السبت، سبتمبر 05، 2015

د. محمد محسوب مواطن صالح أكثر من اللازم

صدمني مقال د. محمد محسوب "الدولة والجيش" صدمة بالغة، رغم أني سيء الظن في القانونيين عامة ولا أستبعد منهم أي نوع من الصدمات، إلا أن ذلك المقال فعلها، ذلك أن الحديث عن الدولة القومية باعتبارها من الثوابت أمرٌ لم يعد موجودا على الساحة الثقافية، فلو تحدث به مثقف غربي لاحتقره الغربيون أنفسهم.

لقد كانت الدولة القومية –فيما يبدو للناس- مكسبا وضع نهاية للحروب الدينية في أوروبا، ومن ثم ساد الاعتقاد بأن الاجتماع على قاعدة الأرض والعرق أفضل من الاجتماع على أي قاعدة أخرى، خصوصا قاعدة الدين، إلا أن هذه القناعة ذهبت أدراج الرياح بعد الحربين العالميتين، اللتين أسفرتا عن أن القومية هي أسوأ قاعدة اجتماع تسد الطرق كلها أمام السلام وإيقاف الحرب. إذ لو كانت أوروبا ملكية أو حتى مسيحية ما كان يمكن لهذه الحروب أن تطول كل هذه الأعوام وتحصد كل هذه الضحايا وتدمر كل هذه البلدان.. بل كان يكفي أن يحل الأمر بتدخل من البابا أو حتى بزواج ملك بابنة ملك آخر لتنتهي الحرب ويعم السلام.

(انظر مثلا أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ 2/18 وما بعدها، وانظر كذلك: ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص30 وما بعدها، وانظر كذلك: أنتوني بلاك: الإسلام والغرب ص121 وما بعدها.. والمصادر كثيرة وغزيرة، ولا تخفى على أدنى من له اطلاع على الموضوع)

وكان الاتحاد الأوروبي من ثمرات التحرر من هذه القومية.

المثير للأسى أن القوم الذين أسسوا للقومية يتحررون منها، رغم أنهم حصلوا عليها كمكسب تاريخي بعد كفاح طويل، لم يفرضها عليهم محتل ولم يجبرهم عليها عميل.. فكيف يُسَوَّق هذا في بلادنا نحن التي كانت دولة واحدة على الحقيقة، لم تعان من اختلاف الأعراق والقوميات ولم تنشب فيها حروب عرقية أو دينية طاحنة، ولم يعرفوا معنى القومية إلا تحت حكم المحتل الغربي أو أتباع المحتل الغربي؟!

ثم هم لم يعرفوا القومية إلا لأنها كانت وسيلة لضرب هذا الاجتماع الإسلامي وزرع الضغائن والأحقاد بين العرب والترك تمهيدا لإنهاء الخلافة الإسلامية ووعدا بالخلافة العربية التي سيمهد لها الإنجليز!!!

إن المحتلين هم من خطَّ لنا الحدود، فرسم لنا الهويات، وجعل هذا مصريا وهذا فلسطينيا وهذا سودانيا، وهذا سوريا، وهذا عراقيا، وهذا سعوديا.. إلخ، فصرنا نستمد هويتنا من خط رسمه المحتل، بل صارت تنشب على هذه الحدود حروب يهلك فيها من لم يكن آباؤهم يغامرون بقطرة دم في سبيل رمال أو صحراء.

والمحتلون هم من أَسَّسَ هذه الجيوش، بل قادوها بأنفسهم كثيرا، وكانوا هم بأنفسهم قيادتها العامة وأركان حربها وقادة الفرق فيها، فمن ذا الذي لا يعرف لورنس العرب أو جلوب باشا أو الجنرال سيف (المشهور بسليمان باشا الفرنساوي)، بل إن الجيش المصري في عهد الخديوي إسماعيل كان كالمرتع الأجنبي لكثرة الأجانب في قيادته، ثم جاء الإنجليز وأنشأوه على أعينهم ثم أورثوه البلاد.

والمحتلون هم من كتب لنا مناهج التعليم، ومن ذا ينسى دنلوب –مستشار وزارة المعارف في مصر- والذي لم يزل أولاده وأربابه يتحكمون في مناهج التعليم ويصوغونها على هواهم (وهنا أوصي بمتابعة سلسلة الكتب التي أصدرها د. جمال عبد الهادي ود. وفاء مسعود وأ. علي لبن عن التعليم المصري وتطوره وهيئة المراجعين للمناهج)

والمحتلون هم من وضع لنا القوانين، ومن ذا يجهل المستر فيدال ومدرسة الإدارة والألسن، الذي يعد بحق مؤسس القانون في مصر الحديثة، وقد كان أصلا مهندسا فرنسيا شابا لا علاقة له بالقانون إلا حصوله على بكالوريوس الحقوق.. فكيف يأتي هذا إلى مصر ويؤسس فيها دراسة القانون ويظل حتى آخر عمره مديرا لها؟! وقد استمر خلفاؤه من بعده.. فلئن كان هذا أجنبيا دما ولحما فقد ورثه الأجانب روحا وعقلا حتى غُيِّبت الشريعة وجاءت القوانين الوضعية.

ثم ما إن انتهت الخلافة الإسلامية حتى أخلفوا وعودهم ولم يسمحوا بخلافة عربية، بل جعلوها أقطارا لا تستند في قِسْمتها إلى أي هوية، بل ينقسم فيها العرق الواحد والقبيلة الواحدة بل والمدينة الواحدة والعائلة الواحدة بين أكثر من دولة، ومع تغذية الشعور القومي والوطني تنفجر كل تلك المشكلات بين الحين والآخر، فتجد مشكلة الأكراد الذين يحلمون بوطن، ومشكلة القبائل التي انقسمت بين البلاد فبعضهم هنا وبعضهم هناك وقد لا يستطيعون التزاور، وها هي مدينة رفح مثالا على مدينة انقسمت فصار شطرها مصريا وشطرها فلسطينيا، والأولى تحاصر الثانية!!

قاعدة التقسيم الوحيدة كانت مفاوضات المحتلين، فالموصل أحيانا سورية وأحيانا عراقية حسب تبدل اتفاقياتهم.. والذين نادوا بالقومية العربية كانوا يجهرون بأنهم لا يريدون في خلافتهم العربية لا مصر ولا الشمال الإفريقي، واختلقوا لذلك الحجج التافهة لكي لا يكشفوا السبب الحقيقي: رغبة المحتل نفسه!

لم تأتِ الخلافة العربية إذن، بل منذ بدا في الأفق انهيار الخلافة الإسلامية حتى تصاعدت المطالب بأن تكون الدولة العربية الموعودة أقطارا منفصلة بينها نوع من التحالف وتسودها العلمانية، (ويمكن مطالعة السجالات الفكرية التي تؤسس للقومية العربية ثم تتدرج بها إلى القطرية العلمانية المحلية في كتاب ألبرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة).

وقد كان، وصِرْنا -من بعد ما كنا دولة واحدة- دولا صغيرة ممزقة منكوبة، لا أقول: يتحكم بها الأجنبي، بل هي على الحقيقة ولايات خاضعة له يحكمها بنفسه ويتعامل مع ثرواتها ومواردها ورجالها تعامل المالك مع العبيد.

لقد كشفت الثورات العربية والانقلابات عليها ما لو أنفقنا مئات السنين في بيانه لما اقتنع الناس، ولا أقول إن الثورات كشفت شيئا على سبيل التحليل والاستنتاج بل إن العمالة صارت تُقال علنا عيانا بيانا في حوارات صحفية وجلسات كونجرس ومؤتمرات أجنبية وتسريبات هاتفية أيضا!!

ولئن كان التعامل مع الدولة القومية والجيش "الوطني" يعد غفلة وجهلا فيما قبل مرحلة الثورات العربية، فإن تسويق هذه الصورة بعد الانقلابات ليس جهلا بل هو خيانة وتضليل.

لقد أكسبتنا هذه الانقلابات ما يُعدُّ التفريط فيه جريمة تاريخية، لقد أثبتت لا بالدليل وحده بل بالدماء أن هذه الدولة "القومية" وهذه الجيوش "الوطنية" إنما هي صنيعة المحتل وذراعه الضارب وخط دفاعه الأول والعقبة والكبرى أمام التحرر من الأجنبي.

إن الذين نشأوا في ظلال الدولة القومية وتشربوا أصولها الفلسفية عبر التعليم والقانون والثقافة ونمط الحياة (الذي يجعل المواطن عبدا حقيقيا للدولة) هم في ميزان هذه الدولة "المواطن الصالح" بينما هم في ميزان التحرر والثورة أسوأ مثال.

إن المواطن الصالح بالنسبة للدولة هو من لا يستطيع التفكير خارج ما فرضته عليه من نمط حياة، نمط يستلزم وجود جيش نظامي ومؤسسات تدير كل التفاصيل، وكل هذا مسنود بفلسفة وثقافة وتاريخ (مزور) يجعلها من الأصول والثوابت.

هذا المواطن الصالح يمكن ابتلاع أفكاره إن كان في الغرب حيث توجد الوفرة الاقتصادية وتنعدم الانقلابات العسكرية والمذابح الدموية، أما في أوطاننا هذه فكيف؟!!!

ما الذي يحتاجه ذلك المواطن الصالح ليكفر بهذه الدولة وهذا الجيش وهذا النمط من الأنظمة بعد كل ما حدث له من مذابح هائلة، لا في مصر وحدها بل في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا والجزائر وسائر البلاد.. أي أنها ليست حالة شاذة بل هي القاعدة: هذه الجيوش لا تقتل غير الشعوب وتفر دائما أمام العدو، وهذه الأنظمة لم تفلح في شيء غير القهر والاستبداد وكتم الأنفاس!


ما أرى لهؤلاء مثلا إلا قوم إبراهيم، رأوا آلهتهم متكسرة مُهانة، ثم لم يرجعوا عن عبادتها بل بحثوا عمن فعل هذا بآلهتهم ليحرقوه وينصروا آلهتهم!!!

نشر في مصري 24

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق