رأينا في المقالات السابقة كيف أنشأ الإسلام السلطة السياسية، ثم كيف بنى المجتمع المتماسك
المترابط بروابط الدين والرحم والجوار، وبقي أن ننظر في العلاقة
بينهما ليكتمل تصور "النظام العام" في البناء الإسلامي.
وخلاصة ما نراه في العلاقة بينهما أن السلطة تقوم بالمهام
التي لا تنعقد بغير القوة والنظام؛ لتنطلق طاقة الأمة بذاتها
في عمارة الأرض ونشر الحضارة، ففي ظلِّ السلطة الإسلامية تكون المساحة مفتوحة أمام
الأمة في الانطلاق الحضاري بغير تعويق من السلطة؛ بل إن من مهام السلطة ما
يجعلها محفزة لمجهود الأمة، فالحد الأدنى هو إقرار الأمن، وكلما رَشَدَت السلطة كان
تحفيزها أقوى وأوسع، فمن السلطة تندلع "شرارة الحضارة" لتتلقفها الأمة فتكون
نورًا عظيمًا، وتفصيل ذلك كالآتي:
أولاً: واجبات السلطة
قال الماوردي: "يلزمه (أي الخليفة) من الأمور العامة
عشرة أشياء:
1. أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف
الأمة، فإن نَجَمَ مبتدع أو زَاغَ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبيَّن له الصواب، وأخذه
بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
2. الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين
حتى تعم النصفة، فلا يتعدَّى ظالم، ولا يضعف مظلوم.
3. الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش،
وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
4. والرابع: إقامة الحدود؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك،
وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
5. والخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى
لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا.
6. والسادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل
في الذمة؛ ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.
7. والسابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا
واجتهادًا من غير خوف ولا عسف.
8. والثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف
ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
9. التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم
من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء
محفوظة.
10.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة
الأمور، وتصفُّح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملَّة، ولا يعول على التفويض
تشاغلاً بلذَّة أو عبادة"([1]).
وإذا أردنا تلخيص هذه العشرة فهي: إقامة الأمن في بلاد المسلمين؛ سواء بحماية الداخل من الاضطرابات
بإقامة الدين وحفظ حقوق الناس، أو حماية الثغور وجهاد الخارج وحفظ دولة الإسلام من
أعاديها، فكأن واجب السلطة يمكن إجماله في "ضبط وتنظيم أوضاع الأمة".
ثانيًا: واجبات الأمة نحو السلطة
وقد أجملها الماوردي بقوله: "إذا قام الإمام بما ذكرناه
من حقوق الأمة؛ فقد أدَّى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم
حقان: الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله، والذي يتغير به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان:
أحدهما: جرح في عدالته. والثاني: نقص في بدنه"([2]).
فعلى الأمة الطاعة في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر ما دامت
الطاعة في المعروف، وهذا يوفر للسلطة القدرة على القيام بأمر الحكم بأيسر سبيل؛ إذ
الطاعة ليست للسلطة وإنما هي لله؛ بل ويكون التعاون على إقامة
أمر الله درجة أعلى من مجرد الطاعة؛ فهي مشاركة في المسئولية
وتحمل للأمانة.
ثالثًا: استقلال الأمة بحركتها عن السلطة
حيث تمثل المساجد مراكز اجتماعية لتعاون الناس على البر والتقوى،
ويمكن لأي تجمع أن ينشئ من وجوه الخير ما استطاع دون أن يُواجَه بمعوقات من قِبَل السلطة،
وجاء الإسلام بما أعطى للأمة القدرة على تمويل ذاتها وحركتها الحضارية دون لجوء إلى
السلطة، وتلك هي فكرة "الوقف".
إن الأوقاف من الابتكارات الحضارية الإسلامية، فلم يكن موجودًا
في العالم القديم إنفاق على أوجه الخير -اللهم إلا ما كان ينفق منه على المعابد وكهنتها،
مما لا يمثل إلا جزءًا ضئيلاً من فكرة الأوقاف([3])- حتى جاء الإسلام فأوقف رسول
الله r ثم أوقف صحابته جميعًا أوقافًا
كثيرة حتى قال جابر t: "لم يكن لواحد من أصحاب
رسول الله مقدرة إلا وأوقف". وقال أهل العلم بأن هذا
"نقل للإجماع فلا يلتفت إلى خلاف ذلك"([4]).
واستمرَّ نمو مؤسسة الوقف في العالم الإسلامي؛ لتشكل المصدر الذاتي الذي
تمول الأمة به مشاريعها الحضارية، فبما أوقف المسلمون من ممتلكاتهم توفرت أموال غزيرة
أُنْفِق بها على العلماء وطلبة العلم والمكتبات والكتاتيب وشيوخها، وعلى إنشاء المدارس
والمستشفيات، وعلى الجهاد وبناء الثغور وتحرير الأسرى، وعلى الفقراء والأيتام والضعفاء
والمحتاجين والمسنين والعجزة واللاجئين والمشردين، وعلى تنمية البلدان بشقِّ الأنهار
وتعبيد الطرق وإنشاء الجسور، وعلى دعم المعوزين كحمل من عجز عن الحج، وإيواء المطلقات، وتأجير ملابس الأفراح، وتوزيع الحلوى في رمضان، وتبديل الثياب الملوثة، وتعويض الأواني المكسورة،
بل وعلى رعاية الحيوانات التي مرضت أو عجزت أو كبرت، وسائر ما يُمكن أن يُتَخَّيل من
وجوه الخير ضربت فيه الأمة بسهم عبر مؤسسة الأوقاف([5]).
ومن بين الآثار الكثيرة للوقف يهمنا التركيز على أثر استقلال
مسار الأمة عن مسار السلطة، فلم يكن انهيار السلطة أو ضعفها السياسي والعسكري منعكسًا
-بقوة- على نمو الأمة الحضاري؛ بل قد تسقط البلدان عسكريًّا
ثم تأسر الغازين حضاريًّا وثقافيًّا كما حدث مع الصليبيين في الشام، والنورمان في صقلية، والإسبان في الأندلس، والمغول في الشرق الإسلامي.
إذًا، فالنتيجة النهائية أن الحضارة لا بد لها من أرضٍ
تنشأ عليها، ولابد لها من دولةٍ توفر لها مقومات الحياة (الأمن والكرامة والراية والجيش
والإدارة)، وهكذا بدأت حضارة الإسلام من "دولة" المدينة المنورة، ففيها نزلت
الأحكام الربانية التي تنظم شئون المجتمع، فالدولة تُطلق "الشرارة الحضارية"؛ كقرارات تدوين الدواوين، وتعريب المكاتبات والنقود، وترجمة علوم اليونان والفرس
والهند والصين، ثم بعدئذٍ تتمكن الأمة من تمويل هذه البدايات الحضاريَّة ورعايتها ودعمها؛ حتى تتمكن من الاستقرار والمواصلة
ولو ضعفت السلطة السياسية.
صحيح أنَّ الحضارة الإسلاميَّة لم تكن تنتهي حين ينتهي النظام
السياسي؛ إلا أنها كانت تتأثر بمناخ الضعف والانحدار ولا شك،
وحين يطول عليها الانهيار في الحالة السياسيَّة فإن أعراض الضعف تبدأ فيها حتى نصل
إلى التخلُّف الحضاري.
هكذا يبني الإسلام نظامه العام على ثلاثة أركان:
1. السلطة تُبْنَى على هيمنة الشريعة، والحاكم فيها وكيل
عن الأمة، وتدار فيها الأمور بالشورى.. فبهذا تتحمل الأمة مسئولية إقامة السلطة، ومسئولية مراقبتها، ومسئولية تصحيح انحرافها.
2. والأمة وحدة مترابطة متماسكة متينة، تشملها رابطة الدين
ورابطة الرحم ورابطة الجوار، وهي العلائق التي تحفظها من ظلم الحكام كما تجعل الجميع
مستشعرًا للمسئولية تجاه الجميع، فلا يُفعل الذنب إلا خفية واستتارًا، فإن ظهر سارعت
الأمة إلى مقاومته وإصلاحه.
3. ثم تتعاون السلطة والدولة في إصلاح أمر الأمة وأمر الناس
جميعًا؛ فالسلطة تؤمن استقرار الأمة وقوتها، وتشعل شرارة الحضارة فيها،
والأمة تنطلق لبناء الحضارة ونشر الدعوة، والارتقاء بحالها وبحال البشر
أجمعين.
فتلك الثلاثية بفروعها وتفاصيلها تُجَيِّش طاقات الأمة في
إصلاح أحوال الدنيا، وتترجم بطريقة عملية مهمتها في الحياة {أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق