يحلو لكثير من رافضي الانقلاب العسكري أن يبصروا الفشل
الاقتصادي للانقلابيين في مصر، يحسبون أن هذا مما يؤلب عليهم الناس، ويساهم في
اشتعال الثورة وإزاحة الانقلاب.
ليس هذا حقيقيا للأسف، وقد أدى هذا الوهم إلى الانشغال
بالملف الاقتصادي قبل ملفات الأمن والعسكر والإعلام في عهد الرئيس مرسي، فلم يغن
الإنجاز الاقتصادي شيئا، بل ولم يشعر الناس به ولم يقدروا قيمته بفعل التوحش
الإعلامي ثم جاءت ضربة الأمن والعسكر فجعلت كل ذلك هباء منثورا.
حسبما نعلم من التاريخ، فإن المجاعات لا تؤدي إلى ثورة،
وإن الجياع حين يمسهم الألم لا يتوجهون إلى قصر السلطة لإفراغ غضبهم، بل يأكلون
أنفسهم وينفجرون في بعضهم، فتشيع بينهم السرقات والسلب والنهب والإجرام، فيما يظل
قصر السلطة آمنا.. بل إن التاريخ يحمل إلينا أنباء من جاعوا حتى أكلوا الحمير والقطط
والكلاب بل وأكلوا أولادهم من الجوع دون أن يفكروا في تحطيم قصر السلطة.
ترى لماذا؟.. ببساطة: لأن قصر السلطة تحرسه القوة، فيكون
أكل الأولاد أهون من التعرض للموت عند قصر السلطة.
حالات نادرة تلك التي توجه فيها الغضب إلى ذلك القصر،
الذي هو أساس البلايا ونبع الشرور، وذلك حين يوجد القائد الذي يوجه الغضب إليه، أو
حين يكون القصر ضعيف التأمين قد اختلف رجاله وأجنحة الحكم فيه، فساعتها يتوجه
الجائعون إلى القصر، لا لإعدام الرئيس المجرم، بل لنهب الخزائن والثروات!!
ولهذا فإن الملف الأمني والعسكري هو الملف الأول أمام كل
سلطة، إن استقر لها فقد استقر لها الحكم وخضعت لها الرقاب، طوعا أو كرها.. وها نحن
نرى "أشاوس الثورة" الذين امتهنوا النباح على مرسي لا تسمع لهم همهمة
على أضعاف أضعاف أضعاف ما نبحوا عليه قديما، بل صار بعضهم ينافق ويتملق ويحرك ذيله
على نحو قول الشاعر:
حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة .. خضعت إليه
وحركت أذنابها
وإذا رأت يوما فقيرا عابرا .. نبحت عليه
وكشرت أنيابها
إن الفشل الاقتصادي لا يسقط الأنظمة، لا سيما تلك
المدعومة بأنظمة الشرق والغرب، فحتى لو توقفت أموال الداعمين، فإن السلطة لا تعدم
وسيلة لغصب الأموال من الشعب لتكنزها وتراكمها في الطبقة التي تشد أركان الحكم
(العسكر، الشرطة، القضاء)، وفي بلاد كثيرة يقتصر دور السلطة على تأمين العاصمة (أو
حتى جزء منها: حيث مؤسسات الحكم) وتأمين موارد الثروة (بترول أو غاز أو معادن..
إلخ) فيما ترسف باقي البلد كلها في فشل اقتصادي وأمني مريع، ولا تحدث –مع ذلك-
ثورة، فالمهم هو قوة الأمن والعسكر وقدرتهم على السيطرة على الموارد التي تجلب
الأموال التي تبقيهم في مواقعهم.
السلطة لا تعدم وسيلة لغصب الأموال، فهي تستطيع في كل
وقت فرض ضرائب جديدة على أشياء جديدة، ولكل سلطة متفننون في اختراع الضرائب، فثمة
ضرائب على الأموال وأخرى على المشتريات وثالثة على العقارات ورابعة على المبيعات
وخامسة على أنواع بعينها من الأنشطة وسادسة على أنواع بعينها من المنتجات، هذا
بخلاف ما يؤخذ في الجمارك وما يُحصَّل في المصالح الحكومية عند الأختام وعلى الطرق
السريعة وفي مراحل تسيير الأعمال ... إلخ!
فإذا فنيت الضرائب فإن السلطة لا تعد وسيلة لاجتلاب
الأموال ببيع موارد الدولة وثرواتها وتأجير مواردها الدائمة كحقول الغاز والبترول
وقناة السويس والموانئ والمناطق الأثرية ولفترات طويلة فتكون بهذا قد باعت حق
الأحياء وحق من لم يُخلقوا بعد من الأجيال القادمة.
بل إن بعض البلاد أجرت أراضيها لدفن النفايات النووية
التي أراد الغرب التخلص منها، وقد كان للدكتور مصطفى كمال طلبة -المدير التنفيذي السابق
لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة- تصريح خطير يقول فيه: إن دفن الطن في إفريقيا والدول
العربية مثلا بلغ 40 دولارا، مشيرا إلى تورط وزراء وسياسيين وشخصيات عالمية كان منهم
زوج مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، بل أنشئت شركات لهذه التجارة، حيث
وصل سعر دفن الطن عن طريق شركات إيطالية إلى 800 دولار، والتي تنقلها إلى إفريقيا بسعر
40 دولارا للطن الواحد.
ولذلك ينبغي التخلص من وهم أن الضغط الاقتصادي على الناس
يؤدي بهم إلى ثورة في وجه السلطة، فما دامت السلطة قوية وما دامت القيادة غائبة
فلا أمل في أن يتحول ألم الجوع إلى ثورة.
إن تاريخنا القريب، منذ ابتلينا بالحقبة العلمانية التي
بدأت بمحمد علي قبل قرنين من الزمان، شاهد حاضر وقوي على هذا الذي نقول: لقد كان
الناس في عصر محمد علي لا يجدون مهربا إلا أن يهربوا من قراهم ويتركوا أملاكهم من
الأراضي والبيوت لينجوا من الضرائب المفروضة عليهم، وكان بطش السلطة من القوة
والجبروت بحيث يطارد هؤلاء الهاربين بأنفسهم فيعاقبهم لهروبهم من الضرائب ويسلط
عليهم أجهزة شرطته في مشهد تحكيه كتب التاريخ بسطور من دم.
حتى حفيده الخديوي إسماعيل الذي أنفق مالية مصر كلها على
شهواته ونزواته وقصوره الفاخرة (بنى وحده ثلاثين قصرا لا يُعرف على وجه اليقين
مقدار ما أنفق عليها من أموال) قد تفنن في اختراع الضرائب، وكان ينتزعها منهم قبل
وقتها، ويضاعفها كلما أراد، حتى ألجأ الناس إلى الاقتراض بالربا من الأجانب،
فصاروا بعد فترة مُلاَّك البلد على الحقيقة، وعادت من جديد ظاهرة الهرب وترك القرى
والأراضي!
لم تقم ثورة على محمد علي بل مات وهو آمن في قصره..
وأما إسماعيل فقد كادت تودي به ثورة لأنه ارتكب خطأ
فادحا، ذلك أنه لم يجعل العسكر معه في الدعة والراحة، بل ذاق العسكر مما ذاق منه
عموم الناس، فتشكلت قيادة شعبية حركت الغضب نحو قصر السلطة، فسارع النظام الدولي
في ذلك الوقت (إنجلترا وفرنسا) فخلعوه، ثم لما لم يستطيعوا وأد الثورة القادمة
نزلوا بجيوشهم لمنع نجاح ثورة عرابي، وقد كان!
ليس يعني هذا الذي سبق التقليل من شأن الملف الاقتصادي
على أزمة السلطة، بل يعني أن الملف الاقتصادي ليس هو الملف الذي تسقط به الأنظمة،
بل هي تسقط بالكفاح والمقاومة، وإن انتظار قيام الناس نحو السلطة إذا مسهم ألم
الجوع تماما كانتظار أن يبسط أحدهم كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه!
ولنا في قصة قارون الأول عبرة، انظرها ها هنا.. وفي قصة قارون العصر (أمريكا) عبرة أخرى انظرها ها هنا..
نشر في مصري 24
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق