بين مصر وتركيا علاقة عميقة حكم بها الجغرافيا والتاريخ، ولذا فهي علاقة
بعيدة الجذور متعددة الفصول؛ فمن حيث الجغرافيا فإن موقعي مصر والأناضول على ساحل
البحر المتوسط جعل كلا منهما محتاجا إلى الآخر وساعيا لمدّ سلطانه إليه، ولقد كانت
مصر قبل دخول الإسلام إليها من أملاك الإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها
القسطنطينية. وأما من حيث التاريخ فقد نشأت العلاقة بين الأتراك ومصر من قبل أن
يدخل الأتراك إلى الأناضول في أواخر العصر العباسي.
فلما صار الأتراك هم شعب الأناضول وأسياد القسطنطينية وأزالوا الإمبراطورية
البيزنطية، فهنا التقت الجغرافيا بالتاريخ، وصارت مصر بعد ذلك بقليل من ولايات
الدولة العثمانية، وهي العلاقة التي لم تنته إلا بفعل الاحتلال الأجنبي، بينما ظل
الشعبان تظللهما أخوة الإسلام ويتوقان إلى إضافة قوة مصر إلى قوة تركيا، ولا يكاد
يخرج مشروع يناقش نهضة المسلمين إلا ويتطلع بتلقائية إلى ارتباط القوتين الكبريين
في المنطقة: مصر وتركيا.
تسرد هذه الورقة
موجزا لتاريخ العلاقات المصرية التركية، وذلك من خلال أربعة محاور:
1.
الأتراك ومصر قبل العثمانيين
2.
الحكم العثماني لمصر
3.
العلاقات المصرية التركية
4.
مستقبل العلاقات المصرية التركية
فتح المسلمون مصر عام 20 من الهجرة (641م)، في عهد الخليفة الثاني عمر بن
الخطاب بجيش قوامه ثمانية آلاف تحت قيادة عمرو بن العاص الذي قال في مصر "ولاية جامعة تعدل الخلافة"، فرفع الاضطهاد البيزنطي عن أهله من الأقباط وأحسن إليهم، وساس مصر خير
سياسة حتى آتت أكلها وأخرجت ثمارها، ودخلت مصر في الإسلام دخولا كاملا واستقبلت
الإسلام واعتنقته ونسيت حتى لغاتها السابقة عليه ولم تعد تعرف لها لسانا إلا
اللسان العربي، وهي نتائج لم يستطعها سائر من غزوا مصر من الفرس والإغريق والرومان. ثم كانت منطلق فتوح الإسلام غربا وجنوبا في إفريقيا السمراء والبيضاء،
وكان واليها هو المشرف على فتوح بلاد المغرب وبلاد السودان.
وبهذا تحققت أهداف المسلمين من فتحها: عسكريا بقطع طريق عودة الروم إلى
الشام، وأمنيا بترحيب شعبها بالفاتحين ومؤازرتهم على الرومان والخضوع لحكمهم،
واقتصاديا بأن صارت وفرتها الاقتصادية تصب لصالح الخزانة الإسلامية لا الخزانة
الرومية. ثم سرعان ما صارت مصر لطبيعة إشرافها على الفتوح من العواصم العلمية
الإسلامية وقد نزل إليها واستقر بها عدد كبير من الصحابة والتابعين، فكان موقعها
الجغرافي في الوسط بين الشرق والغرب مما جعلها محط رحال الفاتحين والدعاة والعلماء
والحجاج في رحلاتهم ذهابا وعودة.
وقد استقر أمر مصر تحت ولاية الأمويين، وكان يتولى أمرها في العموم رجال
الصدر الأول من الأسرة الأموية وكبار القادة، وفي مصر قُتل مروان بن محمد آخر حكام
الأمويين، فكانت مصر في حكم العباسيين على ذات النمط الأموي: ولاية واسعة الرزق
تمد الخلافة بخيراتها، ونادرة التمردات والمنازعات كذلك.
وقبيل نهاية العصر العباسي الأول كانت الخلافة العباسية تجري تعديلا خطيرا
وفارقا في سياستها، إذ دعتها عدد من الأسباب إلى الاعتماد على العنصر التركي في
مهمات العسكر والحرب بديلا عن العنصر الفارسي الذي مثَّل قاعدة الدولة منذ نشأت، فبزغ نجمهم في عهد المعتصم حيث صار بعضهم مشرفا على ولايات، فمن هؤلاء من
صارت إليه أمور مصر يولي عليها الولاة وهو في عاصمة الخلافة، فأولهم
هو أبو جعفر أشناس القائد العسكري التركي للمعتصم بالله وقد ظل مشرفا على مصر أحد
عشر عاما (219 – 230هـ = 834 – 844م)، ثم خلفه القائد العسكري التركي أيتاخ لخمس
سنوات (230 – 235هـ = 845 – 850م)، ثم انقطع الإشراف على ولاية مصر عن القادة
الأتراك وتولاها محمد المنتصر الذي كان ولي عهد المتوكل على الله، وكانت للمتوكل
سياسة لتحجيم نفوذ العسكر الأتراك في بلاط الخلافة، إلا أنه لم يستطع، فتولى
الإشراف على ولاية مصر في عهده أكبر قادته الأتراك الفتح بن خاقان لخمس سنوات (242
– 247هـ = 857 – 861م)، فجعل والي مصر المباشر عليها يزيد بن عبد الله بن دينار
التركي، ثم أخاه مزاحم بن خاقان، ورغم مقتل الفتح بن خاقان في بداية عهد الخليفة
المنتصر إلا أن ولاية أخيه على مصر استمرت، ثم تولاها بعده ابنه أحمد بن مزاحم حتى
جمادى الآخرة 254هـ (= يونيو 868م).
ثم عصفت الاضطرابات بالخلافة العباسية في قلبها للصراع الذي احتدم بين
الخلفاء وبين القادة العسكر الأتراك، وكان من آثار ذلك أن عُهِد بالإشراف على ديار
الشام ومصر والشمال الإفريقي إلى قائد تركي يدعي يرجوخ، فأرسل هذا واليا مباشرا
على مصر هو قائد عسكري تركي آخر حقق شهرة بالغة، وهو أحمد بن طولون الذي استغل
مناخ الضعف والاضطرابات في قلب الخلافة فأسس في مصر دولة مستقلة هي "الدولة
الطولونية" مع الإقرار بالشرعية والولاء للخلافة العباسية. لم يكن ابن طولون
بحاجة إلا إلى تكوين جيش مستقل وتنظيم الإدارة والموارد المالية، وساعدته الوفرة
المالية في ولاية مصر على تدعيم جيشه وتحقيق الكفاية له ولجنده، وبنى أسطولا قويا
ومدَّ سلطانه إلى الشام وتولت الدولة الطولونية عبء الجهاد الإسلامي في الحدود
البيزنطية فترة ضعف الخلافة، ومات ابن طولون ودولته قوية مكينة، ثم توارثها أبناؤه
من بعده حتى بلغ عمر الدولة الطولونية نحو نصف قرن (245 – 292هـ = 868 – 905م)،
وكانت من فترات القوة في التاريخ المصري.
ثم عادت ولاية مصر إلى النفوذ المباشر للخلافة العباسية التي صارت تبعث
إليها بالولاة، وكان من أولئك الولاة قادة أتراك، إذ كانت الخلافة العباسية في ذلك
الوقت تحت النفوذ العسكري التركي، ثم لم يمض ربع قرن منذ نهاية الدولة الطولونية
إلا وتأسست دولة مستقلة جديدة يتزعمها قائد تركي جديد هو محمد بن طغج الإخشيد مؤسس
الدولة الإخشيدية التي استمر بقاؤها في مصر أزيد قليلا من ثلث القرن (323 – 358هـ
= 935 – 969م)، وقد حكمت الشام أيضا، وكانت لها مجهودات قوية في صد التوسع العبيدي
الفاطمي الذي تأسست له في إفريقية (تونس) دولة وخلافة مناقضة ومحاربة للخلافة
العباسية. وبُعيد وفاة آخر الإخشيديين استطاع العبيديون تسديد أقوى ضربة للخلافة
العباسية بانتزاع مصر من خلافتهم وضمها إليهم، بل ونقل بلاطهم إليها وبناء عاصمتهم
الجديدة فيها.. القاهرة!
حكم العبيديون في مصر لقرنين من الزمان، ومدُّوا سلطانهم إلى الشام والحجاز
في عهود قوتهم، وقد استعملوا أيضا الأتراك كجنود ضمن صفوفهم، فمثَّل الأتراك عنصرا
ضمن النخبة الحاكمة في هذه الدولة، منذ عهد العزيز بالله الذي اعتمد على الديلم
والأتراك، وكذلك في عهد الحاكم بأمر الله الذي اعتمد في البداية على الكتاميين ثم
انحرف عنهم إلى الأتراك والسودانيين، وواصل ابنه الظاهر بأمر الله ذات السياسة، ثم
بلغ الاعتماد على الأتراك العسكريين ذروته في عهد المستنصر بالله وهو أطول الحكام
عمرا إذ قضى في السلطنة أكثر من ستين سنة، وهكذا مثل الأتراك فرقة قوية ضمن صفوف
القوة الضاربة العبيدية ودخلوا في منافسة مع الجند السوداني وانتصروا عليهم فيها
بمعاونة من الجند المغاربة، وبلغوا أحيانا حد محاصرة قصر الخليفة الحاكم بأمر
الله اعتراضا على قرار أو مطالبة بتسليم
عدو، وكان قائدهم في هذا عربي هو ناصر الدولة بن حمدان التغلبي الذي لما انقلب
عليهم انقلبوا عليه وقاتلوه وجرت فصول طويلة، لكن الذي يهمنا هو أن الأتراك كانوا
حاضرين كقسم أساسي وكبير ضمن جيش الدولة العبيدية التي شهد عصرها مجيئ الحملات
الصليبية التي انتزعت منها أملاكها في الشام.
أسفرت فصول الحملات الصليبية عن سباق محموم بين الزنكيين الذين استطاعوا
انتزاع السيطرة على شمال العراق والشام، وهم سلالة تركية زعيمها عماد الدين زنكي
بن آق سنقر، وبين الصليبيين المسيطرين على الشام، على السيطرة على مصر، واستطاع
نور الدين بن زنكي أن يسبق إلى مصر عبر قادته العسكريين الأيوبيين، وهم من
الأكراد، فاستطاعوا بعد وقت إسقاط الخلافة العبيدية (الفاطمية) وإعادة الوحدة بين
الشام ومصر تحت السيادة الاسمية للخلافة العباسية.
لكن ما يلبث أن يموت نور الدين ولا يزال ولده صغيرا فتحدث اضطرابات في عموم
الشام، فيسارع صلاح الدين الأيوبي إلى إعادة الوحدة بين الشام ومصر، ولكن تحت
السيطرة الأيوبية هذه المرة، ويكون هذا هو بداية الدولة الأيوبية التي استمرت نحو
90 سنة في مصر (564 – 650هـ = 1169 – 1252م)، وفيها كان الاستكثار الواسع من
المماليك المقاتلين، وكان العنصر التركي هو الأقوى بين هؤلاء الذين لم يلبثوا حتى
صاروا القوة الضاربة الوحيدة للدولة، فتغلبوا على البيت الأيوبي نفسه وأسسوا
لأنفسهم دولة المماليك.
استولى على حكم مصر المماليك، وهم المقاتلون العسكريون الذين اشتهروا
بإيقافهم الزحف المغولي الكبير في عين جالوت، وتنقسم فترتهم التي استمرت في مصر
والشام لثلاثة قرون (648 – 922هـ = 1250 – 1517م) إلى حقبتين متمايزتيْن استغرق كل
منهما قرنا ونصف القرن تقريبا، هما: المماليك البحرية وهم في العموم أتراك، والمماليك
البرجية وهم بالعموم جراكسة.
وفي عصر المماليك كانت مصر في عصرها الإسلامي الذهبي حيث انتقلت إليها
الخلافة بعد سقوطها على يد المغول في بغداد، وكانت سيطرتها على سواحل الشام ومصر
فضلا عن الحجاز واليمن تجعلها مزدهرة اقتصاديا ومهيمنة على المدن الثلاثة المقدسة
فضلا عن قوتها الحربية المنيعة واستطاعتها تطهير ساحل الشام من الصليبيين. لقد كان
المماليك يحكمون مصر والشام والحجاز وأجزاء واسعة من ليبيا ونصف السودان وأحيانا اليمن
وأحيانا جزءا من شمال العراق، بل وفي آخر عصورهم حكموا قبرص وكادوا يحكمون جزيرة رودس
في البحر المتوسط، ولقد وصفها الجغرافي المؤرخ ابن فضل الله العمري بأنها "عمود
الإسلام وفسطاط الدين"، إذ "هي مملكة كبيرة، وأموالها كثيرة، وقاعدة الملك
بها قلعة الجبل (قلعة صلاح الدين) ثم دمشق وهي من أجل ممالك الأرض لما حوت من الجهات
المعظمة، والأرض المقدسة، والجهات والمساجد التي هي على التقوى مؤسسة، بها المساجد
الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها وقبور الأنبياء صلوات الله عليهم والطور والنيل
والفرات".
لقد تولى المماليك حكم البلاد وهي تعاني تهديد الصليبيين والمغول والبحر
المتوسط بأيدي الصليبيين ثم تركوها وهم سادة البحر المتوسط وأصحاب أقوى أسطول بحري
في شرقه يستمد قوته من موانئ طرابلس ودمياط والإسكندرية، وكانت جيوشهم أحسن الجيوش
وأقواها، بل وصف المؤرخ العباسي الصفدي سلطان مصر المملوكي بأنه "أكبر الملوك
قدرا، وأعظمهم منزلة، وجميع ملوك البرّ والبحر يخافونه، ويهادونه، ويهادنونه، لحسن
جيشه وقوّتهم وخيولهم وعددهم وعددهم، ولا سيما في زماننا هذا، فإنهم أحسن أجناد الدنيا،
وعسكره وموكبه أفخر العساكر والمواكب"، وقد تفاجأ ابن خلدون عندما وصل القاهرة بما رآه فيها، رغم أنه كان وزيرا قبل
ذلك في المغرب والأندلس، وسجَّل ذلك بقوله: "فرأيت حاضرة الدنيا، وبستان العالم،
ومحشر الأمم، ومَدْرَج الذرّ من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين
في جوِّه، وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضئ البدور والكواكب من علمائه...
تزخر بالنعم، ومازلنا نتحدث بهذا البلد وبُعْدِ مداه في العمران واتساع الأحوال، ولقد
اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجِّهم وتاجرهم في الحديث عنه؛ سألت صاحبنا
كبير الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقرى فقلت له: كيف هذه القاهرة؟
فقال: من لم يرها لم يعرف عز الإسلام".
على أن دولتهم دالت وضعفت فيما بعد، ثم ورثهم العثمانيون في حكم الشام
ومصر.
ومن نافلة القول في هذا الموضع أن مسألة العرق وتعريف هذا بأنه تركي أو
جركسي أو كردي أو قبطي (مصري) لم تكن أمرا حاكما في ذلك الزمان، بل عمل أولئك
جميعا نصرة للإسلام وخدمة له في ظل خلافة عباسية عربية لا تستمد شرفها ولا نفوذها
من العرق العربي بقدر ما تستمده من الإسلام لكون الخلفاء من آل البيت النبوي.
حكم العثمانيون مصر رسميا لأربعة قرون، منذ دخول السلطان سليم الأول
(1517م) وحتى إعلان الاستقلال المصري (1922م)، فيما عدا ثلاث سنوات سيطرت فيها
الحملة الفرنسية على مصر واعتبرتها جزءا من المملكة الفرنسية، لكن الواقع أن فترة
الحكم العثماني لمصر هي أقل من هذا بكثير، ذلك أن العثمانيين في مصر لم يلبثوا أن
ضعفت قبضتهم وصار الحكم فعليا للمماليك الذين لم يعلنوا خلع السلطان العثماني
لكنهم كانوا المتصرفين بالحكم والإدارة، ثم فترة الحكم العلوي الذي أسسه محمد علي
باشا وامتد في أبنائه حيث كانوا مستقلين عن السلطنة العثمانية في إدارة مصر، ثم
فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر في الخمس الأخير من القرن التاسع عشر والذي استمر
حتى نهاية الدولة العثمانية.
وبهذا نستطيع القول بأن التبعية المباشرة بين مصر والسلطنة العثمانية لا
يمكنها في أقصى التقديرات أن تتجاوز قرنا من بين القرون الأربعة التي كانت فيها
تستظل بالتبعية الاسمية للسلطنة العثمانية.
تفاعلت العديد من العوامل والأسباب التي أدت في النهاية إلى الاصطدام بين
المماليك في مصر والشام وبين العثمانيين، وهو ما انتهى إلى الدخول العثماني لمصر،
وضمها إليهم.
لقد تلقت السلطنة المملوكية ضربة اقتصادية كبيرة باكتشاف البرتغاليين طريق
رأس الرجاء الصالح، فانقطع بهذا المورد الاقتصادي الكبير الذي عاشت عليه دولة
المماليك جراء سيطرتها على التجارة بين الشرق والغرب، ثم ما لبث أن تحول هذا إلى
ضربة عسكرية قاتلة بوصول البرتغاليين إلى البحر الأحمر وخليج عدن فيما عجزت
السلطنة المملوكية عن هزيمة البرتغاليين، بل هُزمت أمامهم بحريا، وكانت هزيمة غير
متوقعة في مكان لم تكن تتوقع الخطر منه، ثم ما لبث أن تحولت الضربتان الاقتصادية والعسكرية إلى ضربة هائلة دينيا،
بعجز السلطنة المملوكية عن صد الغارات البرتغالية على سواحل البحر الأحمر، أي أن
البرتغاليين صاروا يهددون الحرمين الشريفين، ويتوقع أن حملة صليبية كبيرة قد تنجح
في مهاجمة مكة والمدينة ونبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
دفعت هذه الأوضاع إلى نوع تحالف وتعاون بين العثمانيين والمماليك، وكان
العثمانيون قد ظهروا كقوة كبرى سيطرت على الأناضول وأجزاء من أوروبا وفتحت
القسطنطينية، وأعلنت ولاءها –الرسمي الاسمي للخلافة العباسية التي كانت عاصمتها
القاهرة- فجرت رسائل وسفارات بين العثمانيين تتركز حول دفع هذا الخطر المشترك –دينيا
وسياسيا واقتصاديا- وأمدَّ العثمانيون المماليك بأخشاب لدعم صناعة السفن وبالحديد والبارود،
وكان السفير في عدة مرات هو كمال ريس القائد البحري العثماني الشهير وصاحب الجهاد
المشهور في البحر المتوسط. كذلك فقد تحالف العثمانيون والمماليك في معركة بحرية
قبالة الإسكندرية ضد فرسان القديس يوحنا (1510م)، وكانت انتصارات العثمانيين في
أوروبا تقام لها الحفلات بالقاهرة.
لكن ثمة عوامل أخرى جزئية ما لبثت أن تجمعت حتى انفجرت فقلبت العلاقات رأسا
على عقب، ذلك أن السلطنة المملوكية في عهد الأشرف قايتباي أجارت جمّ (أخا السلطان
بايزيد الذي نازعه على السلطنة فهُزِم أمامه) وأكرمت وفادته مما أضر بالعلاقات
العثمانية المملوكية، إذ لم يكن بايزيد ليسمح بوجود تهديد خطير كهذا، فوقعت معارك
متعددة بين المماليك والعثمانيين في عهد بايزيد الثاني والأشرف قايتباي عند منطقة
أدنة وطرسوس، وكانت الحروب سجالا حتى انتهى الأمر بمعاهدة صلح حصل بها العثمانيون
على المدينتين مقابل السلام. إلا أن هذا السلام لم يصمد طويلا إذ أن السلطان
المملوكي قنصوه الغوري دخل على خط الصراع بين كركود وأخيه السلطان سليم، فاستقبل
كركود منهزما وأكرم وفادته ودعمه بسفن حربية لمواصلة المعركة مع أخيه، ولعله كان
يؤمل بهذا علاقة متينة بالقوة العثمانية إلا أن رهانه كان خاطئا إذ فشل كركود
وهُزِم وقُتِل، وبفشله تفجرت العلاقات العثمانية المملوكية.
في تلك الأثناء كانت الدولة الصفوية تتأسس وتنهض وتتمدد على يد الشاه
إسماعيل، ومثلما دعم قايتباي كركود بن بايزيد ضد سليم دعم إسماعيل أحمد بن بايزيد
ضد أخيه سليم، ولما انتصر سليمٌ عليهما كان أمامه أن يصد توغلات وخطر الصفويين،
فطلب إسماعيل التحالف مع قنصوه الغوري فاستجاب له (وكان هذا هو الرهان الثاني
الخاطيء)، إلا أن سليما استطاع اجتياح الدولة الصفوية حتى دخل عاصمتها تبريز وأوقع
بهم هزيمة هائلة في جالديران، وفي أثناء هذا كله بدت العداوة بين العثمانيين والمماليك إذ أغلق سليم
تجارة الرقيق في تلك المنطقة التي تمثل المدد البشري للمماليك وفرسانهم وهو عصب
نظام الحكم المملوكي المعتمد على الاستكثار من المماليك، ومن جهته حبس قنصوه
الغوري وفدا وهدايا قادمة من الهند إلى سليم، كذلك فقد حرض الغوري تابعه علاء
الدين في ولاية "دولة ذي الغادر" الشمالية على حرب العثمانيين بينما هم
في القتال مع الصفويين، فلما تمَّ النصر لسليم حطَّم ولاية ذي الغادر، ثم استعد
لحرب قنصوه الغوري، ولم تفلح محاولات الأخير لتوقيع صلح.
وهكذا صار وضع الغوري في غاية الحرج، قد هُزِم حلفاؤه وخابت رهاناته، وفي
ظل الأزمة الاقتصادية والضعف العسكري الذي يعجزه عن دفع الغارات الصليبية عن البحر
المتوسط والأحمر، لم يكن أمامه إلا حشد سائر قواته للدفاع الأخير عن مملكته، فخرج
إلى مقاتلة السلطان سليم الذي استعد من جهته لتحطيم السلطنة المملوكية كما فعل
بالصفوية، ودارت معركة هائلة عند مرج دابق تفوق فيها العثمانيون بسلاح المدافع
وبانحياز أمير حلب خاير بك وقائد ميسرة المماليك إلى العثمانيين، فتشتت جيش
المماليك وهُزِم هزيمة شاملة وفُقِد السلطان الغوري، وانفتحت الشام أمام
العثمانيين. وفي مصر حاول طومان باي الذي تولى بعد هزيمة الغوري أن يلملم جيشا
لمواجهة العثمانيين، إلا أنه تلقى هزيمة قاسية عند الريدانية (923 هـ = 1517م)، ثم
أُسِر ثم شُنِق على باب زويلة في القاهرة، وهكذا صارت مصر جزءا من السلطنة
العثمانية.
لا تزال الصورة التقليدية السائدة في الأوساط العلمية المصرية ترى في فترة
الحكم العثماني لمصر فترة سلبية، إلا أن العقود الأخيرة شهدت كثيرا من المحاولات
الجادة لتصحيح هذه الصورة، فلقد صدرت العديد من الدراسات الوثائقية التي استفادت
من فتح الأرشيف العثماني، وظهر عدد من المتخصصون في التاريخ العثماني، كما أن رواد
دراسة الدولة العثمانية الذين كانوا في البداية شذوذا في الحالة العلمية تعددت
دراساتهم وصار لهم تلاميذ واستطاعوا تأسيس حالةٍ عملية تواصل طريقتهم، كذلك فإن
الدراسات الاستشراقية نفسها قد شهدت ظهور عدد من الباحثين الذين تناولوا الدولة
العثمانية بعمق مثل ألبرت حوراني وأندريه ريمون ونيللي حنا وبيتر جران وغيرهم، ثم
إن ترجمة العديد من المؤلفات التركية عن الفترة العثمانية إلى العربية ساهم كذلك
في تقديم صورة أفضل عنها.
لم ينقض على الفتح العثماني لمصر سوى ثلاث سنوات حتى كان السلطان سليم قد
توفي، ثم خلفه في العرش ابنه الشاب سليمان، الذي استطاع إنهاء محاولات التمرد على
الحكم العثماني في مصر والشام، واستطاع إعادة وترسيخ الأمن، وكان لصدره الأعظم
إبراهيم باشا زيارة إلى القاهرة رتب فيها أحوال مصر وأمورها، وهي الزيارة التي
مدحا المؤرخون المصريون ويعتبرونها بداية للفترة الطيبة من الحكم العثماني والتي
وصفها الجبرتي بقوله: "كانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة بعد الخلفاء
المهديين، وأشد من ذبّ عن الدين، وأعظم من جاهد في المشركين. فلذلك اتسعت ممالكهم بما
فتحه الله على أيديهم وأيدي نوابهم، وملكوا أحسن المعمور من الأرض، ودانت لهم الممالك
في الطول والعرض. هذا مع عدم إغفالهم الأمر وحفظ النواحي والثغور وأقامة الشعائر الإسلامية
والسنن المحمدية، وتعظيم العلماء وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام
والوقائع بالقوانين والشرائع، فتحصنت دولتهم وطالت مدتهم، وهابتهم الملوك وانقاد لهم
الممالك والمملوك".
كانت مصر إضافة عظمى للدولة العثمانية، سياسيا واقتصاديا، وذلك أن اتساع
الدولة العثمانية لتشمل مصر التي كانت عاصمة الخلافة العباسية، والحجاز التي تحوي
الحرمين الشريفين، والشام التي تحوي المسجد الأقصى وتشتهر بازدهارها التجاري، كل
هذا كان إعلانا بتحول الدولة العثمانية إلى القوة الإسلامية العظمى، وهو ذاته ما
يضيف إلى أعبائها قدرا هائلا إذ أنها انفتحت بتلك الإضافة على كل القسم الشرقي من
البحر المتوسط، وعلى البحر الأحمر كله، وما استتبع هذا من تولي عبء صد الهجمات
الأوروبية في مناطق البحر الأحمر وخليج عدن وخليج عمان والخليج العربي.
أبقى العثمانيون في الجملة على أساليب الإدارة في مصر، وتحول ولاء المماليك
إلى العثمانيين الذين تمتعوا بالقوة في صدر دولتهم، وسار شأن العلم والتجارة سيرا
حسنا في البلاد، وكانت السلطة العثمانية تحكم الجماهير عبر الوسطاء الطبيعيين،
فالملتزم هو حلقة الوصل بينها وبين الفلاحين، وشيخ الطائفة حلقة الوصل بينها وبين
طائفته، فهي تحصل الأموال عن طريقهم وهم يتولون عنها إدارة التفاصيل والشؤون
اليومية، ويجد المرء صعوبة بالغة إن لم يكن منضويا تحت طائفة يخضع لنظامها ويتمتع
بحمايتها.
وكان علماء الأزهر وشيوخه ملجأ الناس في تلك الفترة، وهم المعبرون عنهم في
وجه السلطة، فإذا وقعت الشكوى أو التنازع كان مشايخ الأزهر في صدارة المشهد، فكانت
لهم مكانة اجتماعية رفيعة، فينعم عليهم السلاطين ويزورهم الولاة ولربما حضروا بعض
دروسهم بل نُقِل عن الوالي العثماني علي باشا حكيم أنه قبل يد أبي السرور البكري.
ومع مرور الوقت ضعف سلاطين الدولة العثمانية، فكان من آثار هذا أن قوي
سلطان المماليك في مصر حتى صاروا هم الحكام الفعليين، وصاروا يديرون شأن البلاد
على الحقيقة، بل حصلت محاولات قوية للاستقلال عن السلطنة العثمانية تماما، وأقواها
مطلقا هي محاولة المملوكي علي بك الكبير الذي استطاع القبض على السلطة في مصر بقوة
وكفاءة ومهارة، مع شدة وعنف ودموية كذلك حتى حقق الأمن والاستقرار واستتب له أمر
البلد، ومنع الولاة العثمانيين من الورود إلى مصر، ثم تطلع إلى انتزاع الشام
والحجاز كما فعل المماليك في صدر دولتهم قبل ثلاثة قرون، ووصل في مخططه التوسعي أن
استعان بالروس على الدولة العثمانية، ثم جاءته الهزيمة من خلفه، إذ انقلب عليه
المماليك في مصر، فانتهت محاولته بالفشل، وقُتِل في نفس السنة التي توفي فيها
السلطان العثماني مصطفى الثالث (1171هـ = 1757م).
وكانت الحامية العثمانية تابعة لنفوذ المماليك، بل صار الوالي العثماني لا
حول له ولا قوة، ويمكن للجبرتي وهو المؤرخ المعاصر لتلك الفترة أن يكتب ببساطة مثل
هذه العبارة: "سنة ثمان وثمانين ومائة وألف [= 1774م] استهلت ووالي مصر [العثماني]
خليل باشا محجور عليه، ليس له في الولاية إلا الاسم والعلامة على الأوراق، والتصرف
الكلي للأمير الكبير محمد بك أبي الذهب والأمراء واعيان الدولة مماليكه وإشرافاته،
والوقت في هدوء وسكون وأمن، والأحكام في الجملة مرضية، والأسعار رخية، وفي الناس بقية،
وستائر الحياء عليهم مرخية".
ولا يملك الوالي العثمانية إذا نشبت بعض الصراعات بين زعماء المماليك إلا
أن ينضم إلى أحد الفريقين، ويملك كلا الفريقين أن يعزله بلا سبب ولا يملك أن يدفع
عن نفسه شيئا، وربما استغرب الوالي وهم يعزلونه فيسأل بدهشة أو بحزن "وأي شئ
ذنبي حتى أعزل"، والعثمانيون من جانبهم كانوا يبتلعون هذا الإجراء فيرسلون إلى مصر بوالٍ
جديد مكان الوالي المعزول دون أن يملك الجديد من أمره شيئا، وهكذا كانت مصر
مملوكية على الحقيقة وإن كانت تابعة للعثمانيين بالاسم فحسب، حتى جاءت الحملة
الفرنسية.
كان نزول الفرنسيين إلى مصر واستطاعتهم تدمير الجيش المملوكي ودخول القاهرة
صدمة مروعة للمسلمين في سائر الشرق، حتى وصف الجبرتي هذا بأنه "اختلال الزمن وانعكاس
المطبوع وانقلاب الموضوع"، وذلك أنه كان أول احتلال لعاصمة في قلب العالم الإسلامي وهو الأمر الذي
لم يحدث من قبل في تاريخ القاهرة منذ أنشأها العبيديون (الفاطميون)، ولا حتى في
زمن الحروب الصليبية، كذلك فإن هذا الاحتلال كان دليلا على ما وصلت إليه السلطنة
العثمانية من الضعف إذ صار حتى حلفاؤها (الفرنسيون) يطمعون في اقتطاع أقاليمها
الواقعة في قلب الدولة العلية. ولم يكتف الفرنسيون بأخذ مصر بل تطلعوا لما بعدها
من أرض الشام فنفذوا حملة عسكرية قوية على الشام، استولوا بها على العديد من
المدن.
لكن هذا التقدم الفرنسي لم يكن مؤثرا على العثمانيين فحسب، وإن كانوا
المتضرر الأول، وإنما أثر كذلك على مصالح بريطانيا المنافسة الاستعمارية، وكذلك
على التوازن العالمي الذي يمسّ المصالح الروسية كذلك، لهذا كله تكون تحالف عثماني
إنجليزي روسي ضد فرنسا، وعجز الفرنسيون عن دخول عكا التي هي عاصمة إقليم الشام
لاستبسال واليها أحمد باشا الجزار ودعم الأسطول الإنجليزي للمدينة، ثم اضطربت شؤون
فرنسا فاضطر نابليون قائد الحملة أن يعود إلى فرنسا ويتخلى عن الشام، وبهذا
التحالف خرج الفرنسيون من مصر وعادت مرة أخرى إلى حكم الدولة العثمانية.
خرج الفرنسيون بعد ثلاث سنوات من مصر (1897 – 1801)، بعد فصول مطولة من
مقاومة مصرية باسلة وثورتين كبريين، ومئات الآلاف من الشهداء والجرحى، وتبلغ بعض التقديرات
حد أن مصر فقدت ثلث سكانها في فصول المذابح والمقاومة والثورات، وذلك أن الفرنسيين
كانوا إذا عجزوا عن صد المقاومة يفجرون البارود في السفن فتحترق القرى والسواحل،
كما كانوا يصبون نيران المدافع على المناطق الثائرة فتتحول إلى ركام، وهو أمر يشبه
الآن القصف بالقنبلة الذرية، إذ كانت طبيعة المدينة الإسلامية أنها ضيقة متعرجة
مزدحمة تتقارب فيها المساكن، وكان قصف مثل هذه المدينة الحافلة بالسكان يعني مذابح
جماعية كبيرة. وبهذا الانسحاب فشلت خطط الفرنسيين في علمنة وإقامة دولة حديثة في
مصر رغم المجهودات الهائلة التي بذلوها في السنوات الثلاث لتحطيم البنية
الاجتماعية والسياسية في مصر، وهو الأمر الذي سينجح فيه فيما بعد جندي جاء في
الجيش العثماني الذي دخل مصر، ذلك هو محمد علي.
حقبة الأسرة العلوية
حين هُزمت الحملة الفرنسية وخرجت مصر فكر الفرنسيون في العودة من الباب
الخلفي، فأرسل نابليون إلى القنصل الفرنسي في مصر الكونت ما تييه دي ليسبس (1803م)
تعليمات بأن يبحث في قادة القوات العثمانية في مصر عن أفضل من يمكنه إقامة علاقات وثيقة
معه، ثم يُخطر باسمه سيبستياني (السفير الفرنسي في القسطنطينية) ليضغط السفير على السلطان
العثماني بتعيينه واليا على مصر، وبهذا يكون حاكم مصر رجل فرنسا وممثل مصالحها! وقد
قام القنصل بمهمته خير قيام، فاختار بعد الفحص والاختبار ذلك القائد الواعد: محمد علي،
"وارتبط معه بعرى صداقة متينة، وأوصى به سيبستياني خيرا"، ثم تدافعت الأحداث
المضطربة في مصر –والحافلة باغتيالات وخيانات وصناعة فوضى- حتى صار اسم محمد علي مطلب
الجميع في مصر، ورفعه علماء مصر وأعيانها لمنصب الولاية، وأرسلوا بذلك إلى السلطان
العثماني، وهناك بدأ دور السفير الفرنسي الذي ضغط بهذا الاتجاه حتى أقرت السلطنة العثمانية
ولايته، ولم تكن تدري أن قسما عظيما من نكبتها سيأتي على يد هذا الرجل!
تشير مصادر أخرى إلى أن الروس، منذ ذلك الوقت، كانوا يرون محمد علي عميلا
للفرنسيين، والواقع أن فترة حكم محمد علي شهدت ترسيخا واسعا للنفوذ الأجنبي في مصر
والشام وتمكينا لا هوادة فيه لليهود والنصارى.
برزت موهبة محمد علي منذ السنوات الأولى لحكمه في مصر، واستطاع أن يكون
ذراع الدولة العثمانية في القضاء على الحركة الوهابية في الجزيرة العربية، فبعد
عدد من الهزائم استطاع ابنه إبراهيم باشا أن يدمر "الدرعية" عاصمة
الوهابيين ويقضي على الدولة السعودية، وأمدّ الدولة العثمانية بجيش يحارب معها في
المورة (اليونان)، وبينما كان يتطلع هو بهذه المساعدات إلى أن يكون الرجل القوي في
الدولة العثمانية كان العثمانيون لا يريدونه أكثر من ذراع قوية، وكانت الحاشية في
اسطنبول على خلاف مع محمد علي، فما لبث أن تحرك محمد علي خارج مصر، فشن حملات على
السودان لتكوين جيش خاص به من السودان، ثم لم ينجح في هذا فبدأ في تجنيد المصريين
إجباريا، وهي الخطوة التي لاقت مقاومة عنيفة من المصريين إلا أنه استطاع تحطيم هذه
المقاومة وإجبارهم عليها، واستكثر محمد علي في حاشيته من الفرنسيين فكان منهم رجال
الدولة، كما استكثر من اليهود والنصارى في بلاطه، ثم تطلع إلى ضم الشام لحكمه، فشن
حملة عسكرية كبرى سيطر بها على الشام وهزم جيوش الدولة العثمانية مرارا، واستطاع
جيشه التوغل في الأناضول وكان في سيره هذا قريبا من احتلال القسطنطينية نفسها،
وعندئذ بدا أنه قد خرج عن طوره وصارت حركته تهدد ذات التوازن العالمي بين الروس
والإنجليز والفرنسيين، فتحرك كل أولئك على خلاف أغراضهم وأهدافهم لإيقاف هذا
التوسع الخطير، وانتهى هذا كله باتفاقية كوتاهية التي احتفظ محمد علي بها بمصر
والشام، وشرعن استقلاليته العملية في حكم مصر، وبعد عشر سنوات من حكمه للشام وقعت
حرب أخرى بينه وبين العثمانيين إثر الخلاف على السيطرة على مضايق جبال طوروس –العازل
الطبيعي بين الشام والأناضول- وفيها استطاع محمد علي أن ينتصر مرة أخرى
على الجيش العثماني، ولم تصل أنباء الهزيمة إلى اسطنبول إلا وكان السلطان محمود الثاني
قد توفي، وتولى السلطنة ابنه الشاب الصغير عبد المجيد، ثم زاد من سوء الأحوال أن
قائد الأسطول العثماني انحاز إلى محمد علي بأسطوله، فتهدد لمرة أخرى هذا التوازن
الدولي الذي يهدد مصالح العديد من القوى الدولية فاجتمع حلفهم على إعادة محمد علي
إلى الشام إلا فرنسا فإنها دعمت محمد علي وشجعت بقاءه وحرضته على مواجهة الحلف،
فذهبت الأمور إلى الحرب ثم تخلت فرنسا عن حليفها فتعرض لهزيمة قاسية في الشام أمام
الأسطول الإنجليزي ثم انتقم منه أهل الشام الذين ذاقوا الويلات في السنوات العشر
التي حكمهم فيها فعاد الجيش إلى مصر ممزقا في أسوأ حال، وأقرت اتفاقية لندن
(1840م) بقاء مصر في حكم محمد علي وأن تكون وراثية في نسله.
مثلت اتفاقية لندن
بداية غروب شمس محمد علي، الذي عاش بعدها ثماني سنوات ثم أصابه الاختلال العقلي
فعزل عن منصبه وتولاه ابنه وقائد جيوشه إبراهيم باشا، لكنه لم يقض شهورا حتى مات
(نوفمبر 1848م)، ولكن هذه الفترة شهدت انقلابا هائلا في المجتمع المصري، وتحطيم
بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية، وإنشاء دولة على
النمط الغربي الحديث، ولكن الذي يهمنا في سياق هذه الدراسة هو أن فترة محمد علي
شهدت الاستقلال والانخلاع المصري الكامل عن الدولة العثمانية حتى في النظم
والقوانين والسياسة الخارجية، ولم تكن الرابطة بينهما إلا مجرد التبعية الاسمية
فحسب، وهذه التبعية تختلف عن تلك التبعية الاسمية التي كانت في زمن المماليك، ذلك
أن السلطة المملوكية كانت تستقل بالقرار السياسي وحده بينما ظلت البنية المجتمعية
والثقافية والاقتصادية تحتفظ بطبيعتها، بينما دولة محمد علي صارت قطعة مختلفة
ومخالفة للدولة العثمانية، وقد نجح محمد علي في تأسيس التغريب بقوة لا تقاس سرعة
ولا عمقا بما كان يجري في الدولة العثمانية.
تولى بعد إبراهيم
باشا ابن أخيه عباس حلمي بن طوسون، وطوسون هو أكبر أبناء محمد علي، وكانت
الاتفاقية تقضي بأن يرث العرش الأرشد من أسرة محمد علي، وكان عباس على خلاف جده
وعمه، غير محب للأجانب، وسعى في هدم النفوذ الأجنبي الواسع الذي أسساه، إلا أنه لم
يقض أربع سنوات حتى اغتيل في قصره، وهو الاغتيال الذي تحوم حوله الشبهات، إذ بموته
اتسع الطريق أمام ربيب الفرنسيين سعيد باشا.
كان سعيد باشا أول
حاكم لمصر يُربَّى تربية أجنبية، فهو أول حاكم يُربَّى في حجر الفرنسيين، وينشأ على
محبتهم، فقد تولى تربيته فريدنند دي ليسبس الذي جاء كنائب للقنصل الفرنسي في
الإسكندرية، وسعيد باشا هو نقطة تحول في التاريخ المصري الحديث، فقد استدرجه الأجانب
لنكبتين من أكبر نكبات التاريخ المصري، هما: القروض الأجنبية، وقناة السويس! إذ لم
يستطع أحد قبله أن يقنع حاكما مصريا، مهما كان ظالما أو فاسدا، بضرورة فتح قناة بين
البحر الأحمر والبحر المتوسط، وظل هذا الأمر مرفوضا بإصرار طوال التاريخ المصري، حتى
جاء ديليسبس وخدع صغيره الذي صار حاكم مصر، فانتزع منه أضخم عملية نصب في التاريخ:
امتياز قناة السويس! كما لم يُعرف قبله حاكم مصري مدَّ يده إلى الأجنبي للاقتراض منه
بالربا الفاحش، وكانت القناة والقروض هما الباب الواسع الذي انفتح للأجانب في مصر. وأضاف إلى ذلك
سعيه في تدمير التعليم الوطني وإغلاق المدارس وتخفيض عدد الطلاب ونفي الأساتذة في
نفس الوقت الذي دعم فيه بسخاء المدارس الأجنبية، بل ودعم سائر
المؤسسات الأجنبية حتى التنصيرية التي أسست فروعها في مصر منذ زمن سعيد باشا، بل وصفه مؤرخ
الإرسالة الأمريكية بأنه "راعي الإرسالية التنصيرية الأمريكية".
ولما مات سعيد بعد
عشر سنوات في السلطة (1853 – 1863م)، كانت حادثة أخرى مشبوهة قد أزاحت من طريق
الحكم الأمير أحمد رفعت ليكون التالي هو إسماعيل باشا بن إبراهيم بن محمد علي،
وكان إسماعيل ممن تربى في فرنسا، إذ ولد في ذروة قوة جده (1830) وأرسل إلى النمسا
في الرابعة عشرة من عمره ثم كان ضمن بعثة التلاميذ المصريين في فرنسا، وهناك أتقن
الفرنسية وتمكن منه عشق باريس، فكان فرنسي الروح والهوى والميول، وكان مشروعه حين
تولى الحكم أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، وهو ما عمل عليه في الستة عشر عاما التي
حكم فيها مصر، وكان أخطر ما أسفرت عنه هذه الأعوام أن قروضه المالية الهائلة
بالربا الفاحش والتي أنفقها في القصور والزخارف والحفلات والرشاوى قد جلبت التدخل
الأجنبي الذي وصل إلى وجود وزيرين في الحكومة المصرية (إنجليزي للمالية وفرنسي
للأشغال) وكانا القوة النافذة في أروقة الحكم، وهو ما أفضى في النهاية إلى تأزم
كبير كاد أن يتطور إلى ثورة، فاجتمع على عزله أطراف على اختلاف أغراضها: المصريون
الذين ضجوا من الأزمات المتتالية والنفوذ الأجنبي المتغلل، والسلطان العثماني
(وكان في هذا الوقت عبد الحميد الثاني الذي كان يحاول مقاومة النفوذ الأجنبي في
إمبراطوريته الواسعة وكانت مصر جوهرتها ومركز الثقل الأجنبي فيها)، والأجانب
أنفسهم الذين قدَّروا أن بقاءه قد يطوِّر الأزمة إلى ثورة حقيقية تهدد النفوذ
الأجنبي، وهكذا خُلِع إسماعيل (يوليو 1879م) ليتولى مكانه ابنه الخديوي توفيق.
كان أسوأ ما أسفرت
عنه حقبتا سعيد وإسماعيل هو ذلك الانخلاع التام –إلا من الرابطة الاسمية- من
الدولة العثمانية، ثم ذلك الدخول التام في التبعية الأجنبية على سائر المستويات،
المالية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والقانونية، حتى لقد شهدت مصر نمطا
قانونيا غريبا وغير مسبوق يجعل الأجانب قادرين على استصفاء كل الموارد إلى جيوبهم،
وذلك من خلال المحاكم القنصلية ثم المحاكم المختلطة والتي كانت تستطيع الحجز على
أموال الخديوي نفسه، وعن طريقها كان الفقير في أوروبا يهاجر إلى مصر فيصبح في عدة
أعوام من الأثرياء بما استطاع اقتطاعه من أموال المصريين بقوة النفوذ والقضاء
الأجنبي.
امتص عزل إسماعيل
بعضا من الثورة الشعبية المصرية التي كادت تتشكل، إلا أن سياسة توفيق التي عملت
على تعقب ومطاردة رموز الثورة بداية من جمال الدين الأفغاني الذي نُفي من مصر
(أغسطس 1879م) بعد شهر واحد من عزل إسماعيل، مما أيقظ الثورة مرة أخرى، وكان
زعيمها جندي مصري هو أحمد عرابي متواصلا مع السلطان عبد الحميد الذي دعمه في هذه
الثورة وأراد أن ينهي حكم الأسرة العلوية، ومن ورائها النفوذ الأجنبي، وبذل جهودا
مضنية لمنع التدخل الأجنبي في مصر على خلفية هذه الحركة العرابية، إلا أن أوروبا
لم تكن لتفرط فيما تحقق لها من النفوذ الأجنبي، فنزلت القوات الإنجليزية إلى مصر،
واستطاعت هزيمة عرابي وإخماد حركته، وتخلى عبد الحميد عن عرابي في اللحظة الأخيرة
ليتمكن من أن يكون في صف من يقررون مصير مصر.
وبنزول الإنجليز
لمصر يكتمل الانفصال بين مصر والدولة العثمانية، وتذهب آخر شعرة يمكن تقويتها
بينهما، ولا يبقى إلا تلك التبعية الاسمية التي لا قيمة لها على الإطلاق.
الاحتلال الإنجليزي لمصر
بدهائهم المعروف نزل الإنجليز إلى مصر بدعوى حماية عرش الخديوي، حتى إنهم
حاكموا عرابي بتهمة عصيان أمر الخديوي، ولم يعلنوا أن مصر تحت السلطة الإنجليزية،
غير أنهم واصلوا تغريب مصر وإنشاءها على نحو يحطم البقية الباقية من جذورها
الإسلامية ونظامها التقليدي وبنيتها الاجتماعية والثقافية والتعليمية.
ويمكن أن نؤرخ بلحظة الاحتلال الإنجليزي للانفصال التام بين مصر والدولة
العثمانية، رغم أن بريطانيا لم تعلن الحماية على مصر إلا في عام 1914 في إطار
الحرب العالمية الأولى والتي تواجهت فيها الإمبراطوريتان العثمانية والإنجليزية.
كانت مصر تحت الاحتلال الإنجليزي واحدة من المراكز التي تحتضن معارضي
الدولة العثمانية من نصارى الشام ومن أعضاء جمعية تركيا الفتاة وأعضاء الاتحاد
والترقي، مثلها مثل باريس ولندن وجنيف، وصارت تصدر الكتب والصحف المناوئة للسلطان
العثماني في القاهرة، لا سيما والسلطان العثماني عبد الحميد الثاني –الذي عايش نصيب الأسد من
زمن احتلال الإنجليز لمصر- كان يرفع شعار الجامعة الإسلامية ويتمسك بهذه التبعية
الاسمية الرابطة بين مصر والدولة العثمانية، فكان تحويل الإنجليز للقاهرة كمركز
معارضة له جزءا من الحرب الباردة بينهما.
ومع هذا فقد كانت المقاومة المصرية للاحتلال الإنجليزي تتمسك بالدولة
العثمانية وسيادتها الاسمية على مصر وتتطلع إلى اليوم الذي يزول فيه الاحتلال
ليعاد انعقاد هذه الصلة، وتحفل أدبيات الكفاح الوطني بهذه المعاني، ويؤكد عليها
رموز الوطنية المصري كمصطفى كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش ومحمد رشيد رضا
وغيرهم، ولفترة طويلة كان أشهر تأريخ للدولة العثمانية هو تاريخ محمد فريد الرجل
الثاني في الحزب الوطني ثم زعيمه وهو كتاب ناطق بحب الرجل للدولة العثمانية، ولقد
عبر الشيخ محمد رشيد رضا عن العلاقة بين مصر والدولة العثمانية بقوله: "ارتباط
مصر بالدولة العلية كارتباط الروح بالجسد".
وبلغت ذروة التعبير عن هذا التمسك بالعلاقة المصرية العثمانية في موقف
مصطفى كامل والحزب الوطني من مسألة طابا (1906م)، وذلك أن السلطان عبد الحميد أراد
أن يستعيد مواقعه في مصر عبر استرداد الأراضي التي كانت تتبع الإدارة المصرية في
شرق خليج العقبة وساحل البحر الأحمر، بما في ذلك منطقة طابا والعقبة وبعض المواقع
التابعة لسيناء، فاشتعلت أزمة بين الإنجليز –وتابعيهم في الحكومة المصرية- من جهة
وبين عبد الحميد والسلطنة العثمانية، فوقف مصطفى كامل والحزب الوطني إلى جانب
الدولة العثمانية، وسلَّم لها بحقها الأصيل في سيناء، وهو موقف لا يُعجب بطبيعة
الحال دُعاة الوطنية، وكانت الصحف الوطنية –خصوصا اللواء والظاهر والأمة- على نفس
هذا الخط مما أزعج للغاية الإنجليز فقرروا إحياء قانون المطبوعات الذي يتيح لهم
إغلاق هذه الصحف.
وعلى الجبهة التركية حدث تطور فارق بالانقلاب على السلطان عبد الحميد
الثاني (1909)، إذ بهذا تكون قد انتهت سياسة "الجامعة الإسلامية" لحساب
الفكرة القومية العلمانية، ولم يعد يشغل الساسة في تركيا مسألة مصر أو الاحتلال
الإنجليزي لها، بل صاروا يفرطون في البلاد الأخرى مثل ليبيا التي احتلها
الإيطاليون (1911م)، فعندما نزل الإيطاليون أعلنت تركيا استقلال ليبيا وهو ما يعني
عمليا تسليمها لهم وعدم التفكير في الدفاع عنها، وكانت الأراضي والبلاد لا تزال
تُقْتَطَع من جسد الدولة العثمانية في الشمال والغرب الأوروبي، وصارت قضية كالقضية
المصرية لا يمكن أن تخطر على بال فضلا عن أن تكون استعادتها قضية ذات أهمية.
وفي هذه الأثناء كان الاحتلال الإنجليزي يعيد ترسيخ أوضاعه في مصر بعد عبور
أزمة طابا وأزمة دنشواي، فدبر لتحجيم الصحافة والعمل الأهلي، وبلغ التوتر ذروته
باغتيال بطرس غالي –رئيس الوزراء المصري المسيحي التابع للاحتلال الإنجليزي- على
يد شاب من الحزب الوطني، مما استدعى عملا أمنيا كبيرا استطاع إجهاض نذر الثورة
باستعمال وسائل السجن والنفي للرموز الوطنية كمحمد فريد وعبد العزيز جاويش وغيرهم،
مما عاد بالضعف على تنظيم الحزب الوطني.
وحين نشبت الحرب العالمية الأولى شهدت العلاقة العثمانية المصرية فصلا
جديدا، فلقد كان الجيش المصري الذي صنعه الإنجليز يمثل ذراعا حربية في خدمة
الإنجليز ضد الدولة العثمانية، فقاتل الجيش المصري في قناة السويس ضد العثمانيين،
كذلك فقد أعلنت بريطانيا الحماية على مصر، وعزلت الخديو عباس حلمي الثاني وجاءت
بحسين كامل فجعلته "سلطانا" في إطار الانفصال النهائي عن الدولة
العثمانية بقطع هذه التبعية الاسمية، ولم يمر هذا مرور الكرام بل حاولت الحركات
الوطنية اغتيال عباس حلمي ثم السلطان حسين كامل، وبذلت الدعاية البريطانية مجهودا
كبيرا لمحاولة تحييد المصريين في هذه الحرب "لعلم بريطانيا العظمى بما للسلطان
(العثماني) بصفته الدينية من الاحترام والاعتبار عند مسلمي القطر المصري"،
وحتى بيان إعلان الحماية ذكر في طياته أن "تاريخ مصر السابق يدل في الواقع على إن إخلاص المسلمين المصريين للخلافة".
خرجت تركيا مهزومة من الحرب العالمية الأولى، وقسِّمت أملاكها في الشام،
وظلت في انهيارها المتوالي حتى أجبرت على توقيع اتفاقية سيفر (1920)، ومن المشهور
الذي يغنينا عن إيراده الحديث عن تعلق عواطف المصريين بالدولة العثمانية وحزنهم
الهائل لهزيمتها، لا سيما على يد الدولة التي تحتلهم منذ ما يقارب الأربعين عاما،
ثم متابعتهم بشغف وأمل كبير لظهور مصطفى كمال وما حققه من انتصارات قادته إلى
معاهدة لوزان (1923م)، ثم انهيار آمالهم دفعة واحدة عند إلغاء الخلافة (1924).
وعلى الجهة المصرية أخذت الحركة السياسية تتطلع إلى إنهاء الاحتلال تعلقا
بوعود الرئيس الأمريكي ويلسن الذي دخل الحرب على مبدأ منح الشعوب حق تقرير مصيرها،
فنبتت فكرة تشكيل وفد مصري للمطالبة بالاستقلال في رأس الأمير عمر طوسون (وهو حفيد
سعيد باشا بن محمد علي) وكان معروفا بميوله الإسلامية وعلاقته الطيبة بالعثمانيين،
فعرض هذه الفكرة في مجلس فيه سعد زغلول، فتشكل وفد زيارة القنصل الأمريكي في مصر لتسهيل حضور مؤتمر الصلح إلا أن القنصل
فاجأهم بأنه من غير الممكن أن يطرح المصريون قضيتهم بنفسهم، فإما أن يتفاهموا مع الإنجليز
أو يجعلوا قضيتهم بيد الدولة العثمانية على اعتبار أن مصر، من الوجهة القانونية وقبل
إعلان الحماية البريطانية، إنما كانت تابعة لها، وهكذا استبعد سعد زغلول ومن معه الأميرَ
عمر طوسون من الوفد لما بينه وبين الإنجليز من العداوة، وذهبوا باتجاه التفاهم مع الإنجليز،
ثم إن الميول الإسلامية العثمانية للأمير تتناقض مع الميول العلمانية لسعد وصحبه. وبذلك
صعد سعد على فكرة لم يكن صاحبها.
وبهذا الصعود لسعد ورفاقه والاستبعاد للأمير طوسون تكون النخبة السياسية
المصرية قد سارت هي الأخرى في طريق قطع الصلة نهائيا مع تركيا، ثم اشتعلت ثورة
1919 عن غير قصد ولا تدبير من سعد، إلا أنه تزعمها ثم أدخلها في متاهات التفاوض،
فانتهت إلى نتائج مخيبة للآمال: استقلال شكلي (1922)، ودستور يعطي صلاحيات واسعة
للملك (1923)، وحكومة يسيطر عليها حزب الوفد الذي يتزعمه سعد. وما يهمنا في هذا
كله أن هذا الاستقلال كان هو الانقطاع التام والنهائي بين مصر والدولة العثمانية.
العلاقات المصرية
التركية
منذ الاستقلال المصري (1922) وتأسيس الجمهورية التركية (1924) وحتى هذه
اللحظة يمكن أن نرصد في مسار العلاقات المصرية التركية أربع مراحل متمايزة:
1.
الأولى: هي مرحلة طويلة من القطيعة واللامبالاة المتبادلة مع عداء مكتوم
وتبدأ من ذلك التاريخ وحتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا
2.
والثانية: هي مرحلة المحاولة التركية لمد جسور العلاقات مع مصر فيما لم
تحفل الأخيرة تحت نظام حسني مبارك بمبادلة هذه المحاولات.
3. والثالثة: هي مرحلة ثورات
الربيع العربي التي أفضت إلى وصول محمد مرسي إلى السلطة في مصر، فشهدت تلك المرحلة
ثورة في العلاقات بين مصر وتركيا.
4. والرابعة: هي مرحلة
الانقلاب العسكري الذي افتتح عهدا من العداوة المتبادلة الظاهرة بين البلدين.
ثلاثة أرباع قرن من اللا مبالاة
لم تكن القضايا التي تشغل الساسة في مصر أو تركيا تلتقي مع الآخر، ففي مصر
حقبة ليبرالية تستمر ثلاثين عاما (1922 - 1952) وقضيتها الأساسية هي التحرر من
الاحتلال الإنجليزي والحفاظ على وحدة وادي النيل في مصر والسودان، ثم دخلت على
الخط مشكلة إسرائيل. وكان بعض الساسة وكثير من المفكرين لا يُخفي إعجابه بمصطفى
كمال أتاتورك باعتباره صانع تركيا الحديثة الذي يأخذها إلى طريق المدنية والتقدم
باتباعه للغرب، وكان هذا طبيعيا في ظل تكون نخبة سياسية وثقافية علمانية في مصر
بعد مائة وثلاثين عاما من الجهود التي بدأت في عهد محمد علي ولا تزال مستمرة في
عهد الاحتلال الإنجليزي. وفي تركيا كانت القضية الأساسية "صناعة الجمهورية"
القومية العلمانية، وجرِّها إلى الغرب، مع اعتماد سياسة انعزالية تخلع يدها من كل
إرث الدولة العثمانية، واعتماد فكر قومي يُعظِّم من شأن القومية التركية ويحتقر
شأن القوميات المغايرة بما فيها العرب، وحيث لم تكن ثمة حدود مشتركة بين البلدين
فلم يكن ثمة تداخل في قضايا الأمن أو القوميات أو العلاقات الاقتصادية ذات
الأهمية.
ثم طغى على المشهد المصري حقبة القومية العربية التي أسس لها الانقلاب
العسكري الذي قاده جمال عبد الناصر، وبرغم ما بين الرجلين عبد الناصر وأتاتورك من
وجوه الشبه، إلا أن القومية العربية ردَّت بأعنف ما يمكنها على القومية التركية
وغطَّت على ما سوى ذلك، لا سيما وأن تركيا أنشأت علاقات مع إسرائيل التي كانت قضية
مركزية في الوجدان العربي، كذلك فإن دخول تركيا ضمن الناتو ومؤسسات أوروبية كان
يثير عداء في جبهة ترفع شعار التحرر من الإمبريالية الغربية، ثم تعلن عدم الانحياز،
ثم تقع ضمن نفوذ المعسكر السوفيتي.
كانت مصر وتركيا بلدين رئيسيين من حيث الثقل والجغرافي في معسكري الحرب
الباردة، لقد كانت تركيا واقعة في كبد الاتحاد السوفيتي وأخطر منطقة نفوذ أوروبي
متقدم ضد المعسكر الشيوعي، كذلك كانت مصر أهم بلد عربي قادر على أن يقود تصفية الاستعمار القديم
(الأنجلو فرنسي)، وقد بدأ سياسته أمريكيا ولكنه اضطر بعد فصول متعددة إلى أن يصير
ضمن النفوذ السوفيتي.
ولا يمنع هذا الخط العام من وجود محاولات للتخفيف أو إنشاء العلاقات، إلا
أنها حوادث طفيفة مثل تخفيض تركيا لتمثيلها الدبلوماسي مع إسرائيل عند وقوع
العدوان الثلاثي على مصر (1956م)، وكان ذلك في عهد عدنان مندريس، غير أن هذا
التغير لم يلبث أن انتكس مرة أخرى حين توترت العلاقات السورية التركية فاندفعت
سوريا للوحدة مع مصر، وأعلنت المملكة العربية المتحدة، وفي ظل قومية عربية صاخبة
وحدود تركية سورية ملتهبة حركت تركيا قواتها إلى الحدود السورية، وكادت تكون حربا
(1958م).
ومع الانقلاب العسكري على مندريس
(1960) وإعدامه (1961) ثم تدهور الأحوال في مصر مع الهزائم المتتالية أمام إسرائيل
لم يفكر طرف منهما في إعادة إنشاء العلاقة من جديد رغم أن الفرص كانت تسمح بذلك،
فمن جهة مصر فإنها قد ابتعدت عن المعسكر الشيوعي ودخلت في المعسكر الأمريكي وأنشأت
علاقات مع إسرائيل وخسرت علاقاتها مع العرب (وكل ذلك في عهد السادات)، ومن جهة
تركيا كان ظهور النفط في البلاد العربية وبدء معاهدات سلام مع إسرائيل في مصر
والأردن مما يسمح باستعادة العلاقات، وفي كلا البلدين كان صعود التيارات الإسلامية
وبزوغ نجمها مما يمهد لهذا، وأغلب الظن أن المشكلات الداخلية لكلا الطرفين كان
يمنع من التفكير في علاقة كهذه، إذ قضى السادات عقد السبعينات يحاول الوصول إلى
معاهدة سلام ومعالجة الوضع الداخلي والإقليمي، فيما كان عقد السبعينات مضطربا على
سليمان ديميريل مع قوة اليسار التركي ومعارك الشوارع والطلاب وهو ما خُتِم في
النهاية بانقلاب عسكري في تركيا واغتيال للسادات في نفس العام (1981م).
منذ الثمانينات وحتى نهاية الألفية كان حسني مبارك في مصر شخصية عادية، وهو
أقرب إلى الموظف التقليدي منه إلى الزعيم والسياسي، ولذا فإن مواهبه المحدودة
وفقره في الرؤى لم يكن يؤهله للتفكير في إنشاء علاقات مع تركيا. وكانت تركيا في
ذلك الوقت حافلة بالمعارك السياسية والحكومات الائتلافية التي لا تلبث تتشكل حتى
تنهار مما يمنع التفكير في استراتيجيات إنشاء العلاقة، وكانت فترة الاستقرار التي
شهدتها تركيا في عهد تورجت أوزال –وهو السياسي المتميز صاحب الرؤية الاستراتيجية-
والذي امتد من نهاية الثمانينات إلى أوائل التسعينات تشهد ارتباكا عالميا بسقوط
الشيوعية وانهيار الاتحاد السوفيتي، مما خلق احتياجات عاجلة وتحديات كبرى أمام
تركيا لم يكن ممكنا معها أن تلتفت إلى إنشاء علاقة مع مصر. فانهيار الاتحاد
السوفيتي سبب فراغا واسعا في مناطق النفوذ الطبيعية لتركيا في البلقان وآسيا الوسطى
مما وضع ملفات عاجلة لاستثمار هذا الوضع ومواجهة تحدياته، كذلك فإن انهيار الاتحاد
السوفيتي جعل أوروبا تقلب ظهر المجن لتركيا وتعاملها بإهمال كأن مهمتها التي قامت
بها طوال الحرب الباردة قد انتهت ولم يعد لهم بها حاجة. ثم ما إن حصل هذا السقوط
حتى اندفعت أمريكا لتحتل العراق في حرب الخليج الثانية، وهي الحرب التي وقف فيها
أوزال إلى جانب الأمريكان لأن مصلحته في الصراع مع العسكر التركي اقتضت هذا، وهو
ما نجح بالفعل فاستقال رئيس الأركان التركي في سابقة تاريخية بعد مواجهة علنية مع
أوزال.
إلا أن أوزال مات فجأة (1993م) في حادثة يرجح البعض أنها اغتيال بالسُّمّ،
وعادت تركيا إلى عصر الحكومات الائتلافية قصيرة العمر، وفي الأشهر المعدودة التي
تولى فيها نجم الدين أربكان الحكومة حاول الاقتراب من مصر ضمن مشروعه لتحالف الدول
الإسلامية الثماني: تركيا، باكستان، بنجلاديش، إندونيسيا، ماليزيا، نيجيريا، مصر.
وكما يبدو فإن مصر هي الدولة العربية الوحيدة ضمن هذا الحلف، وكان هذا المشروع
يحمل أبعادا كبيرة وخطيرة في تغير الموقف والموقع التركي، ولم يقدر له البدء لقصر
الفترة التي قضاها أربكان قبل أن يطيح به انقلاب عسكري ناعم عام (1997م).
عصر "العدالة والتنمية": العودة إلى الشرق
جاء حزب العدالة والتنمية بسياسات جديدة، ومكَّنه تشكيله المنفرد بالحكومة
من تجنب فخّ الحكومات الائتلافية، وكانت العودة إلى الشرق وفتح آفاق للعلاقات
التركية العربية والإسلامية من أبرز التحولات التي شهدتها السياسة التركية الخارجية.
قضى الحزب خمس سنوات قبل أن ينجح في تنفيذ زيارة لحسني مبارك إلى أنقرة
(2007)، والتي شهدت "إقامة حوار وشراكة استراتيجيين يركزان على التعاون في
مجال الطاقة والأمن الإقليمي"، وقد بلغ عدد الاتفاقيات الموقعة بين مصر وتركيا 14 اتفاقية تجارية، لكن العلاقة لم تتطور قط إلى تعاون سياسي، لقد كان توسع الدور التركي في
الشرق الأوسط يثير مخاوف السياسة المصرية التي احتكرت عددا من الملفات، كما كانت
الجذور الإسلامية لحزب العدالة والتنمية مما لا يبتلعه نظام حسني مبارك الذي قضى
فترة التسعينات في ضربهم وتحجيم أنشطتهم، وهي السياسة التي بدأها مطلع التسعينات
بعد الفوز التاريخي للإسلاميين في الجزائر والذي أجهضه انقلاب عسكري، لقد مثَّل
الإخوان منافسا سياسيا لمبارك في العقد الأول من الألفية الجديدة، فقد شكلوا
المعارضة الأقوى التي تحقق نتائج قوية في انتخابات البرلمان رغم ما يشوبها من
تزوير. إلا أن الملف الأخطر الذي شكل أزمة مكتومة بين تركيا ومصر هو ملف القضية
الفلسطينية التي شهدت تطورا جديدا بفوز هائل لحركة حماس في الانتخابات (2006) ثم
سيطرتها على قطاع غزة المتاخم لمصر (2007)، وهو ما استدعى حصارا مصريا إسرائيليا
لغزة منذ 2006، وسبب انقساما فلسطينيا بين السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها
حركة فتح وبين حركة حماس.
كان هذا الملف المتخم المتطور الذي لا بد أن يتعامل معه أي سياسي في الشرق
الأوسط ضمن أنشطة السياسة التركية، وكانت تركيا حريصة في تنشيط دورها في الشرق
الأوسط أن تفعل ذلك على سبيل مدَّ يد المساعدة والودّ، مع التأكيد التام على أنها
ليست بديلا لأحد ولا تحاول مزاحمة أحد في مساحات نفوذه، ومن هذا المنطلق كان
الانفتاح التركي على حركة حماس –وكانت وقتئذ تتخذ مقرها في دمشق- مصحوبا بتأكيدات
متكررة على أن هذا دعم ومساندة للمجهود المصري وللجامعة العربية في ملف المصالحة
الفلسطينية أو ملف تثبيت الهدنة في قطاع غزة، ومن بين التصريحات المعبرة عن هذه
السياسة تصريح أردوغان القائل: "مصر كما تعرفون هي الوسيط بين السلطة الفلسطينية
وحماس ونحن لا ننوي أن نقع في الخطأ من خلال الدخول كوسيط بديل لكن إذا ما طلبت منا
مصر أو الجامعة العربية المساعدة فنحن جاهزون لذلك، تركيا لا تسعى وراء السمعة أو التباهي
من خلال لعب دور سياسي في المنطقة وإنما نسعى من أجل المساعدة في حل المشاكل".
لقد حرصت تركيا أن تكون وسيطا وجسرا بين معسكري "الاعتدال"
و"الممانعة" في ذلك الوقت، ويفخر داود أوغلو بأن تركيا كانت الدولة الوحيدة التي حضرت قمتي الدوحة
وشرم الشيخ لمناقشة الأوضاع في غزة إبان حرب 2008 حيث كانت الأولى معبرة عن معسكر
"الممانعة" والثانية عن معسكر "الاعتدال"، وهذا دليل على أن
"الدول التي شاركت في قمة شرم الشيخ لم تر تركيا في مصاف الدول الراديكالية،
والدول التي شاركت في قمة قطر لم تعامل تركيا باعتبارها امتدادا لمجموعة الدول
التي تتصدرها مصر".
وقد نجح الأتراك إلى حد كبير وصار "يُلاحظ أنه عندما يحل رسميون أتراك
في دول تعاني أزمات شديدة مثل لبنان أو أفغانستان أو باكستان فإن كل الأطراف يبدون
تلهفا للتعامل معهم. وما من دولة مثل تركيا في الشرق الأوسط وعلى نطاق العالم
العربي الإسلامي تُفتح لها الأبواب ويُرحب بها في طهران والرياض والقاهرة ودمشق
وموسكو والقدس".
لكن الواقع أن سياسة وتصريحات ومواقف أردوغان القوية (مثل: مواجهته مع
شيمون بيريز في مؤتمر دافوس وإرسالة السفينة مافي مرمرة وإجباره إسرائيل على
الاعتذار لمعاملة السفير التركي بانتقاص) كانت تثمر بطبيعة الحال تعاطفا شعبيا
عربيا وإسلاميا وهو ما يثمر بتلقائية حرجا سياسيا للأنظمة العربية –ومثقفيها
العلمانيين- التي تتخوف من صعود زعيم في المنطقة يهدد الوضع الذي يبدو أن الجميع قد
استكان إليه. وقد عُقِد في الإمارات اجتماع حضرته تسع دول عربية (3 فبراير 2009م)
يدعو إلى توافق عربي يضع حدا للتدخلات "غير العربية" وكان المقصود بها
على وجه التحديد: تركيا وإيران إذ كان يجمع بينهما دعم حركة حماس بينما انحاز
النظام الرسمي العربي للسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس. ويعترف داود أوغلو أن
حركة تركيا وإن حرصت تماما على تبديد المخاوف إلا أنها تسببت في حساسيات
"ورأت تركيا أن من المناسب اللجوء إلى القنوات الدبلوماسية من أجل إزالة هذه
الحساسيات".
لذلك كانت السياسة المصرية تجاه تركيا ظاهرها اللامبالاة وباطنها التخوف
والتوجس والحذر.
الثورة والانقلاب: ثورة وانقلاب في العلاقات التركية المصرية
ثم شهدت العلاقات المصرية التركية ثورة كبرى بالتزامن مع انفجار الثورة
المصرية في يناير 2011م حيث أقدمت تركيا في وقت مبكر من الأيام الأولى على دعم
موجة الاحتجاجات والمظاهرات، ووجه أردوغان خطابا شهيرا لحسني مبارك في الأيام
الأولى للثورة المصرية يطالبه بالاستماع لرغبة شعبه، وأن أحدا ليس مخلدا في الدنيا
بل لا بد سينزل إلى القبر بما يجعل التمسك بالسلطة ضد رغبة الشعب عملا غير عاقل
ولا أخلاقي، وتوجه إلى العسكريين ألا يسيلوا قطرة دم مصرية، وأكد على أن
الديمقراطية لا تأتي بالراديكالية ولا تأتي بالفوضى.
كان هذا موقفا مبكرا يعلن انحياز تركيا إلى صف الثورة المصرية، ثم تأكد هذا
بزيارة الرئيس التركي حينذاك عبد الله جول كأول رئيس يزور مصر بعد شهر من تنحي مبارك،
وفيها التقى بالمشير حسين طنطاوي (رئيس المجلس العسكري الحاكم في الفترة
الانتقالية) وتركز حديثه على دعم الاقتصاد المصري ليعبر المرحلة الانتقالية من
خلال دعم السياحة وكذلك على دور تركيا في تقديم المساعدات الإنسانية للمصريين
العائدين من ليبيا، وأعقب ذلك قبل نهاية العام الزيارة الشهيرة لأردوغان بصحبة 208
رجال أعمال تركي ولقاؤه طنطاوي وعصام شرف وشيخ الأزهر، وسط ترحيب شعبي كبير،
وتوقيع 20 اتفاقية مع تطلعات لنمو التبادل التجاري من 3 إلى 5 مليارات دولار، وكذلك
مضاعفة الاستثمارات التركية في مصر، وعلى مستوى التعاون العسكري استبدلت تركيا بإسرائيل
مصر للمشاركة في مناورات «بحر صداقة» في أكتوبر 2012.
وهكذا كانت تركيا، في ظل حزب العدالة والتنمية، أول وأقوى من حاول استثمار
الثورة وإنشاء علاقات قوية مع مصر ودعم اقتصادها في وقت حرج، قبل أن تسفر
الانتخابات عن أية نتيجة، فلما أسفرت الفترة الانتقالية عن انتخابات رئاسية فاز
فيها محمد مرسي مرشح جماعة الإخوان المسلمين، وجد كل منهما في الآخر سنده الأقوى
وأمله المنشود.
كان وصول محمد مرسي يفتح الطريق واسعا أمام تركيا لتكوين خريطة جديدة في
الشرق الأوسط، فتركيا ستمثل مع مصر ثقلا إقليميا غير مسبوق منذ مائة عام على
الأقل، وكان مرسي أشد احتياجا لأردوغان بكثير، فلقد كان نموذج أردوغان ملهما لقطاعات
من الحركة الإسلامية في العالم العربي، ولا نبعد إن قلنا إنه النموذج المطلوب الذي
أحبت حركة الإخوان المسلمين أن تراه منذ أن طلَّقت سبيل المواجهة مع الأنظمة الحاكمة
واعتمدت سبيل الإصلاح، فهي منذ ذلك الحين تتشوق لتجربة تثبت لها أن الإصلاح ممكن من
خلال الدخول في العملية السياسية وحدها، كذلك فإن مرسي لم يكن يجد له حليفا في
أجواء إقليمية معادية للثورات، فكيف إذا كان الحليف في قوة تركيا وأهميتها، لذلك
لم يمض شهران على توليه الحكم إلا وكان مرسي مدعوا لحضور المؤتمر الرابع لحزب العدالة
والتنمية (سبتمبر 2012)، وحظي هناك بترحيب كبير، كما شهدت تلك الفترة سقفا مرتفعا
في الموقف التركي المصري من الحرب الإسرائيلية على غزة (نوفمبر 2012)، مما دعا
تسيبي ليفني –وزيرة الخارجية السابقة- أن تصرح فيما بعد بما معناه: أردوغان ومرسي
يجب أن يدفعا الثمن، واستمرت في دأب المحاولات التركية المصرية لإنشاء مشاريع اقتصادية ضخمة،
منها مدينة صناعية تركية على الأرض المصرية، فضلا عن التعاون بل والتطابق في
المواقف السياسية.
إلا أن الأحلام العريضة انهارت فجأة تحت وقع صدمة الانقلاب العسكري الذي
نفذه عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع المصري (3 يوليو 2017)، وفي اللحظات الأولى
حصل خلاف في تركيا بين الرئيس عبد الله جل ورئيس الوزراء رجيب طيب أردوغان، فقد
أرسل جُل تهنئة بروتوكولية إلى عبد الفتاح السيسي، فصرَّح أردوغان أنه لا يوافق
على مثل هذه الرسالة، وكان طبيعيا أن تنتصر سياسة أردوغان الذي اتخذ موقفا صلبا
وقويا ضد الانقلاب العسكري في مصر.
التقت عدد من الأسباب التي تفسر الموقف التركي، فهو بداية انقلاب على حليف
لتركيا عُقِد على بقائه طموحات استراتيجية كبيرة سياسية واقتصادية، والسياسية أهم
من الاقتصادية، إذ لا يخفى على أحد أنه انقلاب نفذه المعسكر المعادي لأردوغان في
منطقة الشرق الأوسط بداية من إسرائيل ومرورا بالإمارات والسعودية، كذلك ترضى عنه
إيران التي أزعجها موقف محمد مرسي من الثورة السورية ولم تجد فيه الحليف الذي كانت
تظن أن يكون، وكان نجاح هذا الانقلاب يعني أن نهج الانقلابات العسكرية يُشَرْعَن
من جديد ويحظى بقبول دولي لتغيير الأنظمة التي جاءت عبر الانتخابات الديمقراطية،
وهو ما يعني أن الحلقة التالية قد تكون في تركيا نفسها، كذلك فإن الساسة المدنيين
الأتراك لا سيما ذوي الجذور الإسلامية لديهم حساسية خاصة من مسألة الانقلابات
العسكرية في بلد عرفت بأنها بلد انقلاب عسكري كل عشر سنين.
لكل هذا كان الموقف التركي حادا وصلبا تجاه الانقلاب العسكري في مصر، ووفرت
تركيا للمعارض المصرية التي لجأت إليها قنوات فضائية تهاجم الانقلاب العسكري
وسياسته، واستضافت المؤتمرات والفعاليات السياسية لهم. إلا أنه بدا مع مرور الوقت
أن المعارضة المصرية عاجزة عن إدارة معركتها مع النظام في مصر، وأن كل يوم يزيد في
رسوخ نظام الانقلاب وضعف جبهة المعارضة، فانعكس هذا على مستوى التصلب التركي الذي
كان سقفه مرتفعا للغاية ويطالب بإعادة مرسي للرئاسة ورفض الانقلاب العسكري وآثاره،
ثم أخذ في التراجع.
عند نهاية 2014 توفي الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وهو أهم شخصية
عربية وكان له النصيب الأوفر في تمويل الانقلاب العسكري والحرص عليه، وبدا كأن
خليفته الملك سلمان بن عبد العزيز يتخذ نهجا مغايرا لنهج سلفه، وضمن هذا التغيير
تلك المحاولة لمدّ العلاقات مع تركيا، وكانت تركيا تتشوف لمثل هذا التغير إذ بزوال
مرسي وتأزم الثورة السورية والتباعد المستمر في المواقف التركية الأمريكية كانت
تركيا تعاني سياسة العزلة، وكان الملف المصري أحد الملفات العالقة بين الجانبين،
فالسعودية لم تشهد تغيرا يصل بها إلى حدّ التفكير في مراجعة سياستها إزاء مصر، ولهذا بدأ الموقف التركي يتغير تدريجيا فيتراجع عن اشتراط عودة مرسي إلى
اشتراط الإفراج عن مرسي من السجن قبل فتح علاقة مع مصر، ثم إلى اشتراط إسقاط حكم
الإعدام عن مرسي، وبدأ التلويح بإمكانية استمرار العلاقات الاقتصادية أو حتى
العلاقات على المستوى الوزاري لكن أردوغان لا يمكنه أن يقابل السيسي مطلقا.
إلا أن سياسة الملك سلمان لم تستمر على هذا النهج، بل ظهر ثمة تحول خطير
وهو محاولته تأمين العرش السعودي ليتولاه ابنه محمد بن سلمان، وهي خطوة تحدث للمرة
الأولى منذ تأسيس الدولة السعودية الثالثة على يد الوالد عبد العزيز آل سعود، وكان
المسار الذي اتخذته السعودية عموما هو فتح العلاقات مع إسرائيل وتوثيق العلاقات مع
الإمارات، فعاد تموضع السعودية في الخريطة الإقليمية ليكون ضد السياسة التركية،
وتتحدث العديد من المصادر التي لا يمكن توثيقها بشكل مؤكد في الوقت الحالي حول
مشاركة سعودية فعالة في محاولة الانقلاب العسكري الذي جرى في تركيا (15 يوليو
2016).
على الجبهة المصرية كان النظام العسكري يشن الحملات السياسية والإعلامية
والدبلوماسية العنيفة تجاه تركيا، وخصصت العديد من مقدراتها ومجهودها لتشويه
وإعاقة السياسة التركية، وتحركت المؤسسات المصرية بالتوافق التام مع إسرائيل
والإمارات في تحطيم النفوذ التركي وإثارة المشكلات، وعقدت مصر اتفاقيات مع قبرص
واليونان لترسيم الحدود البحرية، وهي اتفاقية تضيع على مصر وتركيا معا حقولا نفطية
في منطقة شرق المتوسط، ودخلت مصر على خط التواصل مع حزب العمال الكردستاني الذي
يخوض حربا ضد تركيا، وكان سلوك الإعلام والسياسة المصرية عشية محاولة الانقلاب
العسكري في تركيا في غاية الفجاجة والشماتة، ورُصِد وجود فتح الله كولن –الذي
تتهمه تركيا بقيادة محاولة الانقلاب العسكري- في القاهرة، وأعلنت الصحف المصرية أن
القاهرة تعرض توفير اللجوء السياسي له.
وهكذا يبدو أن المسافة بين مصر وتركيا لا تزال بعيدة.
مستقبل العلاقات
المصرية التركية
لا ريب أن التحليل المبني على أن مصر دولة مستقلة ذات سيادة وتملك قرارها
سيختلف جذريا عن التحليل المبني على أنها دولة خاضعة للهيمنة الأمريكية
الإسرائيلية، ولذا يتحدث المحللون السياسيون في العموم انطلاقا من الفرض الأول
بينما يتحدث الثوريون في العموم انطلاقا من الفرض الثاني. وحيث نحن الآن في حضرة
جمع من المؤرخين فينبغي أن تكون الصورة أوسع من أفق المحلل السياسي الذي ينصب
اهتمامه على المدى القريب أو المتوسط بحد أقصى وفي أحيان نادرة.
أهمية مصر وتركيا في المنطقة
عبر التاريخ لم توجد دولة قوية في مصر أو في الأناضول لم تحاول مد نفوذها
إلى الضفة الأخرى، وقد حدث هذا في عالم لم تكن فيه حقول نفط تُكتَشَف في المتوسط
أو أنابيب غاز تمتد بين ضفتيه أو شبكات كهرباء تنسج حوله أو ترسيم دولي لحدود
مائية يؤثر بقوة على الموارد الاقتصادية.
وطوال فترة الاستعمار ثم ما بعده لم يجر تفكير المصلحين في مشروع نهضة إلا
وكانت مصر وتركيا من أعمدته الأساسية، بما لهما من موقع جغرافي مهم وثقل تاريخي
ثقافي عميق ومخزون بشري وافر، وهو المشروع الذي لم يُكتب له الحياة ولا حتى
التفكير الجاد فيه إلا في اللحظة الخاطفة التي كانت فيها مصر تحت رئيس حقيقي منتخب
من شعبها، وهو الرئيس محمد مرسي، بينما سائر ما قبل هذا وما بعده منذ لحظة
الاستعمار الأولى وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم يشهد محاولة جادة يتبادل فيها
الطرفان الرغبة في إقامة تكتل لخدمة المصالح المتبادلة ولتعزيز مكانتهما في
المنطقة والعالم.
وتبدو المعضلة واضحة في أن كلا البلدين طوال حقبة الاستعمار وما بعده إنما
كانتا واقعتين تحت السيطرة العملية للأجانب أو لطبقة حاكمة لا تمثل الشعب ولا تعبر
عنه، ولئن كان هذا الوضع قد تغير في تركيا مع مجيئ حزب العدالة والتنمية وترسخ
سلطته لا سيما بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة (15 يوليو 2016م)، فالمؤسف أن
الوضع في مصر لم يتغير، ولا تزال مصر عمليا تحت الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية.
وطالما استمر الوضع على هذا فلن يمكن بناء علاقات طبيعية أو صحية بين مصر وتركيا.
إذا افترضنا استقلال القرار المصري فيمكننا أن نرى خريطة جديدة في ميزان
القوى، ذلك أن شروط الحليف أو الشريك الاستراتيجي متوفرة تماما بين مصر وتركيا:
1. فمن ناحية الوفرة البشرية تمتلك مصر وتركيا وحدهما نحو مائتي مليون من
السكان، وعامة أولئك السكان ممن يحظون بقدر من التعليم والثقافة، فضلا عن النسبة
الكبيرة من العقول المهاجرة التي ساهمت في نهضة الجامعات الأوروبية والأمريكية.
2. وهما أقوى دولتين في شرق المتوسط ما يعني سيطرتهما التامة على شرق البحر
المتوسط وموارده الغنية، وهما معا يسيطران على مضايق البسفور والدردنيل وقناة
السويس بما يعني سيطرتهما على نشاط التبادل التجاري بين الشمال والشرق، وعلى قسم
كبير من التبادل التجاري بين الشرق والغرب، ولهما معا نفوذ في أربعة بحار: البحر
الأسود، بحر إيجه، البحر المتوسط، البحر الأحمر.
3. ولكل من البلدين نفوذ ثقافي ثقيل في العالم الإسلامي، فلمصر تأثير سياسي
وثقافي كبير في المنطقة العربية وفي إفريقيا، ولتركيا تأثير سياسي وثقافي كبير في
مناطق وسط آسيا والقوقاز والبلقان، أي أن مجموع تأثير البلدين يبلغ أن يكون نصف العالم
الإسلامي تقريبا.
ثم إن ثمة مزايا مفقودة في بلد يمكن أن توجد في الأخرى، فلئن افتقدت تركيا
العمق الاستراتيجي فإن مصر تتمتع بعمق استراتيجي واسع في إفريقيا وفي المنطقة
العربية، ولا تكاد مصر تتحسب لأي نوع من الخطر إلا من جهة إسرائيل فحسب، بينما
ظهرها في الجنوب والغرب آمن ومتصل بريا. كذلك لا تزال الموارد الاقتصادية المصرية
وافرة ويمكنها أن تمد النمو التركي بمزيد من المواد الخام وإمكانيات الاستثمار
الممتازة. وعلى الجانب الآخر فإن مصر تحتاج إلى أن تكون مواردها واستثماراتها بأيد
أمينة لا تنظر إليها بمنطق الاحتلال والهيمنة والاستنزاف بل بمنطق الأخوة والتعاون
والمصالح المتبادلة، وهي تحتاج إلى الاستفادة من التقدم التقني وأساليب النمو
الاقتصادي في تركيا لإدارة مواردها المادية والبشرية.
كذلك فإن التحالف المصري التركي سياسيا واقتصاديا سيكون بمثابة كتلة قوية
تجذب إليها بلدانا أخرى، وسيكون في طليعة أولئك المتداعين إلى هذا الحلف الدول
العربية التي تعاني نوعا من الضعف، فالخليج العربي يعاني من تهديد أمني وقلق
جيوسياسي خطير بينما هو يتمتع بإمكانيات اقتصادية وافرة، واليمن مثلا تعاني من
تهديد اقتصادي بينما تتمتع بموقع جيوسياسي خطير ومؤثر، والسودان تعاني من ضعف
اقتصادي بينما تملك موارد مادية وبشرية وموقعا ممتازا، وهذا فضلا عن دول المغرب
العربي، ثم ما وراء هذا القلب العربي من دول العالم الإسلامي في إفريقيا وآسيا
وأوروبا.
إن مجرد تصور قيام حلف قوي بين مصر وتركيا يساوي تهديدا كاملا للهيمنة
الغربية في المنطقة، وبداية إحياء للقوة الإسلامية التي تتمتع بسائر المميزات
المؤهلة لإمبراطورية قوية ولكنها تفتقد إلى الإرادة. ولهذا يبدو أن قيام هذا
التحالف يمثل خطا أحمر للسياسة الدولية.
توقعات غربية للعلاقات المصرية التركية
يعاني العالم الإسلامي من غياب الدراسات المستقبلية، وهو عرض ضمن أعراض
كثيرة للمرض الأصلي المتوطن فيه: تحالف الاحتلال مع الاستبداد. وفي ظل هذه الحالة
لا يبدو ثمة شيء متاح في باب المستقبليات إلا ما يصدر عن مراكز البحث الغربية.
وفي سياق حديثنا عن العلاقات المصرية التركية يبدو كتاب "المائة عام
القادمة" الذي أصدره جورج فريدمان واحدا من أهم الكتب التي تناولت مستقبل
العالم وخاضت في موضوع مستقبل تركيا. ومؤلفه هو مدير مؤسسة ستراتفور (توقعات
استراتيجية)، وهي واحدة من أهم المؤسسات الأمريكية في مجال تقديم الاستشارات، وقد صدر
هذا الكتاب عام (2009م) أي قبل نشوب الثورات العربية، ومع هذا فله توقعات مثيرة
مثل النزول الروسي إلى الشرق الأوسط في منتصف العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين،
وهو ما تحقق فعلا.
وما يهمنا من الكتاب أن فريدمان يتوقع استمرار التمزق في العالم العربي،
ويتوقع أن الأتراك هم من سيستفيدون واقعيا من هذا التمزق، وأنه سيكون سببا لصعود
القوة التركية في المنطقة، حيث ستجد تركيا نفسها قائدة للعالم الإسلامي، وعندئذ
ستضطر تركيا مع الاضطرابات التي يتوقع أن تحدث في مصر أن تنزل قواتها للسيطرة على قناة
السويس، ذلك أن مصر لا يُتَوَقَّع أن يكون لها أي دور في القرن القادم بل ستظل في موقع
التبعية لغيرها كما كانت في القرن الماضي، لكن في القرن الجديد لن تكون الهيمنة على
مصر أمريكية أو روسية فحسب، بل قد تكون تركية. كذلك يتوقع فريدمان أن الأتراك سيعودون لقيادة العالم الإسلامي
وسيبدأ تمددهم الحقيقي بعد فشل الروس في استعادة دور الاتحاد السوفيتي، وسيكون
الأتراك من مكافحي عودة هذا الدور الروسي، ثم إنها سترث ما كان تحت النفوذ الروسي فتكثّف
وجودها العسكري في آسيا الوسطى وتتوغل في القوقاز لضمان أمنها القومي من خلال قوات
عسكرية متقدمة، وستتولى توسيع تجارتها في أنحاء المنطقة كما ستغلق المضايق في وجه الروس
لتأمين نفوذها في البلقان. عند هذا الحد ستكون تركيا عمليا قائدة قائدة العالم الإسلامي،
كما يرى فريدمان، وعندئذ ستبذل كل طاقتها من خلال قوتها الناعمة في تحسين صورتها لما
عساه يكون نفورا عربيا من القيادة التركية للمسلمين لما ترسّب لديهم من حكم الدولة
العثمانية، وفي هذا السياق ستقدم تركيا نفسها للعرب باعتبارها زعيمة لتحالف إسلامي
لمواجهة الهيمنة الأمريكية.
يتوقع فريدمان أن أمريكا لن تعارض هذا التمدد بل ستطمئن له باعتبار تركيا حليفا
موثوقا به، كما أن النفوذ التركي في الخليج العربي (الفارسي) هو أفضل لها من السيطرة
الإيرانية، لكن استمرار التمدد التركي في مصر والجزيرة العربية والخليج والمحيط الهندي
سيجعل التقاءها مؤكّدا باليابان التي ستبزغ هي الأخرى بقوة اقتصادية كبرى ناتجة عن
استثمار أزمات الصين وروسيا، إذ ستستفيد من أزماتهما في العمالة وفي وفرة المواد الأولية
التي تحتاجها. وحينئذ سيشكّل التحالف التركي الياباني قوة خطيرة تصطدم بالقوة الأمريكية
والتي ستتحرك لمحاصرة اليابان من خلال دعم الصينيين والكوريين، ومحاصرة الأتراك من
خلال دعم البولنديين والكتلة الشرقية وإثارة "القومية العربية" مرة أخرى.
لكن المزية المتوفرة هنا للأمريكان هي أنهم قد استطاعوا التفوق بفارق كبير في برامج
الفضاء مما سيجعلهم قادرين على مراقبة ومعاقبة تركيا واليابان من خلال منشآت الفضاء
التي ستحتوي حينها على منصات إطلاق صواريخ موجهة. وعندئذ يظهر الصدام بين القوتين:
الأمريكية وحلفائها من جهة، واليابان وتركيا من جهة أخرى مما سيتسبب في حرب عالمية
ثالثة تنتصر فيها أمريكا لأن القرن القادم هو قرن أمريكي.
ليس يهمنا الآن التعليق على هذه التوقعات، وإنما نقدمها باعتبارها شيئا مما
يدور في أروقة الأجهزة الغربية عن التوقعات المستقبلية.
وكانت مؤسسة ستراتفور قد أصدرت تقريرا في 2015 بعنوان "ملامح العقد
القادم" يكرر التأكيد على توسع وتمدد الدور التركي في المنطقة العربية خلال
هذه العشرية واستمرار التحالف بينها وبين الأمريكان في مواجهة الإيرانيين والروس،
وأنها ستكون أحرص على استقرار الأمن في المنطقة من الإيرانيين، وذلك أن مشروع
الأتراك في التوسع سياسي واقتصادي بينما مشروع الإيرانيين عسكري، ثم إن الاضطراب
يمس الأتراك مباشرة في مناطقهم الجنوبية بينما لا يمس الإيرانيين مباشرة حيث يفصل
بينها وبين هذه الاضطرابات حزام شيعي في العراق. ويغيب عن التقرير ذكر مصر ما يعني
بوضوح استمرارها في موقع التبعية.
ولمرة أخرى نكرر أننا نورد هذه الأمور كتوقعات غربية، ولسنا نقول بصحتها أو
بخطئها الآن، إذ ليس هذا مجال تقييمها.
خاتمة
بهذا العرض الموجز نكون
قد ألقينا نظرة عامة على العلاقات المصرية –العثمانية والتركية منذ أول انعقادها
في صدر التاريخ الإسلامي وحتى اللحظة الراهنة، مع ما مرت به من فصول وتقلبات
وتغيرات جغرافية وتاريخية عديدة، ثم ألقينا نظرة على توقعات مستقبلية ناقشت
العلاقات المصرية التركية.
ونستطيع أن نستخرج عددا
من الخلاصات والتوصيات من بينها:
1. عمق العلاقة التاريخية
بين المصريين والأتراك وما وقع بينهما من تمازج والتقاء طوال ألف سنة يجعل من
المستحيل لأي نظام سياسي في البلدين تجنب هذا الواقع، كما أن حتمية الجغرافيا في
شرق المتوسط تجعل مسألة العلاقة بين البلدين ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها.
2. فشلت الحقبة القومية
في كلا البلدين في صناعة هوية جديدة لكلا الشعبين بما يجعلها استثناء في مسار
التاريخ، بينما تسارع التقاء البلدين في اللحظات التي تولى الأمر فيها نظام منتخب
بلغ ذروته في العام الوحيد الذي قضاه د. مرسي في الحكم، بينما لم تكف المحاولات
التركية عن التقرب لمصر بقوة منذ نجم الدين أربكان ثم حكومة حزب العدالة والتنمية،
بل شهد الموقف التركي انقساما على قطع العلاقات السياسية مع مصر عقب الانقلاب
العسكري، وفي ذروة القطيعة السياسية لم تتوقف العلاقات الاقتصادية.
3. في اللحظة الراهنة
تبدو حركة السياسة في منطقة شرق المتوسط كأنما تتحرك بين قطبين: إسرائيل وتركيا،
وتقع مصر ضمن المعسكر الإسرائيلي، وبقدر ما تتخوف تركيا من ترك مصر لتقع في الحضن
الإسرائيلي كلية، بقدر ما تبدو العلاقة مع مصر تهديدا للمصالح التركية وللصورة
المبادئية والأخلاقية التي حرصت تركيا على رسمها لنفسها، وبالرغم من سائر الضرورات
التي تفرض تعاونا سياسيا لا تزال الملفات العالقة أصعب من أن تنتهي بسهولة في ظل
نظام عبد الفتاح السيسي الذي يبدو بشخصه وسياساته عقبة كأداء أمام أي تطور في
الموقف التركي.
4. في اللحظة الراهنة أيضا يبدو النظام التركي
مستقرا ولا يعاني من تهديد وجودي، بينما لا يتمتع النظام المصري بنفس الاستقرار، وفي
ظل الفوضى الضاربة في المنطقة لا يبدو أن ثمة وسيط لديه دافع ما لإعادة العلاقات
المصرية التركية بعد التغير في الموقف السعودي، مما يجعل توقع تقارب قريب أمرا
بعيد المال في ظل سياستين تتسمان بقدر عالٍ من التصلب على المواقف سواء من رجب طيب
أردوغان أو من عبد الفتاح السيسي.
5. تثير التوقعات الغربية طموحات الأحلام التركية
كما تثير مخاوف الأنظمة العربية، ويظل اللعب على الوتر القومي العرقي هو الأداة
الوحيدة التي يمكن إحياؤها في حال وجود إرادة تفجير الموقف المصري التركي أو على
الأقل عرقلة تواصله وتماسكه.
6. يمثل وجود نظامين قويين ومستقلين في مصر وتركيا
معادلة جديدة في الشرق الأوسط تمهد لأن يعيد التاريخ نفسه نحو استقلال الشرق
الأوسط واتخاذه موقعا فعالا في خريطة القوى الدولية. وهي اللحظة التي سيعمل الجميع
على ألا تحدث، ولهذا أطفئت سريعا جذوة العام اليتيم (فترة د. مرسي) قبل أن تشتعل،
فمجرد وجود محور تركي مصري كان سيصنع التئاما قويا تضاف إليه دول أخرى ذات ثروة
مالية واسعة (كقطر وليبيا) وثروة جغرافية وطبيعية واسعة (كالسودان) في المرحلة
الأولى، وهو ما سيحسم خيارات دول أخرى بما سيتكون من جاذبية قوية، وسيستطيع المحور
الجديد أن يساهم، وربما يفرض أيضا، رؤيته في ملفات المنطقة الأخرى.
7. من المؤسف أن المتصدر للحديث عن العلاقات
التركية العربية في الجانب العربي هم من المدرسة القومية التي تقدم التوجس والتخوف
في إطار الحديث عن المستقبل التركي العربي، مما يحتاج مجهودات واسعة من المدرسة
الإسلامية العربية والتركية معا إلى تكوين وتمتين ملف العلاقات التركية العربية
على المستوى البحثي ثم على سائر المستويات الأخرى.
Andrew Watson, The American Mission in Egypt: 1854 to 1896, seconed edition (Pittsburgh: united
Presbyterian, 1904), p. 333.