حاول عالم الاجتماع مارك بوكانان دراسة الأنماط البشرية في السلوك، فأثمرت هذه المحاولة كتابه "الذرة الاجتماعية.. لماذا يزداد الأغنياء غنى والفقراء فقرا"، ولسنا الآن بمعرض مناقشة ما توصل إليه الكتاب، فقد شرحنا هذا في مقال سابق[1]، بل نتوقف عند أحد التجارب المهمة التي استند إليها، يقول:
"منذ ثلاثة عقود جمع عالم النفس فيليب زمباردو وزملاؤه بجامعة ستانفورد طلبة جامعيين عاديين، ثم قاموا –في تجربة علمية- بوضع هؤلاء الطلبة في مشهد مشابه للسجن أقيم في الدور التحتي الذي يعلوه قسم الفلسفة بالجامعة، وكان على البعض من الطلبة أن يلعبوا أدوار السجناء، وعلى الآخرين أن يلعبوا أدوار الحراس، وفرض الباحثون على الطلبة ألا يرتدوا ملابسهم المعتادة، وأعطوهم ملابس رسمية وارقام، وأُعْطِيَ الحراس نظارات شمسية لها بريق المرايا الفضية، وأسماء فئوية من قبيل "السيد الضابط التأديبي"! كان هدف علماء النفس القائمين بالتجربة هو تجريد كل طالب مما يتفرد به –في الظاهر- عن غيره، واستكشاف ما يمكن أن ينتجه الموقف في حد ذاته، وفيما يلي وصف زمباردو لما جرى:
في كل يوم كانت ضروب العداء والانتهاك والتحقير تبلغ مدى أسوأ وأسوأ وأسوأ! بمرور 36 ساعة أصيب أول سجين بانهيار عصبي باكيا وصائحا وغير قادر على التفكير العقلاني! اضطررنا إلى إطلاق سراحه، وفي كل يوم من الأيام التالية كنا نضطر إلى اطلاق سراح سجين آخر بسبب شدة ردود الفعل ضد الضغوط التي عانى منها المشتركون في التجربة في أدوار السجناء. كان المفترض أن تستمر التجربة أسبوعين لكنني أنهيتها بعد ستة أيام لأنها خرجت عن السيطرة تماما، وبمعنى الكلمة! إن فتية اخترناهم لأنهم طبيعيون وأصحاء، راحوا ينهارون واحدا بعد الآخر، وفتية عُرِفوا بالنزعة السلمية، فوجئنا بما في سلوكهم من تلذذ بالعنف، إذ كانوا يستمتعون بتوقيع أقصى العقوبات وأخسها على السجناء"[2].
ذكر بوكانان الكثير من الأمثلة الشبيهة التي تحاول تفسير هذا "الانقلاب المفاجئ" في طباع الناس إذا تغيرت ظروفهم، ولا أحسب أن أحدا من القراء الكرام يمكن أن ينكر هذا، فالفقير حين يلبس ذات مرة ملابس فاخرة يراوده شعور مختلف، تماما كما يحدث للغني إذا انقلب به الحال إلى الفقر! في المرض يكون الإنسان على حال، ثم إذا عوفي يكون على حال آخر..
ومن هنا ينبغي أن نعلم أن طول الأمد على حال يجعل الأمور دائما أكثر صعوبة، إن طول الأمد على مبارك جعله فرعونا، وجعل الناس أكثر تقبلا وتفهما واستسلاما للعبودية حتى إن بعضهم لم يصدق أنه يمكن لهذه الثورة أن تنجح! أليس عجيبا أن بعض كتائب القذافي (العسكرية أو الإعلامية) ظلت على موقفها حتى اللحظات الأخيرة، لقد هزمت الأربعون سنة قدرتهم على الاعتقاد بأن القذافي بشر وبأنه يمكن أن ينهزم بل ويُقتل.. قل مثل هذا على كل حال مشابه.
وها نحن نرى كيف تحولت كثير من الأمور، فالمجلس العسكري بعد الإعلان أنه لن يمكث إلا ستة أشهر فقط (أي: أغسطس 2011)، أطالها إلى نهاية العام، ثم أطالها إلى أمد غير محدود، ولم يعد عن هذا إلا بدماء أربعين شهيدا ونحو ألفي جريح فجعلها عاما ونصف (يونيو 2012)!
وبعد أن كان حديث العسكر عن أن المجلس ليس بديلا عن الشرعية المدنية، أصبح المجلس حائزا للشرعية الشعبية بالاستفتاء وبالنزول إلى الانتخابات ومظاهرات العباسية!!
وبعد أن كان المجلس يقول بأنه انحاز لموقف الشعب ورفض إطلاق النار، أصبح يقول بأنه من حمى الثورة –رغم أن أحدا لم يطلب منه إطلاق النار كما شهد المشير!- وفي رواية أكثر صراحة: المجلس هو من قام بالثورة (وهذه رواية خبرائه الاستراتيجيين الذين نكتشف بهم مدى الضحالة المعرفية التي وصل إليها الحال)!
وبعد أن كانت الأخطاء يُعبَّر عنها بالاعتذار (والرصيد يسمح) أصبح يعبر عنها بالشعور بالأسف، ثم تحول الحديث عن مخططات داخلية وخارجية لتدمير البلد!! وذلك ليس إلا تمهيدا للسحق العنيف لأي تحرك يرى فيه المجلس العسكري تهديدا له هو! تماما كما كان نقد مبارك يعني في ذهن النظام "سب مصر"!!
لقد تفرعن المجلس العسكري بالفعل، وكانت لهجة اللواء عادل عمارة في المؤتمر الصحفي دالة على هذا التحول، ويمكن أن تقارن هذا بلهجة اللواء العصار مثلا في أول ظهور له مع منى الشاذلي! وما بالنا نذهب بعيدا: يمكنك أن تقارن بين اللواء ممدوح شاهين أول ظهوره وبينه في آخر تصريحاته.
إطالة الفترة الانتقالية خطر على الجميع، والمعنى العملي لذلك: أن تحول صلاحيات رئيس الجمهورية في أي وقت، وأقرب وقت، هو خير من بقائها لأي وقت زيادة في يد المجلس العسكري.
ليس وقت تحميل المسؤوليات، لكن الجميع شارك في هذا بصورة أو أخرى، بدءا من إسلاميين حاولوا تهدئة الأجواء لضمان أسلم الطرق لتسليم السلطة وانتهاء الفترة الانتقالية وحتى العلمانيين الذين قاموا بحملات شيطانية لتحريض العسكر ضد الإسلاميين دافعين به إلى منصب الفرعون الذي يجب أن ينهي تحولا ديمقراطيا يبشر بالإسلاميين! وسيحتار المؤرخ كثيرا حين يجد من كانوا يرفعون شعار "مدنية" هم من أرادوا إطالة الفترة الانتقالية تحت الحكم العسكري!
الوقت وقت تحمل المسؤولية، ينبغي على الإسلاميين الذين أصبحوا أغلبية أن يكونوا على مستوى المرحلة، وعند حسن ظن الشعب فيهم فيتصدوا لحمل المسؤولية بأسرع وقت ممكن، كما ينبغي على خصومهم إنجاح أول تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر، ودعم الخيار الشعبي لترسيخ الأسلوب السلمي في تولي السلطة وتداولها.
إن لم تفعلوها لأجل الله الذي سيحاسب على الصغير والكبير، فلأجل الوطن الذي سيحتضن أبناءكم وأحفادكم فإن لم يكن وطن عدل فهم من سيذوقون مراراته، فإن لم يكن فلأجل أنفسكم فالسجون ما زالت مفتوحة يقال لها هل امتلأت وتقول هل من مزيد! فالطاغية لا يقبل إلا العبيد، وحتى هؤلاء لا يأمنون جانبه، فالسلطان يغضب غضب الصبيان ويأخذ أخذ الأسد!
[1] راجع: الهوس الغربي بالسيطرة على الإنسان، عرض ومناقشة كتاب "الذرة الاجتماعية". على الرابط: http://melhamy.blogspot.com/2011/05/blog-post_21.html
[2] مارك بوكانان: الذرة الاجتماعية؛ لماذا يزداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا، ترجمة أحمد علي بدوي، طبعة مكتبة الأسرة، 2010م. ص34، 35.
مقال قيم للغاية وأجمل ما فيه تدعيمه بالتجربة العملية.
ردحذفتحياتي أخي الكريم.
شكرا جزيلا
ردحذف