الجمعة، سبتمبر 15، 2017

اعتقالات السعودية.. ليلة قلم مخنوق

جلست أكتب مقال "مدونات الجزيرة"، يأبى خاطري إلا أن أكتب في عاصفة الظلم التي تجتاح السعودية فترسل بعلمائها ومشايخها إلى الزنازين.. حسنا، فماذا أكتب؟!

اكتُبْ في الذكريات..

ألم تر إلى اليوم الذي رأيت فيه مؤلفات محمد موسى الشريف كأنها تتوالد وتتكاثر؟! لم أشك ذلك اليوم أنه متفرغ تمام التفرغ مع علو همة وبركة في الوقت وقوة في العقل. ثم كان في جولة علمية يوما وافقت البلد الذي كنت فيه، فأمضيت يومي كله أتتبعه من مسجد لمحاضرة لدورة لمجلس، فإذا به يُعطي الدورة في طبقات كتب التاريخ ومؤلفيها على البديهة والسليقة من خاطره دون تحضير ولا مراجعة؟! ثم ظفرت به يوما فسألته على هامش مؤتمر في التاريخ فعرفت أنه ليس متفرغا بل هو طيار في الخطوط السعودية ويمارس عمله ولديه رحلة بعد ساعتين!

ألم تر إلى سلمان العودة؟! أحسبه أفضل من في طبقته في استعمال وسائل وتقنيات الإعلام المعاصر، برنامجه "وسم" حالة فنية متقنة لمحتوى رائق بديع، أتذكر يوم قال في أحدها "العلماء إن لم يسبقوا الناس إلى فتح الباب على وجهه، اقتحمه الناس ثم جرى العلماء يرقعون ما كسروا"! تلك الكلمة على وجازتها خبرة عمر وخلاصة حياة دعوية. كنت أراه يسير في اسطنبول وحيدا منفردا، لم أحاول الاقتراب منه، أشعر كأنه في حالة "وسم" يوشك على تكوين صورة ورسم كلمة، أكتفي بمراقبته حتى يغيب!

علي العمري؟! صاحب واحدة من أنضج التجارب الإعلامية الإسلامية، خصب الذهن سيال الأفكار، رأيته أول مرة صباح يوم السفارة.. ليلة تسلق شاب مصري عمارة السفارة الإسرائيلية فمزق علمها في صيف 2011، سهرت يومها حتى الصباح، وحين كدت أمضي رأيته هناك، لست أدري كان يمر من هنا أم كان يزور المكان الذي شهد واحدة من غرائب الأمور. أتذكر أيضا حين استمعت محاضرة له لأول مرة، كنت وقتها أظنه نموذجا سعوديا للدعاة الجدد مع سمته الشبابي الأنيق، ففوجئت بعلم وخبرة واطلاع واسع، ثم رأيت مؤلفاته أيضا فإذا هي أكثر مما توقعت من رجل ظننت اهتمامه ينحصر في الإعلام!

وليد الهويريني، رأيته أول مرة في مؤتمر "السلفة والوهابية" في قطر، ثم في عدد من المؤتمرات فيما بعد، أمره عجيب.. فيه رقة ودماثة وتهذب وأدب رفيع حتى ليخيل إليك أنه شاب يتلمس طريقه في أول طلب العلم، خفيض النجاح هادئ الصوت رقيق الحاشية، تزور عينك عنه إن لم تكن تعرفه، حتى إن جاء وقت كلامه رأيت تمكنا وسعة واطلاعا. فإن فتحت كتبه كـ "الحراك الفكري السعودي" أو "خارطة الدم" رأيت فوق ما تصورت حين سمعته!

ألم تر إلى ...

يهجم على خاطري: ما حاجة الناس إلى ذكرياتك؟! لا هو أمر ينفعهم ولا يضرهم، ومن تتحدث عنهم أشهر من نار على علم، ولعله لكل قارئ معهم ذكرى لما وُضِع لهم من القبول بين الناس.

أنصرف عن تلك الفكرة وأعود إلى السؤال: فعمَّ أكتب؟!

يخطر لي طيف أن أنشر مقالا في شأن آخر، ومباشرة أجد نفسي تدفع الخاطر وتُنْكره وتنفر منه، تقول: إن لم يكن لديك شعور بالمرحمة بين المؤمنين ودعاتهم، فواجب كلمة الحق، فإن نكصت عن كلمة الحق، فالمروءة.. أناسٌ لقيتهم وكلمتهم واستمعت إليهم ولهم في عنقك حق المودة!!

حسنا.. أستسلم، وأعود فأسأل:
-       ففيم أكتب؟!
-       اكتب في الإنكار على الظالم، في النهي عن المنكر، في بيان سوء الفعل وسوء المنقلب..
-       لا لا، قد كتبت في هذا ما لا أجد في نفسي مزيدا منه، استنفدت طاقتي ومعجمي ومعرفتي في الحديث عن أولئك الحكام وعما يفعلون وعن سوء المصير الذي يسوقون إليه البلاد والعباد.. ثم إنه أمر تكفل به أو سيتكفل أصحاب الأقلام جميعا.
-       حاول
-       لا أستطيع.. ولا أجد في نفسي القدرة على هذا
يأتي السؤال مرة أخرى: ففيم أكتب؟!

لا بأس، لنكتب في شأن من أجرموا وأفسدوا من أهل الصحافة والإعلام السعودي ممن لا زالوا يتمتعون بالأمن والحظوة والوجاهة.. تذكرت على الفور أني رأيت مجلة الفيصل في عددها الأخير قد أعدت ملفا عن الإسلام والعلمانية، كان أول مقالاته لحسن حنفي بعنوان ""العلمانية أسسها في القرآن الكريم"! وبقية عناوين المقالات في نفس السبيل.

ضحكت وقد تذكرت يوما سخر فيه صديق خفيف الظل من دعوات تجديد الإسلام فقال عبارة بديعة: "الإسلام دين وسطي جميل لا يتعارض مع الإلحاد"، فضحكنا وذهبت بيننا مثلا. ها قد تحققت السخرية وصارت واقعا مريرا!!
بل تذكرت ما هو أقسى من هذا، كاتب سعودي يريد تجديد عقيدة محمد بن عبد الله! إنه تركي الحمد أطلق  تغريدة نصها: "جاء رسولنا الكريم ليصحح عقيدة إبراهيم الخليل، وجاء زمن نحتاج فيه إلى من يصحح عقيدة محمد بن عبدالله"!!

ثم اندفع من أعماق الذاكرة ما نشرته صحيفة الرياض قبل ثلاثة عشر سنة حين أكتب أحمد الجميعة مقالا جاء فيه "لم يخرج فكر التكفير إلى الوجود بغتة بل إن له جذوراً وسوابق في التاريخ الإسلامي ولعل أول وأهم واقعة تاريخية عبرت عن ميلاد فكرة التكفير في الإسلام هي "حروب الردة" التي خاضها الخليفة أبوبكر الصديق في مطلع عهده" ثم قال بعد ذلك: وبذلك تكون "حروب الردة" أول بيان رسمي يعلن ميلاد أيديولوجيا التكفير".

عند هذا الحد صار الأمر مثيرا للاشمئزاز، وبدا لي لمرة أخرى أنه أسلوب قديم، فالحرب التي أطلقها بوش على الإرهاب قبل ستة عشر عاما أثمرت في السعودية أمرا هائلا، ليس ثمة من يغفل عنه أو يتعجب منه، قد غُزِي الإسلام في عقر داره، فعاد الإلحاد ومعه من يريد تصحيح عقيدة محمد رسول الله ومن يرى أبا بكر وصحابة النبي تكفيريين.

خطر لي أن أجعل المقال اقتباسات من مؤلفات المشايخ المحبوسين، فقرات من تفسير الطريفي أو تغريداته الذكية الملهمة، أو معنى بديع صاغه العقل الألمعي والقلم المدهش إبراهيم السكران، أو فنا من فنون القول ابتكره سلمان العودة بأسلوبه الرشيق الرقيق المتظرف، أو درسا تاريخيا استخلصه موسى الشريف، أو عبارة من قواعد الحياة الأربعين وشرحها لعلي العمري..

هممت بهذا وشرعت في الاختيار، أمسكت بتفسير الطريفي، وذهبت إلى سورة البقرة، فتذكرت أن أول حكم في كتاب الله هو حكم الخلافة عند قوله (إني جاعل في الأرض خليفة)، فأمسكتُ من فوري.. قد عرفتُ من نفسي أن اختياراتي من أقوالهم قد تكون عليهم لا لهم، فالحسنات في ميزان الأمة سيئات وخطايا في ميزان أجهزة الأمن.. فكففتُ القلم!

حقا.. لم أجد ما أكتبه، واختنق القلم في يدي كاختناق النفس في صدري!

فكتبت قصة القلم المخنوق.. وهو مقال في فن الهروب من المقال! وأسلوبٌ سخرتُ ممن صنعه يوما فقد ابْتُليت به.
على أن ها هنا كلمة لا بد من قولها:

إن الفتنة في بلاد الحرمين ليست كغيرها.. الساقطون فيها ليسوا صحفيين تصنعوا الشجاعة ولا ممثلين تصنعوا الرسالة ولا معارضة تصنعت المعارضة. بل شيوخ وقراء وعلماء فتحت لهم العيون والقلوب والأسماع!

فيا لها من فتنة السقوط فيها مريع ومروع، أسيف ومؤسف، هلكة ومهلكة..

قضى الله على عباده بالفتنة ليبلوهم، فلا يدخل الجنة إلا من أثبت أن الله أكبر في قلبه من الدنيا وسلاطينها!


والساكتون اليوم هم ضحايا الغد! فإن الفراعين لا تقبل معها آلهة ولا رأيا، وقد قال من ضربه الله لنا مثلا في الفرعونية (ما علمتُ لكم من إله غيري)، وقال (ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق