هذا هو المقال الثالث من مجموعة "تصورات فاسدة لدى الحركة الإسلامية"، وكان المقال الأول عن تصحيح مفهوم "كما تكونوا يولى عليكم"، كما كان المقال الثاني عن تصحيح مفهوم "لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت".. وهذا المقال الثالث نناقش فيه ما أكدت عليه جماعة الإخوان المسلمين في مصر من أنها تبحث عن مرشح توافقي للرئاسة، ولا ترى أن رئيسا إسلاميا يكون المناسب لهذه المرحلة، فهي لم تكتف بقراراتها السابقة بأنها لن ترشح أحدا من أعضائها، ولن تدعم أحدا من أعضائها اتخذ قرار الترشح، وفي هذا ما قد يكون تطمينا كافيا للجهات المعنية، أما أن تبحث الجماعة "الإسلامية" عن مرشح "غير إسلامي" لتدعمه.. فهذا عجبٌ ما ظننا أن نرى أو نسمع بمثله من قبل!!
***
على غير ما كان في المقالات السابقة، كان التصور الخاطئ يستند إلى أصلٍ أو قولٍ فنعود للتحقيق والتمحيص في صحة هذا القول سندا ثم في صحته متنا، نجد أنفسنا في هذه المرة أمام قول بلا أساس ولا أصل، بل هو فكرة نبتت في الواقع المعاصر ولم يحاول أحد البحث في تأصيلها من الكتاب أو السنة أو القواعد الشرعية المعروفة. وعليه نجد أنفسنا إزاء الفكرة معنيين بإثبات بعض المفاهيم:
1. حب الرئاسة ليس دائما سبة، ولا تركها دائما منقبة
يذكر الإمام ابن القيم أنه ما من غريزة إنسانية إلا وجعل الله لها طريقا حلالا لإنفاذها تحولها إلى عبادة، وذكر من هذه الغرائز حب الإنسان للجاه والسلطان والنفوذ، يقول: "[فجعل الله] لمحبة الجاه مصرفاً وهو استعماله في تنفيذ أوامره وإقامة دينه ونصر المظلوم وإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف وقمع أعداء الله فمحبة الرياسة والجاه على هذا الوجه عبادة"[1].
وعندما عرض ملك مصر على يوسف عليه السلام العمل في المجموعة الحاكمة، كان بالإمكان تركها بالكلية والإعراض عنها، ولكنه اختار أن يكون "على خزائن الأرض" لتقديره بأن مواهبه وكذلك حاجة البلاد تتطلبان تحمل هذه المسؤولية.. والأمثلة لا تعد ولا تحصى في هذا الباب، فكل مؤسسي الدول الصالحين علموا أن الواجب يطلب منهم القيام بتحمل الأمر وتأسيس الدول، وكل صالح آلت إليه السلطة ولم يتركها كان يعلم أن الواجب في القيام بها لا في تركها، وكل صالح حارب في سبيل إقرار ملكه وسلطته وكل صالح طلبها ولم تصل إليه أو لم يصل إليها إنما كان يعلم أيضا أن الواجب في تحملها لا في الزهد فيها، بغض النظر عما إذا أخطأ في الثورة أو في تفاصيلها أو في مراحلها.
فمن مؤسسي الدول وحكامها: داود، ويوشع بن نون عليهما السلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم من أنبياء الله، ومن الصالحين: طالوت وذو القرنين ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن الداخل وعبد الله بن ياسين وعماد الدين زنكي، وعثمان بن أرطغرل (مؤسس الدولة العثمانية) وغيرهم من الصالحين.
وممن آلت إليهم السلطة: سليمان عليه السلام، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي (رضي الله عنهم) وعمر بن عبد العزيز، والمهتدي بالله العباسي، ويوسف بن تاشفين، ويعقوب المنصور المريني، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وسيف الدين قطز، ومحمد الفاتح، وغيرهم من الصالحين.
ولا أشهر ممن حارب في سبيل إقرار سلطته من الخليفة الراشد علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ولا أشهر ممن سعى إلى السلطة وطلبها لنفسه من ابنه الحسين (رضي الله عنه).. وهؤلاء ممن نؤمن أنهم من أهل الجنة!
وحسبنا أن الفكرة تصل، ولا حاجة للتطويل في الأمثلة التاريخية..
2. الحاكم الصالح فرصة.. وضرورة!
ففي قراءة التاريخ، كان تولي الحاكم الصالح لقطة تحول في مسار الزمن بشكل عام، فهو كان الأقدر على مواجهة الواقع بالحل الإسلامي المناسب له، دون إنفاق مزيد من الوقت في حلول أخرى أو محاولات فاشلة أخرى.
ومن آلت إليهم السلطة من الصالحين لم يشترطوا أن تكون خلافتهم أو ملكهم بالتوافق، وهذا فيمن وصلت إليهم سلما، فضلا عمن وصلت إليهم حربا، وكان وصول السلطة إليهم من النقاط الفارقة في المسيرة التاريخية الإسلامية، إما بإقامة العدل ورفع الجور، أو بجهاد المعتدي، أو بتوحيد الدولة بعد انقسام وتشرذم.. ولو أنهم اشترطوا "التوافقية" لخلافتهم ما زاد الحال إلا سوءا!
فإيجاد الحاكم الصالح واجب شرعي، وأحسب أنه يُقاس في حالنا المعاصر على حكم نصب الخليفة في كتب الفقه، فالقوي الأمين ضرورة لقيام الحق، وهذا المعنى مضطرد في أقوال الأئمة والعلماء، أن الحق لا بد له من سلطان يحميه، ومنه قول الله تعالى على لسان نبيه (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا)، إذ قال قتادة: " علم ألا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله؛ فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، فأكل شديدهم ضعيفهم"، وبمثله قال الحسن البصري، وإليه مال الطبري ورجحه ابن كثير، وأضاف: "لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه؛ ولهذا قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب} وفي الحديث[2]: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام، ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن [رغم] ما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع"[3].
هذا هو الواقع منذ زمن قتادة وحتى عصرنا نحن، وها هو الشعراوي يقول بأن "السلطان والقوة والبطش تمنع ما لا يستطيع القرآن منعه؛ ذلك لأنهم يستبعدون القيامة والعذاب، أمّا السلطان فرادع حاضر الآن"[4].
3. كيف نأمن غيرنا على منهجنا؟!
ولا يتصور أن يكون الحاكم غير المقتنع بالفكرة الإسلامي والمنهج الإسلامي محايدا أمام انتشار هذه الفكرة، فضلا عن أن يكون من مخالفيها أو مناوئيها، فذلك يهدده هو شخصيا، يهدد فكرته وصورته كحاكم أصلا، وهو يضطره اضطرارا إلى الاستبداد بالأمر ابتغاء نشر ما لديه من أفكار واتجاهات، وفي ظل انتشار الفكرة الإسلامية شعبيا فإنه سيلقي بنفسه في أحضان الخارج، ولن يهتم إلا بالتترس بالأجهزة الأمنية لحمايته أولا ولفرض ما يريده ثانيا.. والشعوب لا تثور كل أربع سنوات!
والشهور التي أعقبت الثورة أوضح دليل وأعظم حجة على ما نقول، فلقد رأينا من رفاق النضال السابقين، وممن ظنناهم لا يعادون المنهج الإسلامي ما لم نكن نحتسب، وكانت الصدمة بالغة العنف بليغة المعنى! فكيف إذا سيقت لمثل هذا سلطة وكراسي وأمن وجيش ومخابرات وقوة خارجية تفضله عن حكم إسلامي!! كيف به يفعل بعد امتلاك كل هذا؟!!
ونحن –الإسلاميون- أولى الناس بمعرفة ماذا يصنع حب الرئاسة في البشر، فيجعلهم ينكرون الرسالات والشرائع ويحاربون الأنبياء والرسل، وهذا أبو جهل يقر بأن محمدا صادق ولكنه يحاربه ويكذبه لما في نبوته من رئاسة لبني هاشم على قومه! ومن قبله فرعون حارب نبوة موسى لأنها تهدد سلطانه (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين)، وهدد موسى متوعدا (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) ومن قبله نمرود إبراهيم حارب نبوة إبراهيم وصاح قائلا (أنا أحيي وأميت).. والأمثلة تطول وتطول وتطول.. وهل تاريخ الدنيا المظلم إلا تاريخ من حكم بغير شرع الله!!
إن الحاكم غير الإسلامي لن يخرج من ثلاثة أحوال، كلها غير مقبولة في الإسلام، وكلها يُفضي بعضها إلى بعض، وهذا الشيخ الإمام محمد أبو زهرة يشرحها في بيان الولاية لغير المؤمنين فيقول: "وهنا يسأل سائل عن أمرين: أولهما - ما الموالاة التي تجر إلى الارتداد؟ وثانيهما - ما حقيقة الردة؟ ونقول في الإجابة عن السؤال الأول - إن الموالاة التي تفضى إلى الارتداد مراتب أعلاها أن يستنصر بهم على أهل الإيمان، كما كان يفعل بعض الملوك في الماضي، وكما فعل بعض الوزراء الذين مالئوا التتار على المؤمنين، حتى تمكنوا من أهل بغداد وغيرها من المدائن الإسلامية تقتيلا وتذبيحا، وهذه المرتبة أحسب أنها في ذاتها ردة، وليست ذريعة إليها فقط.
المرتبة المتوسطة - أن يواليهم في أوطانهم، ويستنصر بهم ويجعل ولايته لهم من غير معاونة لهم على أهل الإيمان، ولا تمكين لهم من رقاب المؤمنين، وتكون هذه للمستضعفين في أرضهم، وهؤلاء قد يفيض بهم الاستضعاف إلى أن يكونوا منهم، وبذلك يسيرون في طريق الخروج عن الدين.
المرتبة الأخيرة - أن نقدس تعاليمهم، ونحول مجتمعنا الإسلامي بما يشبه مجتمعهم، حتى يكون ما عندهم أمرا غير قابل للمناقشة، وما عندنا ولو كان من هَدْي الإسلام يكون قابلا للنقض، بل للاستهانة ووضعه دبر الآذان مما نراه من بعض المثقفين الآن في الديار الإسلامية، الذين لَا يتبعون أعداء المسلمين ويقلدونهم في الصناعات والعلوم الكونية، بل يقلدونهم في أهوائهم وشهواتهم ومجونهم، ومعابثهم، ويحسبون ذلك تقدما، وما هو إلا ارتداد إلى الحيوانية البهيمية، والأدهى من ذلك أن يعتبروا قوانينهم محكمة لَا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ويجعلوا شرع الله هملا مطويا في زوايا النسيان.
والجواب عن السؤال الثاني وهو تعرف حقيقة الردة، أن الردة مراتب أيضا:
أعلاها - إنكار ما جاء في كتاب الله تعالى، وإنكار الوحدانية والرسالة، وإنكار كل أمر علم من الدين بالضرورة ككون الصلوات خمسا، وكفرضية الزكاة والحج إلى آخر ما يُعَدُّ إطار الإسلام، من يخرج عنه قد خرج عن الإسلام، ومن ذلك أحكام الزواج والطلاق.
ووسطها - إهمال الأحكام القرآنية، واستبدال غيرها بها، وزعم صلاحية غيرها، وعدم صلاحية الأحكام القرآنية، ومن ذلك قول الذين يقولون: إن أحكام القرآن خاصة بزمان نزوله دون غيره، وإن للناس أن يبدلوا فيها ما شاء لهم التبديل.
وأدناها - تقليد غير المسلمين فيما عندهم من شر، وجعل القرآن وآدابه، والسنة وما اشتملت عليه أمرا مهجورا"[5].
انتهى كلام الشيخ أبي زهرة، وانتهى به هذا المقال السريع في إلقاء الضوء على المسألة من الناحية الشرعية والتاريخية، وأما الجانب السياسي وما يحيط بالمسألة من عوامل الخارج والداخل وإمكانية النجاح والفشل في الظرف الراهن، فنرجو الرجوع لسلسلة: الإسلاميون وضرورة الترشح للرئاسة.
المقال الأول: http://melhamy.blogspot.com/2011/06/1.html
المقال الثاني: http://melhamy.blogspot.com/2011/06/2.html
المقال الثالث: http://melhamy.blogspot.com/2011/06/3.html
المقال الرابع: http://melhamy.blogspot.com/2011/07/4.html
[1] ابن القيم: التبيان في أقسام القرآن، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، لبنان ص415.
[2] الصحيح أنه من أقوال عثمان بن عفان (رضي الله عنه) لا من حديث النبي (صلى الله عليه وسلم).
[3] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1420هـ = 1999م. 5/111.
[4] الشعراوي: تفسير الشعراوي، دار أخبار اليوم، القاهرة. 17/10757.
[5] محمد أبو زهرة: زهرة التفاسير، دار الفكر العربي. 5/2249، 2250.
مستمتع بكتابات حضرتك
ردحذفالموضوع ليس بهذه الدرجه اننا بصدد نظام مختلط
ردحذفثانيا مواضيع قهر السلطان للفواحش واضح ان حضرتك مؤيد للشيخ حازم ابو اسماعيل لا اعتقد ان الامر سيكون ورديا بعد الانتخابات وستكون المشاكل بالجمله والفشل سيحسب علي كل التيار الاسلامي ماذا لو تركنا الفرصه لانفسنا انكون في المقدمه والمؤخره وفي كل مكان هل لا بد ان ننهزم جميعا لما لا نستبقي تجربه اخرى لانفسنا الشعب لن يسكت في حاله الفشل ولا يغرنك نتائج الانتخابات الله وحده اعلم ان معظم الناس ذهبت لمجرد الذهاب ولم يختاروا يمين او بيسار انما هوتوجيه اللحظه الاخيره قبل اللجنه او هكذا كان الامر عندنا وبرغم اني انتخبت الاخوان لكن التجاوزات كانت بالجمله