السبت، أغسطس 31، 2013

فتى الأندلس وقمة تاريخها




في 27 رمضان 393 هـ، فاضت إلى السماء روح واحد من أعظم رجال الإسلام في كل تاريخه، ذلك هو: الملك المنصور محمد بن أبي عامر.

كانت شخصية المنصور بن أبي عامر عجيبة، كان متعدد المواهب واسع القدرات، لا يضع يده في أمر إلا ويجيده أفضل من ذوي الخبرة فيه! وقد بدأ حياته طالب علم فنبغ ولفت نظر شيوخه حتى أوصى به بعضهم لدى الحاجب (يساوي منصب رئيس الوزراء في النظم الرئاسية) فبلغ بذلك مرتبة القضاء وصار قاضيا على بعض مدن الأندلس ثم أصبح قاضيا لمنطقة المغرب في عهد المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الناصر، وتولى في هذا العهد بخلاف القضاء أعمالا في السياسة والإدارة فأبدع فيها جميعا بما أثار دهشة الجميع حتى إن الخليفة الحكم قال فيه معجبا: "إنه لساحر"!

تولى محمد بن أبي عامر النظر على الخاص (أي الإشراف على شؤون أسرة الخليفة وأملاكهم) وولاية الشرطة الوسطى (تشبه إدارة الأمن في عصرنا) والعليا (تشبه الأمن القومي الآن) ودار السكة (وزارة المالية) والحِسْبَة (ليس لها نظير معاصر، ولكنها تجمع بين إدارات الرقابة على الجودة وزارة التموين)، ثم تولى بعدئذ إدارة مدينة قرطبة التي كانت في ذلك الوقت عاصمة أوروبا والغرب جميعا، والمدينة الثانية في العالم (بعد بغداد، مع القاهرة) حضارة وثقافة وازدهارا فضبطها –كما يقول الذهبي- ضبطا أنسى به من سبقه فيها.

وما زال محمد بن أبي عامر يترقى في المناصب بمواهبه المدهشة حتى بلغ الحِجَابَة (رئاسة الوزراء)، وكان ذلك بعد وفاة الخليفة الحكم وولاية ابنه هشام الخلافة.

وكان هشام حينئذ صغيرا؛ إذ تولى الخلافة بعد وفاة أبيه وعمره في الحادية عشرة، فلذلك كانت السلطة الحقيقية بيد محمد بن أبي عامر الذي ظهرت لديه –مع كل مواهبه- موهبة أخرى في القيادة العسكرية، فكان فارسا لا يشق له غبار، وأثبت أن الأندلس لم تهتز بموت الخلفاء الأقوياء كالناصر والمستنصر، كما أثبت للقادة العسكريين الذين قعدوا لتنافسهم على المنصب أنه يستطيع سد الثغر وحده وليس بحاجة إليهم، فقاد بنفسه الحروب مع الروم الذين هاجموا البلاد، ثم انطلق إليهم يفتح بلادهم في شمال شبه الجزيرة الأيبرية، فبلغت فتوحاته حيث لم يصل أحد قبله من الفاتحين ولا الأمراء، ولم يهزم مرة واحدة في أكثر من خمسين غزوة خاضها، وبلغت الأندلس في عهده ذروة تاريخها: قوة وحضارة وريادة وتفوقًا، حتى ذهب إلى ربه وقد استوفى واجبه على خير وجه.

مات المنصور وهو عائد من إحدى غزاته، ودُفِن في مدينة سالم –التي كانت من مراكز الجهاد الأندلسي- وكُتِب على قبره شعرٌ مؤثر:

آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنك بالعيان تراه

تالله لا يأتي الزمان بمثله ... أبدا، ولا يحمي الثغور سواه

بعد موت المنصور بنحو سبعين سنة كانت الأندلس قد دخلت عصر ملوك الطوائف، حيث ضعف المسلمون وتغول الصليبيون، وفي لقاء مهين جلس ملك الصليبيين على قبر المنصور إذلالا لسفير الأمير المسلم، فلم يملك السفير إلا أن قال: "والله لو تنفس صاحب هذا القبر لارتعدت منه، وما سمع منك ما يكره"..

رحم الله من استمرت هيبته في نفوس العدو بعد سبعين سنة من موته.

السبت، أغسطس 24، 2013

فصل في إعلام الفراعين




نقلت الرواية الرسمية نبأ ظهور ساحريْن أثارا بعض المشكلات بين الجماهير ويُتوقَّع أنهما قد يمثلان خطرا على استقرار البلاد، ورغبة في الشفافية وإنهاء الوضع بصورة سلمية فقد قررت الدولة إجراء مناظرة عامة بينهما وبين المتخصصين في هذا المجال، وذلك صباح يوم العيد في الساحة الكبرى بوسط العاصمة المصرية، وقد صدرت الأوامر إلى كافة أنحاء البلاد بإرسال المتخصصين فيها إلى العاصمة، واختلف المؤرخون حول العدد ولكنه لا يقل عن المئات وقد يصل إلى الآلاف.

ليس مذكورا فيما بين أيدينا من المصادر ما إذا كان المواطن المصري اندهش من عدم التكافؤ وهل تساءل: ما الداعي لجمع مئات المتخصصين لمواجهة رجليْن فحسب؟! لكن اليقين أنه تلقى الرسالة الإعلامية الواضحة التي حشدت الناس للمناظرة، لا بغرض المشاهدة فقط بل بغرض التأييد للسحرة (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون * لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين)، وبهذا لم تكن الرسالة الإعلامية محايدة أو مهنية بل كانت منحازة بوضوح.

كانت الساحة تشمل أربعة طوائف: فرعون وحاشيته، جنود الدولة، الجماهير، السَّحَرة.

أدى السحرة التحية الواجبة لزعيم البلاد، ورفعوا رجاء بأن يحصلوا على أجر سخيّ إن انتصروا، فأجابهم الزعيم بابتسامة عريضة: وفوق الأجر ستوضعون في المناصب الرفيعة في الدولة (قالوا أإن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين)

وفي مفاجأة غير متوقعة على الإطلاق، ألقى السَّحرة ما في أيديهم من العصى والحبال فتحولت إلى حيات، ثم ألقى موسى عصاه فتحولت إلى حية أكلت جميع الحيات، ثم جاءت الصاعقة: لقد سجد السحرة وأعلنوا أنهم قد آمنوا بموسى وبما جاء به!!

وقبل أن يفكر الناس في هذا المشهد إذا بزعيم الدولة يهدر صارخا بقوة: إنها المؤامرة! إن موسى هو زعيمكم الذي علمكم السحر، إنه التنظيم السري الذي أراد ضرب استقرار مصر، وإن الدولة ستتعامل معه بكل القوة والحزم وبدون أي تهاون.

تكهرب الجوّ، وبسرعة بدأت أجهزة الدولة في اتخاذ الإجراءات الحاسمة، ألقي القبض على السحرة، صلبوا على جذوع النخل، وبعد ساعات كان قد نُفِّذ فيهم قرار الإعدام تطبيقا للقانون وإعلاء للمصلحة العليا للبلاد.

وعمل الجهاز الإعلامي طيلة الفترة اللاحقة على إذاعة أنباء التنظيم السري الذي أنشأته طائفة بني إسرائيل –عملاء الهكسوس السابقين، الذين قدموا من الشام أيام الاحتلال الهكسوسي البغيض- لضرب استقرار البلاد وإعادتها إلى قرون التخلف والرجعية، وأخرج الجهاز الإعلامي رواية تفسيرية مفصلة عن إعداد وإخراج المشهد الذي سيمثل فيه السحرة –بادئ الأمر- أنهم مخلصون للدولة لكي يخدعوا الجماهير ثم وفي اللحظة المناسبة يُظهرون خيانتهم، وتم الكشف عن أوراق بردي كانت مخبأة في ثياب السحرة تكشف المخطط الكامل للمؤامرة الرهيبة.

خرج الزعيم في خطاب شامل أمام الجماهير وأشار فيه إلى حقائق الوضع، وأهمها: أنه ضمانة لاستقرار البلاد وأمنها ورخائها (يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون؟) وأن هذا المتمرد موسى لا يصلح أن يكون بديلا، فهو من أصل دنئ بل ولا يجيد الكلام المبين (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يُبين)، وأوضح الزعيم أنه كان سيكون أول أتباعه لو أن معه أي دليل يشير إلى صدقه (فلولا ألقي إليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين)، وأصدر الزعيم قرارا بأنه –ورغم كل هذه الدلائل على كذب موسى ومؤامرته مع جماعته- إلا أنه أصدر قرارا لوزير التعمير بإنشاء برج ضخم يقترب من السماء للاطلاع على حقيقة إله موسى، كما أكد الزعيم على حرصه على مصلحة الشعب والوطن (قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

وقد التهبت أكف الحاشية بالتصفيق والإشادة بما حواه الخطاب، وأفرد القطاع الإعلامي أوقاتا كثيرة لتحليل نقاط الخطاب وأهم ما جاء فيه، ولم يغب عن بعضهم تحليل "لغة الجسد" للزعيم الكبير ذي الحكمة والقوة والنظر الثاقب.. وكان للخطاب تأثير كبير في نفوس الجماهير.

صارت جماعة موسى في حصار اجتماعي رهيب، حتى فقد بعضهم الأمل الذي ظهر بظهور موسى كمخلص لهم من الاضطهاد العرقي والديني، ولم يتردد بعضهم في أن يقول لموسى (أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا)، وصار الخروج لأداء الصلاة أمرا محفوفا بالمخاطر حتى سمح لهم موسى أن يصلوا في بيوتهم.

رفعت الأجهزة تقارير للزعيم تثبت خطورة ترك موسى وجماعته على المجتمع، فقرر الزعيم تنفيذ إجراءات استثنائية إضافية (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك، قال: سَنُقَتِّل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون)، لكن يبدو أن الأمر لم ينته ولا بد من حسم نهائي.

حينئذ أصدر الزعيم بيانا تم تعميمه على أنحاء البلاد يقول فيه: قررت الدولة مواجهة هذه القلة المندسة التي تمثل تهديدا للوطن ويطمئن المواطنين بأن الأمور تحت السيطرة والدولة تتخذ كافة الإجراءات المناسبة (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون).

ورغم أن الأخبار التي وردت بعد ذلك تفيد بموت الزعيم وانهيار الجيش، إلا أن السلطة انتقلت بسلاسة إلى الزعيم الآخر، ولم يُعرف مصير موسى وجماعته ولا كيف انتصروا على الجيش المصري العظيم وأبادوه عن آخره. ولا تورد المصادر التي بين أيدينا الرواية الرسمية التي صدرت بعد هذا الحادث.

***

يفرض هذا المشهد تسجيل ملاحظة ذات أثر:

لقد جرت المعجزة الرهيبة في ساحة العاصمة أمام الجميع واختلفت ردود الأفعال اختلافا كبيرا:

- فالسَّحرة –الذين هم العلماء المتخصصون أرباب هذا المجال- أعلنوا أن هذا الذي أتى به موسى فوق طاقة البشر وقدرتهم، وأنه معجزة إلهية، ولم يترددوا أمام هذا الوضع إلا أن يؤمنوا.

- وأما فرعون فقد ابتكر، في اللحظة، رواية أخرى تخالف ما كان يروجه الجهاز الإعلامي طوال الفترة الماضية، بل وتخالف المشهد الحالي نفسه، وقد أَمَّنت الحاشية وأكدت صدق الرواية التي صارت رواية رسمية.

- وأما الجماهير فيبدو أنها قبلت الرواية الرسمية التي ألقاها فرعون، وانصرفت دون أن يتغير موقفها نتيجة هذه المناظرة التي انتظروها منذ زمن.

- وأما الجنود، فقد آمنوا بالرواية الرسمية، وقاموا بتنفيذ التوجيهات، ويتوقع أنهم لم يفكِّروا أساسا فيما جرى، وإنما تلقوا الأوامر للتنفيذ. وما يحملنا على هذا الظن أنهم في وقت قادم سيطاردون موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل حتى البحر، ثم سينفلق البحر إلى جبلين بينهما طريق وسيعبر عليه موسى، وقد أمر فرعون باستمرار المطاردة والملاحقة فلم يتوقف منهم أحد لا للتفكير ولم يتردد أحد في تنفيذ الأوامر رغم هذه المعجزة الكونية الهائلة.

هذه المواقف تطرح نتائج مهمة في سياسة البلاد والعباد أهمها:

1.    أن الطغاة هم آخر من يهتم بالحق والباطل بل السلطة أولا وأخيرا ولا بأس بنصب المذابح والمقاتل في سبيل تثبيت الطاغية لسلطانه.

2.    أن العسكر هم آخر من يصلحون لتولي حكم البلاد والعباد لأنهم آخر من يفكر في الأوامر قبل تنفيذها.

3.    أن الجماهير التي يُسَيطَر عليها بالخوف: الخوف من المؤامرة، والخوف من سيف الفرعون، والخوف على استقرار أمنهم، هم آخر من يمكن أن يأخذوا القرار الصحيح، ولو جرت أمامهم المعجزة التي شهد بها المتخصصون في مجالها.

4.    وحدهم من يملكون العلم والشجاعة معا.. هم الفائزون

الجمعة، أغسطس 16، 2013

عن استقالة ‫‏البرادعي‬ ولهجة ‫‏أوباما‬ الأقل رقة




الوضع ببساطة:

1. ثبت أن مرسي كان خطرا على المشروع الأمريكي، وأن التفاهم معه لم يفلح ولم يجدوا بدا من إزاحته.

2. العسكر هم الحليف الأقوى والأهم، وهو النواة الصلبة للنظام، وهم قوم -كما قال الإسرائيليون والأمريكان أنفسهم- يعتبرون ثمرة 30 سنة من العمل، ويستحقون الاستثمار فيهم ولا يمكن أن يفكروا في تهديد المصالح الأمريكية.

3. لكن أمريكا تحب "الوجه المدني"، وذلك ليكون لها خطوط مفتوحة مع أكثر من طرف في البلد، فتضغط بكل منهما على الآخر، وتلاعب الآخر بكل منهما.. فتضغط بالمدني على العسكري كما ويكون العسكري هو خط حماية النظام الذي يتحرك حين يشاءون التخلص من المدني كما حدث مع مبارك ثم مع مرسي.

والوجه المدني الأمريكي الذي يجري إعداده منذ سنوات هو البرادعي

(لاحظ أن البرادعي برغم انهيار كل مواهب الزعامة والرئاسة جرت له حملات تلميع رهيبة منذ ما قبل الثورة، وكل الإعلاميين -حتى اليساريين- كانوا يلمعون البرادعي ويعظمونه).

4. ولهذا كان البرادعي غير مرحب به لا من مبارك ولا من طنطاوي وعنان، ولا حتى الآن من السيسي.. لأنه بديل مدعوم أمريكيا.

5. البرادعي من جانبه وفي زلة لسان خطيرة في مارس 2011 صرح بما مفاده أن يهتم الجيش بالأخطار المستقبلية مثل مكافحة الإرهاب.

وفي حين ارتاع المخلصون جميعا من هذه الدعوة لتغيير العقيدة القتالية للجيش المصري كان ارتياع العسكر لأمر آخر (لأن العقيدة القتالية متغيرة بالفعل منذ ما بعد كامب ديفيد، والولاء لإسرائيل يزداد رسوخا والعداء للإسلاميين والمقاومة يزداد توحشا)

ما ارتاع له العسكر أن دعوة البرادعي هذه مآلها تفتيت الجيش وتغيير هيكله من جيش نظامي مقاتل إلى وحدات مكافحة إرهاب متخصصة، وهذا يعني "تفتيت مملكة العسكر"، وهو ما لا يمكن أن يقبله طنطاوي أو عنان أو السيسي أو أي قيادة عسكرية ذاقت طعم المال الكثير والنفوذ الكبير.

6. السيسي لم يكن ليقدم على انقلاب عسكري إلا بإرضاء كل الأطراف إلى أقصى حد، فكان من ضمن الإرضاء للأمريكان أن يأتي بالبرادعي (بالطبع: مهندس الانقلاب الأول هم الأمريكان)

7. لكن السيسي الذي عاش وهم الزعامة الناصرية لم يكن ليستقر له الحال مع رجل يعيش أحلام الزعامة هو الآخر منذ سنوات، وبذل مجهودا مضنيا -كما قال هو بنفسه- مع الغربيين لإقناعهم بإزاحة مرسي.. السيسي يريد نفسه فرعونا كما كان عبد الناصر والبرادعي يريد صلاحيات كاملة.. وهذا هو سر الهجوم على البرادعي في وسائل الإعلام المصرية.

8. لا البرادعي ولا السيسي توقعا أن يصمد الإخوان إلى هذا الحد ولا أن يتسع الرفض الجماهيري إلى هذه الدرجة.. والسيسي هو الذي في وجه المدفع، وهو الرجل الأقوى بعسكره، بينما البرادعي "الدبلوماسي" لا يملك شيئا إلا العلاقات.. وفي ظل هذا الوضع المعقد دخل البرادعي على خط حل الأزمة سلميا و دبلوماسيا.. لكن أي حل سلمي للأزمة سيعني انتهاء السيسي.. لهذا أقدم السيسي على الحل العسكري الدموي لقطع الطريق على أي حل يمكن أن يودي به.

9. في هذه اللحظة أيقن البرادعي أنه قد انتهى، وأن السيسي إن نجح فلا مكان للبرادعي كما أنه إذا فشل فالبرادعي سيكون شريكا في الفشل.. فكانت الاستقالة حركة ذكية، وهي ككل حركات البرادعي الذي لم يخض أي معركة لم يضمن نجاحها (مثل كل انتخابات قاطعها وانسحب منها قبل بدايتها).

10. الغرب متفق على دعم الانقلاب والتخلص من الإخوان، وردود أفعالهم كلها تحاول "تحجيم العسكر" واستعادة "الوجه المدني" في أقرب وقت، بينما السيسي منطلق إلى غايته الفرعونية الناصرية الجديدة.. لهذا لم يعامله الغرب بحفاوة شديدة كما كان متوقعا، وقد بدا منه هذا الاستغراب في حواره مع الواشنطن بوست، فهو لم يخف اندهاشه من أن أمريكا التي كانت مطلعة على كل التفاصيل لا تتعامل معه كما هو لائق، وأن أوباما لم يتصل به حتى الآن!

وبعد هذه المذبحة الرهيبة التي لم تحدث في مصر منذ ألف سنة تقريبا (على قدر علمي بالتاريخ لا أجد مثيلا لهذه المذبحة إلا حين أمر شاور -الوزير الفاطمي الفاسد- بإحراق القاهرة لهدم المعبد على رأس الجميع، أو من قبله حين أطلق الحاكم بأمر الله عسكره يذبحون الناس في الشوارع لما بدا منهم من تمرد عليه، فصار عسكره يقتلون الناس في المساجد والدور والشوارع وكل مكان طالته أيديهم).. أقول: بعد هذه المذبحة الرهيبة تكلم أوباما للمرة الأولى بلهجة أقل رقة تجاه السيسي، وألغى مناورات النجم الساطع، ولا أحسب هذا إلا محاولة لتحجيم طموحه لا أكثر.. فالخطاب لم يمس الانقلاب ولا الوضع بعد 30 يونيو بسوء.

11. الخلاصة: الشعب المصري، وفي قلبه الإسلاميون، ليس لهم من نصير.. وما بين الفرقاء من خلاف إنما هو حول غنائم ما بعد المعركة، وكلهم متفقون على تثبيت وضع الانقلاب وإنهاء صفحة الديمقراطية المصرية.. وهو ما يعني أنه لا ملجأ إلا الله!

الله وحده هو من يحرك القلوب، ويصرف الأقدار، ويثبت الذين آمنوا، ويلقي الرعب في قلوب الذين كفروا..

والمعركة معركة حياة أو موت.. السيسي بعد كل ما فعل لن يقبل إلا أن يكون الحاكم بأمره في مصر، ومن تجرأ على قتل الآلاف لن يتردد في اعتقال وقتل عشرات الآلاف إن مرت هذه المذبحة بلا مقاومة.

اللهم ثبتنا.. وانصرنا.. وأنزل علينا السكينة.. وألهمنا رشدنا.

الخميس، أغسطس 15، 2013

بعض ما فقهه هنتنجتون (1)




كثير من المتعة كامنٌ في قراءة إنتاج المفكرين الغربيين منذ أن تحول الاستشراق إلى بحث علمي وتخلى عن مرحلة الخرافة وحتى هذه اللحظة، ذلك أن إنتاج المجتمعات وهي تشعر بالرسوخ والاستقرار يتميز عامة بالهدوء النفسي ويعبر عن حالة من التفكير الناضج حيث لا يظللها خطر داهم يدفعها نحو التفكير والإنتاج الانفعالي!

ولهذا تنتج الأمم فلسفاتها –عامة- في أوقات رخائها واستقرارها، ويكون خير ما تكتب الأمم –حتى عن أعدائها- في المرحلة التي لا تشعر فيها بالتهديد حيالهم، والمتابع لتطور الإنتاج الاستشراقي يعلم كم هو الفارق الشاسع الرهيب بين أوائل هذا الإنتاج (وقت التهديد الإسلامي) مثل "تاريخ شارلمان" وبين وصوله إلى الاحتراف والنضوج العلمي في عصور الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية.

ولئن كان من فضيلة للشعور الغربي بالتفوق، حتى وهو يعترف بإمكانية التهديد الإسلامي الماثل في الأفق، فهو أن كتاباتهم تتميز بصراحة ووضوح، وقد بلغ الأمر مبلغه لدى فوكوياما حين كتب "نهاية التاريخ"، ففي هذا الكتاب رأى فوكوياما أن الدنيا كلها ستنتهي إلى الليبرالية الغربية، وساق من جميع أنحاء العالم ما يدلل على رأيه، ثم اصطدم الواقع الإسلامي بنظريته تماما فلم يجد إلا التضحية بالمنهج العلمي وسلك سبيل التلفيق الاحترافي والعبارات الخجولة الملتفة التي تريد أن تقول بأن الإسلام ما زال حجر عثرة ولكن.. هناك أمل! انظر ماذا يقول:

"بالرغم من القوَّة التي أبداها الإسلام في صحوته الحالية، فبالإمكان القول: إن هذا الدين لا يكاد تكون له جاذبية خارج المناطق التي كانت في الأصل إسلامية الحضارة (!!!) [هنا ينسى عمدا أن الإسلام أوسع الأديان انتشارا في أوروبا وأمريكا]... ورغم أن نحو بليون نسمة يدينون بدين الإسلام؛ أي خمس تعداد سكان العالم، فليس بوسعهم تحدِّي الديمقراطية الليبرالية على المستوى الفكري، بل إنه قد يبدو أن العالم الإسلامي أشدَّ عرضة للتأثُّر بالأفكار الليبرالية على المدى الطويل من احتمال أن يحدث العكس؛ حيث إن مثل هذه الليبرالية قد اجتذبت إلى نفسها أنصارًا عديدين وأقوياء لها من بين المسلمين على مدى القرن ونصف القرن الأخيرين، والواقع أن أحد أسباب الصحوة الأصولية الراهنة هو قوَّة الخطر الملموس من جانب القيم الغربية الليبرالية على المجتمعات الإسلامية التقليدية"[1].

وعلى كل حال، فأكثر من عشرين سنة بين كتابة هذا الكلام والواقع الحالي يثبت فشله بوضوح!

لكن صمويل هنتنجتون كان أبصر بالواقع من فوكوياما، فلم يغره ما غرّ فوكوياما من انهيار الاتحاد السوفيتي، ولم يأمل في أن يدخل المسلمون يوما في الفلك الغربي، بل قال بأنهم لن يتغربوا أبدا!

فعلى عكس فوكوياما الذي امتلأ كتابه بالتمنيات المصبوغة بقشرة من أبحاث ودراسات، جاء كتاب صمويل هنتنجتون راسخا على معطيات علمية وإحصائيات، وإن كان منطلقا من منهجية غربية لا تريد لا أن تلتقي أو تتفاهم أو حتى تحترم الآخر.. ولذلك كان الرجل بشير القوم بمنهجية "صدام الحضارات"!

وما كتبه هنتجتون منذ نحو عشرين سنة أحرى أن يفهمه كثير من المسلمين، لا سيما تلك النخبة التي ما تزال تدافع عن أفكار كفر بها الغربيون أنفسهم منذ زمن، فلقد اعترف هنتنجتون بأن الديمقراطية في دول الحضارات والشعوب غير الغربية لن تصل بهم أبدا إلى التغريب، ورصد بأن المسلمين منذ خمسينات القرن العشرين لم يعودوا يرون أنهم محتاجين إلى القيم الغربية بل يحتاجون إلى ما لدى الغرب من تقنيات فقط مع إيمانهم بأن استمساكهم بما لديهم من قيم خاصة وموروثة هو سر نجاحهم! وهذا ما شاع في أوروبا نفسها!!

ويعتبر كتاب "صدام الحضارات" واحدا من أهم ما ينبغي أن يقرأه المسلمون من الإنتاج الغربي، ففيه الكثير من الرصد لظواهر مهمة، تريد النخبة المتغربة في بلادنا أن تُغفلها، أو لربما كانت تجهلها أصلا، ذلك أن النخب الغربية قد تجاوزت منذ زمن ما تردده النخب التغريبية في بلادنا، وفيه –بعد رصد الظواهر- توصيات بكيفية المواجهة وخوض المعركة.

ولئن كانت الدراسات الكثيرة التي كُتِبَت عن هنتنجتون قد اهتمت بتحليل ودراسة والتعليق على توصياته "الصدامية" في المواجهة، فنحسب أننا في حاجة لأن نعيد ذكر بعضا من أهم ما رصده من ظواهر عالمية وواقع جديد، ونحسب أن فهم هذه الأمور سيكون فارقا في إدراك طبيعة ومستقبل المعركة التي تخوضها الأمة الإسلامية.

***

1. فشل وانحسار العلمانية ظاهرة عالمية

يقول:

"في النصف الأول من القرن العشرين كان المثقَّفُون يعتقدون أن التحديث الاقتصادي والاجتماعي سيُؤَدِّي إلى ذبول الدين، وكانت ثمة مخاوف وانزعاجات في المقابل من انتهاء الدين، ودخول البشر في فوضى شاملة، لكن النصف الثاني من القرن العشرين أثبت أن آمال المثقفين، ومخاوف المنزعجين لا أساس لها؛ فالتحديث الاقتصادي والاجتماعي تعاظم، وصار كونيًّا من ناحية الحجم، وفي الوقت نفسه حدثت صحوة دينية كبرى، انتشرت في كل قارة وكل حضارة وكل دولة، وبدلاً من أن تظهر توجهات دينية تحاول التكيف مع العلمانية، ظهرت التوجهات التي تُريد استعادة الأساس المقدَّس لتنظيم المجتمع، بل وتغيير المجتمع، فلم تَعُد القضية قضية تحديث، وإنما "أنجلة[2] ثانية لأوربا"، ولم يَعُد الهدف تحديث الإسلام، وإنما "أسلمة الحداثة"، لقد اتسعت رقعة الأديان وكسبت أرضًا جديدة ومعتنقين جدد، وعاد أناس كثيرون إلى قيم مجتمعاتهم الدينية، وظهرت في كل الأديان والحضارات حركات أصولية ملتزمة بتنقية للعادات والتقاليد الدينية، وإعادة تشكيل السلوك الشخصي والاجتماعي العام بما يتَّفق مع العقائد الدينية[3].

"الصحوة الدينية في أرجاء العالم هي ردُّ فعل ضدَّ العلمانية، والنسبية الأخلاقية، والانغماس الذاتي، وإعادة تأكيد لقيم النظام والانضباط، والعمل والعون المتبادل والتضامن الإنساني. الجماعاتُ الإنسانية تُلَبِّي الاحتياجات الاجتماعية التي أهملتها بيروقراطيات الدولة (الأجهزة الإدارية)، وهي تتضمَّن توفير الخدمات الطبية والعلاجية، ودور الحضانة والمدارس، ورعاية المسنين، والإغاثة السريعة بعد الكوارث الطبيعية .. وغيرها، والمساعدة الاجتماعية أثناء فترات الحرمان الاقتصادي. انهيار النظام والمجتمع المدني يُحدث فراغًا تملؤه الجماعات الدينية والأصولية غالبًا"[4].

وبعد استعراض العديد من ظواهر عودة الدين للتأثير في الحياة في البلاد المختلفة، حتى في أرض الاتحاد السوفيتي "عدو الأديان".. يستشهد بقول جورج ويجل: "نزع العلمنة عن العالم هو إحدى الحقائق السائدة في أواخر القرن العشرين"[5].

***

2. فرض التغريب على مجتمعات لا تقبله يصنع "البلدان الممزقة".

من أهم ما فقهه هنتنجتون أن المجتمعات لا تقبل التغريب، وأن الحضارة الغربية ليست عالمية ليصح تطبيقها في أي مجتمع، بل كان مجددا حين قرر بأن فرض التغريب في مجتمعات لا تقبله إنما يحولها إلى حالة من التوتر والارتباك، أو بتعبيره هو يجعلها من "البلدان الممزقة".

استعرض هنتنجتون تجربة روسيا التي فرض عليها بطرس الأكبر التغريب لانتشالها من تخلفها، وقد اهتم بحلق اللحى وتقليد الثياب الغربية تماما كما اهتم بإنشاء المدارس وإصلاح الزراعة والتصنيع والتسليح.. ولكن المحاولة فشلت ودخل المجتمع أيام بطرس وبعده في تنازع، فهذا متغرب يؤيد التغرب أكثر فأكثر وهذا قد ضاق ذرعا واشتعل تنديدا بمحاولات "الأَوْرَبَة" وإلباس روسيا نظارة أوروبية.. ثم جاءت الشيوعية بنظرية جديدة مفادها "لن نحاول اللحاق بأوروبا، هي من ستلحق بنا (حين تعم الشيوعية العالم)"، ولهذا كان الترحيب الروسي بالشيوعية أكثر من ترحيبهم بتغريب بطرس الأكبر بل كانت فرحتهم طاغية بعودة العاصمة موسكو بعد أن كانت بطرسبرج عاصمة بطرس الأكبر، ثم حين فشلت الشيوعية وانهار الاتحاد السوفيتي لم تزدد الفجوة بين الروس والأوربيين إلا اتساعا، وما يزال سؤال الهوية يثير انقساما بين الروس والنخبة المتغربة، وما يزال الروس يراودهم حلم الامبراطورية الروسية القومية السلافية!

وأما تركيا، فقد بذل فيها أتاتورك مجهودا عنيفا لانتزاعها من تاريخها العثماني الإسلامي وإدخالها في الجسد الأوروبي، وكانت أوروبا تحتاج تركيا كواجهة تقف أمام التوسع الروسي الشيوعي في البحر المتوسط، فلما سقط الاتحاد السوفيتي لم تعد تركيا تمثل أهمية كبرى للغرب، وفشلت تركيا حتى الآن في عضوية الاتحاد الأوروبي لسبب جوهري: الأوروبيون يرون أن الأتراك ليسوا منهم وأنهم مسلمين، والأتراك لا يغيب عنهم أن هذا هو السبب، وأن ما يقال علنا هو مراوغة وتلفيق!

وفي أثناء كل هذا كان سؤال الهوية يعود ليسيطر على حياة الأتراك، صار الأتراك يُعرفون أنفسهم كمسلمين، وشهدت تركيا صحوة إسلامية واسعة أجبرت الجميع على تقديم التنازلات بما فيهم الأحزاب العلمانية بل والعسكر "حصن العلمانية" أنفسهم، وتغيرت سياسة تركيا لتصبح أكثر إسلامية، ويفوز فيها الإسلاميون، وليس أفضل تعبير عن التمزق الذي تعانيه تركيا ما بين الشعب والنخبة المتغربة المتنفذة أكثر من تصريح المسؤولين الأتراك (العلمانيين) بأنهم "جسر بين الثقافات" أو "تركيا ديمقراطية غربية ولكنها جزء من الشرق الأوسط".. وبهذا يعترفون أنها "دولة ممزقة"!

***

ولنا مع هنتنجتون وما فقهه وقفات أخرى في المقال القادم إن شاء الله تعالى..



[1] فوكوياما: نهاية التاريخ ص56، 57.
[2] أنجلة: كأسلمة ولكن عن "الإنجيل".
[3] صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات ص158.
[4] صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات ص162.
[5] صمويل هنتنجتون: صدام الحضارات ص159.