الأحد، فبراير 26، 2012

شذرات من حضارة الإسلام في صقلية

تمثل جزيرة صقلية واحدة من الأمثلة الواقعية على أن الإسلام ليس مجرد رسالة روحية، ذلك أن النهضة الإسلامية التي بعثها الإسلام في الأراضي التي فتحها لم تكن ارتفاعا بالمستوى الروحي الأخلاقي فحسب، بل شملت النهضة المادية كذلك، ففي الإسلام ليس ثمة انفصال بين ما هو روحي ديني وما هو مادي دنيوي.

وفي استعراض الحال إبان القرنين اللذين عاشتهما صقلية في ظل الإسلام، نجد أن القيم الأخلاقية والمعاني الإنسانية التي دخلت إلى صقلية، وإلى أوروبا، مع الفتح الإسلامي قد رافقتها عمليات نهضة علمية أيضا، ومثلت صقلية أهمية خاصة في التاريخ كونها كانت أحد المعابر التي نقلت الحضارة الإسلامية إلى الغرب.

وبعد أن استعرضنا في المقال الماضي طرفا من النهوض الإنساني الحضاري في صقلية[1]، نستعرض في هذا المقال شذرات عن النهضة الحضارية المادية في صقلية.

***

الزراعة

شهدت الزراعة في صقلية طفرة كبيرة، فبعد أن كانت الجزيرة في أيام البيزنطيين تهتم بالقمح والكرمة، أدخل المسلمون إليها محاصيل جديدة منها: الليمون والبرتقال والقصب والأرز والنخيل والقطن والبردي والسكر، حتى نشأت في صقلية أساليب زراعية تلائم بيئتها وأصبحنا نسمع في كتاب الفلاحة بما يسمى طريقة صقلية في زراعة البصل مثلا أو عادة أهل صقلية في زراعة القطن أو طريقهم الخاصة في عمل معنب من عصير العنب الحلو. وأكثر الناس من زراعة الخضروات. وكانت بلرم وضواحيها عامرة بالبساتين والأجنة والطواحين. ويذكر المقدسي كثرة الفواكه والخيرات والأعناب في بلرم وضواحيها، ولم يغير الفتح النورماني كثيراً من عمران صقلية ولذلك نستطيع أن نعتمد على ما كتبه الإدريسي لنتصور الحالة الزراعية بصقلية في العصر الإسلامي. وليس هنالك من بلد مذكور من صقلية -في نزهة المشتاق- لا يقترن به ذكر البساتين والمتنزهات والمياه والمزارع الطيبة وسائر القلاع والحصون، داخلية كانت أو ساحلية. وحول شنت ماركو خاصة كان يكثر البنفسج ذو الرائحة الفائحة العطرة[2].

كانت الجزيرة تتمتع بالموارد الكافية ولم ينقصها إلا قوم يجيدون تنظيمها وإدارة مواردها، يشرح هذا المؤرخ الأمريكي المعروف ول ديورانت بقوله: "كانت صقلية تستمتع بقسط كبير من المطر وضوء الشمس، فقد كانت تربتها غاية في الخصب، فلما جاءها العرب المهرة وأحسنوا تنظيم أحوالها الاقتصادية جنوا ثمار هذا التنظيم، وأضحت بالرم (باليرمو) ثغراً تجارياً عظيماً بين أوربا المسيحية وإفريقية الإسلامية؛ وما لبثت أن صارت من أغنى المدن في بلاد الإسلام"[3]، ولنا أن نتخيل حجم الإخصاب والإعمار الذي يجعل هذه الجزيرة التي تعد من ضمن البقاع الجغرافية غير المحسوبة في ميزان البلاد، يجعلها من أغنى المدن في بلاد الإسلام!!

وقد أرجع مؤرخ صقلية ميشيل أماري بداية النهضة الحقيقية في الزراعة إلى النظام الإسلامي في محاربة الإقطاع، فبعد أن كانت مشكلة صقلية في الإقطاعيات الكبيرة لم يمض وقت كثير حتى "قضى نظام الإرث الإسلامي على هذه الإقطاعات" مما جعل عددا كبيرا من الناس يملك مساحات أصغر من الأرض[4]، مما عاد بالخير على الزراعة في صقلية.

***

الصناعة

وامتدت النهضة من مجال الزراعة إلى مجال الصناعة التي اعتمدت على الحاصلات النباتية والحيوانية والمعدنية فقامت صناعة السفن على الخشب وعلى الحديد، وكان القطن يصدر بكثرة إلى البلاد الأفريقية، وكان الكتان الصقلي ذا شهرة واسعة لجودته الفائقة وأسعاره الرخيصة، حتى يذكر ابن حوقل أن ثياب الكتان فيها لا نظير لها جودة ورخصاً، وتم استثمار المعادن الموجودة في صقلية كالكبريت والشب والزفت والقطران، وعلى ثروة الغابات الخاصة من جبل إتنا الذي يؤخذ منه الجوز والقسطل وخشب الأرزن أضف إلى ذلك مستخرجات البحر والأنهار كسمك التن والمرجان[5].

وبهذا كانت صقلية أحد أهم المعابر لحضارة الإسلام إلى الغرب الأوروبي، وتمثل أهم إنجاز للمعبر الصقلي في نقل "صناعة الورق" إلى الغرب، وتحديدا من صقلية إلى إيطاليا ومن الأندلس إلى فرنسا كما يقرر مؤرخ الحضارة ول ديورانت[6].

وأهم ما أحدثه نقل صناعة الورق إلى أوروبا أنه أخرج أوروبا من الظلمات إلى النور، فصناعة الورق –بتعبير زيجريد هونكه- هي في الحقيقة "إحدى دعائم الثقافة والحياة الرُّوحية، وبذلك فتح المسلمون عصرًا جديدًا لم يَعُدِ العْلِمُ فيه وَقْفًا على طبقة مُعَيَّنة من الناس، بل غدا مَشاعًا للجميع، ودعوة لكل العقول لأن تَعْمَلَ وتُفَكِّر"[7].

ونقلت صقلية إلى أوروبا فن صباغة المنسوجات التي يؤكد جوستاف لوبون أن كل الأدلة تؤدي إلى هذه النتجية، يقول: "يحمل كل شئ على القول بانتشار فن صباغة المنسوجات في أوروبا من صقلية"[8].

وقد استدعت النهضة الصناعية تعدد الحرف في أيدي الناس. وفي بلرم وحدها عدَّ ابن حوقل أصنافاً كثيرة منها وذكر أن أهل حرفة سوقاً. فبين مسجد ابن سقلاب والحارة الجديدة كانت تقع أكثر الأسواق كسوق (الزياتين بأجمعهم والدقاقين والصيارفة والصيادنة والحدادين والصياقلة وأسواق القمح والطرازين والسماكين والأبزاريين وطائفة من القصابين وباعة البقل وأصحاب الفاكهة والرياحين والجرارين والخبازين والجدالين، وطائفة من العطارين والجزارين والأساكفة والدباغين والنجارين والغضائريين والخشابين خارج المدينة. وببلرم طائفة من القصابين والجرارين والأساكفة وبها للقصابين دون المائتي حانوت لبيع اللحم والقليل منهم برأس السماط ويجاورهم القطانون والحلاجون والحذاءون". وهذه الفقرة الإحصائية غنية بالدلالة على حال السوق في بلرم أثناء العصر الإسلامي[9].

لكل هذا يقرر لوبون أن العرب "انتشلوا وبسرعة الزراعة والصناعة من الانحطاط الذي كانتا فيه، كما انتعشت التجارة واتسع نطاقها بعد أن كانت صفرا تقريبا"[10].

***

النهضة العمرانية

يصف الجغرافي الكبير الإدريسي، وقد كان من العلماء الذين عاشوا في رعاية الملك روجر، مدينة بلرم، عاصمة المسلمين في صقلية، والتي استمرت عاصمة الملوك النورمان فيما بعد فيعطينا بانبهاره صورة عما وصلت إليه حاضرة صقلية من ازدهار في عهد المسلمين، إذ لم يكن مر من الوقت ما يتيح للنورمان أن يصنعوا فيها حضارة، ومما قال فيها: "المدينة السنية العظمى والمحلة البهية الكبرى. والمنبر الأعظم الأعلى على بلاد الدنيا وإليها في المفاخر النهاية القصوى ذات المحاسن الشرائف ودار الملك في الزمن المؤتنف والسالف ومنها كانت الأساطيل والجيوش تغدو للغزو وتروح كما هي الآن عليه من ذاك وهي على ساحل البحر منها في شرقيها والجبال الشواهق العظام محدقة بها وساحلها بهيج مشرق فرج ولها حسن المباني التي سارت الركبان بنشر محاسنها في بناءاتها ودقائق صناعاتها وبدائع مخترعاتها.

وهي على قسمين قصر وربض فالقصر هو القصر القديم المشهور فخره في كل بلد وإقليم وهو في ذاته على ثلاثة أسمطة فالسماط الأوسط يشتمل على قصور منيعة ومنازل شامخة شريفة وكثير من المساجد والفنادق والحمامات وحوانيت التجار الكبار والسماطان الباقيان فيهما أيضاً قصور سامية ومبان فاخرة عالية وبهما من الحمامات والفنادق كثير وبها الجامع الأعظم الذي كان في الزمن الأقدم وأعيد في هذه المدة على حالته كما كان في سالف الأزمان وصفته الآن تغرب عن الأذهان لبديع ما فيه من الصنعة والغرائب المفتعلة المنتجة المخترعة من أصناف التصوير وأجناس التزاويق والكتابات. وأما الربض فمدينة أخرى تحدق بالمدينة من جميع جهانها وبه المدينة القديمة المسماة بالخالصة التي بها كان سكنى السلطان والخاصة في أيام المسلمين وباب البحر ودار الصناعة التي هي للإنشاء.

والمياه بجميع جهات مدينة صقلية مخترقة وعيونها جارية متدفقة وفواكهها كثيرة ومبانيها ومتنزهاتها حسنة تعجز الواصفين وتبهر عقول العارفين وهي بالجملة فتنة للناظربن"[11].

ومما يقول ابن جبير، الجغرافي الأندلسي الشهير، الذي زار صقلية في عام (580 هـ / 1184م) عن وصف بلرم: "أم الحضارة، والجامعة بين الحسنين غضارة ونضارة، فما شئت بها من جمال مخبر ومنظر، ومراد عيش يانع أخضر، عتيقة أنيقة، مشرقة مونقة، تتطلع بمرأى فتان، وتتخايل بين ساحات وبسائط كلها بستان، فسيحة السكك والشوارع، تروق الأبصار بحسن منظرها البارع، عجيبة الشان، قرطبية البنيان ... تنتظم بلبتها قصوره انتظام العقود في نحور الكواعب، ويتقلب من بساتينها وميادينها بين نزهة وملاعب ...."[12].

***

وللحديث عن تاريخ صقلية الإسلامية مقال آخر بإذن الله تعالى، فهو الموفق والمستعان!

نشر في المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] راجع المقال الماضي "جزيرة صقلية في ظل الإسلام".

[2] إحسان عباس: العرب في صقلية، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الأولى، 1975 م. ص72، 73

[3] ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة: مجموعة، الهيئة المصرية للكتاب، طبعة مكتبة الأسرة، 2001م. 13/279

[4] Amari: S. D. M. vol .2 pp40 – 41 نقلا عن: د. إحسان عباس: العرب في صقلية ص70.

[5] د. إحسان عباس: العرب في صقلية ص73 وما بعدها.

[6] ول ديورانت: قصة الحضارة 13/170

[7] زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب، ترجمة فاروق بيضون، كمال دسوقي، راجعه ووضع حواشيه مارون عيسى الخوري، دار صادر، الطبعة العاشرة - بيروت، 2002م. ص46.

[8] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م. ص310.

[9] إحسان عباس: العرب في صقلية ص75.

[10] جوستاف لوبون: حضارة العرب ص310

[11] الإدريسي: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1409 هـ. 2/590، 591.

[12] ابن جبير: رحلة ابن جبير، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى. ص305، 306

السبت، فبراير 25، 2012

الرئيس المنتظر.. عجل الله فرجه!

بداية نقول إن هذا المقال قد كُتب قبل أن يظهر ذلك المرشح المنتظر الذي يصر الجميع على التكتم عليه حتى يعلن دعمه له في الوقت المناسب.. وهذا كي لا يتخيل أحد الظرفاء الخبثاء أنه مكتوب ضد المرشح الذي ربما يكون قد ظهر، واستجاب الله دعائي فعجل فرجه!

***

منذ أحبت الحركات الإسلامية أن تترسب في خانة المفعول به، وأن تكون دائما في موقع رد الفعل، وهي تعاني.. وستظل تعاني وتعاني وتعاني.. ذلك أن الذي ينتظر من الآخرين أن يحددوا له الطريق لا يجد أمامه إلا مسارات محدودة: إما أن يسير في هذا الطريق ولو كان كارها، أو يظل واقفا وهو كاره، أو يمشي متلكئا متحفزا مترقبا حذرا تملأ الحيرة قلبه وهو كاره أيضا!

إذا لم يكن لك مشروع فأنت جزء من مشروع الآخرين!!

أما الذي انطلق من المباردة وأخذ زمام الموقف فإنه يصنع الأحداث من حوله، ويفرض وجوده ورؤيته لتكون جزءا من اعتبارات الآخرين، فإذا أوتي ذكاء وهمة كانت قيمته أكبر..

لقد أحبت الهيئات الإسلامية أن تكون في موقع رد الفعل في مسألة الرئاسة، الإخوان والدعوة السلفية والهيئة الشرعية ونحوهم، ولذا فهم ما زالوا يبحثون وينتظرون ويدرسون ويفحصون.. بينما استطاع من نزل إلى حلبة المنافسة سابقا أن يجعل نفسه أحد الخيارات المطروحة أو في أقل الأحوال أحد الاعتبارات التي لا يمكن إهمالها!

وعليه، فليس أمام من ارتضوا خانة المفعول به إلا أن يختاروا رئيسا من بين الأسماء المطروحة أو من خارجها، فإن كان من بين الأسماء المطروحة فسيكون تأخرهم هذا من علامات سوء السياسة والتقدير، وإن كان من خارجها فإنهم سيبذلون جهدا رهيبا لتسويقه شعبيا وهو الأمر الذي يبدو أنه قد فات وقته وانتهى (طبعا في كل الأحوال سيتحدث الأتباع عن حكمة القيادة الرشيدة وسيلتمسون تفسيرات ومبررات تجعل القرار هو خير القرارات توقيتا واختيارا!!).

ويظل الاحتمال قائما بأن المجلس العسكري سيفتعل من الأحداث ما يمكنه من نسف مسار التحول الديمقراطي كله، فإنهم لا عهد لهم ولا ذمة، وكم وعدونا فأخلفوا، وحدثونا فكذبوا، وائتمناهم فخانوا.. وكذلك كم خاصموا وفجروا!

لكن لنفترض أن الانتخابات ستجري في موعدها، وحينها فلن يكون أمام الهيئات الإسلامية إلا أن:

- تدعم واحدا من الشخصيات المطروحة

- تستطيع إقناع شخصية أخرى بالترشح

لئن كان واحدا من الشخصيات المطروحة والمعروفة، وهم ثلاثة (ابو إسماعيل – أبو الفتوح – العوا) فإن الجمهور قد حدد مواقفه منهم بالفعل نتيجة عام مضى تعرضوا فيه لاختبارات واقعية حقيقية كشفت عن شخصياتهم واختياراتهم وانحيازاتهم وأسلوبهم في التعامل مع المستجدات.. ولا يخفى على أحد أن استطلاعات الرأي جميعها يفوز فيها أبو إسماعيل، يليه بفارق واضح أبو الفتوح، وبعدهما بفارق عظيم العوا.

ولئن كان شخصا جديدا تماما، فهو بالتأكيد لن يكون من المجهولين المغمورين، بل لا شك سيكون شخصية عامة، وهذا أيضا ستكون له من قبل الثورة ومن بعدها مواقف فارقة وفاصلة، وتصريحات للصحافة والفضائيات ومواقع الانترنت.. وسيستدعى تاريخه كله بعد لحظات من إعلان ترشيحه، وسيحدد الشباب موقفهم منه بناء على هذا، فإن لم تكن على مستوى ما ظهر من المرشحين المطروحين من قوة وصراحة فستكون المهمة عسيرة وفي حكم المستحيل.. لا سيما وتسويقه بين الناس في القرى والريف ومن هم مشغولون بأحوالهم اليومية يحتاج وقتا طويلا وجهدا عسيرا، خصوصا وأن الحملات الانتخابية القائمة منذ شهور تعمل في هذه الأوساط واستطاعت تحقيق نجاحات كبيرة.

***

ربما يظل الحل الأفضل هو ترك الأتباع يختارون من شاءوا، لا سيما وأن الإخوان قطعوا على أنفسهم تعهدات ملزمة بعدم دعم أبو الفتوح، وبعض رؤوس السلفيين لا يخفون رفضهم التام لأبو إسماعيل، والجمهور لا يعطي العوا إلا نسبة ضئيلة في كل استطلاعات الرأي.

لعله المخرج الأكرم لهذه الهيئات الإسلامية، ولعله درس جديد في امتلاك زمام المبادرة وعدم البقاء في خانة رد الفعل!

نشر في شبكة رصد

الاثنين، فبراير 20، 2012

من مذكرات شاب مسلم في زمن شيوخ الغرائب!

الحمد لله أننا ندين بالإسلام، حيث لا كهنوت ولا وساطة بين العبد وربه، ولا يتسلط فيه عالم ولا شيخ على قلوب الناس فلا يملك أن يمنح الجنة أو يحرم من الصلاة أو يعطي صكوك الغفران.

ولقد جلسنا تحت أرجل العلماء وانتمينا لحركات إسلامية لنفهم الدين وننصره فنرضي الله، ثم أعرضنا عن بعضهم لذات الغرض، ولا نطعن في دينهم وتقواهم.

وحين جلسنا لطلب العلم كنا نذهب للشيخ فيما برع فيه، فذهبنا لفقيه إن أردنا الفقه وللمحدث إن أردنا الحديث وللمؤرخ إن أردنا التاريخ، فليسوا سواء! وقد تعلمنا على أيديهم أن من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب!

وهذا الشيخ الذي أخذنا منه الفقه ولم نأخذ الحديث هو أحرى ألا نأخذ منه في علوم الدنيا والسياسة التي لم يتلبس بها من قبل، ولم نعهده قرأ فيها كتابا أو أخذ فيها بحظ من العلم، بل سنأخذ ممن خبرها وبرع فيها.

ولست أثق في تقديرٍ سياسيٍ لشيخ لم أر منه ما يثبت فهمه لدهاليز السياسة وأروقتها، ولا لشيخ تَصُبُّ مواقفه في صالح الطغاة ولو كان حسن النية.. لا سيما وقد تعلمنا على أيديهم أنه لا ثقة عمياء في أحد، بل نحن الأمة التي قيل فيها "لا" لرسول الله في غير أمر الشريعة، قالتها جريرة حين حاول النبي أن يتشفع لمغيث الذي يحبها ولا تحبه، ثم قالها غيرها لغيره من الراشدين والصالحين.

فكيف بالشيخ ألا نقول له "لا" لا سيما إذا ثبت لدي بالدليل أن هذا الشيخ وإن برع في الفقه فإنه ينخدع لذئاب السياسة.. ولا سيما ونحن نعلم أن "الفتنة لا تؤمن على حي"؟!

فإن أرادنا من غَرَّه علمه في الفقه، أو تعصب له طلبته، على أن نأخذ منه في السياسة لمكانه في الفقه أعرضنا عنه حتما معتقدين أن هذا هو ما يرضي الله.

والحمد لله أن الإسلام الذي نعتنقه هو دين التوحيد، حيث لا سلطان فيه لأحد على أحد، ولا كهنوت.. وعلماؤنا فوق رؤوسنا في علمهم الذي يتقنونه!

أما كارثة الكوارث ومصيبة المصائب أن بطالبنا أحدهم بالسكوت لأن الشيخ يعلم ما لا نعلم من جلساته مع المخابرات والعسكر.. إن هذا مما يجعلنا نعرض أكثر وأكثر، ويثبت لنا أنهم مخدوعون مغرورون.

ونحن لن نبلغ مقام موسى عليه السلام الذي لم يستطع تحمل الأفعال الغريبة من الخضر رغم أنه مبعوث الله ليعلمه، ورغم أن موسى نبي.. فلن نتحمل الغرائب ولو من شيوخ نعرف أنهم يصيبون ويخطئون وأنه لا تؤمن عليهم الفتنة وأنهم ليسوا في مقام الخضر.. بل ولو علمنا لعجزنا، فلن نبلغ مقام موسى عليه السلام الذي لم يتحمل أكثر من ثلاث مواقف غريبة، فيما قد فاضت الغرائب من بعض الشيوخ في عصرنا الآن!

***

احذر أن يخدعك أحد بكلمة "إنهم يعرفون أكثر منك، فقرارهم صائب".. بهذا تم إسكات الشباب لصالح الكبار حتى أوردوهم المهالك، وأطعموهم الذل، ونَشَّأوهم على الخوف والحذر!

نشر في شبكة رصد الإخبارية، ورابطة النهضة والإصلاح

الخميس، فبراير 16، 2012

ثناء الشيخ صفوت بركات

وقد كتبه فضيلة الشيخ الكريم في 16/2/2012 تعليقا على مقالي الموضح بالصورة.. وهذا من حسن ظنه بي، جعلني الله دائما عند حسن ظن المؤمنين


ثم حين شكرته أردف بهذا الرد



الأربعاء، فبراير 15، 2012

الإسلاميون والرئاسة، قرار اللحظات الأخيرة

في مدونتي التي ضاعت -وفشلت حتى الآن محاولات استرجاعها- كتبت مقالا عن "الكتابة للحظة والكتابة للتاريخ"، خلاصته أن الكتابة للحظة تأتي هادئة وناصحة وتراعي الموقف وتختار أرق العبارات، ولكن صلاحيتها قصيرة، وفاشلة تماما في المستقبل إذا أريد التعرف على حقيقة الأمور، بينما الكتابة للتاريخ تضر بالمصالح الحالية للكاتب وتأتي زاعقة وصارخة ولا مبالية بالحسابات اللحظية، ولكنها تصف الواقع بصدق، وتظل صلاحيتها التاريخية طويلة ممدودة.

أقدم المقال بهذه العبارة لأصارح القارئ بأنه إذا كان غير مستعد ليسمع كلاما لا يريحه فعليه أن ينصرف عن المقال مأجورا ومشكورا..

***

الأفكار لا تموت، ولكن الكيانات كلها تموت، ولكل كيان عمر، وهو يمر بمراحل الولادة والفتوة والكهولة.. ثم الموت.

هكذا كانت الحضارات والامبراطوريات والدول والمؤسسات والهيئات والأفراد.. ومن ظن أنه فوق هذا القانون البشري التاريخي الكوني فهو يعيش في خيال ساذج!

بقيت الأديان والأفكار والمبادئ والفلسفات، ولكن الكيانات البشرية التي حملتها تعرضت بعد فترة دامت أو قصرت إلى الفناء.. ومن ظواهر التاريخ ما أسميه "سلسلة حياة الأفكار" (ربما ييسر الله أن أكتبها قريبا في دراسة) وهي كالآتي:

تموت الفكرة مع موت حاملها إذا لم تغادر شخصه.

فإن صنع له تلاميذ فهي تموت مع موت آخرهم، وبهذا يطول عمرها قليلا.

فإن صنع لها هيئة أو مؤسسة أو جماعة أو حركة فهي تعيش فيما بين الثلاثين والمائة عام تقريبا.

فإن استطاعت الهيئة أو المؤسسة أو الجماعة أو الحركة أن تصنع لها دولة فهي تستمر مئات الأعوام بحسب ظروف كثيرة تخضع لها وتتأثر بها.. وهذه الهيئة أو الجماعة أو الحركة إذا لم تستطع تكوين الدولة في خلال ثلاثين سنة من عمرها في المتوسط فهي لا تستطيع أن تفعل ذلك فيما بقي من أعمارها.

في كل هذه الحالات تكون البداية بمؤسس قوي وشخصية فذة، وتكون النهاية على يد شخصيات أضعف كثيرا.. وأهم ما في الأمر أن الحركات الجديدة يصنعها في العموم شباب صغير ويقاومها شيوخ كبار، وفي العموم ينتصر الشباب ولا يستطيع الكهول مواجهة تيار الزمن الذي يتجاوزهم.

ما أريد التركيز عليه في هذا المقال بكل الوضوح هو: قرارات اللحظة الأخيرة..

في نهاية أعمار الكيانات يتخذ أصحابها قرارات مؤثرة، قليلون هم من أدركوا لحظة الزمن فاتخذوا قرارات جعلت نهايتهم مشرفة ورائعة، وكثيرون اتخذوا القرارات التي ساهمت في انحدارهم أكثر وأكثر وتسريع النهاية.

***

في مصر الآن حركتان مهمتان وقضية مهمة، أما الحركتان: فالإخوان المسلمون، والسلفيون، والقضية المهمة هي انتخاب رئيس للجمهورية.

الإخوان المسلمون عمرها الآن ثلاثة وثمانون سنة، وعلى رغم ما يبدو ظاهريا من أنها توشك على التمكين إلا أن النظرة الفاحصة تقول أنها في آخر أيامها كحركة، وسيكتب التاريخ أنها أعطت كثيرا للعمل الإسلامي في فترات حرجة ولكنها فشلت في هدفها النهائي (تحرير البلاد الإسلامية وإقامة الخلافة وأستاذية العالم).. والفشل بحد ذاته أمر لم يدركه كثير من المصلحين الكبار الأفذاذ، ومنهم من يعذر ويقدر، وهو في كل وقت يُجلُّ ويُعظَّم.. والتاريخ مليء بالنماذج ولكن حسبنا أن نتذكر أمثال: جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، عز الدين القسام، عمر المختار.. وغيرهم!

الإخوان منذ سنوات تلفظ خيرة أبنائها، وتقدم الثقة على حساب الكفاءة، وكثير من علامات نضج المؤسسات كالشفافية والمؤسسية والتواصل بين القيادة والقاعدة وصلت إلى حد سيء تماما، وأضف إلى ذلك تعصبا ظاهرا واستعلاء وإيمانا بالقيادة وقراراتها إلى حد التقديس.

لا يهمني الآن إلا القول بأن قرار الجماعة دعم مرشح غير إسلامي قد يكون أول قرارات اللحظة الأخيرة التي تسرع بنهاية الكيان وتساهم في انتثار آخر العناصر التي بقيت في الجماعة بغرض الإصلاح من الداخل والتي ما زال بها شيء من استقلالية الرؤية والفكر والقرار.. ذلك أن دعم مرشح غير إسلامي يضرب أساس الأفكار التي قامت عليها الجماعة، ولا يتفق مع أبسط أصولها في كلام البنا وعامة منظري الجماعة من لدن عبد القادر عودة وسيد قطب وصولا إلى القرضاوي الذي أعلن بوضوح أن عدم دعم المرشح الإسلامي "إثم"..

وكاتب هذه السطور يعلم أشخاصا بأعينهم، وليس عددهم بالقليل، ينتظرون قرار الجماعة هذا، فإن كان بدعم مرشح غير إسلامي فهم سيتركونها بلا تردد..

ينبغي على الجماعة أن تلتمس آراء صفها الداخلي، لا سيما ونحن نطالع منذ حوالي السنتين ظاهرة تنتشر وتكشفها مواقع الانترنت، مثل الشباب الإخواني الذين ينشئون الصفحات التي عنوانها "أنا إخوان وسأفعل كذا" وتكون "كذا" هذه هي عكس قرار الجماعة، لعل أشهرها صفحة "أنا إخوان ونازل يوم 25 يناير" والآن صفحة "أنا إخوان وسأنتخب مرشح إسلامي".

***

أما السلفيون ففرصتهم في اللحظة التاريخية أفضل بكثير من الإخوان، لا سيما وهم ليسوا بالتنظيم التقليدي الذي اتخذ أنماطا لا يستطيع تغييرها، بل هي مجموعات ملتفة حول الشيوخ، والشيوخ قد يجتمعون في هيئات ملزمة تنحو نحو التنظيم (كالدعوة السلفية) أو تحاول أن تصنع نواة لهيئات ملزمة (الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح) أو هيئات أخرى لمجرد التشاور والتنسيق بغير إلزام.

في قضية مرشح الرئاسة في الوضع الحالي، لا يبدو أحد مناسبا ومعبرا عن الأفكار الإسلامية التي يعتنقها الإسلاميون مثل الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل.. فالمرشحون غير الإسلاميين خارج دائرة تفكير الشباب السلفي، والمرشحون "الإسلاميون" كأبو الفتوح والعوا عليهم مآخذ غير هينة من وجهة نظرهم..

ولئن كانت الفرصة أمام الإخوان في دعم واحد من هؤلاء الثلاثة، فالفرصة أمام السلفيين أضيق كثيرا ولا تتسع إلا لحازم أبو إسماعيل..

ثمة تسريبات عن شخصيات أخرى يحاول البعض ممن لا يوافق على ترشيح حازم أبو إسماعيل طرحها للنقاش والترشح، في الحقيقة يبدو الوقت وكأنه قد مضى تماما، أو "فاتكم القطار" بتعبير علي عبد الله صالح الذي كان قد فاته القطار بالفعل!

لقد استطاع حازم أبو إسماعيل في الشهور الماضية أن يحقق معادلات صعبة بكفاءة عالية، ليس أولها ثباته وتمسكه بأفكاره مهما كانت صادمة للتيار العلماني الذي يسيطر على الإعلام، وليس آخرها كفاءته السياسية التي ظهرت في تحليل الواقع السياسي المصري!

وحيث أن الهيئات السلفية حتى الآن لم تتخذ قرارا ولم تخرج بمرشح يمكنه منافسة ما فعله أبو إسماعيل في اللحظة التاريخية الفارقة، فإن قرارا بدعم مرشح غيره سيكون من قرارات اللحظة الأخيرة التي تودي بهذه الهيئات التي كادت أن تستقر أو تكاد أن تلتئم وتتماسك!

السلفيون –من حيث التنظيم- كيان غير خاضع للتوجيه، وهو –لعوامل عديدة، ليس كلها جيدا- حاد في خلافاته ومواقفه، وما لم يُتخذ القرار الواضح الذي ينسجم مع أفكاره ومبادئه التي تجمعه على اختلاف مشايخه فسيكون رد الفعل هو سقوط الشيوخ، مع بلبلة واضطراب في الصفوف وإعادة تشكل لموازين الشيوخ.. ومن يطالع خريطة الشيوخ المؤثرين فيما قبل الثورة يعرف تماما أنها اختلفت بشكل كبير عن خريطة المؤثرين فيما بعد الثورة.

لعل الله يوفقهم في هذا القرار.. والتاريخ سيكتب عما قريب

***

في استطلاعات الرأي العامة انحصرت منافسة الرئاسة بين أبو الفتوح وأبو إسماعيل، كلاهما إسلامي، وكلاهما معروف بمواقفة المناهضة للمجلس العسكري.. ليس من الحكمة أبدا معاندة هذا التيار الشعبي.

الرئيس القادم ليس أي رئيس، ذلك أنه إما سيعمل على تحرر البلاد حقا أو سيعمل على إعادة تطويعها وإدخالها في المسار القديم مرة أخرى.. رئيس ما بعد الثورة هو الرئيس الذي يستطيع الاستناد إلى قوة شعبية ضد موازين قوى عالمية في غير صالحه، وهو نفسه إذا انتخب في لحظات عادية فلن يستطيع تحقيق ما يمكن تحقيقه في هذه الفترة.

التاريخ سيكتب قريبا، وسيحكم على الجميع.. ولا نحب لأحد أن يقول: ولات حين مندم!

***

القارئ الكريم.. إن وصلت إلى هذا السطر ورأيت المقال مفيدا فأرجو المساهمة في توصيله لمن تستطيع.. شكر الله لك وغفر لي ولك

نشر في: رابطة النهضة والإصلاح، وشبكة رصد الإخبارية

الأربعاء، فبراير 08، 2012

عصيان مدني.. لماذا؟

حسنا، كنت بانتظار رأي المعارضين لدعوة العصيان المدني حتى أتعرف إلى منطقهم وآرائهم فلعلي أرجع عن دعمي لفكرة العصيان المدني، وقد تمخض جبل المعارضين عن نوعين:

1. العسكر ومنافقوهم!

2. الإخوان المسلمون!

أما العسكر فهم خصوم، وشهادتهم باطلة، فلا يُلتفت إلى مواقفهم ولا آرائهم. وأما الإخوان فهم الفصيل الوطني الكبير الذي لا أشكك في نواياه وإن اختلف التقدير للمواقف، وهم قوم "إصلاحيون" لم تصل "الثورة" إلى منهجهم وتفكيرهم وخطواتهم، ولست أشك أبدا في أن الثورة المصرية لو طالت إلى شهور لكانوا قد تحولوا من خندق الثورة إلى خندق الوسطاء ومسوقي الحلول الوسط المطروحة كما حدث في اليمن على سبيل المثال، ولكن الله قدر الخير للبلاد، وكانت المعادلة الدولية متوافقة مع الرغبة الشعبية لإزاحة الطاغية العجوز، فانفض عنه رجاله بمن فيهم مجلسه العسكري.. فسقط!

نعتذر عن الاستطراد، ونعود إلى موضوع الحديث، فنذكر أن من المعارضين للإضراب أيضا ثوار مخلصون يتخوفون أن يكون الإضراب في صالح العسكر، وأن يكون مثل أخيه الذي رتبه عبد الناصر قبل نصف قرن لكي ينقلب على الديمقراطية.

وبتعبير الموظف البيروقراطي الظريف في "همسة عتاب" والذي كان يردد "بعض الفحص والمحص والتمحيص..." نقول:

1. الإضراب العام حق جماهيري، لمواجهة السلطة المستبدة الجائرة التي تحكمه، وهو ما صك له البعض مصطلح "التجويع السياسي" لتوصيل الرسالة التي تفيد بأن الجالس على كرسي الحكم لا يحكم إلا نفسه.

2. الدعوة إلى الإضراب جاءت بعد وسائل كثيرة من الفعل الثوري ولم تكن الخيار الأول، ولم يقصر الثائرون في بذل الدماء في كل هذه الخيارات: مظاهرات، اعتصامات، مسيرات صامتة، وقفات صامتة، عروض مصورة، وسيل من الكتابة والصيحات على الصفحات والمدونات والفضائيات ومواقع التفاعل الاجتماعي.. فلا يتهمنا أحد بالنزق!

3. الثائرون يطالبون بحقوق مشروعة، تسليم السلطة للمدنيين، نحن الآن بعد عام من الثورة، وقد كان الوعد ستة أشهر فقط، وما رأيناه من المماطلات والتزوير الناعم في الإعلان الدستوري، وفي تصريحات العسكر لا تبشر بالخير، ليس هذا تحليل ولا استنتاج، بل هو حقائق واقعية: إن العسكر هم من أعلنوا عن نواياهم في وثيقة السلمي التي لم تسقط إلا بدماء شهداء وجرحى محمد محمود.. ومن كان ينسى فليقرأها مرة أخرى.

4. البرلمان حتى الآن ليس على مستوى تطلعات الشعب، قد يكون مكبلا بلوائح وقوانين، وقد يكون تعبيرا عن تفاهمات العسكر مع الأغلبية الشعبية (تفاهم الأغلبية الشعبية مع العسكر لا بأس به عندي مبدأيا، ويمكن تشبيهه لتقريب الصورة بتفاهمات حزب الوفد مع الإنجليز أو مع السرايا في الأربعينات، لكن المشكلة هو موضوع التفاهم وشروطهن فكل ما يؤدي إلى إسناد سلطة غير مستحقة لجهة غير منتخبة أو لإعادة إنتاج النظام القديم ولو محسنا أو إلى تضييع الثورة وسرقتها فهذا هو المرفوض).. والبرلمان في النهاية وكيل عن الشعب وليس سلطة عليه، وأعضاؤه نواب عن الشعب وليسوا حكاما عليه.. وحيث كان البرلمان ليس على مستوى التطلعات، فمن حق الذين يستطيعون الضغط أكثر أن يمارسوا حقهم المشروع. [انظر آخر فقرات المقال ففيه إضافة مهمة لهذه النقطة]

5. ما قاله الأمين العام للإخوان المسلمين من أن الإضراب يعني "إيقاف السكك الحديدية، والمواصلات، والنقل، وإيقاف العمل في المصانع والمؤسسات والجامعات والمدارس، والتوقف عن سداد الأموال المستحقة للحكومة" ليس إلا في خياله هو، أو خيال مجموعة قليلة جدا من النشطاء الداعين للإضراب، وإذا كان التوصيف خاطئا فتقديره لما يترتب عليه أشد خطأً، فالأمر بين النشطاء الداعين للإضراب ليس إلا التوقف عن العمل في هذا اليوم (فيما عدا الجهات الحيوية كالأطباء والنقل ونحو ذلك)، وبعضهم يدعو لاستمراره حتى تسليم السلطة وبعضهم يكتفي بجعله ورقة ضغط قابلة للاستدعاء، وهناك من يريده تصاعديا بحيث يكون الإضراب يوم 11 فبراير مقصورا على جهات بعينها كالجامعات ثم يتوسع بعدئذ.. كالعادة، مجموعات الثورة تتحرك بالتلقائية الطبيعية لحركة الشعوب، لا رأس لها، لا مجالس إدارة، لا تنظيم هيكلي.. ومن العجائب أن كل ما يحققه هؤلاء من مكاسب يصب في النهاية لصالح الحركات النظامية التي لو شاءت وأرادت لكانت الآن على رأس السلطة لا تنتظر جدولا موعودا ممن ثبت أنه لا يفي بالعهود.

6. لا أتوقع أن يكون هذا الإضراب شبيها بالذي رتبه عبد الناصر في 54، فالاختلافات المؤثرة كثيرة منها: أن عبد الناصر ظهر كزعيم شعبي وله بالفعل جماهيرية كبيرة وهذا لا يتوفر للمجلس العسكري على الإطلاق.. ربما لو كان تصرف المجلس العسكري مع مبارك ونظامه قاسيا كما فعل عبد الناصر لحقق هذه الجماهيرية، ومنها أن عبد الناصر كان مخترقا فعليا للتنظيمات القائمة في وقته كالإخوان والشيوعيين وغيرهم مما كان يجعل أي تصرف منه مسببا لارتباك حقيقي داخل هذه الحركات بينما كل أفعال المجلس العسكري الآن يُنظر إليها بعين الريبة والتوجس، ومنها أن عبد الناصر كان جزءا من معادلة دولية تصب في صالحه (كان الأمريكان يرثون الأسد الإنجليزي العجوز) بينما تبدو المعادلة الدولية الآن (لا سيما بعد خطاب أوباما الاستراتيجي) لا تصب في صالح العسكر، ويدل على هذا مناوشات المنظمات الحقوقية التي داهمها العسكر ولوحت أمريكا غاضبة بورقة المعونة في الكونجرس، تبدو المعادلة الآن سائرة نحو تفاهم أمريكي مع الإسلاميين "المعتدلين"، لضمان استقرار الأحوال في الشرق الأوسط بينما تتجه هي نحو التنين الأصفر!

7. هدوء الأحوال لا يستفيد منه –في لحظات الثورة- إلا أعداؤها، ويمكن مراجعة العام الماضي ليتبين أن لحظات الهدوء لم يتخذ العسكر فيها قرارا واحدا لصالح الثورة، فيم كانت لحظات الاحتجاج المتصاعدة هي لحظات القرارات التي تصب في صالح الثورة ولو جزئيا.. فالإضراب –وكل فعل ثوري احتجاجي- هو استكمال للثورة التي حققت بعض أهدافها وما زالت تسعى لتحقيق أهم الأهداف.

8. قصة العمل والإنتاج والبناء هي قصة ساذجة واسطوانة مشروخة لا تستحق الرد عليها، لقد كان المصريون يعملون طول حياتهم كالعبيد والحمير في عهود الاستبداد فما جنوا شيئا، لا تقدما ولا رخاء، بل ولا حصلوا على حقوقهم الأساسية في الصحة والسكن والتعليم ولا حتى الطعام والشراب.. ومن كان يظن أن العمل والإنتاج في هذه اللحظات يعود على الشعب بالخير فهو يخادع نفسه ويخادع الناس..

9. كما أن قصة الفوضى والهدم والتخريب كأختها قصة العمل والإنتاج والبناء، لا يرددها إلا من يريد استقرار الأحوال لصالحه ومصالحه، أو قد يكون مخدوعا لا يرى الصورة من كل جوانبها.

10. وأخيرا: انظر إلى صفحات العسكر ومنافقيهم، تعرف أن الإضراب في صالح الشعب والثورة!

***

قال شيخ مواجهة الاستبداد عبد الرحمن الكواكبي في خالدته "طبائع الاستبداد":

"أشكال الحكومة المستبدّة كثيرة (فصفة الاستبداد) كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولّى الحكم بالغلبة أو الوراثة، تشمل أيضاً الحاكم الفرد المقيَّد المنتخب متى كان غير مسؤول، وتشمل حكومة الجمع ولو منتخباً؛ لأنَّ الاشتراك في الرّأي لا يدفع الاستبداد، وإنَّما قد يعدّله الاختلاف نوعاً، وقد يكون عند الاتّفاق أضرّ من استبداد الفرد. ويشمل أيضاً الحكومة الدّستورية المُفرَّقة فيها بالكُلِّيَّة قوَّة التشريع عن قوَّة التَّنفيذ وعن قوَّة المراقِبة؛ لأنَّ الاستبداد لا يرتفع ما لم يكن هناك ارتباط في المسؤولية، فيكون المُنَفِّذُون مسؤولين لدى المُشَرِّعين، وهؤلاء مسؤولين لدى الأمَّة، تلك الأمَّة التي تعرف أنَّها صاحبة الشّأن كلّه، وتعرف أنْ تراقب وأنْ تتقاضى الحساب".

كأن هذا الكتاب مقتبس من نور الوحي الخالد! فهو دائما غض طري كأنما كتب بالأمس!!

نشر في رابطة النهضة والإصلاح، وشبكة رصد الإخبارية

السبت، فبراير 04، 2012

جزيرة صقلية في ظل الإسلام

بخلاف أطلال مسجد بالقرب من كنيسة القديس يوحنا في بالرمو، وقصر الفوارة، لا يوجد في صقلية أي مباني إسلامية ترجع إلى فترة الحكم الإسلامي التي استمرت مائتي عام، في تلك الفترة برزت صقلية على سطح التاريخ، ثم عادت شيئا مجهولا لا أهمية له بعدها كما كانت قبلها.

(1)

صقلية قبل الفتح الإسلامي

تعد كتابات المفكر والمؤرخ الإيطالي الكبير ميشيل أماري هي العمدة التي يعتمد عليها الباحثون في كل العالم –تقريبا- حين يحاولون التأريخ لجزيرة صقلية، وخصوصا الفترة الإسلامية التي ضَمَّنَها كتابه الكبير (تاريخ مسلمي صقلية) (Storia Dei Musulmani Di Sicilia)، والذي بذل فيه جهدا عظيما في البحث من خلال المصادر والمراجع العربية واللاتينية واليونانية والوثائق والنقوش، ومؤلفات من قبله.

وخلاصة ما سجله ميشيل أماري عن تاريخ صقلية قبل الفتح الإسلامي يتمثل في النقاط الآتية:

1. كانت صقلية فريسة لجشع المحصلين تدفع ضريبة على الأملاك، وأخرى على الرؤس، وإتاوات على التجارة والصناعة، وزيادات إضافية على الضريبة الأولى، وضرائب للجند، وأخرى للملاحين، وأموالا يبتزها الموظفون ويزيدون بها الحمل ثقلا.

2. وصل الحال في نهاية القرن السادس الميلادي، إلى درجة خطيرة حتى إن أحد الجباة أجبر الرعايا العاجزين عن دفع المال على تقديم أبنائهم، واستطاع موظف تافه الشأن في صقلية أن يصادر الممتلكات بالقوة، ويقول القديس جريجوريو: "نحتاج إلى مجلد لنفصل الجور الذي سمعنا به من هذا القبيل".

3. كانت الكنيسة أيضا تتحكم في صقلية، وكانت لها أملاك يفلحها لهم طبقة من الفلاحين تشبه طبيقة العبيد في ارتباطها بالأرض ودفعها للضرائب تسمى (الكولونيين coloni)، وكانت تلك الأراضي تمد الكنيسة كل عام بأسطولين محملين بالقمح، وإذا غرقت المؤن في البحر أو نهبت قبل وصولها، طولب الكولونيون بالتعويض.

4. أهملت الدولة البيزنطية جيش صقلية، فأصبحت وارداته قليلة مما اضطر القادة والحكام إلى طرق خطيرة النتائج، فكان القائد مثلا يعهد بأرضه إلى جماعة من الجنود كي يفلوحها ويفيدوا من حاصلاتها دخل في صفوف الجيش جماعة من الفقراء الذين رضوا أن يتقاضوا أجراً قليلاً، وحل هؤلاء بجهلهم محل العسكريين أصحاب الدربة القديمة، وبهذا أصبح الجيش سيئا وأصبح الجنود مجرد حاشية للقائد فأصبحوا جزءا من مشكلة الأمن والحماية بعكس ما يفترض بهم.

5. وكانت الجزيرة أيضا من وسائل العقوبات باعتبارها منفى، فكثيرا ما امتلأت بالفقراء وصغار الملاك ممن لم يستطيعوا دفع الضرائب، فعوقبوا بالنفي، ثم اضطر هؤلاء بعد فترة إلى التحول إلى عبيد.

6. وكانت الحالة الدينية تشبه حالة هذه العصور من حيث سيطرة الخرافات والأوهام على الناس والمجتمع.

ويلخص أماري الوضع بعبارة واحدة في قوله: "تلك هي حال الجزيرة بين أطماع الحكومة والكنيسة وفساد حال الجيش، ومن ثم لم يكن المجتمع الصقلي في ظل الدولة البيزنطية مجتمعاً سعيداً ناهضاً مكفول الحرية"[1].

(2)

الفتح الإسلامي لصقلية

كانت صقلية بموقعها الجغرافي إحدى مناطق خط الاحتكاك بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية، فخرجت غزوات عربية إلى صقلية، وخرجت كذلك حملات بحرية من صقلية، كثيرا ما أسرت تجارا من المسلمين في البحر، وجاء سبب الدخول الإسلامي لصقلية (ربيع الأول 212 هـ/ يونيو 827 م) حين تغير الوضع في الجزيرة، إذ عيَّن الإمبراطور ميخائيل الثاني على صقلية الوالي قسطنطين في عام (211 هـ/ 826 م)، الذي لم يلبث قليلا حتى دخل في صراع مع قائد الأسطول (فيمي Euphemius)، إذ أمر الإمبراطور أن قسطنطين أن يقبض عليه أو أن يعاقبه لجريمة تعزوها المصادر الأوروبية لقصة حب وزواج بالإكراه من راهبة، وعندها ثار فيمي على قسطنطين، وانتصر عليه وأعدمه، ثم أعلن نفسه إمبراطورا، ولكن لم يلبث الأمر إلا قليلا حتى ثار عليه أحد رجاله ويدعى (بلاطه) وأعلن ولاءه للإمبراطور ميخائيل وهزم فيمي الذي انسحب هاربا إلى شمال إفريقيا التي يحكمها في ذلك الوقت أمراء الدولة الأغلبية التي بدأ حكمها في عهد الرشيد واستقر أمرها في عصر المأمون الذي امتد من (198 هـ - 218 هـ) ويظلل هذه اللحظة التاريخية.

هذا هو التطور التاريخي في الجانب الصقلي، وهذه التطورات لم تكن بعيدة لا بالجغرافيا ولا بالتأثير عن المسلمين، إذ بمجرد ظهور فيمي على الساحة وهو قائد الأسطول، بدأ نقض للسلم الذي كان تم إبرامه بين الأغلبة وحكام صقلية فغزا فيمي سواحل إفريقية، فنهب وأسر وبقى محتلا للسواحل فترة[2]، ثم وجود أسرى من المسلمين في سجون صقلية، كل هذا يعني أن الأوضاع قد تغيرت في صقلية وانتهت المعاهدة، ثم هذا فيمي قد جاء يطلب المساعدة مع التعهد بأن يكون تابعا للأغالبة، بما ينهي –على الأقل- لفترة طويلة تلك المخاطر التي تأتي من صقلية، إلى جانب أن الفتح الإسلامي له نظرية خاصة في نشر الخير وتوفير الحرية الإنسانية للشعوب المفتوحة بما لا يمكن عزله عن القيم الإنسانية التي طبقها الإسلام واقعيا، ولا يمكن مقارنة الفتوح الإسلامية بحركات التوسع الامبراطورية التي لم تهدف إلا لزيادة السيطرة ونقل خيرات البلاد إلى عاصمة الامبراطورية.

انطلق الأسطول الإسلامي بقيادة الفقيه المالكي الكبير أسد بن الفرات، ومعه قوات فيمي، لتدخل صقلية، ولتبدأ الأيام الصقلية تبرز على مسرح التاريخ الإنساني[3].

(3)

صقلية الإسلامية تتألق

تألقت صقلية الإسلامية على مستويين: المستوى الإنساني، والمستوى المادي. فعلى المستوى الإنساني أصبحت صقلية متحفا ثقافيا مفتوحا زاخرا بالبشر من شتى أجناسهم وألوانهم وأديانهم، وهذا ما سجله الراهب ثيودوسيوس –كما نقله عنه ميشيل أماري- بقوله: "حافلة بالناس من أهلها والغرباء حتى كأنه قد اجتمع فيها كل المسلمين من شرق إلى غرب ومن شمال إلى جنوب، وبين أهلها من صقليين وإغريق ولمباردين ويهود ترى العرب والبربر والفرس والتتار والزنوج، بعضهم يرتدي العباءة والعمامة، وبعضهم يلبس الجلود وفيهم أنصاف عراة وثمة وجوه مستطيلة أو مربعة أو مستديرة من كل سحنة وهيئة، ولحى من كل لون طويلة أو قصيرة"[4].

هذا المتحف في حد ذاته دليل على الروح الإسلامية الحضارية، لا سيما في ذلك الزمن البعيد الذي لم يُعرف فيه التسامح العرقي والديني في أوروبا، لكن التألق الإنساني لا يقف عند حد الوجود، بل يُقِر المستشرق والفيلسوف الفرنسي الكبير جوستاف لوبون بأنه قد " تُرك لنصارى صقلية كل ما لا يمس النظام العام، فكان للنصاري، كما في زمن الروم، قوانينهم المدنية والدينية، وحُكَّام منهم للفصل في خصوماتهم، وجباية الجزية السنوية التي فرضها العرب عليهم وهي 48 دينارا عن كل غني، و24 دينارا عن كل موسر، و12 دينارا عن كل من يكسب عيشه بنفسه، وكانت هذه الجزية التي هي دون ما كان يأخذه الروم، لا تؤخذ من رجال الدين والنساء والأولاد"[5].

كان منطقيا أن يكون أكثر المتأثرين بالفتح الإسلامي، تلك الطبقة من العبيد والفلاحين الكولونيين، فإنهم كانوا أسرع الطبقات إلى اعتناق الإسلام، بل وتكوين الجيش المسلم في صقلية[6]، وهذا المشهد –مجاهدة قوم من الأقطار المفتوحة تحت راية الإسلام- قد تم في كل البلاد التي فتحها الإسلام شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.

استطاع الإسلام تخليص الصقليين من الإقطاعيات الكبرى التي مثلت الجرح العميق لها فيما قبل الإسلام، وكان هذا بفضل نظام الميراث الإسلامي الذي يفتت الملكيات الكبيرة –بعكس النظام السائد حينذاك[7]- ففي "فترة قصيرة قضى نظام الإرث الإسلامي على هذه الإقطاعات. وفي القرن الثاني عشر نجد في ولاية "مازر" أسماء عربية كثيرة تملك مساحات صغيرة من الأرض ولكن النظم الإسلامية لم تكد تنقذ صقلية من الإقطاعية الكبيرة حتى عادت هذه إليها [بعد سقوط المسلمين] مع الفتح النورماني"[8].

هذه شذرات بسيطة التقطناها عن أثر الإسلام في صقلية على المستوى الإنساني، وفي المقال القادم إن شاء الله نلتقظ شذرات أخرى من أثر الإسلام على مستوى الحضارة المادية في الإدارة والسياسة والصناعة والزراعة والأدب والتعليم والأزياء والفنون والعمارة ونحوها.

نشر في: المركز العربي للدراسات والأبحاث



[1] د. إحسان عباس: العرب في صقلية، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الأولى، 1975 م. ص25 وما بعدها.

[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عبد الله القاضي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1415 هـ، 5/436، النويري: نهاية الأرب، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1423 هـ 24/356.

[3] انظر في تفاصيل الفتح ابن الأثير: الكامل 5/ 436 وما بعدها، النويري: نهاية الأرب 24/356 ومابعدها، د. عزيز أحمد: تاريخ صقلية الإسلامي، ترجمة وتعليق: د. أمين توفيق الطيبي، الدار العربية للكتاب، طرابلس، ليبيا، 1980م. ص13 وما بعدها، إحسان عباس: العرب في صقلية ص31 وما بعدها.

[4] Amari: S. D. M. vol .2.p.49 نقلا عن: د. إحسان عباس: العرب في صقلية، ص64.

[5] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2000م. ص309.

[6] د. إحسان عباس: العرب في صقلية، ص63.

[7] كان الغربيون يورثون أملاك الفرد إلى ابنه الأكبر فقط تفاديا لتفتت الملكيات الكبيرة ويرون في هذا ضياعا لثروة الأسرة، وكان هذا النظام يسبب قلاقل اجتماعية داخل الأسرة الواحدة وشقاقا بين الإخوة، فضلا عن ترسيخه لنظام الملكيات الكبيرة الإقطاعية التي تجعل المجتمع بين فئتين: قلة تمتلك الثراء والأملاك، وكثرة كاثرة من العبيد والفلاحين والأجراء.

[8] Amari: S. D. M. vol .2 pp40 41، نقلا عن: د. إحسان عباس: العرب في صقلية، ص70.