الأربعاء، يونيو 28، 2017

من إعجاز الفتوح الإسلامية: السرعة والرسوخ


جرت عادة التاريخ في الفتوحات العظيمة أن تكون على طريقة من اثنتيْن: فتوحات قوية تُسفر عن حكم راسخ لكنها تتم في زمن طويل، أو فتوحات سريعة صاعقة تهيمن على مساحة كبيرة في وقت قصير لكنها ما تلبث أن تزول دون أن تترك أثرا كبيرا في صفحة التاريخ. ويُضرب المثل على الفتوحات القوية الطويلة بالدولة الرومانية، كما يضرب المثل بالفتوحات السريعة الزائلة بالحروب المغولية.

لقد خرقت الفتوحات الإسلامية هذه العادة التاريخية، فقد حققت الطريقتيْن معا: فتوحات قوية وسريعة هيمنت على أجزاء واسعة في وقت قصير، ثم إنها ظلت راسخة مكينة لمئات السنين، فمثلت بهذا لحظة تاريخية فارقة، بل إن بعض المؤرخين -كالبلجيكي هنري بيرين- رآها "النقطة التي تميز النهاية الحقيقية للحقبة القديمة في التاريخ" فيما رآها مؤرخون آخرون كالألماني فلهاوزن والأمريكي بيكر والإيطالي كايتاني على أنها "العامل الرئيسي في تاريخ العالم"[1].

بنى هؤلاء المؤرخون أقوالهم لما رسخته الفتوحات الإسلامية من واقع جديد، ذلك أن ثبات الخرائط بعد عصر الفتوح هو أبلغ دليل على الرسوخ والتمكن، وفي هذا يقول المستشرق النمساوي جوستاف جرونيباوم[2]: "كانت السرعة الفائقة التي فتح الإسلام بها ما فتح من البلاد، ولم يُضف إليها بعد ذلك أو يفقد منها شيئا كبيرا، كانت هذه السرعة نفسها هي التي جعلت توزيع العالم المتحضر نهائيا ثابتا منذ زمن باكر يرجع إلى منتصف القرن الثامن"[3].

رسمت الفتوحات الإسلامية مصائر التاريخ، أو بعبارة إليسكي جورافيسكي[4]: "ظهور الدين الإسلامي وترسخه السريع والقوي على أراض آسيوية وإفريقية واسعة في أثناء مسيرة الفتوحات العسكرية الدينية للعرب، حدَّد بصورة حاسمة مصائر المسيحية الشرقية التي قابلت الدين الجديد (الإسلام) دون أي مقاومة، بل وبالترحاب في كثير من المناطق"[5].

وذات المعنى يصوغه بعبارة أجمل إدوارد بروي إذ يقول: "ظهر الإسلام كالشهاب الساطع، فحيَّر العقول بفتوحاته السريعة القاصمة، وباتساع رقعة الإمبراطورية التي أنشأها. نحن أمام شعب كان للأمس الغابر مجهول الاسم، مغمور الذكر، فإذا به يتحد ويتضامّ في بوتقة الإسلام، هذا الدين الجديد الذي انطلق من الجزيرة العربية، اكتسحت جيوشه ببضع سنوات الدولة الساسانية وهدت منها الأركان، ورفرفت بنوده فوق الولايات التابعة للإمبراطورية البيزنطية في آسيا وإفريقيا، باستثناء شطر صغير منها يقع غربي آسيا الصغرى، ولم تلبث جيوشه أن استولت بعد قليل على معظم إسبانيا وصقلية وأن تقتطع لأمد من الزمن، يقصر أو يطول، بعض المقاطعات الواقعة في غربي أوروبا وجنوبيها، ودقت جيوشه بعنف شديد أبواب الهند والصين والحبشة والسودان الغربي وهددت غاليا والقسطنطينية بشر مستطير. وقد تهاوت الدول أمام الدفع العربي الإسلامي كالأكر، وتدحرجت التيجان عن رؤوس الملوك كحبات سبحة انفرط عقدها النظيم، وهذه الأديان التي سيطرت على الشعوب والأقوام الضاربة بين سيرداريا والسنغال، ذابت كما يذوب الشمع أمام النار"[6].

ويتابع جوستاف جرونيباوم وصفه للفتوحات فيقرَّ بأنها تمت في سرعة لا يصدقها عقل، يقول: "استطاع الإسلام أن يقتطع رقعة دولته في مدى قرن واحد بالضبط، وذلك بين وفاة النبي [صلى الله عليه وسلم] في 632 ومعركة تور وبواتييه (بلاط الشهداء)، وكان النبي قد أسس في السنوات العشر الأخيرة من حياته دولة حاضرتها المدينة، قوية الهيمنة على الحجاز وبعض أجزاء نجد وتفرض سلطانها بدرجة أقل، على الأجزاء الأخرى من الجزيرة العربية ذاتها. وكأنما كانت وفاته إيذانا بردة الأعراب الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم. حتى إذا سُحِقَتْ هذه الحركة النافرة عن مركز الإسلام، بدأ في التوسع في سرعة لا يكاد يصدقها عقل"[7].

لذلك وصفها ويلز[8] في تاريخه الموجز للعالم بأنها "أعجب قصص الفتوح التي مرَّت على مسرح تاريخ الجنس البشري"[9]، وتعجب كذلك مؤرخ الحضارة الأشهر ول ديورانت[10] فقال: "أصبحت الفتوح العربية -التي كانت أسرع من الفتوح الرومانية، وأبقى على الزمان من الفتوح المغولية- أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله"[11]، ويتابع: "لقد علم الإسلام الناس أن يواجهوا صعاب الحياة، ويتحملوا قيودها، بلا شكوى ولا ملل، وبعثهم في الوقت نفسه إلى التوسع توسعا كان أعجب ما شهده التاريخ كله"[12].

وذات العجب يردده الزعيم الهندي المعروف جواهر لال نهرو[13] في قوله: "المدهش حقا أن نلاحظ هذا الشعب العربي -الذي ظل منسيا أجيالا عديدة، بعيدا عما يجري حوله- قد استيقظ فجأة ووثب بنشاط فائق أدهش العالم، وقلبه رأسا على عقب، وإن قصة انتشار العرب في آسيا وأوربا وإفريقيا، والحضارة الراقية، والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم، هي أعجوبة من أعجوبات التاريخ! إن الإسلام هو الباعث والفكرة لهذه اليقظة العربية؛ بما بثه في أتباعه من ثقة ونشاط"[14].

مثل هذه الأقوال، وكثير غيرها سنعرض لبعض منه في المقالات القادمة إن شاء الله، تمثل مادة يتزود منها الخطيب إذ يقف على المنبر، والكاتب إذ يسطر للصحيفة، والمتحدث إذ يرسل صوته عبر الإذاعة والشاشة. فالمؤسف أننا نجد بعضا من أولئك يقف موقف المدافع المتردد ذي الخجل وهو يتحدث عن الإسلام فيما حقه أن يقف موقف الفخر والاعتزاز، كيف وهو يستطيع أن يسوق حجته كلها من أقوال قوم ليسوا بمسلمين وبعضهم من أعدائه.

لئن كانت الحروب ظاهرة طبيعية في التاريخ، فإن الفتوح الإسلامية هي الظاهرة الخارقة، ليست فقط خارقة بما حققته من إنجاز بل بما أثمرته من نتائج مدهشة، هذه الدهشة سنتناولها بإذن الله تعالى في المقال القادم.




[1] فرانشيسكو جابرييلي، الإسلام في عالم البحر المتوسط، ضمن "تراث الإسلام" بإشراف: جوزيف شاخت وكليفورد بوزوروث، ترجمة: د. محمد زهير السمهوري وآخرون، سلسلة عالم المعرفة 11 (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1987م)، 1/88، 89.
[2] جوستاف جرونيباوم (1909 – 1972م) مستشرق نمساوي هاجر إلى أمريكا بعد ضم ألمانيا للنمسا، وهناك حصل على الجنسية الأمريكية وترك ديانته اليهودية إلى الكاثوليكية، وكان أستاذا لقسم الدراسات الشرقية بجامعة كاليفورنيا.
[3] جوستاف جرونيباوم، حضارة الإسلام، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014م)، ص15.
[4] أليسكي جورافيسكي: متخصص في تاريخ العلاقات الحضارية بين الشعوب، يعمل في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية.
[5] أليسكي جورافيسكي، الإسلام والمسيحية، ترجمة: د. خلف محمد الجراد، سلسلة عالم المعرفة 215 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، نوفمبر 1996م)، ص149.
[6] إدوارد بروي، القرون الوسطى، ضمن "تاريخ الحضارات العام" بإشراف: موريس كروزيه، ط2 (بيروت: منشورات عويدات، 1986م)، 3/109.
[7] جوستاف جرونيباوم، حضارة الإسلام، ص16.
[8] هربرت جورج ويلز (1866 – 1946م) روائي ومؤرخ بريطاني رغم أن دراسته في مجال العلوم، أصدر عددا من الروايات ثم اتجه إلى التاريخ وأصدر عددا من المؤلفات، ثم اتجه إلى التنبؤ بما يكون في المستقبل.
[9] هـ. ج. ويلز، موجز تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1967م)، ص204.
[10] ول ديورانت (1885 - 1981م) مؤرخ الحضارة، أمريكي، بدأ حياته صحفيا، وشغف بالفلسفة ثم عكف على دراسة تاريخ الحضارة حتى أخرج موسوعته الأشهر "قصة الحضارة" بعدما أمضى في تأليفها أربعين عاما، وصدرت طبعتها العربية في 32 مجلدا، بالإضافة إلى كتب أخرى مثل "قصة الفلسفة" و"مباهج الفلسفة".
[11] ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة مجموعة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م). 13/73.
[12] ول ديورانت: قصة الحضارة، 13/69.
[13] جواهر لال نهرو (1889 - 1964م) أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند وأول رئيس وزراء بعد الاستقلال، ومن مؤسسي حركة عدم الانحياز، أنجب ابنة وحيدة هي أنديرا غاندي التي أصبحت بعد ذلك رئيسة للوزراء.
[14] جواهر لال نهرو، لمحات من تاريخ العالم، ترجمة: عبد العزيز عتيق، دار المعارف، القاهرة، 1958م. ص23، 24.

الأربعاء، يونيو 21، 2017

المنشاوي.. صوت السماء الخاشع البَكَّاء

أصعب المقالات قاطبة تلك التي تحاول أن تصف فيها شعورا ما، فالمشاعر لا توصف، ولهذا فلكم دار الشعراء والأدباء حول المعاني ولا يزالون ثم لا تزال المعاني تلهم مَن بعدهم أوصافا جديدا.. لذلك فإن الذي يُقدم على وصف مشاعره يدخل في منافسة هائلة مع أرباب البيان والبلاغة وحظه فيها من الفوز حظ ضئيل.

فكيف إذا أراد المرء أن يكتب عن صوت هز القلوب وحركها في طول عالم المسلمين وعرضه، سمعته الآذان من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، فتأثرت به واهتزت له وخشعت معه، صوت يتبارى في تقليده العرب والعجم، ولا تزال تقبل عليه القلوب والأسماع كأن صاحبه لم يمت منذ نحو نصف القرن، وقد جاء نصف القرن هذا بعدد هائل من مشاهير القراء تدفق علينا عبر الفضائيات والإذاعات وشبكة الانترنت.

محمد صديق المنشاوي..

توفي في مثل هذا اليوم (20 يونيو 1969م)، ولست أدري إن كان ثمة من تذكره أم لا في عالم الفضائيات والإذاعات، لكنه وإن لم يتذكره أحد فلا ريب أنه صوته كان يصدح في البيوت والمساجد والهواتف والمجالس والحلقات!

بغير انتقاص من أي قارئ، يظل الشيخ المنشاوي أوسع القراء قبولا فيما أعلم، إنه يقرأ القرآن كأن له فيه طريقة مختلفة وكأن فيه سرا مجهولا.. القرآن في صوت المنشاوي كأنه غضٌّ طريٌّ نَدِيٌّ، فيه تلك الروح التي تفوح من كل شيء حي، يشعر المرء أحيانا أن القرآن يتنزل عليه فلم تزل فيه رائحة السماء وأنفاس الملائكة!

ولست أدري كيف يمكن تقريب هذا المعنى، إن له في القرآن خشوعا عجيبا، صوته يميل إلى الحزن والبكاء، لكنه ليس حُزْنَ مُتَصَنِّعٍ ولا بكاءَ مُتَكَلِّف، إنه خشوع حزين يغمر القلب كالنهر العذب، فيرى المرء في القرآن جمالا لا يشعر به مع غيره.

وللرجل في تلاوة القرآن إحساس عالٍ في الوقف والابتداء، فهو يقرأ آية سورة غافر {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.. فإذا به يواصل القراءة بعد {رب العالمين} ويقف عند قوله {هو الحي}، فيظهر للآية معنى جديد: أن الله الذي أنعم علينا بكل هذه النعم، ورزقنا كل هذا الرزق حي لا يموت.. فتسري في النفس طمأنينة قريرة، لا يملك المرء نفسه إلا وهو يقول: الله الله الله!

وفي أول تلك القراءة من سورة غافر بدأ الشيخ تلاوته من قول الرجل الصالح من قوم فرعون {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ...}، فكانت هذه البداية التي أطال فيها وكررها من خير ما ينزع السامع من حياته الدنيا لينتبه لهذا القرآن الذي سيأتيه بما هو أهم من الدنيا، فيحسن استقباله له، فيسمع بعدها قول الله تعالى:

{يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.

لست أحسب أن السامع المنصت قد يتلقى هذه المعاني العالية بذات الاستعداد لو كانت البداية بغير هذه المفاجأة (ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع).

ولست أطيل في ذكر الشواهد، فإخواننا من الحفظة والمتقنين يعرفون منها الكثير والكثير.. إنما المقصود هو لفت النظر إلى أن هذا الرجل كان يقرأ بقلبه، فيعرف كيف يصوغ المعاني بصوته، فتأخذ طريقها إلى القلوب، ثم تأخذ الدموع طريقها إلى العيون.

وبقدر ما استطاع كثيرون جدا أن يجتهدوا في تقليد صوته من الأطفال والكبار، من العرب والعجم، كما تشهد مقاطع المسابقات القرآنية، بقدر ما عجز أحد أن يبلغ في الإتقان والأثر مبلغه، إن الأمر ليس مجرد الصوت والنغم وإتقان مخارج الحروف وحركات المدّ، صلب الأمر أعمق من هذا.. إن في تلاوة المنشاوي روحا موصولة بالسماء تجعل الآية حية نابضة!

ساقني اليوتيوب قبل أيام إلى واحدة من تلك المسابقات القرآنية على قناة إيرانية، فكرة المسابقة أن يُختار مقطع لقارئ ثم يجتهد المتسابقون لتقليده، وأحسب أن مثل هذا المقطع خير ما يمكن أن أضرب به المثل على ما أقول.

أول ما انتبهت لصوت المنشاوي حين كنت طفلا، كان يصدح صوته من مئذنة المسجد الكبير في قريتنا التي كنت أزورها صيفا، وكانت عادة القرية أن يسبق المؤذن وقت الصلاة بإذاعة شيء من القرآن، فكنت أنتظر هذه اللحظات وأتشوق إليها وأتمنى لو كان المنشاوي –دون غيره- قبل كل صلاة. ومهما كانت رغبة الطفل في اللعب واللهو كان صوت المنشاوي يغلبها فتتوقف لتسمع وتتأمل وتستمع!

بصوت المنشاوي صرت أتشوق لأعرف كيف كان صوت عبد الله بن مسعود الذي قال فيه النبي (من سرَّه أن يسمع القرآن غضا طريا كما نزل فليسمعه من ابن أم عبد)، وكيف كان صوت أسيد بن حضير الذي نزلت الملائكة لتسمعه حتى هاجت فرسه، وكيف كان صوت أبي موسى الأشعري الذي أحب النبي أن يسمع القرآن منه!

ثم كيف هو صوت رسول الله؟!

كيف كان صوت صاحب القرآن الذي نزل عليه القرآن فكان أول من سمعه من جبريل وأول من تلاه في دنيا الناس؟!.. وكيف كان الصحابة يستمعون إليه منه صلى الله عليه وسلم؟!

ثم كيف سيكون نعيم أهل الجنة الذين ورد في نعيمهم أنهم سيسمعون القرآن من الله تبارك وتعالى بنفسه؟!!

يا الله!!! كيف يُمكن تصور هذا النعيم؟ وكيف يمكن أن يغمر المرء مثل هذا الجمال؟! وأي بحار أنوار وأمواج نِعَم وفيضان متعة ستجتمع في تلك اللحظة؟!


اللهم ارحم عبدك محمد صديق المنشاوي، ولا تحرمنا لذة قراءة كتابك وفهمه والعمل بما فيه، ولا تحرمنا نعيم الجنة وما فيها من متعة سماع كتابك منك يا ودود يا كريم يا رحيم.

الأحد، يونيو 18، 2017

ملامح الدولة المصرية كما في سورة يوسف

ما يلفت النظر في سورة يوسف هو قِدَم وعراقة نظام الدولة في #مصر.. وقصة يوسف هي أقدم ما يُروى في القرآن عن الأحوال في مصر.

الأمور معقدة ولها نظام وترتيب..

مثلا:

1. وجود السجن نفسه.. المجتمعات البسيطة تتعامل بالقتل مباشرة، بالقطع، بالنفي.. هذه العقوبات التي لا تحتاج مجهودا ولا وقتا ولا بناء ولا حراسة ولا إشراف على إطعام أو سقي المساجين!

وجود السجن نفسه دليل على وجود كل هذا..

وهو دليل على قوة الدولة التي تعاقب بالسجن، لأن العقوبة بالسجن تعني أن الدولة تأمن على نفسها من انتقام المسجون إذا أُطلق، وتأمن من وجود عصبة أو قوة ستسعى إلى تهريبه أو تسعى إلى مهاجمة السجن أو هدمه.. الدولة قادرة على الحكم بالحبس، وعلى إنفاذ الحبس، ومكان الحبس معروف للجميع.. والجميع يعرف ويستسلم، أو يعرف ويعجز.

2. وجود (نظام) قضائي.. وفكرة النظام لا علاقة لها بالعدل أو الظلم.. النظام هو القدرة على إدارة الأمر.

فمثلا هناك فترة بين الاتهام والعقوبة.. فامرأة العزيز اتهمت يوسف، وثبت في دائرة ضيقة أنه بريئ، لكن الخبر تسرب من القصر إلى نساء الأثرياء فتهامسن به، هنا تعرضت سمعة الدولة للخطر، ففتحت قضية في هذا الموضوع.

هناك فترة بين الاتهام وبين العقوبة.. هي الفترة التي جاءت فيها امرأة العزيز بالنساء وأخرجت عليهن يوسف.. وقالت بوضوح (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين).. تفهم من هذه العبارة أنه حر ما زال في بيت سيده، وأن القضية في فترة التحقيق، ولم تصدر العقوبة بعد.. كما تفهم منها طبعا أنها تملك التدخل في نتيجة القضاء.

(قضاء شامخ من زمان :) )

وهذا النظام القضائي يظهر كذلك في قصة يوسف مع صاحبيه في السجن..

فأحدهما مسجون في تهمة بسيطة، وسيخرج بعد فترة، وسيعود للعمل في فريق شرب الخمر لسيده.. والآخر مسجون في تهمة خطيرة وسيصدر الحكم عليه بالصلب والترك في العراء حتى تأكل الطير من جثته.. فهو الآن في فترة حبس احتياطية حتى يصدر الحكم.

فنفهم من هذا أن من المتهمين من كان يُحبس حتى يصدر عليه الحكم، سواء بالبراءة أو بالقتل.

قيمة هذا الكلام أنه موجود منذ آلاف السنين..

وطبعا هذا النظام القضائي مرهون برغبة الملوك.. فكما دخل يوسف السجن في تهمة ظالمة برغبة الكبار.. خرج منها في لحظة برغبة الملك.. (قضاء مستقل وشامخ :) طبعا)

3. وجود (نظام) إداري في مصر

وهذا النظام الإداري يظهر في العديد من المواقف، فمنها مثلا:

أ- أن أصحاب البضائع لا يسلمون بضائعهم فيتسلمون المقابل لها هكذا بتبادل مباشر.. لا، بل يسلمونها في مكان.. ويستلمون مقابلها في مكان آخر، ويتسلمونها مغلقة، ومن قوة نظام الدولة فإن الثقة متوفرة في هذه البضائع المستلمة منها.. والفترة التي بين التسليم والتسلم لا يعرفون فيها شيئا ولا يراقبون فيها شيئا.

ذلك ما حدث مع إخوة يوسف.. جاءوا ببضاعتهم فأخذت منهم، ثم أخذوا مقابلها مغلقة.. ولم يكتشفوا أن بضاعتهم ردت إليهم إلا حين عادوا إلى الشام.. ظلت البضائع التي تسلموها مغلقة مأمونة محفوظة حتى فتحوها في بلادهم.. هناك ثقة بما قد خُتِم بختم الدولة.

كان يوسف يملك أن يقول لفتيانه (اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) فيضعها الفتيان دون أن يكون لأحدهم أن يكتشف هذا.

ب. ويظهر كذلك في اقتراح يوسف لحل مشكلة المجاعة.. فالدولة التي تستطيع الحفاظ على تخزين الحبوب والغلال، وعلى إبقاء بعضها إلى سبعة أعوام هي دولة ذات نظام قوي.. وذلك في أزمنة قديمة ليست فيها القدرة الحالية التي تمتلكها الدول من أنظمة وأساليب المراقبة والمتابعة.

جـ. ويظهر في قوله (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم).. إن مهمة إدارة الخزانة المصرية مهمة كبرى تحتاج إلى كفاءة وموهبة وعلم (عليم) فوق حاجتها إلى الأمانة (حفيظ).

د. ويظهر أيضا في قول يعقوب (لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة).. فالغرض الواحد (الاستبضاع) عند الوزراة المقصودة (وزارة المالية، أو التموين) يُفتح له أكثر من باب، ويدخل له أقوام من أبواب متفرقة.. ولا يؤثر هذا على النظام، فلا يحدث اضطراب أو ارتباك.. بل يقضي المرء مهمته سواء دخل هو وجماعته من باب واحد معا أو دخل كل واحد منهم من باب غير الآخر.

هناك أمور أخرى خطرت لي أثناء القراءة لكن تاهت مني لما لم أسجلها.. لكن فيما مضى مفهوم وبيان للقصد.

والدرس العملي الذي نستفيده من هذا أن أي إصلاح (خصوصا في مصر) لا يمكن أن يكون دون (السيطرة) على هذه (الدولة).. هذه الدولة العريقة الموغلة في القدم والتي صبغت حياة الناس فيها بحيث لم تعد في البلاد عصبيات يمكنها مواجهة السلطة كما هو الحال في عموم البلاد الأخرى.


نعم، أعرف أني كررت هذا المعنى كثيرا، ولكن لا بأس بتكراره مرة أخرى.. أصلا لا معنى لأي شيء لا يمكن الاستفادة منه عمليا.

السبت، يونيو 17، 2017

مسألة تيران وصنافير ببساطة


1. إسرائيل لها حق وحرية الملاحة في خليج العقبة منذ 1956.. أي نعم، منذ عهد الرئيس التعيس المهزوم الملعون السفاح جمال عبد الناصر.

2. السبب المباشر لنكبة 67 أن هذا التعيس أغلق مضيق تيران، وطلب مغادرة القوات الدولية التي تحفظ حق الملاحة فيه.. أي أنه هو الذي أعلن الحرب.. وبالرغم من هذا فقد تلقى صفعة تاريخية، وحققت إسرائيل أسرع توسع في التاريخ منذ الفتوحات الإسلامية، وابتلعت أضعاف مساحتها هي (تخيل دولة تبتلع أضعاف مساحتها في ساعات!)

3. بعد قصة السلام مع إسرائيل، صار لإسرائيل حق الملاحة في قناة السويس.. صحيح يتوقع المصريون أن القناة تعمل بإدارة وإشراف مصري، ولكن هذا ليس صحيحا، الواقع أن قناة السويس تعمل كمر دولي ويتولى تأمينها شركات أجنبية بينها شركة إسرائيلية.

(يعني إسرائيل تبحر بمزاجها في خليج العقبة والسويس معا)

إذن.. ما الجديد في نقل تبعية الجزيرتين للسعودية؟!

1. لا جديد بالنسبة لإسرائيل إطلاقا لا في مسألة الملاحة ولا في مسألة الحدود الدولية ولا الممر المائي.. فهي بحكم التاريخ والواقع والنفوذ وحتى القانون الدولي لها (الحق) في الإبحار في الخليج منذ ستين سنة.

2. لا جديد كذلك بالنسبة للسعودية التي لن تفعل شيئا بالجزيرتين، ولو كانت أرادت أن تفعل شيئا لألقت ببعض المال للسيسي وفعلت ما تريد.. والسيسي من جهته لا يمانع، ولدينا طابور طويل من القوانين التي أصدرها لتسمح للأجانب بالتملك في سيناء نفسها.

3. لا جديد أيضا بالنسبة لإسرائيل التي تستطيع بحكم الواقع أن تنشيء ما تشاء من خط تجاري أو قناة مائية بين العقبة وساحل المتوسط.

(لكن بالله عليك اعلموا أن إنشاء إسرائيل لقناة مائية مستحيل.. وأصلا لا توجد دولة تصنع ممرا دوليا في أرضها.. الدول التي فعلت ذلك فعلته وهي تحت النفوذ الأجنبي كما في قناة بنما.. أو فعلته وهي مخدوعة مستباحة كما في قناة السويس وخدعة ديليسبس.. القنوات المائية ضربة في صميم الأمن القومي لأي بلد) (في آخر البوست مقالات عن أخطار وأضرار قناة السويس إذا أحببت أن تتوسع).

4. طبعا مسألة حق السعودية في الجزر هذا تخريف تاريخي أبله، وأحسن تعبير عنه قرأته في بوست على الفيس لا أعرف للأسف صاحبه "رجعت للتاريخ لأسأل عن الجزر هل هي مصرية أم سعودية؟ فلم أجد السعودية!".

وطالما كانت مصر تحكم الحجاز، وتحكم الجانب الشرقي للعقبة حتى عام 1906، حين اشتبك السلطان عبد الحميد الثاني مع الاحتلال الإنجليزي على حدود سيناء في إطار مشروعه لبناء خط السكة الحديد.. وكاد الأمر يتطور إلى حرب حقيقة وتحرك الأسطول الإنجليزي.. حتى تم ترسيم حد سيناء الحالي (الخط الواصل من رفح إلى رأس خليج العقبة)

هذه الحادثة مشهورة باسم أزمة طابة أو أزمة العقبة 1906، وكتب كرومر في مذكراته أنها يمكن أن تكون شرارة ثورة لأن مصطفى كامل وكافة التيار الوطني -عبر صحف اللواء والأمة والظاهر- اتخذوا موقف تسليم سيناء للدولة العثمانية نكاية في الاحتلال الإنجليزي (طبعا ده موقف صادم للذين يظنون أن مصطفى كامل "وطني" بالمعنى العنصري الذي درسناه في المدارس.. لكن يمكنك أن تبحث بنفسك).. مما دفع الإنجليز لإحياء قانون المطبوعات لإغلاق هذه الصحف.

5. وآخر تطور للجزيرتين أن مبارك حولهما إلى محميات طبيعية بحيث لا يسكنهما أحد فيمكن أن يؤذي إسرائيل.. فالجزر عمليا وواقعيا تحت السيادة الإسرائيلية؟

إذن نرجع للسؤال.. ما الجديد؟ لماذا نقل جزيرتين من سيادة اسمية شكلة مصرية إلى سيادة اسمية شكلية سعودية؟
لا جديد إلا أن السعودية صارت ضمن فريق حرس الحدود الإسرائيلية، وهذا يساوي دخولها في علاقات مع إسرائيل (وقد تسرب قبل سنة توقيع محمد بن سلمان على الملحق الأمني الخاص بكامب ديفيد في العقبة في زيارة سرية).. وبهذا وحده تفسر حضور إسرائيل في كل المباحثات (لو لم تسمع تسريب مكالمة وزير الخارجية المصري التي يراجع فيها بنود الاتفاقية مع المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية فابحث عنه واسمع).

هذا إذن فتح باب واسع للعلاقات السعودية الإسرائيلية، سيترتب عليها علاقات أمنية وسياسية واقتصادية.. ومن المهم أن نلاحظ أن ظهور القضية كان في لحظة ظهور محمد بن سلمان، والتغير السعودي المفاجئ من جهة السيسي الذي كان مطلع عهد سلمان.

تأمين توريث العرش لابن سلمان هو المتغير الوحيد -فيما أعلم- الذي يفسر السياسة السعودية.. وهو مطلب في جيب الأمريكان، والطريق إلى الأمريكان يمر عبر الإسرائيليين.. وفي الطريق إلى إسرائيل وأمريكا يحدث كل ما نشاهد ونسمع.

-----------
مقالات قناة السويس:
ماذا تعرف عن أخطار وأضرار قناة السويس
http://melhamy.blogspot.com/2015/07/blog-post_26.html
قناة السويس، وكيف تضحي مصر بنفسها لأجل الأجانب
http://melhamy.blogspot.com/2015/08/blog-post.html
ماذا قال المؤرخون الأجانب عن قناة السويس
http://melhamy.blogspot.com/2015/08/blog-post_6.html
فصل من قصتنا مع الشرعية الدولية
http://melhamy.blogspot.com/2015/08/blog-post_8.ht