المشكلة المصرية تتلخص في أن الملايين الهادرة لا تجد لها قائدا، فهي تبذل الجهد والتعب والنصب بل والدم ثم لا تجد من يحصد هذا في أروقة السياسة والحكم، أسفرت سنوات الاستبداد عن تيبس جيل الكهول الذين فقدوا الحد الأدنى من الثورية، فلم يفكروا في الثورة إلا حين صنعها الشباب واقعا، فكان خيرهم حالا من التحق بها، وظل كثير منهم يترقبون..
حتى وصلنا إلى هذا الوضع الشاذ الغريب..
الجماهير بالملايين تطالب بتسليم السلطة من المجلس العسكري إلى مجلس الشعب المنتخب، ولكن مجلس الشعب المنتخب هو من يرفض! إذ القوى الإسلامية ترى أنها غير مستعدة لتحمل أعباء الحكم، كأنما يريدون أن يشيروا ويستمتعون أن يطالبوا ويهمهم أن ينقدوا أداء الحكومة والمجلس العسكري دون أن يتكلفوا تحمل المهمة، هل استعذب الإسلاميون موقع المعارضة حتى بعد أن صاروا أغلبية؟؟
لدى الثوار طرح آخر، أن تُجرى انتخابات رئاسية مبكرة، وأن تؤجل أو تلغى انتخابات الشورى، لكن الأغلبية البرلمانية أيضا لا تريد ذلك ولا تدفع باتجاهه، بذريعة التمسك بالإعلان الدستوري (الذي هو أصلا قد خالف الإرادة الشعبية وارتكب تزويرا خطيرا وإن كان ناعما في المواد المستفتى عليها).. بل إن الأخطر والأعجب من هذا أن ترى الأغلبية الشعبية تريد أن ترتكب هي جريمة مخالفة الإرادة الشعبية بأن تكتب الدستور أولا وقبل انتخاب الرئيس وفي ظل الحكم العسكري، وهي نفسها التي عاشت العام الماضي معارك "احترام الإرادة الشعبية" حتى انعكست الأمور: فصارت الفئات الثورية غير الإسلامية تطالب بالانتخابات أولا لتتخلص من حكم العسكر الذي ثبت بالدليل وبالدماء أن استمراره خطر على مصلحة البلاد والجيش، ثم نجد أن القوى المتصدرة للمشهد الإسلامي هي التي تسعى نحو كتابة دستور تحت الحكم العسكري!!
من كان يحلم أن يرى هذا المشهد في مصر: غير الإسلاميين يناشدون الإسلاميين تسلم السلطة للخلاص من الحكم العسكري، والإسلاميون يمتنعون ويتمسكون بالوفاء بالخطة التي وضعها العسكر، والتي قَصَّروها مجبرين تحت ضغط الشارع وبثمن مقابل: أربعين شهيدا ونحو ألفي جريح!!
إن الواجب الشرعي –قبل كل التقديرات الأخرى- تحتم على الإسلاميين قيادة المشهد، فما لهم عذر أمام الله وقد رفعهم الناس بالانتخاب إلى البرلمان، ثم يطالبهم من لم ينتخبهم بتحمل المسؤولية، ولا تغني عنهم ذرائع التخوف من الفشل شيئا أمام الله وأمام الناس.
وأما التقدير السياسي فله حديث ينبغي أن يكون مفهوما لدى الجميع وخلاصته كالآتي:
من يمتلك القوة هو من يحكم، بغض النظر عن شرعيته أو الحق الذي يحكم به، وكل التجربة الإنسانية في تنظيم الحياة البشرية متلخصة في "كيف نجعل القوة مرتبطة بالحق والشرعية لا منفصلة عنها"، وخاضت البشرية تجربة طويلة من النظريات والتطبيقات وصلت كلها في النهاية إلى مبدأ واحد وهو "الفصل بين السلطات" حيث جوهر التجربة يتمثل في أن تكون "القوة" محايدة، وأن يكون الجهاز الأمني والعسكري خاضع للسلطة التشريعية والسلطة القضائية، وأي فشل في التجربة إنما يعود لاختلال هذا الخضوع، وخروج "القوة" عن هيمنة السلطة التشريعية والقضائية.
يمكن أن نطيل كثيرا في ضرب الأمثلة من التاريخ والواقع المعاصر، وهذا المعنى كتبت فيه الكثير من الدراسات والبحوث التي يعرفها أهل التخصص، بل هذا المعنى يُدرك بالفطرة السليمة وبالعقل المجرد غير المطلع على بحوث وكتابات، ذلك أن حكم القاضي يظل حبرا على ورق مالم تسعى جهة تنفيذ الأحكام القضائية (التي تملك القوة) لتنفيذه، ويظل القرار والقانون والمرسوم حبرا على ورق ما لم تخضع له الجهة (التي تملك القوة) ويُناط بها التنفيذ.. ونحن ما زلنا في العهد الذي يمكنك تعطيل حكم القضاء فيه برشوة لموظف متوسط في هيئة تنفيذ الأحكام القضائية!
المقصود في سياقنا الآن هو مطالعة الحالة المصرية، وفيها يتبدى بوضوح أن البرلمان لن يعدو أكثر من جلسات دردشة، أو نواح في أقصى حالاته، لو لم تخضع له السلطة التنفيذية، وأهم عناصرها هي: وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، بكل ما يتبعهما وما يرتبط بهما من أجهزة أمنية واستخباراتية، وإذا كان الجميع يعلم الوضع الذي يسود في هذه الأجهزة فعلى الجميع ألا يتفاءل بمجرد الحصول على البرلمان.
بل أذهب أبعد من ذلك فأقول: إن البرلمان لا يحميه إلا الثورة الشعبية، ولولا هذه الثورة ويقظتها لاستطاعت تلك الأجهزة حل البرلمان واعتقال نوابه وإلغاء الانتخابات ونتائجها، وقد حدث هذا في الجزائر سابقا، وحدث في غزة (لولا أن حماس تمتلك قوة عسكرية لتمت تصفيتها وما أغنت عنها أصوات الناس شيئا)، وبقدر ما بقيت هذه الثورة يقظة بقدر ما بقيت الحماية المتوفرة للبرلمان، وبقدر ما استطاعت الثورة إنجاز التحول الديمقراطي في لحظة فورانها بقدر ما نجحت في التغيير! ففي لحظات الهدوء الشعبي واختفاء القوة الشعبية من المعادلة تعود موازين القوى لتحدد طبيعة ونتائج الصراع!
لهذا، فما لم يتقدم الإسلاميون لتشكيل الحكومة والإمساك بمفاصل الدولة الحقيقية (وأهمها الدفاع والداخلية وما يتبعهما) فسيظل برلمانهم في مهب الريح، يتربص به الجميع، فمتى عاد الشارع إلى الهدوء عادوا هم إلى السجون كما في الجزائر، أو في أحسن الأحوال صاروا بلا أثر ملموس وجزءا من النظام القديم ذي الطلاء الجديد كما في كل البرلمانات غير المؤثرة: الكويت والأردن وباكستان والمغرب.
النظام البرلماني لا يصلح في الدول غير المستقرة، عرقيا أو دينيا أو سياسيا، ونحن من الدول غير المستقرة سياسيا لأنها تحاول الخروج من نفق التبعية الطويل الذي عاشت فيه قرابة قرن ونصف، وللدول الخارجية وأجهزتها أيادي متغلغلة في مفاصل الدولة وأجهزتها وأحزابها وتياراتها السياسية، فمحاولة توزيع السلطة بين هذه التيارات المتشاكسة ستبوء بالفشل، لا سيما إن حاولت الأغلبية تحسين صورتها وبحثت عن التوافق (وهو خرافة) مع القوى الأخرى، فهنا تكون كمن يبحث عن المشكلات لنفسه بنفسه، وفي عالم السياسة لا مكان للصدقات ولا للهدايا، والأحزاب التي تحوز الأغلبية الكافية لا تتصدق على غيرها بل تمارس حقها كاملا، وهذا هو الواقع في كل الدنيا، بل وكان واقعا في بلادنا فيما قبل انقلاب يوليو، حيث كان الإنجليز والقصر يتلاعبون بأحزاب الأقلية كالسعديين والأحرار الدستوريين، ولم يكن الوفد –صاحب الأغلبية- يقبل بتشكيل حكومات ائتلافية مطلقا!
بقي لدينا النموذج الأسوأ في الأنظمة البرلمانية: نموذج العراق ولبنان، ففيهما يظهر أسوأ ما في النموذج البرلماني: أحزاب تقتسم المناصب السياسية بالمحاصصة الطائفية، ويملك كل منها أن يُسقط الحكومة لأن شيئا ما لم يعجبه أو لم يرضه، وتضطر الدولة والدول الصديقة والعدوة إلى التدخل وعقد المؤتمرات وجلسات الصلح وتتكاثر الجولات المكوكية والزيارات والوساطات، فلا يتوصلون بعد هذا كله إلا إلى صيغة ترضي الأطراف ثم تكون بطبيعتها هشة متهالكة تنتظر أن تسقط وتتأزم من جديد!
إضافة إلى هذا فإن الحكومة لا تسيطر على "القوة" الموجودة على الأرض، فكل جلسات البرلمان وقوانينه، وكل الحكومة وقراراتها، لا تساوي الحبر الذي كُتِب به إذا لم يرغب من يمتلك القوة على الأرض في تنفيذه، ولذا يمكنك أن تجد نائب رئيس الوزراء مطلوب للاعتقال ولا يستطيع العودة إلى العاصمة (طارق الهاشمي في العراق)، ويمكن للبرلمان اللبناني أن يدعم المحكمة الدولية أو يرى ضرورة نزع السلاح وتوحيده (بغض النظر الآن عن الصواب أو الخطأ) لكنه لا يملك تنفيذ شيء طالما لا يعجب حسن نصر الله، ويمكن لمن يملك القوة أن يصنع دولة داخل الدولة فعليا ثم إذا شاء أعلن عنها (كما في حالة كردستان العراق) وإذا لم يشأ لم يعلن (كما في حالة حزب الله في الجنوب اللبناني)
الخلاصة، أن البرلمانات دون خضوع السلطة التنفيذية لها لا تساوي أكثر من جلسات دردشة أو جلسات صياح ونواح، وهذا ما ينبغي أن يكون موضوعا في الذهن والخاطر، وينبغي للبرلمان أن يعلم أنه في حماية الثورة، وعليه أن يمثلها ويكون رأس حربتها ليحفظ نفسه ومصير البلد كله، ويستطيع إنجاز التحول الديمقراطي على خير ما يكون.
اقرأ:
مقالات الباحث خالد خطاب
نشر في: شبكة رصد الإخبارية، ورابطة النهضة والإصلاح
لا يفلح قوم لا رأس لهم فديما قالها ابو حنيفه الامام واليم هي عللتنا
ردحذفشرعية البرلمان تأتى من شرعية الميدان ولكن أعتقد أن الدستور لن تتم صياغته بناءاً على رأى الأغلبية والتى أتت الى البرلمان بأصوات الشعب
ردحذفمن يريدون الدستور قبل الرئيس يعلمون جيدا أن هذا الطريق يعني تمرير الدستور بنسبة كبيرة جدا
ردحذفحين يتم إعداد الدستور و عرضه للاستفتاء سيتم الحشد للتصويت بنعم لأن هذا هو الطريق الوحيد لتسليم السلطة و الاستقرار و دوران عجلة الانتاج و إتمام التحول الديمقراطي و التخلص من العسكر الخ الخ