في
مطلع القرن الرابع عشر كلفت البابوية في أوروبا المؤرخ الإيطالي مارينو سانودو
تورسيللو كتابة تاريخ للحروب الصليبية استغرق منه عشرين سنة أو يزيد عبر فيها
البحر خمس مرات إلى قبرص وأرمينية ورودوس والإسكندرية وأقام طويلا فيها وفي عكا،
ثم خرج كتابه في ثلاثة عشر مجلدا، وضع في آخرها خلاصاته وتوصياته وإجابته على سؤال
لماذا فشلت الحروب الصليبية، وماذا ينبغي أن تفعل الكنيسة لإعادة احتلال هذه
الأراضي، فخلص إلى القول بأن أهم أسباب الفشل كان تركيز الحملات الصليبية على الشام
وليس مصر، وذلك أن مصر هي أكبر خزان بشري ظلت قادرة على إمداد الشام بالجيوش طوال
الوقت، ومن ثَمَّ قدَّم نصيحته في حال إعادة أوروبا للمحاولة أن تكون مصر هي
الأولوية، ثم تنطلق منها الحملات للسيطرة على فلسطين واحتلال بيت المقدس[1].
وقد
عملت أوروبا بهذه النصيحة في الموجة الثانية للحملات الصليبية[2]،
فبدأ نابليون حملته على مصر ومنها انطلق إلى احتلال الشام، ثم جاء الإنجليز بعده
بأقل من قرن فأتموا احتلال مصر أولا، ثم صبروا ثلث قرن آخر حتى احتلوا فلسطين
عسكريا إبان الحرب العالمية الأولى ثم مهدوا فيها للاحتلال الصهيوني الذي يمثل
ذروة نجاحهم المعاصر، فهم بزراعتهم لإسرائيل في المنطقة صنعوا قاعدة عسكرية
وحضارية متقدمة في أرض المسلمين، ومزقوا قلب الدولة الإسلامية، وقطعوا الطريق على
التمدد الروسي في الشرق، وتخلصوا من المشكلة اليهودية الداخلية في أوروبا.
تأسيس
النفوذ الأجنبي في مصر
للنفوذ الأجنبي في مصر قصة طويلة حافلة بالتفاصيل
المريرة..
يوجد الأجانب في مصر منذ القدم لموقع مصر الجغرافي
والتجاري ومركزها العلمي، لا سيما حين صارت عاصمة الخلافة في عصر المماليك عند
سقوط الخلافة من بغداد، وقد تحدث جوزيف بتس –الذي زار مصر في نهايات القرن السابع
عشر- أن اللغات المستخدمة في مصر لا تقل عن اثنتين وسبعين لغة[3]، وتحدث الجبرتي عن طلاب علم أوربيون يدرسون على علماء
مصر قبيل الحملة الفرنسية[4]، إلا أن نفوذهم بدأ مع تولي محمد علي باشا سدة الحكم في
مصر، فمنذ ذلك الوقت وحتى لحظة كتابة هذه السطور والأجانب هم سادة مصر وأصحاب
الكلمة النافذة فيها.
لقد تولى محمد علي حكم مصر بمساعدة أجنبية حيث نشأت
علاقة بينه وبين القنصل الفرنسي في مصر ثم دعمها سفير فرنسا في اسطنبول بضغطه على
الخليفة العثماني ليقبل بولاية محمد علي، وهنا بدأت دولة الأجانب، حيث استكثر محمد
علي من اليهود والنصارى والأجانب في بلاطه وعليهم قام نظام دولته، وأسدى محمد علي
للأجانب خدمات لا تقدر بثمن، ويعتبر هو واضع البذرة الأولى لدولة إسرائيل في سنوات
حكمه العشرة للشام بما نفذه من انقلاب الموازين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية
والقانونية بين المسلمين وغيرهم وبين الرعايا والأجانب، فضلا عن ضرباته القوية
للدولة العثمانية، وإنشائه دولة على النمط الغربي في مصر والتمكين فيها للنفوذ
الأجنبي[5].
لم ينته عهد محمد علي إلا وللأجانب اليد العليا في مصر،
ولم يبق خلفه إبراهيم باشا بعده إلا شهورا، ثم جاء حفيده عباس الأول فكان يكره
الأجانب وحاول موازاة النفوذ الفرنسي بشيء من النفوذ الإنجليزي فلم يلبث أن اغتيل
بعد أقل من ست سنوات، وهو الاغتيال المشكوك في ضلوع الأجانب فيه لتمهيد الطريق
لخلفه سعيد باشا الذي كان أول حاكم لمصر ينشأ تنشئة أجنبية في رعاية القنصل الفرنسي.
وفي عهد سعيد باشا أخذ النفوذ الأجنبي مساحات جديدة
وواسعة وفُتِحت الأبواب أمام حركة التنصير ودعم المدارس والإرساليات التنصيرية في
مصر من قبل السلطة[6]، وفي ذلك العهد حدثت الجريمتان الكبريان اللتان كان
لهما أسوأ الأثر على التاريخ المصري فيما بعد: قناة السويس، والقروض الأجنبية.
فلقد ظل كل حكام مصر حتى وهم في أوج قوتهم يرفضون الوصل بين البحر المتوسط والبحر
الأحمر مباشرة لما لهذا من آثار كارثية على أمن الأمة الإسلامية، ورُفِض المشروع
في عهد هارون الرشيد وسليمان القانوني وسليم الثاني وحتى في عهد محمد علي باشا رغم
كل تمكينه للأجانب ثم وافق عليه سعيد باشا ومنح امتيازا لفريدناند دي ليسبس الذي
هو صديق الطفولة فقد كان أبوه هو القنصل الفرنسي الذي نشأ سعيد في رعايته[7]، وقد وُصِف هذا الامتياز بأنه "أكبر عملية نهب فاقت
كل شيء" ووُصِف صاحبه بأنه "والد كافة المحتالين الذين يسلبون الناس أموالهم
بعد كسب ثقتهم"[8]. وأما القروض الأجنبية فهي البدعة التي ابتدعها سعيد
للإنفاق على القصور والزخارف رغم عدم احتياجه للاقتراض، فكان أول حاكم لمصر يقترض
من الأجانب بالربا الفاحش.
ولما مات سعيد بعد تسع سنوات خلفه إسماعيل الذي كان مثله
في النشأة الأجنبية، فقد تعلم في فرنسا وتحدث الفرنسية كأهلها، وعزم على أن يجعل
مصر قطعة من أوروبا، وأسرف على نفسه في القروض الفاحشة الربا حتى انهارت الميزانية
المصرية واضطر أن يقبل في وزارته اثنين من الأجانب: إنجليزي وفرنسي يتولى أحدهما
المالية والآخر الأشغال فكانا في وزارتهما أعلى سلطة من الخديوي نفسه، كذلك فقد
كانت المناصب العليا في دولة إسماعيل –حتى من قبل اختلال ميزانيتها- منصرفة
للأجانب، كانت الحملات في السودان والصومال وأوغندا
يقودها ضباط إنجليز، بل وتولى الرحالة الإنجليزي صمويل بيكر مسؤولية مديرية خط
الاستواء (جنوب السودان الآن) ثم تولى خلفه اللواء غوردون مسؤولية المديرية ثم
منصب حاكم عام السودان كله، وكان نوابهم وأركان حربهم من الإنجليز والأمريكان
والطليان والألمان والنمساويين وتولى قيادة بعض الحملات فرنسيون ودنماركيون أيضا.
وكثيرا ما كان مدراء المدارس الحربية من الفرنسيين، وقد تولى القنصل الفرنسي
منزنجر باشا مديرية مصوع (إريتريا الآن) ثم وسَّع الخديوي صلاحياته حتى صار محافظا
لسواحل البحر الأحمر ومديرا لشرقي السودان وقاد جيشا من الجيوش المصرية على
الحبشة. وكانت تستطيع إنجلترا أن تعترض على حملة عسكرية تفتح بعض المناطق وتضمها
إلى مصر فترجع الحملة من فورها ويذهب ما أنفق فيها هباء منثورا، ثم لما احتلت
إنجلترا مصر لم تتكلف سوى إصدار الأمر لهذه الفرق الموجودة بالسودان والحبشة
بالتخلي عن مواقعها والانسحاب منها فينسحبون دون اعتراض أو عصيان. فضلا عن أن
مساعدة الجيش المصري للإنجليز في حروبهم حاضرة بغير تردد كما جرى في حرب الإنجليز
مع الحبشة (1867 – 1868م)[9].
وطوال أسرة محمد علي تطورت الأوضاع
القانونية والاقتصادية لتصب في مصلحة الأجانب، فالمحاكم القنصلية ثم المحاكم
المختلطة –وهو نظام شنيع لا يُعرف له مثيل في التاريخ- انتزعت كثيرا من أموال مصر
وثرواتها وأراضيها ومبانيها لتحكم بها لمصلحة الأجانب، كذلك فقد كان إسراف السلطة
على نفسها بالربا والزخارف ينزع كثيرا من الأموال من يد المصريين ليجعلها في صفقات
تعقد مع الأجانب لبناء أو تزيين أو تأثيث تلك القصور والحفلات، مما جعل الشحاذ المتسول
في أوروبا إن نزل إلى مصر اغتنى سريعا وصار من الأثرياء الكبار، بينما ازداد
المصريون فقرا وقهرا وذلا[10].
ما إن بدت في الأفق نذر ثورة مصرية قادها
أحمد عرابي واحتواها المجتمع المدني المصري ممثلا في قياداته آنذاك كجمال الدين
الأفغاني وعبد الله النديم ومشايخ الأزهر وكبار التجار، إلا وكان الأجانب يسرعون
لتنفيس هذه الثورة واحتوائها، فعزلوا إسماعيل عن منصبه وأعطوا السلطة لتوفيق الذي
حاول وأد الثورة فازدادت حدة وارتفاعا وكادت تطيح بنظام محمد علي كله بدعم من
السلطان عبد الحميد الثاني، فاتفقت الدول الأجنبية في مؤتمر الآستانة على التدخل
العسكري في مصر إن لزم الأمر، وهو ما كان معناه إعطاء التفويض للإنجليز بالسيطرة
على مصر، وذلك الذي كان، ونزلت القوات الأجنبية لتحفظ النظام الذي يبيض ذهبا
للأجانب.
في هذه اللحظة اتحد الاستبداد الداخلي بالاحتلال الخارجي، ليبدأ فصل جديد في قصة النفوذ الأجنبي في مصر، نرصده إن شاء الله في المقال القادم.
[1] عباس
مصطفى عمار، سيناء: المدخل الشرقي لمصر، ط2 (الدوحة: المركز العربي للأبحاث
ودراسة السياسات، يوليو 2014م)، ص10 (مقدمة وليد نويهض). والجزء الأخير من كتاب
المؤرخ الإيطالي ترجمه إلى العربية الأب سليم رزق الله بعنوان "كتاب الأسرار في
استرجاع الأراضي المقدسة والحفاظ عليها"، وصدر في بيروت عن مؤسسة الريحاني
عام 1991م.
[2] يقسم بعض
الباحثين موجات الحملات الصليبية إلى ثلاث موجات كبرى؛ فالأولى هي التي بدأت
باحتلال بيت المقدس وانتهت في عهد المماليك، والثانية هي الاستعمار الحديث الذي
بدأ بالحملة الفرنسية على مصر وانتهى بتحرر الدول العربية من الاستعمار في منتصف
القرن العشرين، والثالثة هي التي بدأت بالغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق ولا
تزال مستمرة.
[3] جوزيف بتس
(الحاج يوسف)، رحلة جوزيف بتس إلى مصر ومكة والمدينة المنورة، ترجمة
ودراسة: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب،
1995م)، ص34.
[5] انظر
التفاصيل في: محمد إلهامي، التأسيس للنفوذ الأجنبي في بيت المقدس في عهد محمد
علي باشا الكبير، ورقة بحثية في المؤتمر الأكاديمي السادس عشر
"العثمانيون وبيت المقدس"، ديسمبر 2016م.
[6] للمزيد،
راجع: محمد إلهامي، من سعيد باشا إلى
عبد الفتاح السيسي، مقال منشور بالمعهد المصري للدراسات
السياسية والاستراتيجية، بتاريخ 22 يناير 2017م.
[7] لتفصيل
قصة قناة السويس، انظر: محمد إلهامي، في أروقة التاريخ، ط1 (القاهرة: دار
التقوى، 2017م)، 1/ 249 وما بعدها.
[8] ريمون فلاور،
مصر من قدوم نابليون حتى رحيل عبد الناصر، ترجمة: سيد أحمد علي الناصري،
(القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2000م)، ص136.
[9] انظر
التفاصيل في: عبد الرحمن الرافعي، عصر إسماعيل، ط4 (القاهرة: دار المعارف،
1987)، 1/113 وما بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق