بمناسبة ذكرى وفاة العقاد اليوم (14 مارس
1964م)، أجدها فرصة لقول بعض الأمور فيه وعنه:
1. بداية فإن للعقاد (أربعة) كتب تصنف على
أنها من السيرة الذاتية: أنا، حياة قلم، سارة، في بيتي.. لكن الذي يحب أن يغوص في
آراء المفكر وتأملاته سيجد بغيته عند العقاد في "أنا" (وهي مجموعة
مقالات نشرت بعد وفاته، ولم يختر هو لها هذا العنوان)، أما من يحب أن يستكشف عصر
المؤلف في مذكراته فسيجد بغيته في "حياة قلم".
2. كان العقاد واحدا من أجدر الناس لأن
تجتمع فيهم موهبة الأدب وثقل عقل المفكر، وهذان أمران لا يجتمعان إلا للندرة من
الناس عبر الأجيال، فالرجل إما بارع اللغة ساحر البيان لكنه أقرب للعاطفة وإما
ثقيل العقل صاحب حكمة ولكن بيانه جاف وأسلوبه ثقيل.. ولكلٍّ مشربه، وما علمتُ أحدا
صاحب عقل إلا تمنى أن يكون صاحب قلم، ولا صاحب قلم إلا تمنى أن يكون حكيما!
والذي يغلب على العقاد أنه صاحب عقل، مع
موهبته الواسعة في الأدب، لم يستطع أن يكون شاعرا مطبوعا، وأغلب ظني -وهذا شعورٌ
يطغى عليّ من قراءاتي له- أن هذا كان أهم أسباب نفوره من شوقي، ولئن كان شوقي لا
يُقارن بالعقاد في باب الموسوعية والفكر فإن العقاد لا يصمد أمامه قيد شعرة في باب
الشعر.. فشوقي شاعر ساحر يجدد العهد بالبارودي أو حتى بالمتنبي، بينما شعر العقاد
شعر حكيم جاف!
ولا يمنع هذا أن يكون في شعره نادر جميل،
كقصيدته "صغير يطلب الكبرا ..." أو كأبياته "أنا لا أُلوم ولا
أُلام .. حسبي من الناس السلام"!
لكن نفسية العقاد التي تطلب المقام الرفيع
الأول في كل شيء، حين عجزت عن إدراك هذا مع شوقي، بغت عليه.. وقد ذكر أنيس منصور
في كتابه (هؤلاء العظماء ولدوا في هذه السنة 1889م) أن شاعرا أسمعَ العقاد قصيدة
لشاعر عراقي فأعجبته وطرب لها، فلما أخبره أنها لشوقي انزعج منه وسبَّه!!
ولعلي أزيد فأقول إن محاولة العقاد لتنويع
القافية في القصيدة الواحدة، فيما سماه هو "تجديد الشعر" إنما كانت لأن
دقته التي توجبها عليه نزعته الفكرية يتعسر عليها توليد المعاني في قصيدة طويلة
على قافية واحدة.. لا سيما وأن العقاد كان يحارب بقوة محاولات "تجديد
الشعر" التي تعني التخلص من الوزن واعتماد التفعيلة، وكان يقول: من لم يُحسن
هذا الشعر فلا تثريب عليه أن يتركه ولا يجهد نفسه في تكلف ما لا يحسن، إلا أنه لم
ينصح نفسه بهذا حين طلب من القصيدة أن تتغير قوافيها.
3. سمى العقاد العصر الذي عاش هو فيه بأنه
عصر بابل، يقصد بذلك فوضى الأفكار واضطرابها واختلاف أهلها في المسار الصحيح في
زمانهم، وكان توصيفه هو لهذا العصر من أجمع ما قرأت من التوصيف، فهو عصرٌ تشابكت
فيه الهويات: الإسلامية والوطنية والتغريبية، فثمة احتلال إنجليزي وثمة خديوي وثمة
خلافة عثمانية وثمة استقلال شكلي وثمة أحزاب تعبر عن هذا كله، وثمة أحزاب ترفض هذا
كله، وتتضارب المصالح والمنازع والمشارب..
ولهذا فإن تقييم شخصيات هذه الفترة هو في
الواقع عمل من أعقد الأعمال أمام المؤرخين، والكتابات السطحية التي تحاول وصف
شخصيات هذه الفترة كتابات تسيئ لأصحابها.. نعم، يمكن للمؤرخ والباحث والمفكر أن
يقول بخطأ هذا أو صواب هذا، لكنه يجب أن يحمل معه في هذا التقييم شعورا بروح هذا
العصر الذي لم تكن فيه العبارة الواحدة تحمل بالضرورة موقفا فكريا، ولم يكن الموقف
السياسي يحمل بالضرورة موقفا من الهوية.
ومع أن العقاد اختار من بين هذه الضوضاء
الكثيرة أن يعمل في صفوف حزب الوفد وأن يتغزل بسعد زغلول، إلا أنه -لطبيعة شخصيته
الشديدة الاعتزاز بنفسها- سرعان ما ترك الوفد، لم يستطع أحد بعد سعد زغلول أن
يحتويه، فاصطدم بالنحاس ومن معه فاستقال، وعاش مستقلا مفكرا معتزا بنفسه.. وكان من
الأقلام القوية التي تجابه فساد الحكم، إلى أن جاء انقلاب العسكر 1952 (وكان
العقاد وقتها شيخا في الثالثة والستين من عمره) فندَّت من العقاد بعض مدائح له ثم
لزم الصمت إلى أن مات (1964م) ولم يستطع أن يقف موقفا قويا كالذي وقفه تلميذه سيد
قطب!
وبالمناسبة، سيد قطب كان من أشد المعجبين
بالعقاد والمتحمسين له، لكن العلاقة بينهما فترت حين نقد سيدٌ العقاد مرة، فلم
يغفرها له العقاد.. لم يكن يدرك أن انحياز سيد له هو انحياز أديب قوي الشخصية لا
انحياز تابع.. ومع هذا، فقد تحدث د. صلاح الخالدي -أشهر من ترجم لحياة سيد قطب- عن
أن العقاد كان معجبا بموقف سيد قطب، وإن عجز عن اتخاذ موقف مثله.
4. رغم هذا
الكم الوفير من كتابات العقاد الإسلامية، العبقريات وغيرها، ورغم الموهبة الأدبية
التي جعلته لصيق الاستشهاد بالقرآن والسنة وكلام العرب وأشعارهم، إلا أن خلل تصور
العقاد عن الإسلام خلل واضح، أو يمكن القول إن العقاد دخل إلى الإسلام من أبواب
سجالية جعلت طريقة فهمه ومعالجته لقضاياه غالبة عليها..
ففي عصر الرموز الكبرى التي ملأت الدنيا
وشغلت الناس كتب العقاد عبقرياته، وهو قد كتبها ضمن طريقته في الترجمة، وطريقته في
الترجمة متأثرة بالثقافة الغالبة في عصره، والثقافة الغالبة في عصر تُعَظِّم من
شأن العلم وقدرته على تفسير كل الظواهر، لهذا كان مدخله إلى تراجم الشخصيات مدخلا
تعظيميا لعلم النفس، يبحث في كل شخصية عن مفتاحها الذي يفسر كل أعمالها، وقد أخلص
لهذه الطريقة.. إلا أن الإنسان ما يزال أعقد -حتى بعد أكثر من نصف قرن من وفاة
العقاد- من أن يخضع لنظرية نفسية، أو لنقل: لم يزل علم النفس لم ينتج نظرية كاملة
لتفسير الإنسان.. ومن هنا فقد حملته هذه الطريقة على اعتساف التفسير أحيانا، وعلى
التركيز على أمور وإقصاء أمور حتى تخرج الشخصية منتظمة على هيئة المفتاح الذي
اجتهد العقاد في اكتشافه. قد يصلح هذا في ترجمة البشر، فالخطأ فيهم هين، أما أن
يأتي في شأن الأنبياء والصحابة، فقد وقعت منه أخطاء بعضها لا يمكن قبوله.
وفي عصر العلم، وسيادة نظرية التطور، خرجت
كثير من عبارات العقاد تدل على أنه كان يرى أن المخلوقات غير الإنسان ما هي إلا
محاولات الإله غير المكتملة لخلق الإنسان، فهذا الخلق إنما هو مسودات خلق
الإنسان.. وهو شغوف بدراسة هذه المخلوقات (وأشار غير مرة إلى اهتمامه بالقراءة في
غرائز الحشرات) لكي يفسر بها أخلاق الإنسان!!.. لا أستطيع أن أقول إن العقاد يؤمن
بالتطور، أتورع عن قول هذا، وعباراته يمكن حملها على وجوه أخرى.. إنما أقول: كان
الخلل في تصوره للإسلام هنا (في باب الخلق هذا) خللا واضحا.
هذا إلى أمور أخرى تتعلق بالسنة النبوية
وبالقراءات القرآنية وبنظام الإسلام في الحكم وبالموسيقى والتمثيل ونحو ذلك من
أمور سادت في عصره حتى كانت لديه مقبولة بل وسار في فلسفتها (مثلا: تقبيل الممثل
للممثلة عمل تتنحى فيه الغريزة الشهوانية إذ تحضر فيه رغبة الإجادة والإتقان)..
كان الخلل في هذه الأمور واضحا لمن تشرب الثقافة الإسلامية.
ولا يمنع هذا كله من الاستفادة من كتبه، فإن
فيها خيرا كثيرا كثيرا كثيرا، وفيها نظرات مبتكرة وتفسيرات بديعة لبعض الظواهر
والأمور، كما فيها اعتزاز وفخر بالإسلام، وردٌّ على الشبهات الغربية بمنطق قوي
وباستشهادات غربية أيضا.
ظننتني سأكتب
أكثر من هذا حين تذكرت أن اليوم هو وفاة العقاد، ولكني أشعر أن العبارة لا تلين لي
الآن، فلعلي أواصل الحديث عن العقاد في منشورات قادمة إن شاء الله.
احسنت احسن الله اليك
ردحذفمن أجمل وأعمق ما قرأت عن العقاد رحمه الله وغفر له ..
ردحذف