المراجعات
الفكرية: هل تكون أمل المعتقلين في السجون المصرية؟
قراءة في تجربة المراجعات الفكرية
للجماعة الإسلامية المصرية
شارك في
البحث: أحمد الأزهري، أحمد مولانا، علاء عادل، محمد إلهامي - إشراف وتحرير: محمد
إلهامي
تزايد الجدل
في الآونة الأخيرة حول مدى واقعية أو جدية المبادرات المطروحة من قبل بعض
المعتقلين، من خلال الرسائل المسربة من السجون والتي وفَّر لها إعلام النظام المصري
أحيانا مساحة واسعة للنقاش، وأعيد النقاش حول تجربة مراجعات الجماعة الإسلامية
التي جرت قبل نحو عشرين سنة، حين أصدر قادة الجماعة عددا من الكتب التي يتخلون
فيها عن فكرهم القديم ويقدمون الفكر الجديد الذي اعتنقوه بعد نضج التجربة
والتأملات والمراجعات –كما قالوا- وهو ما أسفر في النهاية عن الإفراج التدريجي عن
بعض القيادات وكثير من العناصر.
تكتسب هذه
المراجعات أهميتها من أن الذين قاموا بها كانوا أصحاب التأثير الأكبر في الربع
الأخير من القرن العشرين، فحتى قيام ثورة
يناير 2011م كانت مشاهد العنف الأكثر دموية في ذاكرة المصريين وعلى رأسهم الجماعات
الدعوية والأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة المصرية هي مشاهد العنف المتلاحقة بين الدولة
والجماعة الإسلامية، والذي استمر لمدة عشرين سنة مُنذ بداية الثمانينات حيث اغتيل
رأس الدولة محمد أنور السادات إلى أواخر التسعينات وحادثة مقتل سائحي الأقصر. وقد استطاع
القادة التاريخيون للجماعة كما يسمون أنفسهم بوقف نزيف الدم وإهدار الأرواح القائم
بين الطرفين عن طريق ما سموها مبادرة وقف العنف مستندين على مراجعات فكرية تنقسم
إلى رؤيتين إحداهُما شرعية وهي المرجع الأساسي للمبادرة والأخرى رؤية واقعية
تتناسب وفقًا لمستقبل الجماعة ومصلحة الدعوة الإسلامية داخل المجتمع المصري.
نحاول في هذه الورقة الإجابة على عدة أسئلة تشمل تلك المبادرة من حيث الفكرة
ومُمثليها وكيفية طرحها وأشكال الاستجابة عليها من قبل الأطراف الرسمية وغير
الرسمية وهل حققت فوائدها بالنسبة لكلا الطرفين (الدولة - الجماعة)، حيث سيفيد التعرف على ملامحها
وسياقاتها وظروفها في بناء تصور واقعي حول المشاريع الشبيهة المطروحة حاليا.
ستستعرض هذه الورقة الأسس النظرية لمقاربة الإصلاح الفكري من منظور أمني سلطوي، ثم
تتطرق إلى تجربة مراجعات الجماعة الإسلامية، وهوية القائمين عليها، وكيف جرى
تنفيذها، والفترة الزمنية التي استغرقتها، وأشكال الاستجابة لها، ومدى تحقيقها
لإيجابيات لصالح نظام مبارك ثم السيسي أو لصالح الجماعة الإسلامية.
التوبة إلى
الدولة
في روايته
الأشهر (1984) أورد جورج أورويل على لسان المحقق الذي يعذب
المتمرد المعارض لأفكار النظام هذه الفقرة التي نوردها هنا مختصرة:
"إننا
لا نكترث للجرائم الحمقاء التي اقترفتَها، فالحزب لا يهمه ما تأتيه من أفعال
مكشوفة، إنما يهمه أكثر ما يدور في رأسك من أفكار. نحن لا نُحطم أعداءنا فحسب،
وإنما نُغير ما بأنفسهم… محاكم التفتيش فشلت فشلاً ذريعاً، لقد أُنشئت تلك المحاكم
لاستئصال شأفة الهرطقة، لكنها على العكس كرسَّت وجودها، ففي مقابل كل هرطوقي يُحرق
بعد شدّه على الخازوق كان يظهر الآلاف غيره… محاكم التفتيش كانت تقتل أعداءها
جهارا نهارا وتجهز عليهم قبل أن يتوبوا، وفي الواقع لقد كانوا يُحْرَقون لأنهم لم
يُظهروا ندامتهم أو يعلنوا توبتهم، ومن ثم كان الناس يُحرقون لأنهم يرفضون التخلي
عن معتقداتهم الصحيحة، وبالطبع كان المجد كله يؤول إلى الضحية، بينما يبقى كل
الخزي من نصيب المحقق… إننا لا نحطم الضال الذي خرج علينا عندما يقاومنا، بل إننا
لا نقدم أبدا على تدميره طالما أنه يقاومنا، وإنما نسعى لأن نغيِّره ونقبض على
عقله الباطن فنصوغه في قالب جديد"[1].
يعد الفيلسوف
الفرنسي ميشيل فوكو أبرز من تحدث في موضوع أن الدولة الحديثة طوَّرت أساليبها في
التحكم والسيطرة على الناس، وأنها صارت معنية بتقديم نفسها لا على أنها السلطة
القوية القاهرة فحسب، بل على أنها التعبير الصحيح عن المجتمع، ومن آثار هذا أن
المتمردين على هذه الدولة ليسوا في حاجة إلى قهرهم وهزيمتهم وعقابهم بعنف كما كان
يحدث من قبل، وإنما هم في حاجة إلى التعامل معهم كشخصيات مريضة منبوذة مثلهم مثل
المرضى والمجانين، ينبغي عزلهم عن المجتمع، وهم يُعزلون في السجون مثلما يُعزل
أولئك في المستشفيات، ولهذا فإن العقوبة العنيفة وحدها –كالصلب
والحرق والتقطيع- لم تعد تحقق هذا الغرض، بل قد تكون ضارة
بالدولة لما تثيره من التعاطف بين الجماهير، وبدلا من أن تحقق الدولة هدفها بردع
فكرة التمرد فإذا بها تنتج متمردين جدد، وبهذا فإن فكرة السجن لم تكن مجرد تطور
إنساني مبني على رؤى فلاسفة التنوير وحقوق الإنسان، وإنما هو الوسيلة التي تحقق
هدف الدولة في إفهام المتمرد والمجتمع بأنه عنصر مريض منبوذ يتوجب استبعاده حتى
يعود إلى رشده[2]!
في ظل المسيرة
الغربية نحو العلمانية واستبعاد الكنيسة من المجال العام، "نرى
أن الدولة الحديثة نشأت عن إفلاس الكنيسة"[3]،
ولكن استبعاد الكنيسة والدين والإله أسفر عن نتيجة شنيعة، لقد تحققت نبوءة توماس
هوبز وظهر إله آخر، ذلك الإله هو الدولة الحديثة، لقد أعلن هوبز "أن حالة
الطبيعة (أي حالة الإنسان بعد انسحاب الإله من الكون) هي حالة من حرب الجميع ضد
الجميع، فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وسيتم التعاقد الاجتماعي بين البشر لا بسبب
فطرة خيرة فيهم؛ وإنما من فرط خوفهم وبسبب حب البقاء، فينصبون الدولة التنين حاكما
عليهم؛ حتى يمكنهم أن يحققوا ولو قدرا ضئيلا من الطمأنينة"[4]،
وهكذا صارت الدولة في مكان الإله، بل هي -كما يقول هيجل- "الحلول الإلهي على
الأرض"، وسيادتها هي السلطة المطلقة، وعلى الأفراد أن يخضعوا لهذه السلطة
التي تحدد من الداخل إرادة الأفراد[5]،
ومن ثَمَّ "تعيَّن على السكان الخضوع له (حاكم الدولة الحديثة) بانصياع لم
يسبق لأي حاكم صاحب حق إلهي أن تخيله"[6]،
وصارت كفاءة الدولة تقاس بمدى قدرتها على السيطرة التامة على كافة ما يحدث على
أرضها من أنشطة، ولم يختلف هذا بين مذهب ومذهب في الفكر الغربي؛ "فالسيطرة
على السكان مهمة أساسية لأي سلطة حكومية تهيمن عليها جماعات المصلحة، وعلى الرغم
من أن القوتين الدوليتين في زمن الحرب الباردة (أمريكا والاتحاد السوفيتي) كانتا
على طرفي نقيض... فإنهما اشتركتا في قوة السلطة المحلية عند تعاملهما مع قضية
السيطرة على شعبيهما"[7].
تحولت الدولة لتكون
هي الإله الجديد، واتخذت لنفسها مظاهر القداسة البديلة عن الإله، ويتحدث كارل شميت
عن أن مفاهيم الدولة الحديثة إنما هي مفاهيم لاهوتية (دينية) مُعَلْمَنَة، وأن نظرية السيادة تتجاوز
القانون وتتجلى في حالة الاستثناء، أو: حالة
الطوارئ، التي يبدو فيها بوضوح أن المسيطرين على الدولة يتصرفون بدون غطاء قانوني
وبدون استناد إلى إرادة شعبية، وإنما يتحركون وفق تصوراتهم عن مصلحة الدولة التي
يحتكرونها، وهو الأمر الذي خصص له جورجيو أغامبين كتابه "حالة
الاستثناء".
وما يهمنا في
هذا السياق هو أن عملية المراجعات الفكرية التي تحاول الدولة إرغام خصومها عليها،
ليس فقط بمنطق القهر بل بمنطق التأديب والتربية وإعادة التأهيل، إنما هو في واقع
الأمر استكمال لبنيان الدولة الإله التي تريد من معارضيها المتمردين عليها أن
يتوبوا إليها توبة نصوحا، فالتعذيب الذي تمارسه الدولة الحديثة ليس فقط بغرض
التنكيل والإهانة الذي يمارسه طرف منتصر ضد خصمه المهزوم، وإنما هو بمثابة العقوبة
التي تنفذها "الدولة الإله" على
العصاة المتمردين، والتي تستهدف شيئا أبعد من مجرد انتصارها أو كسرهم، تستهدف أن
يتوبوا إليها ليعودوا وهم يشعرون بالندم والأسف.
وفي ظل هذه الدولة
الحديثة نمت اتجاهات علمية متعددة في علوم النفس والاجتماع والخطاب، تستهدف تحقيق
السيطرة التامة للدولة على أفراد الشعب، السيطرة على أفكارهم واتجاهاتهم
ومعلوماتهم، وطريقة تنظيم المدن والمباني والسجون والمستشفيات والمدارس والجيوش،
بحيث يتحقق أكبر قدر من السيطرة بأقل قدر من المقاومة، وتشهد السنوات الخمسون
الأخيرة ازدهارا في الدراسات التي تعيد تقييم وتقويم المنتجات العلمية الضخمة التي
قدمت عبر القرون الثلاثة الأخيرة في ضوء هذا الواقع، واقع أن العلوم كانت بمثابة
أدوات الدولة في السيطرة وليست نموا طبيعيا لبحوث موضوعية محايدة.
لكن الذي يهمنا
من بين هذا كله، في سياق بحثنا الآن، أن هذه العلوم هي التي تشكلت بها مجتمعاتنا
الإسلامية، سواء من حيث المباني والمدن والمستشفيات والمدارس والسجون، وفيما يخص
السجون تحديدا –وهو موضوع بحثنا هنا- فإن مستشار محمد علي باشا، الذي هو مؤسس
الدولة الحديثة في مصر، كان هو جون بورنج الذي كان مساعدا وصديقا للفيلسوف جيرمي
بنتام صاحب فكرة سجن البانوبيتيكون الذي يعد من أهم تجليات فكرة الدولة الحديثة في
منظومة المراقبة[8].
ومثلما بدأت قصة
الدولة الحديثة في مجتمعاتنا الإسلامية بحاكم جبار معجب بالغرب ومدعوم منه، فأخذ
في تدمير المدن القديمة لإنشاء حديثة –على
أنقاضها أو بعيدا عنها- فإن القصة
استمرت إلى هذه اللحظة التي تتضافر فيها مراكز الأبحاث العربية والغربية لكتابة
دراسات تناقش الطرق المثلى لتأهيل وإصلاح "الإرهابيين" ضمن برامج شاملة تستهدف لا القضاء على
خطورتهم، بل تعديل أفكارهم ذاتها.
والجدير بالذكر
أن الإسلاميين لم يكونوا وحدهم الذين تعرضوا لهذه البرامج في العالم الإسلامي، بل
إن السلطات استعملتها ضد سائر المتمردين عليها بمن في ذلك الشيوعيون والقوميون
وغيرهم، لكن التجربة السائدة في المجتمعات الإسلامية تتعلق بالإسلاميين لأنهم
الإفراز الطبيعي للمجتمعات المسلمة، فهم الأكثر عددا والأوسع تجربة والأطول صمود
والأغزر تجددا.
وفي الحالة
المصرية فإن تجربة الدولة الحديثة وتضخمها قد بدأت مع محمد علي المدعوم غربيا،
والذي استطاع أن ينفذ عملية صبغ مصر -كما يقول أرنولد توينبي- بالصبغة الغربية
"أكثر شمولا من أي محاولة سعى إليها أو أنجزها السلاطين الأتراك"[9]،
إلا أنه سرعان ما نزل الاحتلال الإنجليزي بنفسه ليدعم أسرة محمد علي في وجه ثورة
أحمد عرابي التحررية، وقد وُلِد جهاز الأمن السياسي المصري في زمن الاحتلال
الإنجليزي لمطاردة المقاومة المصرية للإنجليز وعملائهم، وقد تشكل هذا الجهاز بعيد
عملية اغتيال رئيس الحكومة المقرب من الإنجليز بطرس غالي باشا، في عام 1910، ومنذ
ذلك الوقت وعبر أكثر من قرن من الزمن اكتسبت أجهزة الأمن السياسي المصري خبرات متراكمة عبر
تاريخها الممتد إلى عام 1910، حيث تأسس أول جهاز للأمن السياسي في مصر على يد الاحتلال
البريطاني. ومن ثَمَّ فقد حقق الجهاز
الأمني المصري موقع الريادة في العالم العربي في قضايا كثيرة من بينها قضية "التتويب
السياسي الجماعي للمعتقلين".
يُعد رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية الأسبق
صلاح نصر من أول وأبرز من تناولوا باللغة العربية التنظير لكيفية تغيير عقائد المعتقلين
السياسيين، وذلك في كتابه "الحرب النفسية: معركة الكلمة والمعتقد"
(1966م)، فقد تناول في الجزء الثاني منه التطورَ التاريخي لعمليات "غسيل المخ"
و"إصلاح الفكر"، وكان متأثرا بالمدرسة الروسية وبنظريات إيفان بافلوف
(1849 – 1936م) الذي يربط في نظريته بين البيئة الخارجية والسلوك النفسي الداخلي،
ووظَّف ذلك باتجاه إمكانية تغيير الطبيعة الذاتية للإنسان من خلال تغيير البيئة
التي يعيش فيها، وصولا إلى جعله يكره من كان يحبهم سابقا ويحب من كان يبغضهم[10].
أشار صلاح نصر إلى أن الأساليب المتبعة في غسيل
المخ تتغير تبعا لتغير الظروف، لكن الأصول الأساسية تظل واحدة في كل الحالات،
فالهدف هو السيطرة على جميع الظروف المحيطة بحياة السجين النفسية والاجتماعية،
وقرر نصر أن مرحلة "تقويم" السجناء تستغرق بين 6 شهور إلى 4 سنوات،
وربما أكثر إن تطلب الأمر، وكانت أهم الأساليب التي تناولها لتحقيق ذلك من قبيل:
١- عزل الشخص عن الحياة العامة: بترك
السجين في زنزانته لمدة طويلة دون السماح بتسرب أي أخبار إليه عن أسرته أو العالم الخارجي،
مما يُشْعِره بالوحدة والقلق والتوتر، ويساهم في تحطيمه معنويا ويدخله في أجواء
اكتئاب ويأس.
٢- الضغط الجسماني: بالحرمان من الطعام والاكتفاء
بما يبقيه على قيد الحياة، والحرمان من النوم بما يقضي على صفاء ذهنه ويصل به إلى
الإعياء والانهيار وتشوش الملكات العقلية، بحيث يكون عقله قابلا لأي توجيه من رجل
الأمن.
٣- التهديدات والعنف: بشكل مباشر عبر ضرب
السجين وتعذيبه، أو بشكل غير مباشر بإسماعه صراخ رفاقه أثناء تعذيبهم أو رؤيته لهم
في حالة سيئة أثناء جلسات التحقيق.
٤- الإذلال والضغوط: عبر اتباع نُظم سجن
تتطلب الخضوع التام سواء في أسلوب تناول الطعام والنوم والاغتسال، أو كخفض الرأس وإبقاء
الأعين موجهة إلى الأرض أثناء التحدث إلى الحراس.
٥- الدروس الجماعية: عبر عقد ندوات داخل
السجون يجري فيها تدريس المناهج الجديدة، ويعترف خلالها الأفراد بانحراف أفكارهم
السابقة، ويبرهنون على قناعتهم بالفكر الجديد[11].
تتمثل قيمة تنظيرات صلاح نصر في أنها لم تظل حبيسة
الكتب، إنما طُبقت عمليا على عناصر جماعة الإخوان المسلمين داخل السجون، وبالأخص
في قضية تنظيم 1965 والمشهورة باسم قضية تنظيم "سيد قطب". وقد حققت هذه
التجربة نتائج إيجابية في أوساط العديد من الكوادر المتوسطة والصغرى من عناصر
التنظيم، بينما فشلت في تطويع معظم الرموز وقيادات الصف الأول.
أما تجربة التتويب الأبرز، فهي التي حدثت
للجماعة الإسلامية خلال عهد "مبارك" تحت إشراف مسؤول التطرف الديني
بجهاز مباحث أمن الدولة اللواء "أحمد رأفت". وهى التجربة التي حققت
نجاحا بالغا، كما حظيت باهتمام عالمي واسع عقب أحداث
سبتمبر 2001، بل وعمدت بعض دول المحيط الإقليمي مثل السعودية واليمن وليبيا إلى استنساخها
وتطبيقها على المعتقلين الإسلاميين لديها.
الجماعة الإسلامية: من النشأة حتى المراجعات
نشأت الجماعة الإسلامية كحركة طلابية مطلع
السبعينات دون أن تكون لها "مرجعية فكرية أو شرعية محددة"[12]،
وإنما تنوعت روافدها باتجاهات متعددة كالجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة
المحمدية وبعض الدعاة كمحمد الغزالي وسيد سابق ويوسف القرضاوي فضلا عن كتابات
المودودي وسيد قطب، ثم تَسَيَّسَتْ بمرور الأحداث، وتَصَدَّرَتْ قطار معارضة
السادات نهاية السبعينات عقب عقده لاتفاقية كامب ديفيد واستقباله لشاه إيران،
وبحلول عام 1980 انقسمت الجماعة إلى 3 فئات، حيث انضم أبرز قادتها بالقاهرة ووجه
بحري إلى جماعة الإخوان المسلمين كعبد المنعم أبوالفتوح وعصام العريان وحلمي
الجزار من جامعة القاهرة، وابراهيم الزعفراني من جامعة الاسكندرية، وأبوالعلا ماضي
من جامعة المنيا وخيرت الشاطر من جامعة المنصورة. كما انفصلت مجموعة من طلبة جامعة
الاسكندرية فَكَوَّنَتْ الدعوة السلفية. بينما احتفظت مجموعة طلبة الصعيد باسم "الجماعة
الإسلامية"، وشارك عناصرها رفقة تنظيم الجهاد بقيادة محمد عبد السلام فرج في
أحداث المنصة وأسيوط عام 1981م.
عقب خروج عدد من كوادر "الجماعة الإسلامية"
من السجن في عام 1984م، بدأوا في العمل الدعوي والاجتماعي مجددا تحت اسم الجماعة،
ومدوا نطاق تواجدها إلى القاهرة الكبرى والوجه البحري. بينما حرص قادتها داخل
السجون على تأطير منهج الجماعة وتقديم تنظير فكري وشرعي يوضح الملامح العامة لها،
فأصدروا رسالة "ميثاق العمل الإسلامي" (1984م)، مؤكدين فيها على سلفية
المعتقد وتبنيهم لثلاثية "الدعوة كأداة لتغيير المفاهيم، والحسبة كأداة لتغيير
المجتمع، والجهاد كأداة للتغيير عندما لا تجدي الدعوة ولا تكفي الحسبة"[13].
ولكن سرعان ما بدأ النظام المصري في مواجهة
الجماعة الإسلامية، فخلال الفترة بين (1986 – 1990م)، اقتحمت قوات الأمن المصرية
"40 مسجدا تابعا للجماعة، وقتلت 70 من أفرادها"[14]،
ثم بدأت موجة من المواجهات في عام (1990م) إِثر القتل العلني الذي قام به عنصرا
أمن للناطق الإعلامي باسم الجماعة د. علاء محيي الدين في وضح النهار وفي الشارع
العام، فرَدَّت الجماعة باغتيال رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب، ثم وصلت المواجهات
ذروتها خلال الفترة الممتدة من عام 1992 إلى عام 1997 بمعدل عملية واحدة يوميا. ثم
هدأت المواجهات عقب إعلان قادة الجماعة من داخل السجن في يوليو 1997 مبادرة لوقف
العمليات المسلحة من طرف واحد دون قيد أو شرط.
واللافت للنظر في مسيرة الجماعة الإسلامية أن
خوضها المواجهة الذي كان بهذه القوة والكثافة، إنما اتُّخِذ القرار بها "بدون
إعداد بالمرّة" وحتى بدون "استعداد نفسي"[15]،
ولذا يرى البعض أن النظام المصري تعمد استدراج الجماعة للمواجهة المسلحة في وقت لم
تكن قد استعدت لها فيه[16]، فكون الجماعة الإسلامية استطاعت إحداث كل هذا
الزخم والبقاء كل هذه الفترة في مواجهة لم تستعد لها إنما يدل على قوة الجماعة
وانتشارها شعبيا وكفاءة عناصرها، كما أنه يشير أن النظام المصري –على الأقل في هذه
المرحلة- كان هشًّا ومتهالكا.
وخلال الفترة الممتدة من الثمانينات إلى 1997م،
جرت عدة محاولات للوساطة والتهدئة بين نظام مبارك والجماعة الإسلامية لكنها أخفقت،
ومن أبرزها[17]:
1. في عام
1984م أرسل اللواء فؤاد علام إلى كرم زهدي بشأن الوصول إلى حل للأزمة، ولكن عطَّلَ
التواصلَ عبودُ الزمر وعصامُ القمري، إذ رافضين التنازل عن مبادئ الجماعة.
2. بين عامي 1987 و1989م اتفق قادة الجماعة في السجن وعميد للأمن على وقف
النشاط المُسلح، وقد نجح أسامة حافظ بعد خروجه من السجن، وقبل دخوله مرةً أُخرى
بين عامي (1992- 1994م) في السيطرة على عدة مناطق منها المنيا وسوهاج وتوقف فيهما
العمليات المسلحة في تلك المناطق واستمرت في أخرى لعدم التواصل الجيد حينها.
3. في
عام 1988م مبادرة الشيخ الشعراوي ولم تكمل لظروف عملية.
4. في عام 1993م، حمل القياديان بالجماعة الإسلامية صفوت عبدالغني وممدوح
يوسف عرضا من مجلس شورى الجماعة إلى العقيد حازم بوقف الجماعة القتال مقابل
استجابة الحكومة لمطالبها الإنسانية لكن المبادرة تعطلت بعد المحاولة الفاشلة
لاغتيال رئيس الوزراء عاطف صدقي.
5. وفي نفس العام حاول المحامي عبد الحارث مدني مع المحامي محمد سليم العوا،
لكن الأول سرعان ما سُجِن ثم مات في ظروف تحيط بها الشبهة، واعتُقِل المحامون
الذين تظاهروا احتجاجا على وفاته.
وقد تحطمت أغلب محاولات الوساطة أمام رفض السلطة الاستجابة للمطالب الستة
للجماعة الإسلامية، وهي:
1. الإفراج عن المعتقلين
السياسيين ممن لم تصدر ضدهم أحكام بالسجن
2. وقف سياسة تجديد الاعتقال
3. وقف سياسة احتجاز النساء
كرهائن لإجبار عناصر الجماعة المطلوبين على تسليم أنفسهم
4. وقف التعذيب داخل السجون
وأحيانا تُخْتَزَل هذه المطالب
الستة في ثلاثة هي: الإفراج عن المعتقلين دون قضية، وقف المحاكمات العسكرية، إطلاق
حرية الدعوة المجتمعية[19].
وكانت أقوى محاولات الوساطة في هذه الفترة تلك التي قام بها عدد من العلماء
والمفكرين مثل: الشيخ الشعراوي، والشيخ محمد الغزالي، د.محمد سليم
العوا ود. عبد الحي الفرماوي وفهمي هويدي، فقد اجتمعوا مع وزير الداخلية في 6 إبريل
1993، طالبوا بوقف الشرطة ممارساتها القمعية العشوائية والإفراج عن المعتقلين،
وطلب الوزير بضعة أيام مهلة للرد عليهم. إلا أن عددا من الكُتَّاب والصحافيين
التابعين للسلطة شنوا حملة شعواء ضد فكرة الوساطة وضد وزارة الداخلية، وكتب مكرم
محمد أحمد مقاله "حقيقة الوساطة مع الإرهابيين"، هاجم فيه لجنة الوساطة
زاعما أنها تتوسط فيما لا تجوز فيه الوساطة، وأنها تضع هيبة الدولة والحكم في كفة،
وجماعات الإرهاب في الكفة الأخرى، وأنها تنصب نفسها حكما بين الجانبين[20]،
ثم لم تلبث السلطة أن أقالت وزير الداخلية عبدالحليم موسى بعد ذلك بأيام (18 إبريل
1993م)، وأشارت جريدة "مايو" التابعة للحزب الوطني الحاكم إلى أن إقالته
"جاءت نتيجة بعض التجاوزات، وكان آخرها أنه أجرى من تلقاء نفسه اتصالات مع ما
يسمى لجنة الحكماء من دون استشارة رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء".
وفور تولي اللواء حسن الألفي لمنصب وزير
الداخلية في 18 إبريل 1993 أدلى في اليوم التالي
بتصريح لجريدة الأخبار قال فيه "إن مواجهة الخارجين على القانون لا
تحتمل المساومة أو التفاهم"، فرَدَّتْ الجماعة الإسلامية في 20 إبريل
باستهداف وزير الإعلام صفوت الشريف، مما أسفر عن إصابته إصابة طفيفة، ومن ثَمَّ
دخلت الوساطة نفقا مظلما. وقد تجاهل الوزير الجديد طلب لجنة الوساطة الاجتماع به،
وصرَّح مصدر أمني أن "قبول حوار مع الجماعات المتطرفة يعني إضفاء الشرعية
عليها والاعتراف بها، وهذا أمر غير ممكن"[21].
اعتمد حسن الألفي سياسة توسيع العنف، فنفَّذتْ
قوات الأمن إجراءات موسعة شملت الفصل النهائي لطلاب الجماعة من الجامعات والمدارس
الثانوية، وفصل أو نقل جميع الموظفين المحسوبين عليها، واعتقال أُسَر المطلوبين
كرهائن، وتحطيم المنازل، وبدأ النظام تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة عن المحاكم
العسكرية[22]،
فأعدم شريف حسن (13 يونيو 1993م) ضمن قضية "العائدون من أفغانستان"،
وبعده بعشرة أيام أعدم حسن بدران لاتهامه بقتل ضابط الشرطة علي خاطر، ثم أعدم 7
أفراد في (8 يوليو 1993م) لاتهامهم في قضية استهداف السياحة، ثم أعدم خمسة آخرون (17
يوليو 1993م) لاتهامهم بمحاولة اغتيال وزير الإعلام صفوت الشريف، وفي مطلع نوفمبر
1993 أُعدم اثنان لاتهامهما بقتل نقيب شرطة بالقاهرة، وتوالت عمليات إعدام عناصر
الجماعة ليبلغ عدد المعدمين خلال عهد مبارك 88 فردا. وحسب تقرير الأمن العام لسنة
1995، فقد بلغ عدد المعتقلين بصورة مكررة خلال الفترة من 1992 إلى 1995 قرابة 7891
شخصا، كما شهد العام 1995 بمفرده شن 4800 حملة أمنية لاعتقال عناصر العنف حسب وصف
التقرير[23].
وحسب إحصائية صادرة عن وزارة الداخلية المصرية فقد قُتل 471 عنصر من الجماعة أثناء
المواجهات المسلحة خلال الفترة الممتدة من عام 1992 إلى 1997[24].
كما توفي المئات من المعتقلين في السجون نتيجة التعذيب والإهمال الطبي، كذلك حُرِم
المعتقلون من رؤية أهاليهم لأعوام طويلة بدءا من عام 1993 إذ لم تكن الزيارات
مسموحا بها سوى في سجني الوادي الجديد، ووادي النطرون، كما تعرضت أسر المعتقلين
للإنهاك مع اعتقال أبنائها لسنوات طويلة، وقطع مرتّبات الموظفين منهم، وكذلك
ازدادت حالات الطلاق في صفوف أبنائها المعتقلين والمطاردين.
وهكذا لم تنجح عمليات الجماعة في ايقاف بطش
الشرطة بعناصرها، ولم تحظ الجماعة بدعم جماهيري كافٍ أثناء صراعها مع النظام، بل تعرضت
لانتقادات حادة من قبل العديد من الجماعات والتيارات الإسلامية الأخرى.
وبالتوازي مع تدهور أوضاع الجماعة داخل مصر،
تعرضت الجماعة بالخارج لهزة قوية باختطاف أحد أبرز قادتها طلعت فؤاد قاسم في
سبتمبر عام 1995 من كرواتيا على يد المخابرات الأمريكية وتسليمه إلى مصر ليختفي
إلى الأبد. كما تعرضت ملاذاتها في السودان للتضييق إثر محاولة اغتيال حسني مبارك
بأديس أبابا في عام 1995[25].
مبادرة وقف
العنف بلا قيد ولا شرط
في ظل تلك الأجواء أعلن أمير الجماعة بأسوان
خالد إبراهيم منصور أثناء جلسة محاكمته في مارس 1996 مبادرة تتضمن "إلقاء
السلاح ووقف كل أعمال عنف ضد المسئولين والشرطة والأقباط والسياح في محافظة أسوان
لمدة عام، ولكن لم تحقق مبادرته أي نجاح، إذ لم تحظ بموافقة شاملة من قيادات
الجماعة داخل مصر وخارجها"[26].
وأعقب تلك المبادرة شن عناصر من الجماعة لهجوم دموي على أتوبيس سياحي أمام فندق
أوروبا بالهرم عام 1996 مما أدى لمصرع 18 سائحا يونانيا (كانت الجماعة تظنهم
إسرائيليين)، وهو ما قضى على مبادرة خالد إبراهيم بشكل كامل.
وفي عام 1996م طرأ مستجد جديد ضَغَطَ على قادة
الجماعة التاريخيين، إذ لم يُفْرَج عن المحكومين منهم بالسجن 15 عاما في أحداث عام
1981، وجرى اعتقالهم بعد انتهاء فترة محكوميتهم.
في هذا العام، بحسب رواية القيادي في الجماعة الإسلامية ناجح إبراهيم، وُلدت
فيه فكرة مبادرة وقف العنف، حيث طلبت
الجماعة من الأستاذ الدكتور عبد الحليم مندور المحامي أن يعقد سنة ١٩٩٦ مؤتمرًا
صحفيًا يدعو فيه الجماعة الإسلامية والدولة المصرية إلى وقف الاقتتال بينهما، فإذا
ما أعلن ذلك أصدرت الجماعة بيانًا بالموافقة الفورية، دون قيد أو شرط على وقف
القتال. ولكن لظروف كثيرة لم ينجح الدكتور مندور في عقد هذا المؤتمر، حتى إذا كان
يوم 3 يوليو 1997 فقد جاء الخبر لمجلس شورى الجماعة الإسلامية أن هناك محكمة
عسكرية سوف تبدأ بعد يومين، وسيكون من بين المتهمين الأخ محمد أمين عبد العليم، في
القضية التي كانت تحمل رقم ٥٦ سنة ١٩٩٧، فقام بعض من قيادات الجماعة بتحفيظه عن
ظهر قلب بيان المبادرة الأول، حتى يلقيه على رجال الإعلام المتواجدين عادة في المحاكمات
العسكرية[27].
وثمة
رواية أخرى ينقلها الباحث عبد المنعم منيب –وكان معتقلا لأربعة عشر عاما (1993 –
2007م) مع قيادات الجماعة الإسلامية- تقول أن مبادرة وقف العنف كانت من صناعة كرم
زهدي وحده، ووقف منها بقية القيادات موقف الرفض أو التردد، لكن عبود الزمر أقنع
هذه القيادات أن تظهر الموافقة على المبادرة ليكون الموقف العام أقوى، بدلا من أن
ينفرد بها كرم زهدي وحده فيكون موقفه أضعف، وذلك ابتغاء أن تؤتي ثمرتها[28].
وفي
5 يوليو 1997 أعلن محمد أمين
عبد العليم مبادرة وقف العنف من طرف واحد دون قيد أو شرط عبر البيان الذي حفظه،
وقد جاء فيه: "يناشد القادة التاريخيون للجماعة الإسلامية إخوانهم من قيادات
الجماعة وأفرادها ايقاف العمليات القتالية والبيانات المحرضة عليها داخل مصر
وخارجها دون قيد أو شرط، وذلك لمصلحة الإسلام والمسلمين"، وحمل البيان توقيع
ستة من القادة التاريخيين للجماعة الإسلامية وهم: كرم زهدي، ناجح إبراهيم، عبود الزمر، مجدي عبد الرحمن، فؤاد الدواليبي، علي
الشريف[29].
ويلاحظ في هذا البيان تخلي
الجماعة عن المطالب الستة الشهيرة التي رفعتها أثناء صراعها مع نظام مبارك.
وبعدها توالت الإشارات من الجماعة الإسلامية نحو
السلطة، فقد أصدر مجلس شورى الجماعة بيانا يؤيد فيه قانون إيجارات الأراضي
الزراعية الذي أصدرته الحكومة في الوقت الذي عارضته قوى سياسية أخرى[30].
وقد أحدثت المبادرة ردة فعل داخلية بين صفوف
الجماعة الإسلامية ثم في صفوف الجماعات الإسلامية الأخرى بأكثر مما أحدثته داخل
الطرف المعنيّ به، وهي السلطة المصرية، فقد انقسمت الجماعة الإسلامية مع المبادرة –وتوابعها-
داخل السجن إلى أربعة فرق: فرقة تؤيد، وفرقة تظهر التأييد، وفرقة تسكت وتعتزل،
وفرقة تجاهر بالعداوة، وأما في الخارج فقد رفض المبادرةَ عددٌ من قادة الجماعة خارج البلاد مثل رفاعي طه[31]
ومحمد الإسلامبولي حيث أرادوا ألا تكون مجانية من طرف واحد، بل رغبوا في انتزاع
موافقة من النظام تسمح للجماعة بالعمل السياسي والعام مقابل توقفها عن العمل
المسلح[32].
وتحول هذا الرفض النظري إلى رفض عملي مع تبني رئيس مجلس شورى الجماعة خارج
البلاد رفاعي طه العملية التي نفذها ستة من عناصر الجناح العسكري للجماعة في نوفمبر 1997م على
منطقة الدير البحري بالأقصر مما أسفر عن مقتل 62 شخصا بينهم 58 سائحا و3 من عناصر
الشرطة. وقد هدف هذا الهجوم من منظور رفاعي طه إلى إظهار قدرة الجماعة على توجيه
ضربات شرسة داخل مصر، وإظهار أن مشروع المبادرة لم يخرج من منطلق ضعف وعجز.
جاءت عملية الأقصر في وقت شديد الحساسية، فقد
ظهر للسلطة أن هذه المبادرة أطلقتها قيادات غير راغبة في وقف العمل المسلح وإنما
تبذلها على سبيل المناورة أو حتى هي قيادات غير قادرة على وقف أتباعها، كما سارع
لاستثمارها وتوظيفها أولئك الرافضون لهذه المبادرة ممن لم يعلموا بها أو يُستشاروا
فيها من قيادات الخارج، وكانت عملية بهذا الحجم هي آخر ما ينتظره أو يرغب فيه من
أطلقوا المبادرة سعيا لتحسين الأحوال القاتمة المخيمة على الجماعة الإسلامية داخل
السجون وخارجها.
لكن الجدير بالذكر أن خمسة شهور كانت قد مضت بين إطلاق المبادرة وبين عملية
الأقصر، وفي هذه الشهور الخمسة لم تتجاوب السلطة مع المبادرة ولم تأبه لها أو تحفل
بها، بل على العكس قوبلت المبادرة بالتشكك والاتهام، كما ظهر في موقف الصحافة الحكومية والإعلاميون المقربون
من السلطة، فقد نشرت الأهرام في 18 أغسطس عام 1997م، أي بعد المبادرة بشهر وقبل
عملية الأقصر بثلاثة أشهر، أن سبب المبادرة وهو انقطاع التمويل المالي للجماعة في
الخارج فضلًا عن قوة الجهاز الأمني المصري في ضرب معاقل الجماعة ممّا دفعها
للتحايل والتلاعب بشأن الخروج من السجون بعد خُسران معاركها المسلحة في الخارج[33]،
وكتب الصحافي المقرب من الأجهزة الأمنية كتابه "المخاطرة في صفقة الحكومة
وجماعات العنف" (1998م)، يحذر فيه من "ألاعيب جماعات العنف".
وعمليا فقد استمر النظام المصري في سياسته الأمنية العنيفة، وأقدم على تنفيذ
أحكام بالإعدام بحق 12 من عناصر الجماعة الإسلامية[34]،
وقتل في حادثين منفصلين 8 من كوادرها بمحافظة المنيا في مارس 1998، وهو ما دفع
قائد الجناح العسكري بالمنيا فريد كدواني للرد في 22 مارس 1998م بتنفيذ عملية أسفرت
عن مقتل 4 عناصر من الشرطة، ولم تلبث الأجهزة الأمنية أن تمكنت من قتل كدواني مع
ثلاثة من مساعديه بمداهمة في العمرانية بالجيزة في سبتمبر 1999[35]،
ثم قتلت في أكتوبر 2000م آخر قادة الجناح العسكري للجماعة علاء عبد الرازق عطية.
عند كل حدث من هذه الأحداث كان يُعاد الإشارة إلى المبادرة، إذ يوظفها كل
طرف في تأييد وجهة نظره للاستمرار في المبادرة أو الرجوع عنها، وفي قبولها أو
رفضها، حتى إنه يمكن القول إن عملية الأقصر هي التي أعطت لهذه المبادرة زخما قويا
وجعلتها تحت أضواء النقاش والتناول ومنعتها أن تذهب إلى أدراج النسيان كما هو حال
المحاولات والمبادرات السابقة، ذلك أن المبادرة كانت حاضرة دائما عند الأحداث
التالية.
بدأ الزخم داخل الجماعة الإسلامية نفسها، فلقد اعتبر قادة الجماعة داخل
السجون أن "حادث الأقصر وما ترتب عليه من تداعيات، كان له أثر كبير في تأخير
التفاعل مع هذه المبادرة قرابة السنوات الخمس، قضيناها في محاولة إعادة المصداقية
لدعوتنا لإنهاء الأزمة"[36]،
وأصرُّوا على أن هذا الحادث إنما وقع عن طريق شباب لم تصلهم التعليمات الجديدة من
قيادة الجماعة بوقف العمل المسلح لصعوبة الاتصال بين قيادة الجماعة وسائر عناصرها
لا سيما أولئك المنعزلين في الجبال كما هو حال هذه المجموعة التي نفذت هذا الحادث[37].
وُعدَّت هذه العملية بالنسبة لهم "لطمة عنيفة وصدمة شديدة أفقدتها الوعي أربع
سنوات"[38].
لقد فَجَّرَتْ عملية الأقصر الخلافات العلنية بين قيادات الجماعة الإسلامية،
حيث تمسك رفاعي طه –الرافض للمبادرة- بحادث الأقصر وتبناه قائلا بأنه "لم يكن
انفلاتا ولا إحباطا، بل قامت به المجموعات المكلفة بمثل هذه الأعمال داخل الجماعة.
إن حادث الأقصر جاء كمحاولة من الجماعة لفك أسر قادتها"[39].
لكن على الطرف الآخر وقف القيادي أسامة رشدي المقيم في لندن موقفا مناقضا
فقد نشر بيانا إعلاميا ندد فيه بالحادث قائلا "تدعوني أمانة الكلمة وشجاعة الرأي
لأعلن عن عميق أسفى وحزني لما وقع في الأقصر وسقوط هذا العدد الضخم من الضحايا الأبرياء.
ومهما كانت الدوافع والمبررات فإنه لا يوجد مبرر يدعو لهذا القتل العشوائي الذى يعد
سابقةً لا مثيل لها، ويتناقض تماما مع الأدبيات الشرعية والسياسية للجماعة الإسلامية
التي كانت تستهدف صناعة السياحة وليس السياح الاجانب"، مؤكدا "أن هؤلاء الاخوة
قاموا بعملهم هذا من تلقاء أنفسهم"، بل قال بعد ذلك أن الشيخ رفاعي طه لم يكن
لديه علم بالعملية من الأساس ولكنه وظفها توظيفًا سياسيًا يحطم من خلاله مبادرة
القيادة داخل السجن مع النظام المصري[40].
وعقب هذا
الحادث والتراشقات الإعلامية بين رفاعي طه وأسامة رشدي، أصدر مجلس شورى الجماعة
بالخارج في 8 ديسمبر 1997 بيانا ندد فيه بحادث الأقصر[41]،
واستقال رفاعي طه من منصبه، كما طلبت منه الجماعة سحب تأييده لإنشاء الجبهة العالمية لمواجهة
اليهود والصليبيين في فبراير عام 1998، فانسحب منه. وقد بارك أميرُ الجماعة الإسلامية الشيخ عمر عبدالرحمن
المبادرة عبر بيان أصدره في أكتوبر 1998 بعنوان "واعتصموا بحبل الله جميعا"[42]
وقد رفع هذا البيان من الروح المعنوية لدى قادة المبادرة واستبشروا به خيرًا لما للشيخ
من مكانة عظيمة في قلوب أبناء الحركة الإسلامية في مصر وخارجها، وأصدروا بيانًا
يؤيدون فيه بيان كلمة الشيخ ويوعدون بالنزول عليها وتنفيذ ما جاء بها من وحدة
واصطفاف وحوار، لكن الشيخ عمر عبد الرحمن عاد فسحب تأييده للمبادرة بعد ثلاث سنوات
لاستمرار نظام مبارك في القمع وعدم الإفراج عن المعتقلين[43].
وفي يناير 1999م استقال أسامة رشدي ورفاعي طه ومحمد الإسلامبولي من مجلس شورى
الجماعة بالخارج، ليتولى رئاسته مصطفى حمزة، وعلَّل أسامة رشدي ذلك بأنه لإعطاء
دفعة جديدة من الدماء للجماعة الإسلامية وإن كانت تحفظاته في الإجابة تشير إلى أن
هذه الاستقالة كانت نتيجة خلافات عاصفة داخل قيادة الجماعة[44].
ومن ثَمَّ أصدر مجلس الشورى الجديد في 28 مارس 1999م قرارا بتأييد المبادرة ووقف العمليات
المسلحة داخل مصر[45]،
وحلَّ مصطفى حمزة –الأمير الجديد- الجناح العسكري للجماعة.
أما داخل السجون، فقد عُزل عضوا مجلس شورى
الجماعة عبود وطارق الزمر عن بقية عناصر مجلس الشورى، ونُقلا إلى سجن أبي زعبل،
لرفضهما الشكل الذي بدأ يتحرك به كرم زهدي، والذي يتضمن عدم المطالبة بأي حضور
سياسي أو دعوي للجماعة مقابل مبادرتها[46].
تطور مبادرة وقف العنف إلى المراجعات الفكرية
بعدما دخلت المبادرة في حالة فقدان وعي –بحسب
تعبير كرم زهدي- لأربع سنوات، فُتِح الملف مرة أخرى ولكن في شكل مختلف تماما.
عزا رفاعي طه السبب في تفعيل المبادرة عام 2001م
إلى اعتقاله، وذلك أن رفاعي طه الذي كان مقيما في إيران وينتقل منها باسم مستعار
انكشف أمره لدى المخابرات الأمريكية بينما كان في رحلة خارج إيران مرَّ خلالها
بسوريا، وأوصل الأمريكان المعلومة إلى المخابرات السورية التي ألقت القبض عليه، ثم
سلَّمته إلى النظام المصري في ربيع 2001م، وكان هو آخر من بقي من القيادات الرافضة
للمبادرة في الخارج[47].
بينما يرى طارق الزمر، وهذا الرأي هو ما يسود
بين الباحثين، أن السبب الأهم في تفعيل المبادرة كان وقوع أحداث الحادي عشر من
سبتمبر بما ترتب عليه من فتح ملف "الإرهاب" الذي كان من أهم أوراقه
موضوع: كيف يمكن نزع الأفكار "المتطرفة" من معتنقيها، أو بتعبير صلاح
نصر "غسيل مخ" للإرهابي. يقول طارق الزمر أن الحوار الذي جرى بين مكرم
محمد أحمد –الصحافي المقرب من السلطة المصرية- وبين توماس فريدمان –الصحافي المقرب
من الجمهورين الأمريكان- في أمريكا كان هو بذرة تفعيل المبادرة، وذلك أن توماس
فريدمان واجه مكرم محمد أحمد بأن أنظمة الشرق الأوسط الديكتاتورية هي التي تصنع
الإرهابيين بما تسببه من إحباط وقهر وإذلال، وفهم مكرم محمد أحمد أن هذا إشارة إلى
تغير الموقف الأمريكي من مساندة الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط، ودافع عن
موقف السلطة المصرية بأن لها تجربة رائدة في نزع الأفكار المتطرفة من معتنقيها،
وما إن عاد إلى مصر حتى ذهب من المطار إلى حسني مبارك، ثم من حسني مبارك إلى السجن
ليبدأ التجاوب مع مراجعات الجماعة الإسلامية[48].
وقد ذكر كرم زهدي أن تفعيل المبادرة بدأ في شهر أكتوبر 2001م[49]، وهو ما يعني أن أحداث
سبتمبر كانت بمثابة طوق النجاة لمبادرة
الجماعة.
إلا أن مبادرة الجماعة بوقف العنف قد تطورت كثيرا بعد التفعيل، فلم تعد
توقفا عن المواجهة المسلحة مع الدولة، كما يمكن أن يحدث لأي مجموعة مسلحة في ظروف
عصيبة كنوع من الهدنة أو حتى الاستسلام، إنما سارت المبادرة لتكون بذرة أولى في
سلسلة مراجعات فكرية وعمليات توبة جماعية تتخلى عن كل الأفكار التي اعتنقتها طوال
الفترة الماضية، وتنقدها وتعتنق الأفكار المعاكسة لها، وتدعمها بالتأصيلات
الشرعية.
نقضت الجماعة الإسلامية أفكارها المتعلقة بالحاكمية والجهاد والحسبة، وأعلنت
التخطئة والتحريم لكافة أشكال الخروج على الحكام بدءا من خروج الحسين بن علي رضي
الله عنهما على يزيد بن معاوية، وابن الأشعث وسعيد بن جبير على عبدالملك بن مروان
وصولا إلى خروج الجماعة الإسلامية على السادات[50]،
وذلك أنهم راجعوا آية {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} فوصلوا إلى
القول بأن المقصود هنا بالكفر هو الحاكم الذي يرى أن حكم الله لا يصلح، بينما
الحاكم الذي لا يقول هذا فهو حاكم مسلم حتى لو لم يطبق الشريعة، وهذه الحالة هي
التي تنطبق على الحاكم في مصر، إذ هو لا يقول أبدا بأن حكم الله لا يصلح[51].
وفيما يتعلق بالجهاد فقد وصلوا إلى قناعة تقول بأنه وسيلة وليس غاية،
فالغاية هي الهداية، وحيث كان يمكن الوصول إليها بغير الجهاد فلا حاجة إلى الجهاد
ومن ثم فالدعوة هي الأساس لتحقيق الهداية في مصر، لا سيما وقد اتضح أن
"القتال الذي حدث تسبب في انقسام الأمة وأضر بمصالح المجتمع ولم يحقق نفعا
للناس، وبالتالي يصبح عملا يغير معنى، ويصبح محرما شرعا"[52]،
وذلك أن "القتال الذي حدث في التسعينات كان لرفع بعض المظالم التي حدثت،
وللإفراج عن المعتقلين من الجماعة الإسلامية، ولوقف بعض الممارسات العنيفة في
السجون والمعتقلات، وإطلاق حرية الدعوة إلى الله.. فماذا كانت النتيجة؟.. زاد عدد
المعتقلين من ألفين إلى عشرين ألفا، وحكم على العشرات بالإعدام ونُفذ فيهم، وحُكم
على مئات بأحكام مختلفة، وتحولت المحاكم من مدنية إلى عسكرية، وضاعت دعوة الجماعة
الإسلامية بالكلية بل كادت تضيع الدعوة إلى الله بالكلية.. وزاد البلاء في السجون،
وخاف كل شاب من ارتياد المساجد"[53]،
وهكذا رأى قادة الجماعة أنهم "مدينون لمصر باعتذار علني عن إثم كبير أساء
لمعنى الجهاد، وأحدث ضررا بالغا أصاب المجتمع المصري نتيجة فهم قاصر للدين"[54].
وامتدت انتقادات قيادات الجماعة الإسلامية لتشمل تنظيم القاعدة، في سياق
النفي التام لوجود أية علاقة بين الطرفين، والتبرؤ من مشاركة رفاعي طه في الإعلان
عن تحالف الجماعة مع تنظيم القاعدة وغيره من التنظيمات الجهادية في تأسيس الجبهة
العالمية لقتال الصليبيين واليهود (1998م)، التي أكدوا على أنها كانت تصرفا فرديا
منه وأن الجماعة أجبرته على إعلان الانسحاب في نفس العام[55].
وكذلك طالت انتقادات قادة الجماعة الإسلامية الملا محمد عمر زعيم حركة طالبان
الأفغانية، حيث وصفوه بأنه لا يصلح كقائد لافتقاده للحس السياسي والعقلية
الاستراتيجية[56].
وقد استفاض المحاورون في اختبار أفكار القيادات الجديدة، ووجهوا الأسئلة نحو
موضوعات الأقباط والأقليات والمرجعيات الفكرية مثل ابن تيمية وأبي الأعلى
المودودي، وما ينبغي أن يكون عليه لباس المرأة وحجابها، ولباس الرجل، وغيرها من
الموضوعات، وجاءت الإجابات إما بالنفي أن تكون الجماعة قد اعتنقت أفكارا متشددة من
الأصل في بعض القضايا، أو أنها اعتنقتها والآن تتراجع عنها وتصححها.
أكّد قادة الجماعة الإسلامية على أن هذه المراجعات الفكرية التي أعلنوها
تحفظ دماء الأمة، وتقوي كيانها في مواجهة محاولات إسرائيل للسيطرة السياسية
والاقتصادية والعسكرية على المنطقة[57]،
وكان من أبلغ المواقف التي تدل على هذا التحول في الموقف والتمسك بالموقف الجديد تعهد
بعضهم بإبلاغ الشرطة عن أي عنصر من الجماعة يعمل على إفساد المبادرة[58].
وبالجملة فقد دارت مراجعات الجماعة الإسلامية على قسمين كبيرين؛ الأول:
مراجعات في الرؤية الشرعية، والثاني: مراجعات في الرؤية الواقعية، أو بتعبير ناجح
إبراهيم: الفتوى والجدوى، حيث الفتوى هي التأصيل الشرعي، والجدوى هو فهم الواقع
لتنزيل النص المناسب عليه[59].
ظهرت هذه المراجعات في مجموعة من المؤلفات بدأت بالصدور في يناير 2002م
بأربعة كتب تحت عنوان "سلسلة تصحيح المفاهيم" وهى:
§ مبادرة وقف العنف: رؤية واقعية ونظرة شرعية
§ تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء
§ حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين
§ النصح والتبيين في تصحيح مفاهيم المحتسبين
وقرر قادة الجماعة إن الأفكار المطروحة في هذه الكتب الجديدة تلغي كل ما
يناقضها من كلام سابق أو ممارسات مخالفة[60].
وبالإضافة إلى كتب المراجعات، فقد أجرى الصحافيان مكرم محمد أحمد وعبد
اللطيف المناوي، وكلاهما من المقربين إلى السلطة المصرية عددا من الحوارات مع قادة
الجماعة داخل السجون، فقد أجرى مكرم محمد أحمد أربع حوارات بمجلة المصور[61]،
وأجرى المناوي حوارين[62]
في عام 2003 مع رئيس مجلس شورى الجماعة كرم زهدي وصف خلالهما السادات بالشهيد. وفي
هذه الحوارات طُرِحت الأسئلة من قبل الصحافييْن كأنهما عناصر تحقيق أمني، بل إن
مكرم محمد أحمد لم يحاول تلطيف هذا الواقع[63]،
وجاءت إجابات القيادات كما لو كانوا متهمين، وبقدر ما حرص على الصحافي على الضغط
التام لاستخلاص الإجابة المطلوبة التي تمثل الاعتراف بالتوبة المطلقة والندم
المطلق بقدر ما جاءت الإجابات لتحقق هذه الغاية.
وفيما بعد تلاحقت إصدارات الجماعة لتركز بعضها على نقد تنظيم القاعدة، مثل:
§ نهر الذكريات: المراجعات الفقهية للجماعة الإسلامية
§ تفجيرات الرياض: الأحكام والآثار
§ استراتيجية القاعدة: الأخطاء والأخطار
ولكن قادة الجماعة الإسلامية في الخارج ممن أتيح للباحث استطلاع آرائهم
لإعداد هذه الدراسة يؤكدون أن الكتب الأربعة الأولى هي التي تعبر عن رأي الجماعة،
أما ما سواها فلا يعبر إلا عن أصحابه، مع الاعتراف بأن بعض الأسماء التي كتبت على
هذه الكتب الأخرى لم تشارك فيها، لا سيما كتاب "نهر الذكريات" الذي كتبه
كرم زهدي وحده، وكذلك بقية كتب ناجح إبراهيم[64].
ومنذ يناير 2002، أي منذ صدور الكتب الأربعة الأولى، سمحت الأجهزة الأمنية
بدءا من يناير 2002 لقادة الجماعة البارزين بالتطواف على السجون والمعتقلات للقاء
كوادر الجماعة، وشرح الأفكار الجديدة لهم بشكل مباشر وجها لوجه، وللإجابة عن
تساؤلاتهم. واستغرقت تلك الجولات قرابة العشرة شهور، حيث بدأت من سجن الوادي
الجديد ثم شملت سجون الفيوم والعقرب واستقبال طرة وأبوزعبل ووادي النطرون لتنتهي
بسجن دمنهور[65].
وتزامن مع تلك المستجدات تحسين المعاملة داخل السجون من خلال إيقاف التضييق
على المعتقلين والمسجونين السياسيين، والسماح بتلقي العلاج وإدخال الأدوية،
والموافقة على أداء الطلبة للامتحانات الجامعية، وتحسين كميات الطعام، وفتح
الزيارات حيث سمحت الأجهزة الأمنية للمعتقلين برؤية أهلهم والجلوس معهم وجها لوجه
لأول مرة منذ سنوات عديدة[66].
وعبر السنوات التالية تتالت المؤلفات التي دعمت
التوجه الجديد "بالتأصيل الشرعي والفكري للمنهج السلمي في التعامل مع الواقع
من خلال إصدار عدد خمسة وعشرين كتابًا للتأكيد على مفاهيم الإسلام الوسطي الذي
يرفض التكفير والصراع... ثم تبعت ذلك وعبر عشرين عاما بترسيخ هذا التوجه السلمي من
خلال مواقف واضحة رافضة لأحداث العنف التي وقعت خلال هذه الفترة الطويلة داخليًا
وخارجيًا، وهذا يعني أننا أمام موقف راسخ تم تأصيله شرعًا، والتزمته الجماعة طوال
هذه الفترة الطويلة"[67].
يؤكد قادة الجماعة أن مراجعاتهم هذه لم تكن بحثا
عن سبيل للنجاة، ولم تكن مناورة سياسية، ولم تكن تأثرا بظروف السجن والتضييق، ولم
تكن صفقة مع السلطة جنوا من خلالها أي مقابل، إذ "هل يُقال لك احصل على مقابل
لموقفك الصحيح.. ليس هناك مقابل سوى مرضاة الله... والصفقة لا تكون في أمور الدين...
لو بقينا في السجن حتى نهاية عمرنا فلن نتزحزح عن موقفنا الثابت والداعي إلى نبذ
العنف لأننا لا نطلب مقابل لمبادرتنا من أحد سوى الله"[68]، وإنما هي "قناعة فكرية
وشرعية تامة، بعد مراجعة استمرت 16 عاما... (حيث) أن السجن مكان جيد للقراءة
والمراجعة الفكرية والمناظرة"[69].
كانت قيادات الجماعة الإسلامية حريصة على بيان
أن جميع قياداتها قد تحولت فكريا، وجميعهم قد صاروا معتنقين لهذه الأفكار الجديدة،
لذلك فإن الأسماء التي صدرت الكتب باسمها أو شاركت في الحوارات كانت تضم سائر القيادات المعروفة: كرم زهدي وهو أمير الجماعة، ناجح
إبراهيم، على الشريف، فؤاد الدواليبي، حمدي عبد الرحمن، عبود الزمر، أسامة حافظ،
عصام دربالة، عاصم عبد الماجد، حسن خليفة، غريب الشحات، أحمد عبد القادر بكري،
شعبان هريدي[70].
المسافة بين
المبادرة والمراجعات
لمرة أخرى تفجر المراجعات الموقف داخل الجماعة الإسلامية بأكثر مما زحزحت
الموقف الرسمي للسلطة المصرية، وبدا هذا الأمر واضحا في مواقف قيادات الجماعة
بالخارج التي كانت رافضة لمبادرة وقف العنف من البداية، ولكن الجديد أن أسامة رشدي
القيادي بالجماعة ومتحدثها الرسمي سابقا والذي كان مقيما في لندن وكان مؤيدا
للمبادرة هاجم هذه المراجعات هجوما عنيفا، وتكرر التراشق بينه وبين قيادات الجماعة
داخل السجون.
انطلق أسامة رشدي في موقفه من هذه المسافة الكبيرة بين المبادرة التي هي وقف
للعمليات المسلحة وبين المراجعات التي هي عملية تتويب جماعي عن سائر الأفكار
والأسس التي قامت عليها الجماعة الإسلامية منذ البداية، فقد رأى أسامة رشدي أن هذه
الحوارات هي استنزاف لسمعة الجماعة وتشهير بهم، وأنها عملية تأديب وإذلال تقوم بها
السلطة لهؤلاء القادة عبر الأدوات الإعلامية التي تدفعهم إلى جلد الذات، ووصفها
بالتتويب الجماعي، وأن هذه الحوارات لا تفيد أحدا ولا تؤدي إلى تعزيز المبادرة، بل
هي كفيلة أن تحرج هذه القيادات وتجردهم من مكانتهم وسمعتهم بين الشباب الإسلامي في
الجماعة الإسلامية وفي غيرها من الجماعات بحيث لا يعود لكلامهم قيمة ولا معنى عند
أحد. وأعاد التأكيد على أن هذه المراجعات بهذا الشكل لا توصل إلى الحل المنشود
الذي أرادت أن تصل إليه المبادرة، وذلك أن المبادرة حاولت توفير الأجواء المناسبة
التي تُحلّ فيها المشكلات القائمة والمعقدة والتي لها روافد سياسية واقتصادية
واجتماعية وثقافية ولكل الأطراف فيها نصيب من الخطأ، بينما المراجعات ليست إلا
اعترافا من طرف واحد بالخطأ والندم والتراجع، وتقديم اعتذار للطرف الآخر دون أن
يجد من يقدم له اعتذارا أو يعوضه عما أصابه من القتل والسجن والتنكيل. ووصف أسامة
رشدي هذه المراجعات بأنها مثل محاكم التفتيش الكاثوليكية في القرون الوسطى، حيث
يؤتى بالمعتقل ويُمتحن على ما فيها من أفكار، فمن قبل بها وُسِّع عليه داخل السجن،
ومن لم يقبل تعرض للتضييق والتهديد والوعيد، وضرب مثلا بأحد مؤسسي الجماعة وهو
صلاح هاشم الذي كان قد أُفرج عنه وحمل لواء الدفاع عن المبادرة ولكنه لما صدرت
المراجعات كان له عليها بعض التعليقات البسيطة فأعيد اعتقاله وسجنه مرة أخرى.
وانتهى أسامة رشدي إلى الهجوم على كرم زهدي، فطالبه بالتنحي عن إمارة الجماعة
طالما أنه يعترف ويقر بكل هذه الأخطاء المنهجية والاستراتيجية التي ارتكبتها قيادة
الجماعة تحت مسؤوليته، وعليه أن يترك القيادة لجيل جديد. وردا على هذا فقد كتب كلٌ
من: صفوت عبد الغني وممدوح علي يوسف رسالتين شديدتي اللهجة يهاجمان فيها أسامة
رشدي، ويطلبان منه السكوت أو النصح بأدب ومن داخل صف الجماعة، هذا لو أنه لا يزال
يرى نفسه عضوا فيها[71].
أما بقية
القيادات التي كانت رافضة للمبادرة، فقد صحَّ ظنها من أن المبادرة بهذا الشكل لم
تكن إلا خطوة أولى في سلسلة التنازلات التي وصلت الآن حدا انقلبت فيه الجماعة على
نفسها ومبادئها جميعا، وكان هذا هو فحوي ما أصدروه من مواقف وإن تباينت درجة
الدبلوماسية في التصريح، فقد نشر محمد شوقي
الإسلامبولي بياناً قال فيه: "لا يحق لإخوة السجن -مع شدة تقديري لمكانتهم- أن
يتخذوا مثل تلك القرارات الهامة في تاريخ الجماعة من تراجعات فكرية، دون مشورة من إخوانهم
في الخارج، ودون موافقة من الدكتور عمر عبد الرحمن أمير الجماعة، وبناءً عليه فأقول
وأنا مطمئن، إن التصريحات التي أدلت بها قيادات السجن تعبر عن أصحابها ولا تعبر عن
الجماعة"[72].
ومن جهة أخرى أصدر عضو الجماعة الإسلامية محمد الحكايمة[73]،
وهو يقيم بين أفغانستان وباكستان، عدة بيانات نَدَّدَ فيها بالمبادرة قائلا
"إننا لو تتبعنا مراحل وسلم التنازلات والتراجعات التي حدثت من هؤلاء الإخوة المتراجعين،
نجد أن الأمر كان في البداية عبارة عن مجرد هدنة لوقف القتال، ثم تطور هذا الموقف إلى
تصريحات وبيانات قرر فيها الإخوة أنهم لن يرجعوا إلى الجهاد في سبيل الله مرة أخرى،
ثم بعد ذلك أَصَّلُوا هذه التراجعات في أبحاث شرعية خالفوا فيها الفكر والمنهج الأساسي
للجماعة، ثم بعد ذلك صرَّح كبار الإخوة ببيانات متكررة لكل عملية من عمليات المجاهدين؛
أنها لا تجوز شرعاً، ثم طوروا هذه البيانات إلى أبحاث شرعية، حتى وصل بهم الأمر إلى
القول بعدم جواز قتال اليهود والنصارى في أي مكان في العالم في عصرنا الحالي"[74].
ثم قال الحكايمة في بيان أصدره في ربيع
الآخر عام 1427 هجريا موقعا إياه باسم المكتب الإعلامي لتنظيم القاعدة في أرض الكنانة
"بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن الثابتين على العهد من أعضاء الجماعة الإسلامية
المصرية الثابتين على منهج وخط الجماعة الأصيل، الذي يأبى المداهنة أو الركون... أُعلن
انضمام الثابتين على العهد من الجماعة الإسلامية إلى تنظيم قاعدة الجهاد".
ولكن لم تلق جهود الحكايمة تجاوبا من عناصر الجماعة داخل مصر. ولم يلبث أن قُتل
الحكايمة بغارة أمريكية على منطقة وزيرستان
القبلية بباكستان في عام (2008)[75].
كيف استُقْبِلَت
مراجعات الجماعة الإسلامية؟
فيما عدا موقف السلطة المصرية من المبادرة والمراجعات، ليس ثمة مفاجآت غير
متوقعة في استقبال الأطراف الأخرى لمراجعات الجماعة الإسلامية؛ وذلك أنها –أي
الجماعة الإسلامية- كانت محسوبة ضمن التصنيف الجهادي الذي يقترب مع التنظيمات
الجهادية الأخرى كجماعة الجهاد المصرية والتي اندمجت في تنظيم القاعدة فيما بعد، وهذا
التصنيف الجهادي يبتعد في نفس الوقت عن الجماعات السياسية والدعوية كالإخوان
المسلمين والتيار السلفي وجماعات التبليغ والجمعية الشرعية ونحوها، ويصل هذا
الابتعاد إلى حد العداوة والهجوم، إلا أنه في نهاية الأمر عداءٌ قليل إذا ما قورن
بالموقف العلماني السائد في وسائل الإعلام والصحافة والنخبة الثقافية المصرية.
ومن هنا مثَّلت مراجعات الجماعة الإسلامية صدمة شديدة الوقع على التنظيمات
الجهادية الأخرى، وتعددت ردود الأفعال الجهادية ضد هذه المراجعات، كالتي صدرت عن
أيمن الظواهري وهاني السباعي وياسر السري، وكان من بينها البيان الذي أصدره أبو
حمزة المصري –الجهادي المقيم في لندن آنذاك[76]-
وكان بمثابة الرد على مواقف الجماعة التي أدانت فيها عمليات تنظيم القاعدة في الدار
البيضاء والرياض، فاتهمهم أبو حمزة المصري بأنهم اشتروا الحياة الدنيا واختاروا
تخفيف معاناتهم وتحسين أوضاعهم داخل السجن، وهو الأمر الذي ردَّ عليه قادة الجماعة
على لسان عصام دربالة وهشام عبد الظاهر بلهجة لا تقل حدة وعنفا، مؤكدين في هذه
البيانات وفي غيرها من الحوارات أنهم ما أصدروا تلك المبادرة إلا مرضاة لله ورجوعا
للصواب، وأن أوضح دليل على ذلك أنهم ما زالوا قابعين في السجن بالرغم من انتهاء
مدة عقوبتهم[77].
وأما الإخوان المسلمون والتيار السلفي والجماعات الدعوية الأخرى فقد لقيت
هذه المراجعات ترحيبا منهم، واعتبروها دليلا على صحة توجهاتهم ومواقفهم وسياساتهم
السلمية غير المناهضة للسلطة، وأَمَّلوا في أن تكون هذه المراجعات طَيًّا لصفحة من
الماضي الأليم، وسعوا لتوظيف هذه المراجعات ضمن سياقهم الذي يطالب بفتح المجال
العام للنشاط الدعوي السلمي المعتدل، وبالمعالجة الجذرية للمشكلات التي تدفع
الشباب للتطرف والتي تتنوع بين مشكلات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية،
والتوقف عن السياسة الأمنية الباطشة للنظام المصري.
وإذا انتقلنا إلى خارج دائرة الجماعات الإسلامية، فسنجد أنفسنا إزاء المواقف
شبه الرسمية، وهي مواقف تعبر عن السلطة لكن من خلال أدواتها غير الأمنية، وهذه
المواقف تنقسم إلى اتجاهين؛ الأول: موقف الأزهر باعتباره المرجعية الدينية للدولة،
وموقف الأزهر لا سيما فيما يتعلق بالأمور السياسية والأمنية لا يمكن تفسيره خارج
موقف السلطة. والثاني: موقف النخب الثقافية وهي التي يهيمن عليها التوجه العلماني
وتسيطر على الصحافة ومنافذ الإعلام. فأما الأزهر فقد أصدر أربعة تقارير فاحصة
لمحتوى الكتب الأربعة الأولى من المراجعات، وأقرَّ ما فيها، ولم يعلق سوى على
أخطاء لغوية ولفظية بسيطة، وانتهى إلى إجازته نشر هذه الكتب، مع أن الأزهر في مصر
ليست لديه الصلاحية لمراقبة الكتب لا قبل نشرها ولا بعده، ولكن هذه التقارير منحت
ما يشبه أن يكون صبغة شرعية دينية لهذه المراجعات[78].
وأما النخبة الثقافية فقد واجهت هذه المراجعات بالتشكك والاتهام والتحذير من أن
تكون هذه المراجعات من المناورات والحيل التي تستهدف إطلاق سراح المسجونين من
الجماعات الإسلامية لاستئناف نشاطهم مرة أخرى، وتحولت صفحات الصحف والمجلات إلى ما
يشبه أن يكون محاكم تفتيش جديدة تبتكر أساليب الاعتذار والاعتراف بالخطأ وإعلان
الندم وتقديم التعهدات والضمانات المشددة الدالَّة على صدق هذا التوجه الجديد.
وأما موقف الجهاز الأمني المصري، فقد تمثلت المفاجأة فيه في أنه لم يأبه
بمبادرة وقف العنف إلا بعدها بأربع سنوات، وهي التي سماها كرم زهدي السنوات التي
فقدت المباردة فيها وعيها، بينما بدأ التفاعل معها بعد أحداث سبتمبر، وتخطئ العديد
من الدراسات العربية والغربية التي تتحدث عن أن السلطة المصرية سارعت باستثمار
الفرصة السانحة "لتنفيذ
برنامجها لاجتثاث التطرف على القادة والأفراد المحتجزين"[79].
ومع هذا فإن التفاعل الذي جاء من قبل الجهاز الأمني لم يكن تفاعلا مع مبادرة
وقف القتال بل تطور إلى المراجعات الفكرية، فمنذ أكتوبر 2001 بدأت
تُنَظَّم رحلات لقيادة الجماعة الإسلامية إلى كافة السجون المصرية ليشرحوا فيها
مراجعاتهم الفكرية للمعتقلين، ويتولون مهمة مناقشة وإقناع عناصر الجماعة الإسلامية
بالأفكار الجديدة. وبدأت الرحلة من سجون مجمع طرة مرورًا بسجن وادي النطرون وصولًا إلى سجن
دمنهور، وكانت تنقلات القيادة الفكرية للجماعة دون أي ضغط أمني، بل سمّاها قادة
الجماعة برحلات السجون في سردياتهم المكتوبة في كتاب نهر الذكريات[80]،
وكان نقل القيادات إلى السجون في أتوبيسات وعربات سياحية فاخرة دون قيد أو أي شكلٍ
مُهين بحسب مصدر أمني[81].
في هذه الرحلات تولى القادة عبر جلسات مفتوحة في قاعات للحوار جُمِع فيها
نزلاء المعتقلات بيان المراجعات الفكرية وشرح دوافعها والأدلة الشرعية التي
استندوا إليها، وأجابوا عن الأسئلة المطروحة عليهم من شبابهم، ويؤكد قادة الجماعة
في روايتهم الموجزة جدا عن هذه الحوارات أنها كانت مفيدة ومهمة ومفعمة بالمشاعر
الفياضة وأن أبناء الجماعة استقبلوها بالقناعة والترحاب إلا في حالات نادرة[82].
من
الكاسب من المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية؟
يتفق قادة الجماعة
الإسلامية مع السياسيين المصريين في أن هذه المراجعات الفكرية كانت مكسبا لجميع
الأطراف، بينما يسود الجدل داخل الساحة الفكرية ولا سيما الإسلامية فيما إن كانت
هذه المكاسب نتيجة فوز ساحق حققته السلطة وجهازها الأمني على الجماعة أفضى بها إلى
الندم والاعتراف بالخطأ، أم أنها كانت نتيجة تعامل سياسي حكيم قاده حكماء داخل
جهاز الأمني المصري للقضاء على أفكارٍ وعناصر كان يمكنها فيما لو تجري هذه
المراجعات أن تسبب خسائر فادحة جديدة في جولات جديدة وفي ظرف ساخن ملتهب تعيشه
الساحة الإقليمية والدولية.
فلئن كان يمكن
القول بأنه فوز ساحق للسلطة على الجماعة عبر السنوات الأربعة بين 1997 و2001م،
فقد شهدت فترة ما بعد سبتمبر صعودا قويا للتيار الجهادي، بدأ مع الانتفاضة
الفلسطينية الثانية (2000م) وأحداث سبتمبر (2001م) ثم غزو أفغانستان (أكتوبر
2001م) ثم
اشتعال الوضع في فلسطين (2002م) مع سياسات شارون ونمو المقاومة
الفلسطينية، ثم غزو العراق (مارس
2003م) ثم اغتيال
الصف الأول من القيادات الفلسطينية الرئيسية (2004م)، ثم المقاومة العراقية (2005م)، ثم
حرب لبنان (2006م)، ثم
فوز حماس بالانتخابات الفلسطينية (2006م) بعد تحرر غزة (2005م) ثم الحسم العسكري في غزة (2007م) ثم
سلسلة الحروب الإسرائيلية على غزة. وهذا
بخلاف موجة مبايعات العديد من الجماعات الإسلامية عبر العالم لتنظيم القاعدة، الذي
أعلن منذ (1998م) تأسيس
"الجبهة
الإسلامية لمقاومة اليهود والصليبيين"، وبخلاف موجة العمليات التفجيرية ضد المؤسسات
والمنشآت الغربية في السعودية والمغرب. في ظل هذه الأوضاع المشتعلة يكون
التجاوب مع مراجعات الجماعة الإسلامية هو عمل حكيم قامت به سلطة في وضع مضطرب
لتتجنب انزلاق الوضع داخل البلاد.
وبغض النظر عن
الآن عن توصيف ما حدث، فسنحاول هنا بيان حصاد هذه المراجعات، فإذا نظرنا إلى
المكاسب التي عادت على السلطة المصرية: نظام
مبارك ثم نظام عبد الفتاح السيسي فيما بعد، فسنجد أن السلطة المصرية حققت هذه
المكاسب:
1. لقد كانت السلطة
تخسر من عناصرها وكوادرها، وسمعتها المحلية والإقليمية والدولية، حتى لو كانت هذه
الخسارة لا تقارن بما تخسره الجماعة الإسلامية، وبحسب بعض التقارير الأمنية فقد قُتِل المئات من رجال الشرطة والمدنيين، بلغ
306 قتيل من المدنيين المصريين و97 من السائحين الوافدين و471 من أفراد الجماعة
و401 من أفراد الشرطة بين عامي 1992 و1997م[83]،
وقد شهد عام 1996، وهو العام السابق لإعلان المبادرة، تراجعا في نسبة العمليات
المسلحة بنسبة 50%، وهو التراجع الذي سجل ما يقرب من 100 عملية سقط خلالها 180
قتيلا من عناصر الشرطة والجماعة والأهالي[84].
وهذه الأرقام هي ما تدفع الباحثين للاختلاف حول ما إذا كان الانخفاض الحاد
في العمليات بعد 1997 كانت نتيجة لمبادرة وقف العنف أم نتيجة للتفوق الأمني الذي
استطاع تصفية الجهاز العسكري للجماعة الإسلامية؟
ولكن في كل الأحوال، فلقد كان تجاوب السلطة مع مراجعات الجماعة الإسلامية
فيما بعد تجفيفا لفكر المقاومة المسلحة في عقول الآلاف من أفراد الحركة الإسلامية
وقتئذٍ عن اقتناع يتفاوت نسبته بين الكامل والناقص. وبعض الباحثين يُقدر هذا العدد
بخمسة عشر ألفا تمكنت المبادرة من إزالتهم من معسكر مؤيدي القاعدة وحلفائها[85].
ولذا، فقد عمل نظام مبارك على طباعة وتوزيع كتب المراجعات مجانا في العديد من
المساجد والأندية.
وحيث ساهمت المراجعات في التحسين التدريجي لأوضاع المعتقلين داخل السجون،
فقد ظهر نظام مبارك وكأنه يقوم بإجراء إصلاحات ديموقراطية ويراعي حقوق الإنسان،
وكان النظام ساعتئذ محتاجا إلى هذه السمعة، فقد كانت أمريكا ترى أن الإجراءات
القمعية للأنظمة العربية ساهمت في تأجيج الأفكار الجهادية والعنيفة، مما ساعد على
وقوع أحداث 11 سبتمبر، وهو ما دفع واشنطن آنذاك لممارسة ضغوط على الأنظمة العربية
لزيادة رقعة الحريات.
2. أتاحت مراجعات قادة الجماعة الإسلامية من حيث التأصيل الشرعي توظيف عدد
كبير من الشباب، داخل السجن وخارجه، نحو العمل الدعوي بعيدًا عن المقاومة المسلحة،
وأمكن تحويل الجماعة الإسلامية بأفكارها الجهادية وقادتها التنظيريين وأفرادها
المتعطشين للجهاد إلى حركة تأمَل أن تعمل ضمن برنامج حركات الإسلام السياسي داخل
المجتمع المصري كالإخوان المُسلمين مثلًا. ومن ثَمَّ عملت طاقة الجماعة الإسلامية
في تبريد الساحة الإسلامية المصرية ومنعها من الانزلاق نحو المسار الإسلامي العام
الذي يشهد نموا جهاديا.
لقد حَوَّلت هذه المراجعات الجماعة الإسلامية من خصم شرس للسلطة المصرية إلى
خصم شرس للتنظيمات المسلحة، وساهمت في صناعة رأي عام يحاصر ظاهرة الأفكار الجهادية،
ويكتسب هذا التحول أهميته البالغة من أن الجماعة هي أكبر تنظيم خاض مواجهات
مسلحة لمدة قاربت 18 عاما مع النظام
الحاكم في مصر خلال القرن العشرين، وتراجعها عن أفكارها ومسارها يعني عدم صحة هذا
المسار شرعا، وعدم جدواه واقعا. وقد ظهر في كلام قيادة الجماعة استعدادهم للقيام
بهذا الدور إقليميا وعالميا، كما قال علي الشريف: "لابد أن نصل بكل شباب
التيار الإسلامي إلى قناعة داخلية تتمثل بأن القتال مع الحكومة يجلب مفاسد ضخمة،
ولن نقتصر على بيان ذلك في مصر وحدها، بل سيكون هذا الفكر الجديد إقليميا
وعالميا"[86].
كما أضاف الصحفي المقرب من نظام مكرم محمد أحمد قائلا "ما من شك في أن هذا
التحول الفكري الذي عبر عنه قادة الجماعة.. سوف يكون له تأثيره المهم على بنية
الجماعة ومستقبلها التنظيمي، وسوف يكون له تأثيره الأهم على بنية وتوجهات جماعات
أخرى، خصوصا الجهاد التي يكاد يخلص قادتها إلى النتيجة نفسها، أما تلك الجماعات
المتشظية التي تتمثل في دوائر تنظيمية صغيرة تتنافس على التطرف والتشدد فهي
كالعوالق تختفي إن اختفى الأصل والأساس"[87].
3. بهذا التجاوب مع المراجعات، وبهذه التجربة التي أعلن فيها تنظيم جهادي
مسلح تراجعه عن أفكاره وتبنيه الأفكار المناقضة، حصل النظام المصري على قصب السبق
والريادة في الإشراف على تنفيذ إحدى أكبر تجارب التحول الفكري للجماعات الجهادية،
وبالأخص مع إدراج أميركا (مايو 2002م) للجماعة الإسلامية كمنظمة إرهابية ذات علاقة
بتنظيم القاعدة[88]،
وقد انعكست الريادة المصرية واقعيا في استنساخ العديد من الدول للتجربة المصرية
كما في حالة السعودية واليمن وليبيا وماليزيا واندونيسيا.
4. وعلى المدى البعيد، فقد حققت السلطة المصرية مكسبًا آخر فيما بعد
الانقلاب العسكري (3 يوليو 2013م)، بقيادة عبد الفتاح السيسي، فقد تفجرت موجة
جديدة من المقاومة المسلحة في مصر إما على يد بعض المجموعات القريبة أو المنشقة من
الإخوان المسلمين أو من الجماعات الجهادية الأخرى، وحقق بعضها صعودا قويا وسيطرة
على مساحات من سيناء مثل ولاية سيناء التابع لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)،
واستطاع بعضها تحقيق عمليات نوعية مثل اغتيال النائب العام وقيادة عسكرية عليا من
الصف الثاني (رجائي عطية) ونخبة من قوات الأمن الوطني (عملية الواحات)، ومحاولات
عدة استهدفت وزير الداخلية والرئيس المصري. ومع هذه الأوضاع الملتهبة فلم تتطرق
الجماعة الإسلامية مرةً أُخرى للعنف بل على العكس تماما، وبالرغم من تصنيف النظام
لامصري لها كجماعةٍ إرهابية[89]
إلا أنها تمسكت بإلحاح بمواقفها الجديدة التي تعلن فيها النبذ الكامل لكل أشكال
العنف، وتبني تتبنى الحلول السلمية، بل وتحاول التوصل مرةً أخرى حيال عودتها
لممارسة نشاطها الدعوي والسياسي كما أشار الرئيس السابق لحزب البناء والتنمية طارق
الزُمر[90]
مستنكرًا عقلية النظام المصري ونظرته العدائية
تجاه الجماعة الإسلامية.
وأما إذا نظرنا من زاوية الجماعة الإسلامية، فسنرى عددا من المكاسب حققتها
الجماعة الإسلامية، مع تأكيدهم التام على أن هدفهم بهذه المراجعات لم يكن تحقيق
مكاسب دنيوية وإنما كان الأمر محض مراجعة فكرية ابتغاء مرضاة الله، ودليلُ هذا
أنهم تخلوا عن مطالبهم الستة، وأنهم طرحوا المبادرة من جانب واحد دون تنسيق أو
انتظار لموقف السلطة، ومع هذا فإن بعض المكاسب الدنيوية تحققت، وهذا ما يعنينا
الآن.
ولكن يجب أن يكون واضحا أن المكاسب التي حققتها السلطة من هذه المراجعات قد
بدأت منذ عام 1997 عند إطلاق مبادرة وقف العنف، بينما المكاسب التي حققتها الجماعة
الإسلامية لم تبدأ في الظهور إلا بعد تجاوب السلطة مع المبادرة وإطلاق المراجعات
في نهاية عام 2001م. بينما كانت السنوات الخمس الفاصلة بين هذين العاميْن فترة
طغيان عصيبة داخل السجون.
تبدت مكاسب الجماعة الإسلامية على على هذا النحو:
1. تحسين أوضاع السجون، ومعاملة المعتقلين، وسُمِح ببعض الزيارات للأهل من
بعد ما كانت ممنوعة، وتحسن وضع الطعام داخل السجن وزادت فترة التريض ونحو ذلك.
2. الإفراج
التدريجي عن أعضاء وقيادات الجماعة، حيث بدأ خروج بعض القيادات والأعضاء مثل حمدي
عبد الرحمن (مايو 2001م)، ويلاحظ هنا أنه أول قيادي أُفرج عنه من الجماعة
الإسلامية، وكان هذا قبل وقوع أحداث سبتمبر (سبتمبر 2001م)، مما يُثَقِّل رواية
رفاعي طه من أن تفعيل المبادرة حصل بعد القبض عليه، وكان قد أمضى في السجن عشرين
عاما (1981 – 2001م) مع أن القضاء كان قد حكم عليه بخمس عشرة سنة فقط، وقضى خمس
سنوات بعدها اعتقالا غير قانوني، وقد اختير من بين القيادات المسجونة لنشر فكرة
المراجعات لأعضاء الجماعة في الخارج[91]،
لا سيما وأنه كان ثالث ثلاثة بدؤوا بذرة المراجعات الفكرية مع كرم زهدي وعلي
الشريف[92].
ثم أفرج عن كرم زهدي –رئيس مجلس شورى الجماعة- وممدوح علي يوسف –قائد الجناح
العسكري- (2003م)، ثم أسامة حافظ (2004م)، ثم فؤاد الدواليبي وناجح إبراهيم وصفوت
عبد الغني (2005م)[93]،
وهذا بالرغم من أن قادة الجماعة الإسلامية الذين تبنوا المبادرة انتهت محكومية
معظمهم في (أكتوبر 2001م)، كما أوقف تنفيذ أحكام الإعدام بحق عناصر الجماعة بعد
(2001م)، فيما ظلت قيادات أخرى لم تخرج إلا بعد سقوط حسني مبارك وتولي محمد مرسي
للرئاسة مثل عبود الزمر وطارق الزمر الذين أكملا ثلاثين سنة داخل السجون المصرية،
ومثل رفاعي طه ومصطفى حمزة وآخرين.
3. سُمح لهم بممارسة نشاطهم الدعوي مع المجتمع عن طريق المحاضرات في جلسات
الحوار والخُطب في المساجد على أساس المراجعات الفكرية، وخرجوا أكثر من مرة في
وسائل إعلام مصرية لتكرار الحديث عن المراجعات والأفكار الجديدة، وسُمِح لهم بموقع
على الانترنت لبث الفكر الجديد للجماعة الإسلامية، وقد حفل الموقع بالمقالات
السياسية لا "من باب التحليل ومتابعة الأحداث فقط بل من باب تبني مواقف
سياسية محددة... وكثيرا ما تبرز صحف الحكومة مثل هذه البيانات نظرا إلى أنها تخدم
دائما المواقف الحكومية ولو بطريقة غير مباشرة"[94].
يمكن القول من جهة بأن هذا كان واحدا من المكاسب التي تعود بها الجماعة
للتعامل مع المجتمع بعد ابتعاد طويل، كما يمكن القول من جهة أخرى بأنه مكسب للسلطة
إذ اكتسبت به أدوات تنطق بفكرٍ إسلامي مطابق لما تريد، بل بفكر إسلامي تائبٍ مما
لا تريده الدولة. ولكن في كل الأحوال كانت الأوضاع الذاتية للجماعة الإسلامية
بالإضافة إلى الأوضاع العامة في البلاد (2005 – 2010م) جعلت حصاد الجماعة
الإسلامية ضعيفا على المستوى الدعوي العام، ولا يمكن للراصد للمجتمع المصري في هذه
الفترة أن يشعر بأن ثمة إضافة ما أنتجها وجود الجماعة الإسلامية.
كانت الأوضاع الداخلية للجماعة الإسلامية معيقة عن أداء دعوي فعال، إذ كانت
تحاول لم شتات نفسها ومعالجة ما أحدثته المراجعات من تمزق وانشقاقات في صفوفها
وحاضنتها الشعبية. وكانت الأوضاع العامة في مصر تشهد صعودا جديدا لجماعة الإخوان
المسلمين التي توسع استقطابها لعشرات الآلاف من أفراد المجتمع والحركات الإسلامية
في تلك الفترة، وحتى على المستوى السياسي بدأ الإخوان بمنافسة الحزب الوطني
منافسةً حقيقية واكتساب عشرات المقاعد البرلمانية في مجلس الشعب عام 2005 و2010م.
زمن
المراجعات: متى تقبل الدولة التوبة؟!
لئن كانت مراجعات الجماعة الإسلامية فصلا من عمليات تتويب الدولة الحديثة
لمواطنيها، وإعادة تشكيلهم ليكونوا مواطنين صالحين، فإن السؤال الذي يطرح نفسه على
من يفكر في توبة مماثلة هو: كم تستغرق عملية التوبة التي يتفضل فيها إله الدولة
على المواطن المذنب الذي عاد وأناب واعترف بذنبه وعزم أنه لن يعود إليه، بعدما ذاق
عذاب الدولة الأليم؟
بالنسبة إلى تجربة الجماعة الإسلامية في المراجعات الفكرية يمكننا أن نمسك
بطرف البداية منذ الثمانينات، فبحسب التسلسل الذي اختصرت فيه سلوى العوا مسيرة
الجماعة الإسلامية نجد أن عام 1987 شهد أول مراجعة فكرية اقتضت صدور "قرار
القادة وقف عمليات تغيير المنكر باليد لما تبينوا عظم الضرر الناتج عنها"[95]،
ومنذ ذلك الوقت تعددت المبادرات سواء من داخل الجماعة الإسلامية أو من خارجها
للتوسط بينهم وبين السلطة، وكان الأمر ينتهي منكسرا على صخرة السلطة الصماء.
وتتفق رواية طارق الزمر مع هذا التحديد، فقد ذكر أن الجماعة الإسلامية توقفت
عن العمل المسلح قبل ظهور المبادرة (1997م) بعشر سنوات، أي منذ (1987م)، وفي هذا
العام نفسه بلغ قادةَ الجماعة في السجون أن الشيخ الشعراوي يريد زيارتهم في السجن،
فذهب إليه والدُ طارق الزمر وعبود الزمر في بيته، أي في بيت الشعراوي، مستوضحا،
فقال له الشعراوي: "أريد أن أبحث موضوعين على وجه التحديد: تكفير المجتمع
والخروج المسلح، فإذا كانوا حقا يكفرون المجتمع ويبيحون الخروج المسلح عليه
تناقشنا، وإن كان هذا كذبا وزورا يُلصق بهم فسأبقى معهم داخل السجن". إلا أن
السلطة المصرية اكتشفت هذه الزيارة، وضغطت على الشيخ الشعراوي، فأرسل سرًّا إلى
والد طارق الزمر ألا يأتيه زائرا في بيته مرة أخرى[96].
ويستشهد طارق الزمر على أن السلطة هي التي كانت ترفض أي تواصل بعدد من
الوسطاء الذين أعلنوا هذا التعنت من مواقف السلطة، مثل فهمي هويدي الذي كتب مقالا
بعنوان "ويسألونك عن الوساطة"، ومحمد سليم العوا الذي كانت له مشاركة
على إذاعة BBC بهذا المعنى، بالإضافة إلى اعترافات بعض
رجال الدولة أنفسهم مثل بطرس غالي الذي أقر بأن مبارك رغم أنه تأثر مركزه سلبا
بالصدام مع الجماعة الإسلامية إلا أنه كان حريصا على إتمام القضاء عليهم بلا تردد.
ويؤكد طارق الزمر أن مبارك كان يعرف شخصيا بأخبار التعذيب الشنيع الذي يتعرض له
أبناء الجماعة الإسلامية، وفي بعض الأحيان كانت مشاهد التعذيب تُصَوَّر له
بالفيديو، ومنها مشاهد إجبار المعتقلين على السجود لصورة حسني مبارك، كما أن
الخطاب التحريضي الذي مارسه العلمانيون –بالذات اليساريون- في الصحافة والإعلام
إنما كان بتحريض مباشر من الرئاسة ولا سيما رجليْها: أسامة الباز مستشار مبارك
ومكرم محمد أحمد الصحافي المقرب منه[97].
ويلاحظ طارق الزمر أن كل محاولة مبادرة من جهة الجماعة الإسلامية كانت
الدولة ترد عليها بعنف أشد، وبتوسيع نطاق التعذيب والتنكيل لأبنائها في السجون، وقد
مات كثير منهم بطرق بشعة منها –مثلا- أن أحدهم مات بعد تبول الضباط والعساكر في
فمه، فصار يستقيئ باستمرار حتى مات، وآخرون كانوا يموتون جراء انتشار الجرب، أو
المنع من تلقي العلاج والدواء فيستمر المريض في النزيف أو يتفاقم مرضه حتى يموت،
ومنهم من كان يموت بعد إصابته بكسور مميتة من جراء التعذيب ككسور العمود الفقري
والجمجمة وأضلاع القفص الصدري. وقد تأكدَّ لديهم أن هذا هو موقف السلطة كلها
بإشراف الرئاسة –وليست سياسة خاصة بجهاز أمن الدولة- من خلال محاولة قام بها عبود
الزمر، وتمثلت هذه المحاولة في رسالة كتبها قادة الجماعة الإسلامية إلى الرئاسة،
واستطاع عبود الزمر تسريبها إلى أحد أقاربه، ليضعها في كتابٍ كان قد استعاره قديما
من المخابرات الحربية، إذ كان ضابطا قديما بها برتبة مقدم، وكلفه بإرجاع الكتاب
للمخابرات الحربية التي كانت بالضرورة ستفتش الكتاب، وقد حصل هذا فعلا، ووصلت
رسالة الجماعة الإسلامية إلى المخابرات الحربية ويتلخص مضمونها في أن
"الجماعة الإسلامية تقدم المبادرات ولكن جهاز أمن الدولة هو الذي لا يريد
الحل"، وقد تأكد وصول هذه الرسالة إلى مبارك، إذ سرعان ما زار السجن اللواء
مصطفى رفعت مسؤول ملف مكافحة التطرف الديني بجهاز أمن الدولة والذي كان مسؤولا عن
التعامل مع الجماعة الإسلامية، وأبلغهم أن رسالتهم وصلت وأن الأوضاع ستتغير وتهدأ
في خلال أسبوعين، لكن الواقع أن السجون بعد هذين الأسبوعين تحولت إلى مجزرة –بتعبير
طارق الزمر- وازدادت وتيرة التعذيب والتنكيل والتضييق بأشد مما كانت عليه. وقد كان
هذا كله بعد مبادرة وقف العنف عام (1997م)[98].
ومع ذلك، فقد شهد العام (1996م) أول طلب لتقديم التوبة، فبينما كان طارق
الزمر يؤدي امتحانا وهو داخل السجن إذ طلبه ضابط في جهاز أمن الدولة، وفي هذا
الحوار ألقى إليه فكرة ضرورة كتابة أبحاث مراجعات فكرية، تعلن فيها الجماعة
الإسلامية تخليها عن أفكارها السابقة واعتناقها لأفكار جديدة "معتدلة"،
وكان ردّ طارق الزمر عليه أنه بهذا لا يريد حلا حقيقيا وإنما يريد تطويلا للأزمة[99].
وكما أسلفنا فقد بدأ الإفراج عن أول قيادي في الجماعة الإسلامية (2001م) وظل
يتتابع الإفراج عنهم في الأعوام التالية حتى (2006)، ومن هذا نخلص أن زمن قبول
التوبة لدى الدولة في تجربة المراجعات الإسلامية يحوم حول عشرين سنة (إذ كانت
البداية 1987م)، ولا يشمل العناصر التي أبدت نوعًا من الاحتفاظ بالكرامة أو
المطالبة بالحقوق الطبيعية فيما بعد الإفراج[100]،
فقد ظل هؤلاء حتى ثورة يناير وسقوط حسني مبارك. ويجب أيضا ملاحظة أن كل المفرج
عنهم إنما قضوا أكثر من مدة عقوبة السجن التي حُكِم عليهم بها.
ثورة
يناير: صدمة المراجعات
لم يكن يدري أحد ممن كتبوا المراجعات أنهم على بعد خطوات من ثورة شعبية
ستتمخض عن انكسار في السلطة المصرية وخلع لرأسها حسني مبارك، مثلما لم يكن أحد
يدري أن هذه الثورة ستعيش سنتين ونصف السنة قبل أن تُخْمَد بعنف بالغ وانقلاب
عسكري دموي.
لقد كانت ثورة يناير (2011م) بمثابة الاختبار العملي لصدق أفكار المراجعات،
وبدا فيها أن بعض القيادات كانت مخلصة لها، فيما بدا بعضها الآخر وكأنه بالثورة قد
انعتق من عبء المراجعات وانخرط في مسيرة تخالف الأفكار الواردة فيها. ومن ثم فقد
اندلعت موجة من النزاعات الداخلية القاسية بين قيادات الجماعة الإسلامية، التي
أسفرت عمليا عن تفكك
الصف القيادي للجماعة على خلفية رغبة بعضهم مثل ناجح إبرهيم وحمدي عبدالرحمن في
التماهي مع الأنظمة الاستبدادية والوقوف مع خياراتها السياسية.
مع اندلاع الثورة، أيد بعض قادة الجماعة مثل عصام دربالة وصفوت عبدالغني
والعديد من كوادرها المشاركة في فعاليات الثورة في مناقضة للتنظيرات المطروحة في
المراجعات الفكرية والتي تحرم وتخطئ الخروج على الحاكم، بينما رفض آخرون المشاركة
في التظاهرات مثل ناجح إبراهيم الذي كتب
مقاله الشهير "ارحموا عزيز قوم ذل" على موقع الجماعة في 2 فبراير
2011 منافحا فيه عن حسني مبارك. وبعد رحيل مبارك حدثت اشكالات داخل الجماعة تعود
جذورها إلى الموقف من المبادرة، إذ رأى بعض قادتها مثل رفاعي طه أن "مبادرة وقف
العنف أطلقتها بعض قيادات الجماعة، مثل ناجح وكرم، ولم تطلقها الجماعة، وأن مرحلة المبادرة
كانت تحتاج إلى إدارة أفضل ممن كانوا يديرونها داخل الجماعة، لأنها لم تكن إدارة على
المستوى المطلوب"[101]. ومع تزايد النزاعات، أصدر رئيس مجلس شورى الجماعة
كرم زهدي قرارا بتجميد عضوية عصام دربالة وفصل صفوت عبدالغني، بينما نجح الأخيران
في عقد جمعية عمومية في مايو 2011 أسفرت عن الإطاحة بكرم زهدي وناجح إبراهيم وحمدي
عبدالرحمن وفؤاد الدواليبي من مجلس شورى الجماعة، وتولى دربالة قيادة الجماعة،
وأعلن كرم زهدي وناجح إبراهيم استقالتهما من الجماعة للتفرغ للعمل الدعوي.
وفي الفترة التالية خرج بقية قادة الجماعة من السجون كعبود وطارق الزمر
ورفاعي طه ومصطفى حمزة، وعاد إلى مصر أبرز قادتها بالخارج مثل محمد الإسلامبولي
وأسامة رشدي، وبدأت الجماعة تلتئم من جديد خلف قيادتها الجديدة، ومن ثم أسست حزب "البناء
والتنمية". وفازت بخمسة عشر مقعدا من مقاعد مجلس النواب في انتخابات (2011م).
وبدأت تعود للمشهد العام بعد غياب طويل، وإن كان تأثيرها تراجع بشكل كبير عن عقود
السبعينات والثمانينات نتيجة المدة الطويلة التي قضاها معظم قادتها وأفرادها بالسجون
مما أثر على متطلباتهم الحياتية، ولوجود خلافات بينية حول المبادرات وحجم التنازلات
المقدم فيها، بالإضافة لضعف القدرة على تجديد دماء الجماعة بعناصر شبابية جديدة.
لم تستمر الجماعة الإسلامية في سير طريقها الدعوي والسياسي كثيرًا فبمجرد
وقوع انقلاب (3 يوليو 2013م) أقصيت الجماعة الإسلامية[102]
من المشهد برفقة زميلها السياسي الجديد الإخوان المسلمين من كافة المشاهد
المُجتمعية والسياسية ومُلاحقتهم قضائيًا، وقُتل عدد من أبنائها أثناء وجودهم في
اعتصام رابعة أو أثناء مطاردتهم[103] أو داخل
السجون المصرية أو غادروا البلاد للنجاة من الاعتقال، حيث طال الاعتقال عددا كبيرا
من أبنائها وقادتها مثل رئيس مجلس شورى الجماعة سابقا بالخارج مصطفى حمزة ورئيس حزب البناء والتنمية
نصر عبد السلام[104]
والقيادي البارز صفوت عبد الغني، بل ومات بعضهم في السجن عام 2015 مثل زعيم
الجماعة عصام دربالة والقيادي عزت السلاموني. كما تعرضت الجماعة لمحاولات تفتيت داخلي
قادتها عناصر محسوبة على الأجهزة الأمنية تحت اسم "تمرد الجماعة الإسلامية"،
وأعاد النظام العسكري تصنيف الجماعة الإسلامية ككيان
إرهابي في (11 نوفمبر 2018م) بالإضافة إلى إدراج 164 من كوادرها على قائمة الإرهاب
لمدة 5 سنوات.
وكانت الجماعة الإسلامية قد شاركت سياسيا ضمن "تحالف دعم الشرعية ورفض
الانقلاب" الذي شكّله الإخوان، وبعد مرور عدة سنوات أعلنت الجماعة الإسلامية
انشقاقها من التحالف لعدم اتفاقها مع الإخوان لإدارة الأزمة وقد كلّف تحالف
الجماعة الإسلامية مع الإخوان بعد يوليو عبء الصدام مع الدولة كما أشار ناجح
إبراهيم القيادي التاريخي االمُستقيل من الجماعة.
وبالمحصلة: لم تحقق الجماعة الإسلامية فائدة المبادرة من حيث الرؤية
الواقعية كما كان مُخطط له في أذهان قادتها، فلم تُكمل الجماعة مشوارها الدعوي ولم
تتهنى على بداية مشوارها السياسي التشاركي بل حتى مكسب الحفاظ على وحدة القادة
والكثافة العددية لأفرادها قد انتهى بالتفكيك والخُسران.
تجربة
المراجعات تحت مجهر الدراسة
نالت تجربة المراجعات اهتماما داخليا وخارجيا واسعا، سواء داخل أجهزة الأمن
المصرية أو الدولية، وكذلك في مراكز البحوث والدراسات، لكن ثمة ملاحظات عامة تشوب
موضوعيتها، أبرزها ثلاثة:
1. التلاعب بتعريف "الإرهاب" أو عدم الاهتمام
بتعريفه أصلا، ثم التعامل مع الجماعة الإسلامية باعتبارها جماعة إرهابية دون
محاولة تطبيق معايير هذا التعريف على هذه الحالة، وهذا التلاعب بالإطار النظري
يسمح للباحثين بقدر واسع من المراوغة لتتماهى رؤية الباحث عمليا مع الرؤية الأمنية
للنظام القمعي المصري[105].
2. أنها تتناول التجربة من واقع تفاعلاتها الداخلية
منفصلة عن الظروف السياسية الدولية والإقليمية التي أتاحت تفعيلها كما سبقت
الإشارة إليه.
3. أنها يغلب عليها النظر من الخارج إذ يندر فيها تماما
الاعتماد على حوارات مع قيادات الجماعة الإسلامية في ظروف طبيعية صحية يمتلكون
فيها حرية الكلام.
عقيب ثورة يناير صدرت عن وزارة الداخلية المصرية ورقة بحثية نُشرت عام 2012م
بعنوان "مكافحة الإرهاب والتطرف وأسلوب المراجعة الأمنية" ينطلق فيها كاتبها الضابط محمد حمزة من تجربة
مراجعات الجماعة الإسلامية لمحاولة فهم ظاهرة المقاومة المسلحة ومصادرهم الفكرية
وطرق مكافحة هذه الأفكار لدى الأفراد والجماعات، وقد رصد من سُبل مقاومة تلك
الأفكار هي مساعدة معتنقيها في تركها وتوفير لهم أفكارٍ وسطية بديلة تجعلهم يتخلون
على أفكارهم الأولى وقد ناقشت تلك الورقة محاور كثيرة تشمل منهجيات الجماعة
الإسلامية الأولى واستبدالها بالمنهجيات الجديدة وتعامل الأمن المصري مع كلتا
المنهجين، ومن أهم ما ورد في الورقة التركيز على محورين:
1. محور المواجهة الأمنية المحترفة، ويشمل:
- الرصد
المبكر لعناصر الجماعة وأوعيتها التنظيمية والعمل على تجنيد بعضهم للوقوف على
معلومات عن تحركاتهم بشكل مسبق.
- المواجهة الشاملة وإجهاض أنشطة الجماعة العلنية، واختراق هياكلهم
التنظيمية، وقطع روابط اتصالاتهم، وتوجيه أوجه الدعم القانوني للإجراءات الأمنية
والفنية في قضايا الارهاب، والعمل على سرعة فصل القضاء فيها، والتنسيق مع الدول
التي تأوي عناصر الجماعة لإلقاء القبض عليهم. وتجفيف منابع تمويلها. والسيطرة على
أنشطة واتصالات قادة الجماعة داخل السجون، وإخضاعهم لآليات متنوعة تستهدف بمجموعها
تخليهم عن منظومتهم المتشددة وعودتهم لصفوف المجتمع.
2. محور تصحيح المفاهيم المتشددة، وتشمل:
- إحياء فكرة المراجعة لدى قادة الجماعة داخل السجون وبالأخص في القضايا
التي أثارت جدلا فقهيا كبيرا مثل (الحاكمية، الحسبة، الجهاد، المواطنة، السياحة
الأجنبية) بالتواكب مع مواصلة العمليات الأمنية في مواجهة الفلول الهاربة المتبقية
من كوادر الجماعة.
- تزويد القادة المؤسسين للجماعة (بطريقة فنية) بأمهات الكتب الفقهية
والمعاصرة، مما ساعدهم على إصدار كتب تعبر عن تعديلهم لمنظومتهم الفكرية، لا سيما
التأكيد على:
أ- أن الجهاد وسيلة لا غاية ولا يجوز الخروج على الحاكم لما يترتب على ذلك
من مفاسد عظيمة.
ب- تحريم قتال رجال الأمن أو ممارسة العنف ضدهم أو نعتهم بأوصاف شرعية
متشددة باعتبار أنهم من مقومات الوطن الواجب دعمها ومساندتها في أدائها لمهامها.
ج- الإسقاط على تنظيم القاعدة لعدم مشروعية أفكاره، ومناشدة أبناء الأمة
الإسلامية معارضة ممارساته لما تحدثه من أضرار بالغة بمصالح المسلمين وقضاياهم
المصيرية خاصة القضية الفلسطينية.
د- تفعيل مضامين تلك المؤلفات لدى
بقية عناصر الجماعة من خلال السماح لقادتها بزيارة السجون المختلفة لشرح توجهاتهم
الجديدة عبر خطة زمنية متدرجة امتدت لأكثر من عامين، ثم توزيع كميات ضخمة من تلك
الإصدارات الجديدة داخل السجون وخارجها، بل وخارج مصر وبالأخص في اليمن والسعودية،
ثم السعي لاحقا لتوسيع دائرة انتشار كتب المراجعات من خلال إنشاء موقع إلكتروني
للجماعة على شبكة الإنترنت بالعربية[106]،
يفند عبره قادتها منظومة العنف والتطرف بأسلوب ديني معتدل يستند على أسس شرعية،
فضلا عن مد المواجهة لتشمل مخاطبة أبناء الجاليات الإسلامية الناطقة باللغة
الانجليزية عبر إنشاء واجهة للموقع بالإنجليزية.
هـ- الإفراج عن المعتقلين بشكل تدريجي بعد التأكد من ثبوت تحولهم للعمل
السلمي وانعدام أية خطورة محتملة لهم في المستقبل.
ويمكن القول بأن الدراسة الأمنية التي صدرت عن وزارة الداخلية المصرية
استهدفت تحويل الطاقة الإسلامية من جهادية إلى سياسية، وهي في هذا تتفق مع ما تنصح
به بعض الدراسات الغربية في توجيه تعامل الأجهزة الأمنية في البلدان العربية مع
حركات التيار الجهادي لتحويله إلى تيار سياسي[107].
ومع ذلك فقد لاحظت بعض الدراسات الغربية إلى أن تجربة المراجعة لم تكن نجاحا
حكوميا، وإنما كانت بمثابة الفرصة التي وجدتها الحكومية كثمرة ناضجة فتعاملت معها
بسياسة "توجيه المسار" لتحقق أهدافها، كما في التقرير الذي نشره المركز
الدولي لدراسة التطرف
والعنف السياسي ICSR (2012م)[108]، حيثم لم يكن
للحكومة قصب السبق في هذه "الإصلاحات" إلا أنها لعبت دورا مهما في تسهيل نشر المراجعات من خلال السماح
باللقاءات بين القادة والأعضاء، ووقف إعدام القيادات، وتيسير زيارة شخصيات علمائية
للسجون، وكذلك من خلال عزل وتحجيم تأثير الرافضين للمراجعات. كذلك لاحظت الدراسة
أن السلطة المصرية لم تفكر في إدماج "التائبين" بشكل طبيعي في المجتمع
كتوفير فرص عمل أو تقديم رعاية صحية –كما حقق البرنامج السعودي لمكافحة التطرف
والذي ترى هذه الدراسة أنه الأكمل والأشمل ضمن برامج تتويب المتطرفين- ومن ثم فإنه
–وفقا لهذه الدراسة- قد بقيت جذور المشكلة بلا حل[109]، وبشكل عام فإن مسألة إعادة دمج
وتأهيل "التائبين" ضمن برامج مجتمعية يتردد في أكثر من دراسة مشابهة[110].
وتتفق دراسة أخرى صادرة عن مركز كانيجي
مع هذه النظرة، إذ ترى أن طبيعة النظام الذي يتعامل مع الجماعات الإسلامية تعتبر
عاملا حاسما في تحديد مستقبل المراجعات، وذلك أن استمرار الديكتاتورية والأساليب
القمعية سيعيد توليد العنف والتطرف من جديد في سياق جماعات أخرى حتى لو كفَّت
جماعات قديمة عن العنف، وتستدل على ذلك بنموذج الإخوان المسلمين الذين نبذوا العنف
منذ السبعينات ولكن استمرار النظام الديكتاتوري أنتج "الجماعة
الإسلامية" و"جماعة الجهاد"[111]. ويبدو صدق التوقع في هذه الدراسة من
خلال مراجعة الحالة المصرية فيما بعد الانقلاب العسكري حيث لم تنخرط الجماعة
الإسلامية مرة أخرى في أعمال مسلحة ضد النظام العسكري، لكن جماعات مسلحة أخرى قد
ظهرت في هذه البيئة القمعية واستخدمت العمل المسلح.
ومن نافلة القول أن الدراسات الصادرة
عن المراكز البحثية الغربية، حتى لو كتبها باحثون عرب أو مسلمون يمثلون في الواقع
النموذج الجديد للمستشرق بعد خضوعه لعملية العولمة وذوبانه في الثقافة الغالبة،
إنما تقصد إلى إنهاء الجماعات الإسلامية بوسائل أكثر احترافية ونعومة وأقل فجاجة
وخشونة[112]، وتوصياتها تصب في مصلحة استقرار
الأنظمة قبل أن تصب في مصلحة حقوق الإنسان وحريات الشعوب، وحين يقع نوع من التعارض
بين الأمن والحرية فإن الدراسات تنحو بشكل واضح إلى جانب الأمن على حساب جانب
الحرية والحقوق؛ فقد خلصت دراسة لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى إلى أن التجربة
المصرية تؤكد على خطورة العائدين من الخارج الذين يمثلون "مشكلة لا يمكن
التغاضي عنها" وتؤكد أن النجاح في تجربة ما للمراجعات تغري آخرين بالدخول فيها
كما حصل مع بعض قادة جماعة الجهاد بعد تمام تجربة الجماعة الإسلامية[113].
الخلاصة
حتى لو صدَّقنا أن المراجعات الفكرية للجماعة
الإسلامية كانت نابعة من الداخل دون تأثير مباشر من الخارج، وأنها حصيلة نضج علمي
وتأملات أتاحتها فرصة الوقت الفسيح في السجون[114]،
فإن هذا لن ينفي أنها تجربة متأثرة بواقع السجن والهزيمة أمام قوة السلطة، إذ لا
يمكن تصور حصول مراجعات فكرية من السجين على المقاس الذي يطلبه السجَّان. وهذه
النتيجة يسهل تصورها إذا غضضنا الطرف عن كل وسائل العنف والقهر والتعذيب التي
صاحبت هذا السجن.
ولكن، حتى إذا غضضنا الطرف عن هذا كله، فإن
العامل الأساسي في كون المراجعات وسيلة انفراج عن أصحابها هو قرار السلطة نفسه،
إنه مهما تصور الذين يكتبون المراجعات الفكرية أنه عمل ذاتيٌّ خالص فهو في الواقع
جزء من برنامج السلطة لتتويب الجماعات المعارضة لها، ولن يمكن أن تكون المراجعة
الفكرية وسيلة للخروج من السجون إلا حين ترى السلطة نفسها أنها قد حققت غرضها من
هذه المراجعات وأنها تأتي على مقاسها تماما.
ومن ثمَّ فإن السؤال الأساسي المتعلق بالمراجعات
ومدى فائدتها وكونها حلاًّ لمشكلة المعتقلين المعارضين إنما هو سؤال تحتكر السلطة
وحدها الإجابة عنه، وتملك وحدها القرار فيه. وبهذا تكون النتيجة المباشرة لدراسة
تجربة المراجعات داخل السجون هو التساؤل عن مدى استعداد السلطة للإفراج عن
المعتقلين وليس مدى استعداد المعتقلين لتقديم مراجعات فكرية.
وفي مثل هذا السياق يكون الحديث عن أخطاء
المعتقلين أو المعارضين نوعا من العبث الفكري أو حتى نوعا من النفاق السياسي
للسلطة، وذلك أن الأخطاء السياسية التي ارتكبتها الجماعة الإسلامية قديما أو
الإخوان المسلمون حديثا لا يمكن أن تقارن بإجرام نظام الدولة التي مارست كل أنواع
الجرائم خارج القانون الذي وضعته هي بنفسها بغرض إسباغ الصفة القانونية والدعم
القانوني لجرائمها. ولئن كان يمكن القول في سياق فكري خالص بأنه كانت للجماعة
الإسلامية بعض الممارسات والأفكار التي تتسم بالشطط، وخلفت نتائج سلبية، وبالأخص
فيما يتعلق بقضايا الحسبة واستهداف السياح الأجانب وما شابه، لكن المراجعات
الفكرية تجاوزت التراجع عن التجاوزات والأخطاء لتتحول إلى أداة لشرعنة نظام مبارك
وتصويره بأنه نظام وطني حقيقي مع التعهد بالعمل تحت إطاره القانوني والدستوري.
وبمرور الوقت لم يتحول بعض قادة الجماعة إلى نمط المعارضة السلمية فقط إنما دخلوا
إلى مربع الاصطفاف مع النظام الاستبدادي.
كما أن المراجعات الخاصة بتحريم وتخطئة الخروج
على الحكام بشكل مطلق، والدعوة للاصطفاف معهم في مواجهة الأعداء الخارجيين، قد
خفتت مع اندلاع ثورات الربيع العربي، والتي كشفت أن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة
ما هي إلا خط دفاع أول عن مصالح الأعداء الخارجيين، وبينت أن تلك الأنظمة تعمل ضد
مصالح شعوبها، وأن التماهي معها وشرعنة حكمها خطيئة شرعية وواقعية. وبذلك يمكن
القول بأن مراجعات الجماعة الإسلامية أدت إلى خروج عناصرها من السجن لكن مع تلاشي
منهج الجماعة الذي تأسست عليه، وتفكك لحمتها، وإصابتها بتشوه يجعلها تسعى دائما
للهرب من الماضي الذي يطارد مخيلة قادتها.
واستنادا إلى تجربة الجماعة الإسلامية نرى أن الفارق واضح وكبير بين نظام
حسني مبارك ونظام عبد الفتاح السيسي، فنظام مبارك المستقر الذي لا يشعر بالتهديد
الوجودي يختلف عن نظام السيسي الذي جاء بانقلاب عسكري بعد ثورة شعبية منتزعا
السلطة من حركة إسلامية واسعة الانتشار وعميقة الجذور في المجتمع المصري، كما أن
نظام حسني مبارك الذي يحظي بإقليم مستقر يختلف عن نظام السيسي الذي يحظى بإقليم
شديد الاضطراب تملؤه الثورات والنزاعات من سائر الاتجاهات، وأخيرا فإن نظام حسني
مبارك الذي شعر بالتهديد الأمريكي بعد أحداث سبتمبر لأنه ينتج الإرهاب يختلف تماما
عن نظام السيسي الذي يحظى بالدعم الأمريكي التام لمكافحة "الإرهاب".
وهذه الفروق لا تسمح بتاتا بتوقع أن تكون عملية المراجعات داخل السجون المصرية
الآن مفضية إلى نفس المصير الذي أفضت إليه عملية المراجعات الفكرية قبل نحو عشرين
عاما.
نشر في المعهد المصري للدراسات
[1] جورج أورويل، 1984، ترجمة:
أنور الشامي، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006)، ص298 وما بعدها.
[2] ميشيل فوكو، المراقبة
والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة: علي مقلد، (بيروت: مركز الإنماء القومي، 1990م)،
ص58 وما بعدها. (بداية من هذه الصفحة يبدأ في المقارنة بين نوعي العقوبة).
[4] د. عبد الوهاب المسيري،
رحلتي الفكرية: في الجذور والبذور والثمر، ط4 (القاهرة: دار الشروق، فبراير 2009م)،
ص219.
[5] جان بيار لوفيفر وبيار ماشيري، هيجل والمجتمع،
ترجمة: منصور القاضي، ط2 (المؤسسة الجامعية، 1993م)، ص72، 73.
[6] هنري كيسنجر، النظام
العالمي: تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ، ترجمة: د. فاضل جتكر، (بيروت: دار
الكتاب العربي، 2015م)، ص50.
[7] ناعوم تشومسكي، النظام
العالمي القديم والجديد، ترجمة: د. عاطف معتمد، (القاهرة: نهضة مصر، مارس 2007م)،
ص5.
[8] تيموثي ميتشل، استعمار مصر،
ترجمة: بشير السباعي وأحمد حسان، ط2 (القاهرة: مدارات، ديسمبر 2013م)، ص32.
[9] أرنولد توينبي: مختصر دراسة
التاريخ، ترجمة: فؤاد محمد شبل، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011م)، 3/313.
[12] عبد المنعم أبو الفتوح، شاهد
على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر (1970 - 1984)، تحرير: حسام تمام، ط2 (القاهرة:
دار الشروق، 2012)، ص67.
[15] انظر رسالة رفاعي طه إلى
صلاح هاشم في: عبد المنعم منيب، مراجعات الجهاديين: القصة الخفية لمراجعات الجهاد
والجماعة الإسلامية داخل وخارج السجون، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2010م)، ص67، 68،
75.
[17] سلوى العوا، الجماعة
الإسلامية المسلحة في مصر (1974 – 2004م)، ط1 (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية،
2006م)، ص225 وما بعدها.
[19] عبد اللطيف المناوي، شاهد
على وقف العنف: تحولات الجماعة الإسلامية في مصر، ط1 (القاهرة: أطلس للنشر، 2005م)،
ص85.
[20] انظر نص مقال "حقيقة
الوساطة مع الإرهابيين" في: مكرم محمد أحمد، مؤامرة أم مراجعة: حوار مع قادة
التطرف في سجن العقرب، ط2 (القاهرة: دار الشروق، 2003)، ص205 - 210.
[21] للمزيد عن
تفاصيل لقاءات اللجنة بالوزير وأسباب فشل الوساطة انظر ملف: "بعد فشل الحوار
مع الحكومة المصرية: عند الطغاة الكلام عند نفاد السهام"، مجلة السنة اللندنية،
العدد 32.
[22] لمزيد من التفاصيل
عن أحكام الإعدام بحق عناصر الجماعة انظر: عبد الحكيم عفيفي، موسوعة تاريخ الإعدام
السياسي في مصر، ط1 (القاهرة، مكتبة مدبولي الصغير، 1997م).
[24] محمد حمزة (رائد بجهاز أمن
الدولة المصري)، مكافحة الارهاب والتطرف وأسلوب المراجعة الفكرية، ط1 (القاهرة:
وزارة الداخلية المصرية،2012) ص16.
[25] إثر تنفيذ الجماعة الإسلامية
لمحاولة اغتيال مبارك بأثيوبيا انطلاقا من السودان، تعرضت الحكومة السودانية لضغوط
أدت إلى ابعاد الجهاديين المصريين منها.
[27] عبده إبراهيم، المراجعات:
طريق جديد للجماعات الإسلامية؟، ضمن: مجموعة باحثين، أمتي في العالم، (القاهرة:
مركز الحضارة للدراسات والبحوث، 2008م)، ص79.
[28] عبد المنعم منيب، دليل
الحركات الإسلامية، ط1 (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2010م)، ص180، 181؛ عبد المنعم
منيب، مراجعات الجهاديين، ص8 وما بعدها.
[29] عبد اللطيف المناوي، شاهد
على وقف العنف: تحولات الجماعة الإسلامية في مصر، ط1 (القاهرة: أطلس للإنتاج
والنشر الإعلامي، 2005)، ص89.
[31] انظر تفصيلا لموقف رفاعي طه
في: عبد المنعم منيب، مراجعات الجهاديين، ص45 وما بعدها، ص55 وما بعدها؛ وهذا
التفصيل يتفق مع مضمون حوار خاص للباحث مع رفاعي طه في اسطنبول 2015م.
[32] عبد اللطيف المناوي، شاهد
على وقف العنف، ص95؛ عبد المنعم منيب، مراجعات الجهاديين، ص7 وما بعدها، ص36 وما
بعدها.
[36] كرم زهدي وآخرون، نهر
الذكريات: المراجعات الفقهية للجماعة الإسلامية، ط1 (القاهرة: مكتبة التراث
الإسلامي، 2003)، ص116.
[40] لمزيد من التفصيلات عن موقف
أسامة رشدي من المبادرة انظر: عبد اللطيف المناوي، شاهد على وقف العنف، ص110- 112.
[41] لقراءة نص البيان انظر: عبد
اللطيف المناوي، شاهد على وقف العنف، ص94.
[45] كرم زهدي وآخرون، نهر
الذكريات، ص7؛ عبد اللطيف المناوي، شاهد على وقف العنف، ص133؛ عبد المنعم منيب،
مراجعات الجهاديين، ص25.
[61] أجرى مكرم محمد احمد أربع لقاءات
نشرها في مجلة المصور في 21 يونيو 2002، 28 يونيو 2002، 5 يوليو 2002، 8 أغسطس 2002،
ثم جمعها في كتاب بعنوان "مؤامرة أم مراجعة".
[62] جمع عبد
اللطيف المناوي حواراته مع كرم زهدي في كتاب "شاهد على وقف العنف"،
وأضاف إليه حواراته مع أسامة رشدي وتفاصيل أخرى.
[64] لقاء خاص للباحث مع كل من:
د. طارق الزمر (اسطنبول، ديسمبر 2019م)، وإسلام الغمري (اسطنبول، نوفمبر 2019م).
ويُنظر: عبد المنعم منيب، مراجعات الجهاديين، ص26 وما بعدها.
[66] Angel Rabasa ... [et al.], Deradicalizing
Islamist extremists, (Santa Monica: RAND, 2010), p. 82.
[67] نخبة من قادة حزب البناء
والتنمية (الجماعة الإسلامية)، تجربة مراجعات الجماعة الإسلامية، (اسطنبول: مركز
حريات، 2019م)، ص18.
[75] أعلنت الإدارة الأمريكية
مكافأة قدرها مليون دولار لمن يدلي
بمعلومات تساعد في القبض على الحكايمة، وقتلته بغارة جوية على وزيرستان مطلع
نوفمبر 2008، الشرق الأوسط ، 2/11/2008.
[76] وهو الآن محكوم عليه بالسجن
المؤبد في أمريكا، بعد أن سلمته السلطات البريطانية من بعد ما قضى سبع سنوات في
سجن بريطاني.
[77] المناوي، شاهد على وقف
العنف، ص101 – 109؛ عبد المنعم منيب، مراجعات الجهاديين، ص9 وما بعدها، ص46 وما
بعدها.
[83] سلوى العوا، الجماعة
الإسلامية المسلحة، مُلحق رقم 2 بيان بأعداد القتلى من عام 1981 إلى 1997م. ص 223،
224.
[89] محكمة مصرية تدرج الجماعة الإسلامية
على قائمة الإرهاب، موقع روسيا اليوم، بتاريخ 11 نوفمبر 2018م.
[91] مكرم محمد أحمد، مؤامرة أم
مراجعة، ص119؛ حوار حمدي عبد الرحمن مع جريدة الشرق
الأوسط، بتاريخ: 24 مارس 2002م.
[93] سلوى العوا، الجماعة
الإسلامية المسلحة، ص234.
[100] انظر عن بقاء عبود الزمر
وطارق الزمر في السجن بعد الإفراج عن بقية القيادات، وعن الرحلة القانونية الطويلة
لطارق الزمر: عبد المنعم منيب، دليل الحركات الإسلامية المصرية، ص173 وما بعدها؛
عبد المنعم منيب، مراجعات الجهاديين، ص15.
[103] مقتل جمل
هريدي قائد الجناح العسكري للجماعة الإسلامية بديروط، موقع مصراوي،
بتاريخ: 14 أكتوبر 2019م.
[105] على سبيل المثال، يعرف تقرير
راند عملية "إزالة التطرف" (deradicalization) –وبرأيي فإن الترجمة الأدق لهذا المصطلح هو:
"التدجين"- بأنها رفض الأفكار التي تجيز استخدام العنف ضد المدنيين،
وتكفير المجتمع ورفض الديمقراطية والحريات كما تفهمها المجتمعات الديمقراطية.
Angel Rabasa ... [et al.], Deradicalizing Islamist
extremists, (Santa Monica: RAND, 2010), p. 3.
وهذا التعريف يجعل "التطرف" مفهوما
واسعا يشمل تحته من يرفض الأفكار الليبرالية، كما أنه –في حالة الجماعة الإسلامية-
لا ينطبق عليهم من جهة أنهم لم يصرحوا بتكفير المجتمع، ولم تكن معظم عملياتهم
تستهدف المدنيين وإنما تستهدف ضباط الأجهزة الأمنية المصرية أو من اعتقدوا أنهم
محاربين كالأفواج السياحية الإسرائيلية وإن تبين فيما بعد أنهم لم يكونوا
إسرائليين. هذا مجرد مثال على أن التلاعب في تعريف التطرف والمتطرفين يمثل إطارا
نظريا واسعا لا يتمتع بالدقة ولا بالموضوعية.
[107] Peter Bergen, David Sterman (2018) Jihadist Terrorism 17 Years
After 9/11, New America, September 10, 2018.
[108] وهذا المركز هو نتاج شراكة فريدة من نوعها بين كلية كينجز كوليدج في
لندن، وجامعة بنسلفانيا، ومركز هرتسليا متعدد التخصصات (إسرائيل)، والمركز
الإقليمي لمنع الصراعات التابع للمعهد الدبلوماسي الأردني؛ تهدف إلى الجمع بين
المعرفة والقيادة لمواجهة نمو التطرف والعنف السياسي. وهذا التقرير المشار إليه
كان جزءا من مشروع أكبر مَوَّلَتْه وزارة الشؤون الخارجية النرويجية، يبحث في
الأساليب والاستراتيجيات "الناعمة" التي طورتها ثماني دول ذات غالبية
مسلمة لمواجهة مشكلة "التطرف".
[109] Hamed El-Said, De-Radicalising
Islamists: Programmes and their Impact in Muslim Majority States, (London: The
International Centre for the Study of Radicalisation (ICSR), Jan 2012).
[110] Zeynep Kaya, Letting Go:
De-radicalization in Egypt, The Journal for Deradicalization (JD), No. 6,
2016.
[111]
Omar Ashour, Ending
Jihadism? The Transformation of Armed Islamist Movements, Carnegie Middle
East Center. September 09, 2009.
Paul K. Davis & Kim Cragin (editors), Social
Science for Counterterrorism, (Santa
Monica: RAND, 2009); John Horgan, Deradicalization
or Disengagement?, Perspectives on Terrorism a journal, Vol 2, No 4 (2008).
[113] Sara Brzuszkiewicz, Counter-radicalization
and de-radicalization in Egypt and Libya: Returnees and Foresight, Fikra
Forum - Washington Institute for Near East Policy, June 13, 2017.