعة إلى الحياة، وإعادة الجسد السائل الذي كان يتحرك بالقصور الذاتي إلى النظام.

(أكثر الناس سيندهش حين يعلم أن الجماعة ظلت بلا رأس لأكثر من عام.. أي أن كل المظاهرات الحاشدة الرهيبة التي استمرت حتى 2015 كانت مجرد حركة بالقصور الذاتي، بلا تخطيط ولا توجيه.. وهذا يخبرك عن حجم الخيانة التي اقترفتها القيادات البائسة التي دمرت الجماعة وعصفت بمصير الأمة كله في هذه اللحظة الفارقة)

وما إن بدأ محمد كمال يعيد ترتيب صفوف الجماعة، وما إن بدأت الجماعة تعود إلى الحياة، حتى ظهر الفارق الكبير في حركة الجماعة، وبدأت الخيانة تظهر، وإذا بالقيادات المختفية تعود من جديد لتفصل الذين كانوا يعملون، وإذا بأجهزة الأمن تفرج عن قيادات بعينها لتعود إلى مكانها من جسد التنظيم لتعيد السيطرة عليه، وإذا بعناصر كانت تسرح وتمرح بين أبو ظبي والرياض والقاهرة، تستطيع أن تسافر بسهولة بين هذه العواصم وبين الدوحة واسطنبول حتى تحقق القضاء على محاولة محمد كمال والتي كان بوسعها حقا أن تغير التاريخ!

وما بين الدوحة واسطنبول ولندن جرى تصفية الجماعة وتقطيع أوصالها، وإلقائها على طبق من فضة لعبد الفتاح السيسي، ليأكلها هنيئا مريئا، مع توسلات بالمصالحة والحوار والعودة إلى الحياة.. ولكن السيسي أكل الجماعة وتوسلاتها ثم أكل بعدئذ ما تيسر له من القيادات التي شاركته في ذبح الجماعة!!

5. ما الغرض من كل هذه الثرثرة التاريخية؟

الغرض منه ببساطة هو التذكير ببعض هذه الأمور:

- الجماعة كقيادة لم تتخذ أبدا قرار مقاومة الانقلاب العسكري.. بل تعاونت قياداتها المعروفة في كسر من قاوموا!

- النظام ضرب الجماعة بكل العنف من قبل أن تفكر أي شرائح داخل الجماعة في المقاومة، وحشد منهم عشرات الآلاف إلى السجون.. ليست الجماعة فحسب، بل كل من استطاع القبض عليه في مظاهرة.. ثم تطور الحال عبر السنين إلى اعتقال كل من يجد على صفحته منشورا مؤيدا لثورة يناير في 2011

- الجماعة تطلب المصالحة منذ ما قبل مذبحة رابعة، والسيسي هو من يرفض.

- الذين قاوموا الانقلاب، واستهدفوا الجيش والشرطة، كانوا مجموعات شبابية محدودة سرعان ما فصلتهم الجماعة وانفصلوا عنها.. ومعهم مجموعات سبق أن تركوا الجماعة كلها من قبل الثورة أو من قبل الانقلاب أو من بعده، حين شاهدوا بواقع الحال أن كل طرق التغيير السلمية تنتهي عند الدبابة!!

- الذين أخذهم النظام إلى السجون هم في غالبيتهم العظمى لم يقاوموه بشيء.. أكثرهم أخذ من منشور فيسبوك ومن مظاهرة سلمية ومن بلاغات كيدية ومن مكان تصادف أن كانت فيه مظاهرة أو ستكون فيه مظاهرة أو أخذوا للضغط على أقاربهم.. أو أخذوا لأنهم كانوا يديرون صفحات أو مواقع رافضة للحكم العسكري... إلخ!

ركز في هذه الأمور فسنحتاجها بعد قليل.

6. دعنا الآن لا نتحدث من منطلق الإيمان بالله أو الواجب الشرعي على الناس الذين وقعوا تحت الظلم.. بل دعنا نترك حتى منطلق الغريزة الحيواني الذي يحمل كل حيوان على الدفاع عن نفسه وعن عرينه وعن حماه..

دعنا نتكلم بالمنطق الفلسفي والفكري السخيف.. حين يُكتب التاريخ، ويقرؤه قارئ التاريخ.. فقل لي بربك، أيهما خير:

أن يقرأ سطرا يقول: حدثت ثورة، ثم انقلب عليها جنرال عسكري، فاستسلم له الناس وخضعوا..

أم يقرأ سطرا يقول: حدثت ثورة، ثم انقلب عليها جنرال عسكري، فاشتعلت الأرض تحته، وقاومه الناس حتى خلعوه وأدبوه، أو حتى: حتى هزمهم وقهرهم بعد صراع عنيف؟!!

أي السطرين تحب أن يقرأهما ابنك عنك؟

أي السطرين تحب أن يكتب في تاريخك؟!

فإذا كنت باردا بلا كرامة ولا يهمك ما يقال عنك.. فماذا تحب أن يُكتب في صحيفتك التي ستلقى بها الله يوم القيامة؟!

هل تحب أن تكون محشورا في زمرة الخانعين (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا: فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض. قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)

أم تحب أن تكون في زمرة الذين قاوموا وبذلوا حتى لقوا الله بإحدى الحسنيين؟!!

7. الآن تجتمع كلمة الحقوقيين وأصحاب المبادرات السياسية والوطنية.. سواء من كان منهم من طرف النظام أو من طرف المعارضة أو من طرف المحايدين على عبارة واحدة، اتفقوا عليها على اختلاف بينهم في كل شيء.. وهذه العبارة تقول:

"الإفراج عن كل المعتقلين ممن لم يتورطوا في العنف".. وبعضهم يضيف لمزيد من الدقة والإحكام والإنصاف "ومن لم يتورط في التحريض على العنف"

يقصدون بهذا: أولئك الذين لم يرضوا أن ينقلب عليهم العسكر، ولم يخضعوا للإجرام والظلم، فقاوموا!!!

يستحق هؤلاء وقفة طويلة نثبت فيها لهم وعليهم الحقيقة الساطعة التي تقول: بأن أغلب المعتقلين إذن ليسوا ممن تورط في عنف ولا في التحريض على العنف!!

وهذا بحد ذاته دليل على الإجرام الكبير والوحشية الشنيعة التي يتصف بها هذا النظام!!

فأي شيء أشرف للناس إذن: الذين أخذهم هذا النظام إلى السجون وهم لم يفعلوا له شيئا.. أم الذين سقطوا في أيديه وهم يقاومونه؟!!

ألم يكن الذين قاوموا أكثر شجاعة وكرامة وحمية فأُخِذوا بحق وهم يقاومون، أو ماتوا وهم واقفين.. من أولئك الذين أُخِذوا وهم يتكلمون ويهتفون، وماتوا وهم يصيحون ويشتكونه في أروقة محاكمه؟!

بل نزيد على ذلك خطوة فنقول: ألم يكن الذين قاوموا أكثر ذكاء ونضجا ومعرفة بطبيعة هذا النظام من أولئك الذين ظنوا أن سلميتهم أقوى من الرصاص فإذا بهم يسكنون نفس ذات الزنازين؟!

لكن المدهش هنا، والذي يستحق التوقف عنده طويلا، هو لماذا يقبل أولئك الحقوقيون وأصحاب المبادرات أن يكون النظام شرعيا بعدما ارتكب جريمة الانقلاب العسكري نفسها، وجرائم ذبح الناس في الشوارع وحشرهم في الزنازين وإعدامهم بالمشانق وبالرصاص الحي؟؟

لماذا يقبلون أن يكون النظام بعد كل هذه الجرائم نظاما شرعيا يعتبر الذين خرجوا عليه وقاوموه مجرمين بالفعل لا يستحقون العفو والخروج؟!

لئن كان المعيار هو القانون والدستور، فالنظام هو المجرم الأول الذي خرق الدستور والقانون.. وما فعله هؤلاء ليس إلا رد فعل غريزي!

أو فليدخل معهم الذين ارتكبوا هذه الجرائم من أركان النظام وأنصاره!

ولئن كان المعيار هو الإنسانية والرحمة وفتح صفحة جديدة فليخرج الجميع وعفا الله عما سلف للجميع!!

أسمع قائلا يقول: كن واقعيا، ولا تطالب بالمستحيل، والسياسة فن الممكن.. والمهم هو خروج المعتقلين ورفع الأذى عنهم.

وأقول لك: موافق على ما تقول

نعم، ميزان القوى ليس في صالحنا، خروج أي عدد هو أمر مهم ومطلوب ومنشود، فليخرج من استطاع ما استطاع

ولكن واجب مثلي أن يُذَكّر دائما بالحق الذي هو الميزان الذي قامت عليه السموات والأرض!

لئن عجزت وعجز الناس عن إخراج المعتقلين فلا بد أن يبقى واضحا وساطعا ونقيا أن الذين أُسِروا وهم يقاومون هم أشجع الناس وأذكاهم وأنبلهم وأفضلهم..

لئن عجزت وعجز الناس عن إخراج هؤلاء فالعار كل العار أن نسمح بالنظر إليهم كمجرمين أو أو نسكت عن بيان الحق الذي يعيد إليهم حقهم وفضلهم ومنزلتهم..

وأما أصحاب المبادرات والحقوقيون، فأكثرهم (أؤكد: أكثرهم وليس كلهم) لا يُنسى له غفلته وغباؤه حين كان جزءا من قتل تجربة مرسي ودفنها.. فليتواضعوا وليتهموا عقولهم قبل أن يتسببوا لمرة أخرى في تلويث وتجريم أشرف الناس وأنبلهم وأشجعهم وأذكاهم.

الاثنين، مايو 02، 2022

الرئيس التافه!

 

يبدو أن مسلسل #الاختيار3 لم يحقق هدفه المنشود، رغم ميزانيته التي تساوي ميزانية 10 مسلسلات!! فجاءت البرامج التلفازية لتدعمه بعد كل حلقة!! ثم المنصات الإخبارية!!

في مشهد يحدث في التاريخ لأول مرة على حد علمي.. مشهد عبثي من أوله إلى آخره، فنحن لسنا الآن إزاء "المنتصر الذي يكتب التاريخ" من خلال السياق الطبيعي والنفوذ الطبيعي في مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة..

نحن الآن أمام حاكم عسكري يعلن أنه أمسك بقلم التاريخ ويكتبه.. ثم إنه يجبر الناس على تمثيله.. ثم يجبرهم على الاستماع إليه.. ثم يريد أن يجبرهم على تصديقه!!!

فبعد كل ما حدث، اصطنع #السيسي_عدو_الله احتفالا جديدا، وأتى بالذين جسّدوا هذا التاريخ -مجبرين بسيف المعز وذهبه- ليخطب فيهم مؤكدا أنهم قاموا بعمل عظيم ومهم ومؤثر وأمين!!!

إذا لم يكن هذا المجنون قد اتخذ قرارا بإعدام بعض قيادات الإخوان فهو الآن يمهد له بذلك، لكان في حقيقة الحال مجنونا بنفسه، بل ويستحق أن يوضع تحت أجهزة الفحص لفهم طبيعته النفسية المحمومة التي تصوّر له أن إطعام الناس للمعلومات بهذه الطريقة الفجة لا يأتي بالفائدة المطلوبة!!

كيف لرئيس دولة يحترم نفسه أن يجلس بنفسه ليصنع مسلسلا يتابع كتابته واختيار ممثليه ثم يمارس التأكيد على أهميته بنفسه!! وذلك في وقت تعاني فيه البلاد انهيارا شاملا، وتقف على شفير إعلان الإفلاس!!

هذا أمر يُحَقِّر من شأنه حتى بميزان المنطق الدولتي السلطوي الرسمي الذي يحرص دائما على بقاء صورة الدولة كيانا متساميا ورفيعا وفوق الصراعات.. ولهذا فإن مثل هذه المعارك تترك لصغار الصحافيين والإعلاميين "الشوارعية"، بينما يحتفظ المسؤولون في الدولة، فضلا عن رئيسها، بصورة كبير البلد، والشخصية الرسمية المحترفة التي لا تصدر عنها الصغائر ولا تتلوث بالدخول في المهاترات!!

ثم هذه الكلمة البائسة التي ألقاها في هذا الاحتفال، يؤكد فيها على صدق المسلسل وأمانته، يريد فيها أن يغير التاريخ الذي ما زلنا نعيشه، بل نحن ضحاياه.. وهو التاريخ الذي لم تعد السلطة منفردة بكتابته، بل تفيض به الصور والمرئيات والتسريبات التي تفضح كم كان خنوعا ذلولا خاشعا أمام مرسي، بل أمام وزرائه ومساعديه!!

إن ما يرويه شهود العيان عن تذلل السيسي لهم مدهش مثير، وهم لا زالوا أحياء، وشهادات كثير منهم منشورة من قبل هذا المسلسل!!

ذكرتني هذه الكلمة البائسة بموقف أبي جهل وحيي بن أخطب.. موقفان يعبران عن حقد نفسي عميق، يطلب تغيير التاريخ بل تغيير الكتب المقدسة لتوافق هواه (كتبت عن هذين الموقفين هنا: https://t.me/melhamy/1961 )

عبد الفتاح السيسي لم يعد منذ زمن طويل عدوا للإسلاميين وحدهم، وهو لم يكن أصلا عدوا للإسلاميين فحسب، هو منذ اللحظة الأولى عدو للشعب كله.. لأنه ابن العسكر الذين أذلوا هذا الشعب وقهروه وقتلوه وأفقروه.. وفي اللحظة التي استطاع فيها هذا الشعب أن يتنفس بعض الحرية، كان السيسي هو ممثل المنظومة المجرمة لإعادة الشعب مرة أخرى إلى حظيرة الذل والفقر!

لكنه الآن صار عدوا حتى للسلطويين الدولتية الذين يؤمنون بالدولة إلها من دون الله، ويحرصون على قداستها وقوتها وتفوقها وسطوتها.. هذا الرجل لا يستطيع الدولتي أن يدافع عنه وهو ينزل بمقام رئيس الدولة إلى المحلل الفني والناقد السينمائي، ويتحدث عن كلام جرى بينه وبين أسير لا يملك أن يرد عن نفسه.. رئيس دولة يقسم في الجلسة الواحدة عشر مرات كالذي يعرف في قرارة نفسه أنه مجرم مذنب مخطئ، ويعرف أيضا أن الناس لا تصدقه!!

السيسي في هذه اللحظة خطر على الدولة بمنطق الدولة نفسها، وميزان الدولة نفسها!!

نحن في لحظة عجيبة مدهشة! وما كان المرء يتوقع أن يصل الحال إلى هذا العار الذي تتناقل فيه مواقع الأخبار تصريحات متكررة لرئيس دولة عن مسلسل درامي!!!

ولا حول ولا قوة إلا بالله!

الأحد، مايو 01، 2022

تأديب النفس في رمضان

 

من أكثر المعاني ترددا في القرآن الكريم معنى أن الحق واضح وإنما يُعرض عنه الناس تكبرا عليه وجحودا له..

بل كاد هذا المعنى يكون في كل صفحة، صراحة أو ضمنا..

ومن عجائب القرآن أنه يوقف الإنسان أمام نفسه، وينزع عنه ما يتعذر به من أعذار زائفة.. وأعظم ما يرى الإنسان نفسه في هذا المشهد حين يقع في الكرب.. فحين يموج البحر ويوشك الغرق تنقشع الفلسفات والمماحكات وينفض القلب على نفسه كل الأعذار فيتوجه خالصا لله في لحظة الكرب.. لا يفكر في شيء غيره!!

ولعله لهذا قال نبينا ﷺ "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر"..

ومن بديع ما قاله العلماء تعليقا على هذا الحديث رائعة حجة الإسلام الغزالي في إحياء علوم الدين، فقد كانت له نظرة عميقة في آثار الكبر، وذلك قوله:

"وإنما صار (الكبر) حجابا دون الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة

والكبر وعزة النفس يغلق تلك الأبواب كلها، لأنه:

- لا يقدر على أن يحب المؤمنين ما يحب لنفسه وفيه شيء من العز

- ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين وفيه العز

- ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز

- ولا يقدر أن يدوم على الصدق وفيه العز

- ولا يقدر على ترك الغضب وفيه العز

- ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه العز

- ولا يقدر على ترك الحسد وفيه العز

- ولا يقدر على النصح اللطيف وفيه العز

- ولا يقدر على قبول النصح وفيه العز

- ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم وفيه العز

ولا معنى للتطويل..

فما من خلق ذميم إلا وصاحب العز والكبر مضطر إليه ليحفظ عزه، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزه"

وللنبي ﷺ تشبيه مرعب في حال الذي يتكبر ويحرص على نفسه.. فقد صوَّر النبي ﷺ صورة مذبحة فظيعة، وهي كالآتي:

ذئبان جائعان أُطْلِقا في غنم.. ففتكا بها

تأمل صورة المذبحة واسرح فيها وحاول أن تتصورها، فتصوُّرها مهم..

ثم ذكر النبي أن الحرص والكبر أشد فتكا في دين المرء من هذين الذئبين الجائعين في الغنم!!

قال ﷺ: "ما ذِئْبان جائعان أُرسلا في غنم، بأفسدَ لها مِن: حرص المرء على المال والشرف لدينه".

وهذا شهر رمضان.. معسكر تدريبي مكثف، يؤمر فيه المرء بالجوع والعطش، ويُستحب له فيه قيام الليل والسهر والتعب، ويطيل الركوع والسجود وهما هيئة الخضوع والتذلل والتعبد، ويرفع يده بالدعاء ويذرف الدموع وتلك هيئة الفقير المحتاج المتوسل!

ويسمع من الآيات ما يغمره بعظمة الله وقدرته وسطوته وهيمنته وجبروته.. فترتج عليه نفسه!

ويسمع منها ما يُزَهِّد في الدنيا ويُحَقِّرها ويقلل منها.. فتصغر الدنيا وما فيها في عينه وقلبه!

ويسمع منها ما يجعله عبدا مثله مثل الناس، لا فضل له عليهم إلا بما يعمل من العمل الصالح.. ويرى فيها انقسام الناس إلى مؤمن وكافر، فتزول حسبة القبائل والعشائر والمناصب والأموال!

ويرى في الآيات مصارع الفراعين والمتكبرين والمتجبرين.. فإذا الذين شادوا القصور ونحتوا الجبال وملؤوا الدنيا أموالا وآثارا قد ذهبوا في عاصفة ريح أو في موجة بحر أو خسفة أرض.. فيرى المرء في نفسه أنه لا يقوم لهذه القوة الجبارة التي تصرف الكون وتدبر الأمر!

هذا شهر رمضان، شهر كثيف العبادة، تخرج منه النفس وقد خشعت لله، فالتاريخ كله يمرّ في سطور، والأقوام المعمرين قد صاروا "أحاديث"، والممالك العظمى قد اندثرت وبادت.. فإذا المرء يعرف من نفسه أنه ليس إلا ذرة عابرة في سحابة الزمن، ونقطة مهملة في فساحة الكون.. وليس له إلا ما يلقى به وجه الله يوم القيامة!

اللهم تقبل منا رمضان.. وأعنا على الاستقامة بعده!