قال الفرزدق يوما: "إنّا لنعرف
سجدة الشعر كما تعرفون السجدة من القرآن"، يريد بذلك أن يقول إن الشعر يبلغ
أحيانا في قوة المعنى وجودة التعبير ما يخضع له الشعراء لسطوته وإطرابه، وأكاد
أقول: لكل قومٍ في فنِّهم شيءٌ مثل هذا، العبارة يطلقها الخبير في بابه فتسري مسرى
النار في الهشيم والنور في الليل البهيم! فتشهد لصاحبها بالقوة والعبقرية، وتنحل
بها إشكالات وتنفتح بها آفاق وتأملات!
شعرتُ بقول الفرزدق هذا حين قرأت كلمة
الإمام القرافي التي يقول فيها: "لو لم يكن لرسول الله ﷺ معجزة إلا أصحابه
لكفوه في إثبات نبوته"[1].
فتلك كلمةٌ تشهد لصاحبها بالقوة والعمق
في قراءة التاريخ وفهمه، وفي معرفة أحوال الرجال وتقدير أثرهم، فإن أحوال الصحابة
هي من معجزات النبي ﷺ، فما من شخص عظيم من صاحب دعوة أو مؤسس حضارة قد خلَّف بعده
من أصحابه مثلما كان صحابة محمد ﷺ.
فإنه لم يقم أحد ببلاغ دين الأنبياء
مثلما قام أصحاب النبي ﷺ بإبلاغ دينه لمن بعدهم، فقد حفظوا صفته وكلامه وإشاراته
وسيرته، وكانوا يعلمونها أبناءهم كما يعلمونهم السورة من القرآن الكريم، ولم ير
النبي منهم ما رآه موسى من أصحابه، ومات بينهم عزيزًا مُمَكَّنًا لا كما وُصِل إلى
عيسى وأريد صلبُه من بين حوارييه! فهم خير أصحاب لنبي في الدين وفي الدنيا!
كذلك لم يقم أحدٌ بالحفاظ على إرث زعيم
وقائد كما قام بذلك أصحاب محمد مع إرثه، فما من مؤسس مملكة وحضارة ودولة كان له من
طول الأثر وخلود الذكر وقوة المملكة واتساعها وطول بقائها بعد موته كما كان للنبي
محمد ﷺ، فقد رحل النبي ﷺ وقد خضعت له الجزيرة، وبعد مائة عام من رحيله كانت دولة
الإسلام قد بلغت من الصين إلى فرنسا! بينما ما مرَّ القرنُ على رحيل جنكيز خان إلا
وكانت مملكته قد انقسمت إلى أربعة! وما إن مات الإسكندر الأكبر حتى انقسمت مملكته
من بعده.
إن صحابة النبي ﷺ ينافسون عظماء الدنيا
في كل باب، بل المنافسة محسومة لهم في كل باب، فما في الدنيا خلفاء سادوا الناس
وساسوهم بالعدل والرحمة والفضل كما فعل خلفاء النبي ﷺ، وليس في الدنيا زعيم
سياسيٌّ كأبي بكر استلم الحكم والعاصمة مهددة بالاجتياح ثم مات عنها وهي قوة عظمى
تقاتل القوتيْن العظميين في وقت واحد، وذلك كله في عامين. وليس في الدنيا حاكم مثل
عمر تضاعفت مساحة البلاد في عهده أربع مرات ودخلت في ظله خمسة أعراق على الأقل دون
أن تشهد توسعاته مذابح ومظالم بل كان عهده مثالا للعدل.
والعسكريون في كل زمن وأرض يعرفون
ويخضعون لخالد بن الوليد، بطل الفتوح في فارس والروم، وصاحب أسرع الفتوحات ضد أقوى
الإمبراطوريات في زمنه، ومثله نجوم الفتح معه كالمثنى بن حارثة الشيباني، وسعد بن
أبي وقاص وأبي عبيدة بن الجراح.. ثم يزيدُ هؤلاء الصحابة عن سائر العسكريين أنهم
لم يدرسوا الحرب في كليات ولا أكاديميات ولا خاضوا مناورات تدريبية! ومع ذلك فههم
أصحاب "أعظم الأعمال إثارة للدهشة في التاريخ الحربي كله"[2].
ثم يزيدون على سائر العسكريين كذلك بما كان فيهم من الزهد والورع، والنزول السهل
السلس عن الإمارة والمنصب[3]!
بل حتى العِلْمُ والذكاء والعبقرية،
فإن قومًا ربما ظنُّوا أن هؤلاء الصحابة كانوا من بساطة الحياة في حال من السذاجة
والبداوة والجهالة، وأحتاج أن أتوقف هنا لحظة لأحكي حكاية مهمة: هذا القرافي،
الفقيه الأصولي المحقق المدقق، صاحب الدرة البديعة في علم الأصول، أي: كتابه
"الفروق، لا يعرف كثير من الناس أنه كان مهندسا مخترعا، وأنه قبل أكثر من
ثمانية قرون اخترع ما نسميه الآن إنسانا آليا يقوم بخدمة صاحبه، يقول في وصفه:
"بلغني أن الملك الكامل (الأيوبي) وُضِعَ له شمعدان، كلما مضى من الليل ساعة
انفتح بابٌ منه، وخرج منه شخص يقف في خدمة السلطان، فإذا انقضت عشر ساعات طلع شخص
على أعلى الشمعدان وقال: صبَّح الله السلطان بالسعادة، فيعلم أن الفجر قد
طلع". ثم يضيف القرافي بأنه لما سمع بنبأ هذا الاختراع صنع مثله، يقول:
"وعَملتُ أنا هذا الشمعدان
وزِدْتُ فيه أن الشمعة يتغير لونها في كل ساعة، وفيه أسد تتغير عيناه من السواد
الشديد إلى البياض الشديد، ثم إلى الحُمرة الشديدة في كل ساعة لهما لون، فيعرف
التنبيه في كل ساعة، وتسقط حصاتان من طائرين، ويدخل شخص، ويخرج شخص غيره، ويغلق
باب ويفتح باب، وإذا طلع الفجر طلع شخص على أعلى الشمعدان وإصبعه في أذنه يشير إلى
الأذان، غير أني عجزت عن صنعة الكلام، وصنعت أيضا صورة حيوان يمشي ويلتفت يمينا
وشمالا ويصفر ولا يتكلم"[4].
أحكي هذه القصة لأنبه إلى أن هذا الرجل
البارع في علوم الدين والدنيا، هو الذي يقول: "أصحاب رسول الله ﷺ كانوا بحارًا
في العلوم على اختلاف أنواعها من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسات والعلوم
الباطنة والظاهرة"[5].
وهذا ابن تيمية، شيخ الإسلام الذي لا
يختلف أحد على قوة عقله وعبقريته، يذكر أن أذكياء الأمة كلها عبر التاريخ كانوا
يتوقفون عند قول الصحابي، فيستدل على ذكاء الصحابة بذكاء أتباعهم، يقول: " كل
أحد يعلم أن عقول الصحابة والتابعين وتابعيهم أكمل عقول الناس. واعتَبْر ذلك
بأتباعهم، فإن كنت تشك في ذكاء مثلِ مالكٍ والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة
وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزُفَر بن الهذيل والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن
إبراهيم وأبي عبيد وإبراهيم الحربي وعبد الملك بن حبيب الأندلسي والبخاري ومسلم
وأبي داود وعثمان بن سعد الدارمي، بل ومثل أبي العباس بن سريج وأبي جعفر الطحاوي
وأبي القاسم الخرقي وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهم من أمثالهم، فإن شككت في ذلك
فأنت مُفْرِطٌ في الجهل أو مكابر، فانظر خضوع هؤلاء للصحابة وتعظيمهم لعقلهم
وعملهم، حتى انه لا يجترئ الواحد منهم أن يخالف لواحد من الصحابة إلا أن يكون قد
خالفه صاحب آخر. وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في الرسالة: أنهم فوقنا في كل عقل
وعلم، وفضل وسبب يُنال به علم، أو يُدرك به صواب، ورأيهم لنا خيرٌ من رأينا
لأنفسنا"[6].
فهذا شأنهم في العلم والذكاء، وقوة
العقل والفهم والعبقرية..
وأي شيء أدلُّ على قوة الشخصية وشدة
العزم وصلابة النفس من قومٍ انخلعوا من أفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم وولائهم
لأقوامهم، ليتبعوا رجلا مضطهدا جاء بدعوة جديدة متعرضين بهذا للعذاب والنبذ في
بيئة لا انتماء فيها ولا رابطة أقوى من رابطة الدم؟! بل إن بعضهم -كمصعب بن عمير-
انخلع مما هو فيه من طيب العيش ورغد الحياة ليعيش حياته بعدها فقيرا معدما حتى
يموت. وبعضهم ينزل عن زعامة الناس ليُسَلِّمها طائعا مختارا لرجل غريب طارئ في
بيئة أشدُّ ما عليها أن يحكمها من ليس منها كما فعل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة
وزعماء الأنصار؟! هذا فضلا عن الذين خرجوا من أموالهم كلها أو شطرها أو قسمٍ عظيم
منها لينفقوها في سبيل الله، حتى كان بعضهم يتصدق بالقبضة من التمر لا يجد غيرها!!
وبعضهم كانت عينه تفيض من الدمع لأنه لم يجد سبيلا ليجاهد بنفسه في سبيل الله!!
إن الذي تميَّز به الصحابة عن سائر
الناس هو ما انطوت عليه نفوسهم من الدين والإيمان والتقوى، والزهد في الدنيا وطلب
الآخرة، وبهذا كان عمل الواحد منهم لا يُلحق، كما وصف ذلك النبي ﷺ بقوله: "لو
أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا، ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه"[7]،
وكما فسره ابن مسعود رضي الله عنه حين قال للتابعين: "أنتم أكثر صلاة وأكثر
صياما وأكثر جهادا من أصحاب محمد ﷺ، وهم كانوا خيرا منكم. قالوا: وبم ذاك؟ قال:
كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة".
إن فضل الصحابة ومكانتهم يجتمع عليه
العقل والنقل، فلو كان الإنسان كافرا لا يؤمن بالله ولا بالرسول لرأى في تاريخ
هؤلاء من وجوه العظمة ما يخضع له، سواءٌ في ذلك تغيرهم هم في أنفسهم وانتقالهم
الكبير بل انسلاخهم التام من الجاهلية إلى الإسلام، أو تغييرهم للعالم من حولهم،
إذ العالم بعدهم غير ما كان قبلهم تماما، فكأنهم قلبوا الدنيا وأعادوا نظامها من
جديد!
فأما المسلم، فيكفيه ما جاء في فضل
هؤلاء في كتاب الله وسنة رسوله، بل يكفيه نصٌّ واحدٌ فحسب من ذلك كله، فكيف
بالمسلم يمرُّ على قول الله تعالى {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} ولا تأخذه
رعدة؟! إن الله تعالى ذكَّر نبيَّه بأن هؤلاء الصحابة هم من نِعَم الله عليه، وهم
من تأييد الله له، وأن الله تعالى غرس في قلوبهم الحب والألفة التي لا يُستطاع
بلوغها {وألَّف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم، ولكن
ألّف بينهم}.
وما من مسلم يُعَظِّم رسول الله، ثم
يرى منه هذا الحب لصحابته، إلا وهو مدفوعٌ لمحبتهم، محبة تغلب عليه وتأخذ منه
بأقطار نفسه! إذ كيف يجتمع في قلبٍ واحدٍ حب النبي وبغض أصحابه! وذلك كان جواب ابن
عمر لرجل من الخوارج جاء يسأله عن عثمان، فمدحه ابن عمر، ثم رأى الكراهة في وجه
الخارجي فقال له: لعل هذا يسوؤك؟ قال الخارجي: نعم. قال ابن عمر: فأرغم الله
بأنفك! ثم سأله الرجل عن عليّ، فمدحه ابن عمر وأشار إلى بيت علي يقول: هو ذاك
بيتُه أوسط بيوت النبي ﷺ، ثم رأى الكراهة أيضا، فقال له: لعل هذا يسوؤك؟ قال
الخارجي: نعم. قال ابن عمر: فأرغم الله بأنفك!
وهذه الإشارة الذكية من ابن عمر من أن
عليًّا كان بيته أوسط بيوت النبي، أي ذلك دليل محبة النبي له، هي مدخلٌ يختبر
المرء به إيمانه، فإن النبي ﷺ صاهر أبا بكر وعمر، وزوّج ابنتيه من عثمان وزوّج أحب
بناته إليه من علي! ولا يكاد يُرى سائرا إلا وفي رفقته أبو بكر وعمر، وشهد لعثمان
بالجنة والشهادة، وشهد لعلي بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
ومن هنا فإن الذي يبغض الصحابة، لا
سيما أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، إنما يشير إلى نفسه بفراغه من الإيمان والدين، فإن
كان صاحب الرسالة يحبهم، وإن كان هؤلاء هم أنصار الدين منذ بزغ وإلى أن صار قوة
عظمى عالمية، فمن الذين تُصرف لهم المحبة في الدين إن لم يكن هؤلاء؟!
وأشدُّ من ذلك أن طعنه في هؤلاء لا بد
سيصل إلى الطعن في النبي ﷺ نفسه صاحب الرسالة، فإن كان هذا النبي قد صرف محبته
لغير مستحق، فأي رجل هو؟ هل خان الرسالة -حاشاه-؟ أم هو غير بصير بالرجال –حاشاه-؟!
وإذا كان ألصق الناس بالنبي ﷺ قد خانوا
وبدّلوا كما يزعم أولئك الذين يبغضونهم، فمن هم أهل الصلاح إذن؟ فإن كان صاحب
الرسالة قد أخفق في تربية أقرب أصحابه وتعليمهم وتزكية نفوسهم، فكيف يمكن أن يكون
هذا الرجل عظيما ومعلما ومربيا؟!
هذه البدهيات العقلية هي التي جعلت
علماءنا حساسين للغاية لمن يبغضون الصحابة أو يسبونهم، وجعلت كثيرين منهم ينظرون
إلى هذه الظاهرة بأنها كفرٌ مستتر، فهذا المبغض عجز عن أن يطعن في صاحب الرسالة
نفسه فالتمس صحابته ليتوصل من خلالهم إلى الطعن فيه، كما قال الإمام مالك رحمه
الله. ومثله مقالة الشعبي: ائتني برافضي صغير أُخرج لك منه زنديقا كبيرا.. فإن
الطعن في الصحابة لا يلبث بالمجهود القليل أن يتحول إلى الطعن في النبي ﷺ نفسه.
وللشيخ العلامة الهندي أبي الحسن
الندوي كتاب عنوانه "صورتان متضادتان"، يُركّز فيه على هذا المعنى،
فصورة الصحابة عند أهل السنة تشير إلى نبي عظيم ومصلح كبير ومربٍّ قدير، بينما
صورتهم عند الشيعة تشير إلى نبي لا يستحق وصف العظمة بحال لأن أصحابه قد ارتدوا من
بعده وخانوا رسالته!!
إن موقف المرء من الصحابة هو من علامات
دينه ومن علامات عقله كذلك! فالذي يقع في الصحابة يشهد على نفسه بخلّوه من الدين
ومن العقل معا!
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قال
فيهم {والذين جاءوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم}
نشر في مجلة "أنصار النبي"، ديسمبر 2022م
[1] القرافي،
الفروق: أنوار البروق في أنواء الفروق، (بيروت: عالم الكتب، د. ت)، 4/170. ونسبها
لبعض الأصوليين.
[2] ول ديورانت، قصة الحضارة،
ترجمة مجموعة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001م). 13/ 73.
[3] أحسن ما اطلعت عليه في
التأريخ الحربي للفتوحات الإسلامية كتب الأستاذ أحمد عادل كمال، وهي سلسلة
"استراتيجية الفتوح الإسلامية".
[4] القرافي، نفائس الأصول شرح
المحصول، (القاهرة: مكتبة نزار مصطفى الباز، 1995م)، 1/441، 442.
[5] القرافي، الفروق، 4/170.
[6] ابن تيمية، درء التعارض بين
العقل والنقل، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، ط2 (الرياض: جامعة الإمام، 1991م)، 5/71،
72.
[7] البخاري (3470).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق