الاثنين، مارس 02، 2020

تركيا في إدلب ومبارك في قبره


محمد إلهامي

كان شهر فبراير 2020م حافلا بالأحداث التي تجبر القلم على تناولها، فيه خاضت تركيا ولأول مرة المعركة العسكرية دعما للثورة السورية ضد بشار الأسد، بل على الحقيقة ضد إيران وروسيا، وهو الأمر الذي يضع المخلصون أمامه أيديهم على قلوبهم رغبا ورهبا.

وفيه مات حسني مبارك وهو من أشهر طغاة القرن العشرين والذي حكم مصر لثلاثين سنة قاسية أجهز فيها على مكانة ومقام مصر إقليميا ودوليا فضلا عن مطاردته المحمومة للإسلام وأهله، وتمكينه للعلمانية والطغيان.

ولم ينته الشهر حتى فجعنا بوفاة الأستاذ الدكتور محمد عمارة، وهو من أشهر علماء مصر ورجال الفكر فيها، وقد قضى نصف قرن جنديا في معركة الإسلام ضد العلمانية –بفروعها: الماركسية والليبرالية- وضد الكنيسة الصليبية الطائفية في مصر، وبذل في هذا مجهودا ضخما لا أظن أن عاملا للإسلام في باب الفكر لم يستفد منه.

وفي آخر يوم من الشهر وقع الأمريكان مع طالبان اتفاقية تقضي بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بعد نحو عشرين عاما من الاحتلال، بعد مقاومة طويلة صبورة وثبات عنيد مديد، وبعد محاولات مضنية أمريكية لأن تقضي على طالبان حربا، ثم لتأخذ بالسلم ومناورات السياسة ما لم تأخذه بالحرب.

فكل موضوع من هذه الموضوعات جدير بأن يفرد له الكلام الكثير والمساحة الواسعة، ولعل ذلك يكون في مقام آخر، فأما الآن فلا بد من الإشارة بما يتناسب مع المجال المتاح.

(1)

في التاريخ قاعدة مضطردة تقول بأن الدول تولد بالحروب وتختفي بالحروب، فالحرب هي الصفحة الأولى في تاريخ كل دولة، وهي الصفحة الأخيرة في تاريخها، في تاريخ كل دولة حرب استقلال أو تحرير أو ثورة عنيفة تبدأ بها، وفي تاريخ كل دولة حرب السقوط والانهيار.

ولهذا سميت غزوة بدر بالفرقان، وهي المعركة التي تؤسس لوجود دولة الإسلام، وبها انتقل المسلمون من كونهم قلة لاجئة مشردة في ناحية من الأرض إلى قوة إقليمية قادرة على إيقاع الهزيمة العسكرية القوية بجيش قوي! ولهذا كانت لها نتائجها القوية على مستوى الحجاز والجزيرة العربية كلها في ذلك الوقت.

والذين يختلفون حول ما إن كانت هذه القاعدة لا زالت تعمل أم لا في عصرنا الحديث يضربون المثل بالاتحاد السوفيتي الذي سقط وانهار بدون حرب عسكرية كبرى، لكن أنصار هذه القاعدة يجادلون بأن الحرب الباردة -التي كانت بمثابة حرب استنزاف طويلة وشاملة- هي حرب انهيار الاتحاد السوفيتي، وأن الاستسلام الذي أقر به جورباتشوف هو استسلام مهزوم عاجز وليست مراجعات مُفَكِّرٍ شيوعي كما حاول أن تبدو! وبعضهم يذهب إلى أن القوة النووية التي امتلكها أطراف الحرب قد منعت من الانزلاق إلى المواجهة الكبرى في صورتها الصريحة، فقد كانت المغامرة بانتشاب قتال نووي مغامرة خطرة يدرك الجميع أن خطرها ماحق، ولهذا فضَّل الطرف المقهور (السوفييت) أن يعلن الاستسلام ويحتفظ ببعض الإرث بدلا من انهياره كله، ولم يكن لدى الطرف الغالب المتفوق عسكريا مانع من أن يعطي هذا الفتات الباقي!

ليس المقصود الآن الخوض في الدرس الأكاديمي السياسي أو التاريخي، بل المقصود بيان أن التجربة السياسية لا تنجح إلا بعد أن تختبر عسكريا، ولا تنهار إلا بعد هزيمتها عسكريا، وهذا التدخل التركي في سوريا هو المواجهة العسكرية الأولى والاختبار العسكري الأول لتجربة العدالة والتنمية، وهي التجربة –التي مهما كان رأيك فيها- فإنها قد تعلقت بها أبصار المسلمين المتشوقين إلى دولة قوية قائدة، كما تعلقت بها أبصار أعداء الإسلام المتخوفين من بزوغ جديد للقوة الإسلامية.

لا أتذكر أني قرأت كتابا صادرا عن مركز بحثي غربي يتناول تركيا –من قريب أو من بعيد- إلا وكان يشير متخوفا إلى إمكانية أن تعود تركيا من جديد كقائد للعالم الإسلامي، أي: كخطر على الغرب والمسيحية!.. هكذا يرون المشهد. كما لا أتذكر أن قضية قوم مسلمين مقهورين في بقعة ما من الأرض لم يتطلع أهلها إلى الموقف التركي مهما كانت تركيا بعيدة عنهم أو عاجزة عن تغيير شيء من أحوالهم، من تركستان إلى بورما إلى الهند إلى إفريقيا إلى الأقليات المسلمة في الغرب، فضلا عن العالم العربي، تركيا حاضرة في أذهان المسلمين كدولة تستطيع –على الأقل- أن تُنادي بمظلوميتهم أو تمد يد المساعدة أو تكون ملجأ للفارين منها. والذي يتجول الآن في اسطنبول يرى أنها بحق عاصمة المسلمين.

هذه إذن هي المواجهة العسكرية الأولى لتركيا الجديدة، وليس معروفا إلى أي شيء تنتهي، فكما يمكن أن تنتهي سريعا إلى اتفاق ما، كما يمكن أن تنزلق إلى مواجهة كبرى، نسأل الله أن يهيئ لأمة المسلمين رشدا.. لكن المهم في كل الأحوال أن تخرج تركيا من هذه المعركة منتصرة، أن تخرج منها وقد تضاعفت قوتها وأدهشت أطراف النزاع بقدراتها العسكرية فيصير لها في لحظة الاتفاق موضع أحسن من الذي كانت فيه قبلها.

إن تجرؤ الروس على قصف الجنود الأتراك يعني أن الأطراف لم تستطع بالمفاوضات والمناورات الدبلوماسية الوصول إلى حل، وبات على الأطراف أن تتكلم بالنيران لحلحلة الموقف وتحسين مواقعها التفاوضية، وإلى لحظة كتابة هذه السطور يبدو الموقف التركي قويا ومدهشا، حتى إن مسؤولا غربيا بدا منزعجا من الرد التركي في ليلة واحدة إلى الحد الذي تخوف فيه أن يعلن بشار استسلامه!! (والغربي معروف، فهو يدافع عن حقوق الإنسان ما دام الطاغية متمكنا من الذبح، فإذا تزلزل موقفه حدَّثك عن أهمية الطاغية في محاربة الإرهاب وحماية إسرائيل وتحقيق المصالح الغربية!!).

وهذه الثورة السورية المباركة، ثورة الشام العظيمة، الثورة اليتمية بحق، إن كان قد نالها نفعٌ ما فلم يَنَلْها إلا من تركيا، ولستُ مهتما الآن بالدفاع عن الموقف التركي مع إيماني بأن الموقف التركي من الثورة الشامية ليس مجرد موقف مصلحي نفعي برجماتي كما هو حال السياسة المعاصرة العلمانية وإنما هو موقف يحضر فيه الإسلام والقيم كذلك، ولا يخلو بطبيعة الحال من المصالح؛ والمصالح في الحالة التركية الآن هي بمعنى: درء المفاسد لا بمعنى جلب المنافع، والمفاسد ليس أولها عبء اللاجئين الذين يقبل العالم كله بذبحهم في بلدهم ولكن تثور إنسانيتهم لموقف عنصري يصيبهم في تركيا أو بموت أحدهم على الشواطئ، ولا آخرها تهديد الدولة الكردية والوجود الروسي في الخاصرة.

ولقد تردد الأتراك كثيرا وطويلا قبل التدخل العسكري في سوريا، أو بلفظ أدق: لم تسمح أمريكا بذلك للأتراك وحدهم، بينما سمحت بذلك عمليا للإيرانيين –وسائر أتباعهم في لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وغيرها- ثم للروس (بل إن ثمة تسريبات نشرت مؤخرا تتحدث عن أن الأمريكان هم من طلبوا من الروس التدخل) ولآخرين كالفرنسيين والألمان كان وجودهم مقتصرا على أعمال التدريب والدعم والتأهيل. تردد الأتراك طويلا حتى صاروا أكبر الخاسرين وأقل المنتفعين وآخر المتدخلين في الملف السوري. ولا ينفي هذا أن قسما عظيما داخل السياسة التركية كان يتخوف من التدخل لئلا تكون هذه ورطته الكبيرة وبوابة استنزافه الضخم. حتى وصل الحال إلى حدٍّ عبَّر عنه الرئيس التركي بقوله "لو لم نوجد اليوم في سوريا، فغدا سنضطر للحرب داخل تركيا نفسها".

في كتاب "المائة عام القادمة" الصادر 2009م يتحدث جورج فريدمان، وهو من أكبر الخبراء الأمريكيين، عن أن منطقة الشرق الأوسط ستدخل في فوضى، وعن أن روسيا ستحاول أن تتمدد في حالة دفاعية هجومية في ثلاث مساحات: شرق أوروبا ووسط آسيا والقوقاز، وأن تمددها في القوقاز سيؤدي إلى اشتباك مع الأتراك، وأن الأتراك سيتواجهون مع الروس (في عقد الـ 2020م) وسيتلقون الدعم الغربي الكامل لهزيمة الروس وإنهائهم كقوة دولية، ثم ستتحول تركيا إلى دولة عظمى، تمثل –مع المكسيك وبولندا واليابان- التحدي القادم أمام الولايات المتحدة، مما سيؤدي لنشوب حرب عالمية (2050م) تنتصر فيها أمريكا وتحطم فيها هذه القوى العظمى، فالقرن الحادي والعشرين –كما يقول- سيكون قرنا جديدا من التفوق الأمريكي. فيما يخص تركيا، فإنها ستكون قائدة العالم الإسلامي، ستتمدد في القوقاز والبلقان بل ستسيطر على قناة السويس، وستعيد خطابها العثماني في كل هذه المراحل، وحين تبدأ مواجهة أمريكا لها فإن أمريكا ستعيد تجديد خطاب القومية العربية مرة أخرى.

ومما تعلمته من أستاذ متخصص في السياسة الأمريكية هي قوله: "الأمريكان حين يريدون فرض حلٍّ ما فإنهم لا يحاولون إغراء الآخرين به، بل يجعلون الآخرين مضطرين إلى هذا الحل". وحين ذكر لي هذا الكلام قبل سنوات تذكرت مباشرة قضية البوسنة، حيث اضطر علي عزت بيجوفيتش إلى ما لم يكن يرضى به أبدا وما ذلك إلا لأنه وجد نفسه أمام حرب إبادة للمسلمين، فإما الإبادة وإما الحل المطروح فاختار الحل الأمريكي المطروح كأهون الشررين. ثم ترددت كلمته في أذني على مدار السنوات الماضية ونحن نتابع تهجير السوريين من مناطقهم برعاية الأمم المتحدة.. لقد كان هذا أشبه بالجنون إذا عُرِض كحلٍّ في أي نزاع دولي. ذلك أن الحل الدولي المعهود لأي نظام يرتكب إبادة جماعية هي منع تصدير السلاح وفرض حظر جوي وتوجيه ضربات عسكرية إليه، أما أن تأتي الأمم المتحدة لتنظم عملية التهجير وإفراغ المدن ليستولي عليها النظام لقمة سائغة فهذا إبداع جديد!!.. لكن الشاهد هنا: كيف تحول التهجير من حل غير معقول إلى حل مطلوب مرغوب؟ لقد كان ذلك بحرب الإبادة التي صبت على رؤوس الجميع حتى صار الخروج من البلاد في الباصات الخضراء أمنية.

لئن صدقت توقعات –أو لنقل: تخطيط- جورج فريدمان حول النية الأمريكية في إنشاب حرب بين روسيا وتركيا فقد كانت سياسة السنوات الماضية دافعة لكليهما حتى حافة الحرب، ولم يبق إلا اشتعال الشرارة، والواقع أن التصريحات الغربية والأمريكية هذه الأيام تجامل تركيا –الحليف وعضو الناتو- بما لم يبوحوا بشيء منه يوم أزمة إسقاط الطائرة الروسية، حتى لكأن تركيا ليست حليفا ولا عضوا في الناتو!

ولن يكون هذا بعيدا عن المعهود من السياسة الأمريكية في إدارة الحروب، فالعادة الأمريكية هي أن تستنزف الجميع ثم تدخل الحرب في اللحظة الأخيرة لترث المشهد ومكاسبه بعد القضاء على الأطراف المرهقة، هكذا سيرتهم في الحرب العالمية الأولى والثانية، ولما خالفوا هذه السيرة ودخلوا بأنفسهم تورطوا كما في فيتنام وأفغانستان والعراق. وهذه الحرب السورية استنزف فيها الأمريكان السوريين والإيرانيين حتى فقدوا فيها صفوة نخبتهم وقواتهم وعددا ضخما من شباب الشيعة المقاتلين المدربين، ومنذ بدأ التدخل الروسي فقد بدأ استنزاف الروس أيضا، ومن ثَمَّ فإن الجولة القادمة هي لاستنزاف الروس والأتراك معا.

لهذا الوضع المعقد كله، يقف المخلصون لهذه الأمة وهم يضعون أيديهم قلقا من التدخل التركي في روسيا، يرجونه لنصرة المظلومين ولكسر الظالمين ولتقوية تركيا في الساحة العالمية، ويتخوفون من أن تكون هذه هي الورطة والفخ الذي يفضي إلى استنزاف قوتها وكسر نهضتها.. ولسان حالهم يقول (ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين).

فمهما يكون الموقف الجزئي المخصوص من تجربة تركيا أو من سياسة أردوغان، فهي اليوم في موقف إن انتصروا فيه كان نصرهم عائدا على الأمة كلها، وإن كانت الأخرى لا قدر الله، عادت هذه الخسارة على الأمة كلها، وأول الأمة هنا: الثورة اليتمية المقهورة في الشام، ثم ستنتكس أكثر –إن لم يكن: كل- القضايا الإسلامية في المشرق والمغرب. إنه يوم كيوم انقلاب 15 يوليو 2016، يوم تقف فيه الأمة معقلة القلوب والأبصار بربها ترجو ألا يصلح كيد المفسدين.


(2)

حسني مبارك..

لو مات حسني مبارك وهو في السلطة لتوقفت البلد من أجله، ولكانت جنازته جنازة مشهودة يؤمها الرؤساء من الشرق والغرب، ولانتفضت كل الصحافة والقنوات ووسائل الإعلام في التسبيح والتمجيد والتقديس لشخصه، ولنعاه المعارضون بأحر العبارات، وأما من لم تسمح نفسه بالمشاركة في هذه الحفلة فكان سيجلس في بيته حتى تنقضي العاصفة، يخشى على نفسه إذا تكلم ضد التيار.

فأما لو مات حسني مبارك بُعيْد ثورة يناير وهي في زخمها القوي، فإن مجلسه العسكري نفسه لم يكن ليجرؤ على إقامة جنازة عسكرية له، ولم يكن ليجرؤ أحد من الساسة في الإقليم أو العالم أن يتحدث عن فجيعته بفقد مبارك ولا أن يفكر في المخاطرة بحضور جنازته التي ستكون مقتضبة قصيرة عاجلة، ولربما أجراها مجلسه العسكري في إجراءات أمنية مشددة لئلا تكون مدخلا لاشتباك أو اقتتال تنفلت به الأمور مرة أخرى، وعندئذ، كان الذي سيمدح مبارك هو الذي سيتكلم خجلا متحفظا وملء كلامه العبارات الاستدراكية التي تنفي عنه تأييده، وأما الذين عُرفوا بتأييد مبارك فأغلبهم لم يكن ليتكلم أصلا، فإن تكلم فسيحكي عن فساده وكيف استرحنا منه، تماما كما فعل أكثرهم بعد سقوطه.

وأما إذا مات حسني مبارك في زمن عبد الفتاح السيسي.. فالأمر كما رأينا! جنازة تثبت أن مبارك كان رجلا من رجال الدولة القائمة، ولكنه "كان"، كان ولم يعد، ولهذا فجنازة عسكرية نعم ولكن عابرة، وصحافة وإعلام ينافق ويترحم ولكن سريعا، واهتمام سياسي لا يريد من سيرة مبارك إلا ترسيخ حكم السيسي، يأخذ من القديم بقدر ما يشرعن للجديد، ويترك منه بقدر ما يفارقه.

وهذا هو تأثير الواقع في كتابة التاريخ..

والعكس بالعكس أيضا، وكنت قد كتبتُ مثل هذا المعنى عند وفاة الشيخ عمر عبد الرحمن في السجون الأمريكية، وقلت: لو أنه مات في زمن مبارك لم يكن أحد ليأبه له، ولو أنه مات في زمن مرسي لكان حفل تأبينه في استاد القاهرة يتكلم فيه كل فصيح، ولكن حيث أنه مات في زمن السيسي فقد كانت جنازته العابرة في مصر ولكن حفل تأبينه في اسطنبول، حيث تلجأ المعارضة المصرية، فتكلم عنه مادحا حتى من لم يكن يعرفه.

ومثل هذا يقال في الرئيس الشهيد محمد مرسي رحمه الله..

والحمد لله الذي جعل الحساب خاصا به، وهو يعلم السر وأخفى، ولا تنفع معه قوة ولا عدة ولا سلطة ولا دولة.. يقف الجميع أمامه عاريا خاليا من كل قوة، يقضي فيهم وقد زال عنهم كل سلطانهم، يتلاعن يومها الظالمون وأتباعهم ويحمل بعضهم بعضا المسؤولية، ولا ينفعهم هذا أمام ربهم، (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم) (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة، ولهم سوء الدار).

لكن الأمر الذي نستفيده هنا أن الطاغية لا يفسد دنيا الناس فحسب، بل هو يفسد دينهم وأذواقهم وفطرتهم وقيمهم وأفكارهم معها..

هذا الطاغية الذي قضى ثلاثين سنة يحكم فيها البلاد بقانون الطوارئ، بالعنف والقهر والظلم والفساد، ثلاثين سنة كانت كافية لأي مخلص وطني أن ينهض فيها بالبلد لو أنه أراد، ولكنه لم يفعل، بل زاد الفقر وزادت البطالة وزاد المرض وزاد الموت.. وخذ من الموت ما شئت: حرقا أو غرقا أو هدما أو على الطريق أو بالتعذيب في مقرات أمن الدولة وأقسام الشرطة!

وكيف يمكن أن يصف المرء ثلاثين سنة في سطور؟!.. وأين يجد المرء على دليلا على فساد حاكم أوضح من ثورة شعبه عليه؟! فإن الشعوب طويلة الصبر واسعة الصدر لا تثور وتضحي بنفسها إلا إن بلغ منها اليأس كل مبلغ!

كان عهد مبارك أقل سوءا من عهد السيسي، ربما، يمكن أن نتجادل في هذه العبارة، لكن لا ننسى أن عهد مبارك لم تكن فيه فضائيات ولا انترنت ولا هواتف محمولة تستطيع تصوير الفساد وإرساله إلى وسائل الإعلام، المؤكد أن السيسي أكثر افتضاحا منه، لطبيعة التكنولوجيا في عصره، كما أن السيسي بغير شك أكثر سوءا وبلادة وضحالة في الكلام والمنطق، كان مبارك يستطيع أن يقرأ خطاباته بشكل سليم ويعبر عن أفكاره –مهما كانت ضحلة- بشكل مفهوم، بخلاف هذا الذي جمع عيي اللسان مع ضحالة العقل ثم يظن نفسه طبيب الفلاسفة وأنه قد حاز فهم سليمان!

مهما كان أقل أو أسوأ فإن النظام واحد، نظام عسكري علماني حديدي دموي فاجر، لا يبالي بطحن العباد وسحق البلاد، يمص ثرواتهم في القصور والزخارف تاركا نصفهم تحت خط الفقر ونصفهم الآخر يحذر أن يكون تحته! ثم هو نظام يطارد الدين وأهله، أحسن العلماء فيه من يستطيع أن يسكت أو يتكلم بالكلمة المحسوبة، فأما من جهر بالنكير فهذا في القبور أو السجون أو المنافي!.. والسكوت في حق العلماء في ظل هذه النظم قد يكون أعزُّ ما يُطلب منهم، ولا يقدر عليه إلا فحولتهم ورجالهم، وكفى بالصبر على السكوت -تحت بريق الذهب وظل السيف- مقاما عاليا.

إن الأمة اليوم في محنة.. إذ كيف يعرف الناس الحق من الباطل إن كان مقام السكوت للعالم مقام رفيع؟!

وهذا عبد الفتاح السيسي، الذي بلغت جرائمه كل مبلغ.. بل هذا بشار الأسد الذي ضرب الأرقام القياسية في طغيان الحكام العرب في هذا العصر.. هؤلاء لو ماتوا وهم في سلطانهم لسبحت بحمدهم الألسنة، وذرفت لهم العيون، وتوقفت لهم الدنيا.. وما في ذلك من عجب، لقد أفسدوا –ضمن ما أفسدوا- أفكار الناس وقيمهم ودينهم وأذواقهم، فصاروا لا يحسنون صنعا، وبدلا من أن يرجموا الطاغية ترحموا عليه!! وبدلا من أن يكون هلاك الطاغية خبرا سعيدا فإذا به يكون خبرا حزينا!!

إن الذي يملك القول من موقعه في المنفى أو من حسابه المجهول على مواقع التواصل الاجتماعي يقوم بمهمة عظمى، مهمة إصلاح ما أفسده الطاغية من وعي الناس وعقولهم، وما أحسب لمثل هذا أنه يجوز له السكوت أو التكاسل.. لا بد أن يبقى الحق حقا والباطل باطلا، وإلا اندثر الحق كله فلا يُعرف، بل قد يصير الحق باطلا والباطل حقا، وهذه هي عودة الإسلام غريبا كما كان.. وهؤلاء الغرباء هم الذين يحملون عبء إصلاح هذا الفساد وإعادة الإسلام من غربته لتكون له الكلمة العليا والسيادة العليا والمرجعية العليا.

ما أضيع الأمة وأبأس مصيرها إن كان الطاغية الذي يفتك بها في حياتها ويشبعها ذلا وقهرا ونكبات، هو هو نفسه الذي تبكيه عند موته وتترحم عليه وتحزن لأجله.. فيا أصحاب الأقلام والمنابر والقنوات والمواقع، ويا سائر من يملك أن يتكلم: لا تسكت.. لا تسكت.. لا تسكت.. فلعل كلمة منك تنقذ جيلا أو أجيالا، وإن كلمة الحق لها صلصلة تزيل ركام الباطل!

رحم الله كل مظلوم ومقهور ومقتول ومغدور ومأسور بيد كل طاغية، ولا رحم الله في أي طاغية مغرز إبرة منه، وشفى صدور قوم مؤمنين.

***

وأرجو أن يسامحني القارئ الكريم، فقد طال هذا المقال مني رغما عني، حتى صار متعذرا أن أطيله أكثر من هذا في الحديث عن وفاة د. محمد عمارة، وقد والله تركت وفاته في نفسي لوعة أسيفة، ولا عن الاتفاق الأخير بين أمريكا وطالبان، ولعل الله أن ييسر لكل منهما مقام آخر يوفيهما ما يستحقان إن شاء الله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق