صرخت الأم في ابنها: ذاكر لتنجح
فقال الابن بلا مبالاة: وهل كل من ذاكروا نجحوا؟!
***
مَثَل هذا الابن كمَثَل فلاسفة السلمية، يُقال لهم: لم
تنجح ثورة بغير قوة، فيقولون ببردوهم العجيب: وهل كل من حمل السلاح انتصر؟!
بهذه الإجابة العقيمة، أو قل: بهذه المناورة اللئيمة، يتصدر
القوم منابر الكلام والكتابة ليمارسوا تزوير التاريخ والوقائع، ولهم في هذا
طريقتان:
الأولى: تصدير تاريخ جديد لثورات يقولون إنها نجحت
بالسلمية، وقد صعدوا وهبطوا وركبوا الوعر والسهل ولم يخرجوا إلا بثلاثة أمثلة
فحسب: الهند وإيران وجنوب إفريقيا، وجميعها مارسوا تزوير تاريخه ليثبتوا نجاحه
بالسلمية، وهو ما لم يكن في ثورة من هذه، فجميعها جاهد وكافح واستعمل السلاح
(يحبون أن يسمونه: العنف، كما يفعل أعداؤهم)، ولم يحسم الأمر في أي من هذه الثلاثة
إلا بالقوة؛ إما قوة الثوار وحدهم، أو قوتهم مدعومة بقوة دولية.
وحتى إذا قلنا بأن هذه الثورات نجحت بالسلمية وحدها، فما
حجم ثلاثة أمثلة فحسب في بحر التاريخ كله؟ وأي عقل هذا الذي يتمسك بنجاح ثلاثة
أمثلة من بين كل النماذج المعروفة يريد أن يقهر تاريخه وواقعه ليكرر فيها هذا
النموذج؟!
أجل.. إنه عقل الطالب الذي لم يجد فيمن يعرفهم سوى ثلاثة
أمثلة: لم يذاكروا ولكنهم نجحوا!!!
وقد كان من الغرائب المدهشة أن أستاذا في العلوم
السياسية في جامعة أمريكية قال –وكله ثقة- في برنامج تلفزيوني: "لم تنجح ثورة
بشكل حقيقي استخدمت العنف.. هذا بالإحصائيات.. معظم الثورات التي استخدمت العنف
تعرضت بشكل أو بآخر للإجهاض أو تحولت إلى الحرب الأهلية أو ما إلى ذلك"،
فذهبت أبحث في مقالاته عن هذه الإحصائيات فوجدت مقالا له نشره في وقت مقارب، ولكنه
قال فيه: "حقيقة الأمر، لا يوجد نمط تفسيري واحد لمدى ارتباط العنف بنجاح الثورة
من عدمه. كما أن العلاقة بين الأمرين ليست بالضرورة ارتباطية أو طردية، وإنما تختلف
باختلاف السياقات والظروف لكل حالة على حدة"!!!
ولا تعليق!
***
يبدو أنهم بعدما أفلسوا في التنظير للسلمية من خلال هذه
الثورات الثلاث، والتي لم تسعفهم في غرضهم طفقوا يقرأون لنا التجارب التي استعملت
السلاح (يسمونه: العنف) ولم تنجح، ومَثَلُهُم في هذا مَثَل الطالب الذي قال لأمه:
فلان وفلان وفلان ذاكروا ولم ينجحوا!
ولذلك فقد تدفقت علينا، خصوصا في الأسابيع الماضية،
مقالات تدعي أنها تقرأ تجارب من حملوا السلاح في مصر كتنظيم الجهاد المصري
والجماعة الإسلامية، أو تجربة الإخوان المسلمين في سوريا (الطليعة المقاتلة)، أو
غيرها. ولولا أن المنتفعين من مواقعهم "السلمية" طفقوا يوزعون هذه
المقالات بين الصفوف ليخذلونهم ويحفظون لأنفسهم مكانتهم لما استحق الأمر خوض نقاش
فيه أصلا!
ومع الاحترام لأشخاص بعض من كتبوا، فإن مقالاتهم غلبت
عليها العاطفية والسطحية والاختزال وظهر فيها شحّ المصادر التي اعتمدوا عليها، مما
يستدعي ردودا مطولة ربما عرضنا لها فيما بعد إن شاء الله، ولكن لا بأس.. لنصدقهم
في كل ما قالوا ولنعتبر أن قراءتهم صحيحة ولنرى:
افتخر أحدهم بأن سياسة الجماعة حفظت عليها وجودها
وكيانها في الوقت الذي انتهى فيه تأثير الجماعة الإسلامية والجهاد من مصر.. وهنا
يأتي السؤال: ما قيمة بقاء الجماعة في وضع المفعول به المُتَحَكَّم فيه المُسَيطَر
عليه؟! ما قيمة بقائها وهي لا تملك لنفسها فضلا عن غيرها نفعا ولا ضرا، إن شاء
النظام أدخلهم السجون وإن شاء أدخلهم البرلمان، ثم إن شاء أخرجهم منه وأدخلهم
السجون مرة أخرى، إن شاء سمح لهم بصحيفة محدودة التوزيع وإن شاء حرمهم منها، بل
لقد بلغ شأن الجماعة من الضعف والهزال أن تُمَثَّل مسرحية كنسية تسب النبي محمدا
وتثير أزمة عاصفة ثم لا يكون للجماعة همٌّ إلا إثبات براءتهم من موجة الغضب هذه
وأنهم لم يشاركوا فيها!! بل لقد كانت تُسَلَّم المسلمات مرة أخرى إلى الكنيسة
والجماعة لا تريد أن تشتبك مع هذا الملف لأنه حساس وشائك ويأتي بالمتاعب!!
نعم.. يُفخر بالبقاء إن كان البقاء فعالا ومؤثرا، أما
كيف يُفخر ببقاء الجماعة إذا كانت تشتري بقاءها ببيع دعوتها والتنازل عن صميم
أفكارها؟!!
هذا مَثَلُ من لم يذاكر خوفا على صحته وأعصابه، ثم لما
لم ينجح أشار إلى صديقه الذي نجح ولكن قد ضعف بصره أو شاب بعض رأسه أو انحنى ظهره،
أو غير ذلك من تكاليف خوض الاختبار ومعاناة المذاكرة والامتحانات!
وشَدَّد كاتب آخر –قرأ لنا تجربة إخوان سوريا- على أن
تنظيم الطليعة المقاتلة في سوريا لم يحقق نجاحا ضد حزب البعث، واستشهد قائده مروان
حديد وشُرِّدَتْ القيادات. ليثبت أن المقاومة نهج لم ينجح.
ولئن اتبعنا هذا الرأي فإن من الحق علينا أن ندين كل
تجربة مقاومة لكل طغيان ولكل استبداد، فلم تظهر مقاومة إلا في ظل انهيار ميزان
القوى بين القوي والضعيف، ولم تكلل كل مجهودات مقاومة الاحتلال بالتحرر ولا كل الثورات انتهت إلى النجاح.. لكن المهم هنا
هو: ما موقفنا الأخلاقي من هذه المحاولات؟
هل هو إدانتها لأنها افتقدت الحكمة وبعد النظر وأقدمت
على مواجهة في ظل ميزان قوى لغير صالحها؟ وساعتها سندين قسما عظيما من تاريخنا
يشمل سليمان الحلبي وعمر مكرم وجمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم وأحمد عرابي
ومصطفى كامل ومحمد فريد وعمر المختار والبشير الإبراهيمي وعبد القادر الجزائري
وعبد الحميد بن باديس وعبد الكريم الخطابي وعز الدين القسام وأحمد ياسين ... إلخ،
سندين على الحقيقة كل حركات التحرر والجهاد في عالمنا الإسلامي على مدار القرنين
الأخيرين، بل ومعظم الحركات على مدار القرون الخمسة السابقة!
أم يكون موقفنا هو الإشادة بها وبعظمتها وتخليد مآثرها،
وفي ذات الوقت: البحث في عوامل نقصانها وعيوب تجربتها وسلبياتها؟! ونحن إذا اتخذنا
هذا الموقف فإنما سيكون على قاعدة ضرورة الجهاد والمقاومة كأصل ثابت ثم البحث في
سؤال الخطأ عند التطبيق والتنفيذ.
ساعتئذ سيكون أصل المقاومة والجهاد متفقا عليه، ويكون
البحث في الوسائل التفصيلية هو المساحة التي يسع فيها الخلاف، ويكون الخلاف فيها
خلاف ثراء وتنوع.
***
القاعدة البسيطة هي: كل الثورات نجحت بالقوة.
هذه القاعدة لا تساوي ولا تعني بالضرورة أن كل استعمال
للقوة يساوي ثورة ناجحة!
وهي بالطبع تناقض تماما الخرافة القائلة أن الثورات يمكن
أن تنجح بالسلمية!
إنه من المؤسف المثير للمرارة أن نتناقش في هذا الكلام
بعد عامين ونيف من انقلاب عسكري دموي، عَلَّمَنا بالدم لا بغيره كيف تجري السياسة
وكيف تكون الثورات واحتواؤها والانقلاب عليها.. والمفترض أن نكون قد تعلمنا مواضع
خطئنا وعيوبنا التي نفذ إلينا منها هؤلاء حتى نفذوا انقلابا ولا أسهل ولا أبسط..
انقلاب أبيض تماما لهم أحمر تماما علينا، لم يُخدشوا خدشا لما خطفوا الرئيس ولا
سائر القيادات، ثم أداروا مذبحة تاريخية لآلاف العزل بغير تردد.
وأشد من الأسف السابق أن من نجا ممن أوردونا هذه المهالك
لا يزالون على نهجهم وفي كراسيهم، لا يحاسبهم أحد ولا هم يستقيلون من أنفسهم، بل
هم لا يعترفون بأنهم فشلوا ولا أنهم سبب المشكلة، ويتعاملون مع الأمر باعتبارها
محنة يجب أن نصبر عليها لتعبر وتبقى الجماعة!! أو بالأحرى: ليبقوا هم على رأس
الجماعة!
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق