بعد تسع سنوات
من الحكم الشمولي الرهيب، وقف عبد الفتاح السيسي في كلمته نهاية المؤتمر الاقتصادي
بتاريخ 25 أكتوبر 2022م، يشكو من أن الأزهر لا يطاوعه فيما يريد، وضرب مثلا على
ذلك بموضوع الطلاق الشفوي، فالسيسي يريد من الأزهر أن يفتي بأن الطلاق الشفوي لا
يقع، ولا يقع الطلاق بين الرجل وامرأته إلا بتوثيقه في المحكمة.
هذا مع أن
السيسي –كما اعترف وزير العدل في المؤتمر نفسه- ماضٍ في إعداد قانون للأسرة، ومع
أن شيخ الأزهر الحالي من رجال الدولة المهادنين، ومع أن الأزهر في أضعف حالاته عبر
التاريخ تجاه السلطة!
وإذن، فالصورة على هذا النحو: لم يستطع
طاغية في عنفوان قوته أن يستخرج من مؤسسة دينية إسلامية في أقصى حالات ضعفها، وتحت
رئاسة رجل مهادن تابع للدولة، لم يستطع أن يستخرج منها تغييرا في حكم فقهي!
يقف الإسلام هذا الموقف في ذات الوقت
الذي هُزِمت فيه المسيحية أمام العلمانية وخضعت تماما لسلطة الدولة، وأجازت بل
رحبت بما كان محرما تحريما قطعيا كزواج الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، وكالتحول
الجنسي للذكر والأنثى، وغيرها. وكذلك هُزِمت اليهودية أمام تيار الحداثة، فحتى
دولتها الصغيرة يحكمها النظام العلماني، وطبيعة الحياة فيها هي أقرب للحياة
الغربية العلمانية، وليست لشريعتها اليهودية.
إن الحضارة الغربية أنتجت نظاما تهيمن
فيه الدولة على الدين، ويكفي أن يُقِرَّ برلمانها قانونا لتخضع له الأديان،
فالديمقراطية فوق الدين وهي المهيمنة عليه والمتحكمة فيه.
وهذا المشهد ينبغي أن يوقفنا أمام هذا
السرِّ العظيم في الإسلام، السر الذي يجعل الدين متساميا على السلطة، فهو فوق
الدولة، بل الدولة ذاتها بنت الدين، إذ نشأت الدولة في الإسلام من رحم الدين،
ونشأت لتقيمه وتقوم بشأنه، والدين هو المرجعية العليا، وهو الذي تستمدُّ الدولةُ
شرعيتها منه، والمسلمون يطيعون هذه السطلة ما
كانت ملتزمة بهذه المرجعية، وهم ينصحونها ويقومونها وفقا لهذه المرجعية، أو هم
يثورون عليها ويخلعونها ويرون ألا طاعة لها عليهم إذا نبذت هذه المرجعية وانخلعت
عنها.
وقد زعم
السيسي أن جهازا أمنيا عرض مسألة الطلاق الشفوي على مجلس من العلماء، فأقروه، فلما
طالبهم أن يُعلنوا هذا رفضوا قائلين: لو أننا أعلنَّا إقرارنا له، فسيظهر أننا
نؤيد السلطة ونوظِّف الدين لها.
فلو أنه صدق
في هذا، ولست أصدقه، فهذا الكلام نفسه دليلٌ على ما أنشأه الإسلام في علمائه وفي
المجتمع من حساسية بين العلماء والسلطة، وأن العالِم يجتهد في أحرج أوقات ضعفه
لئلا يكون محسوبا ضمن علماء السلطة. بينما ليس يجد الحبر والكاهن بأسا في أن يتبع
الملك أو الإمبراطور صاحب السلطة الزمنية، فإن القسّ يعتنق أن "ما لقيصر
لقيصر" وأن مملكته في السماء، وليس يجد القانوني والدستوري بأسا في الخضوع للرئيس
والأمير في الدولة العلمانية، فإن تكوينه الفكري والثقافي والاجتماعي يجعله موظفا
ضمن نظام الدولة، وقد أشربته السلطة من مناهجها وأنشأته في أروقة نظامها، فهو
دولتي بطبعه!
إن هذا هو
المدخل الذي ندلف منه للإشارة إلى هذا البناء العظيم الشامخ الذي أقامه المحدثون،
أولئك الرجال الذين جمعوا سنة النبي ﷺ فحفظوها ورووها ودونوها، وفهرسوا
رواتها وفحصوهم فغربلوهم وتتبعوهم حتى منحوا أمتنا فخرا خطيرا ليس لأمة في التاريخ
الإنساني مثله.
لقد حاول بعض الناس الطعن في المحدثين
من جهة السياسة، فزعموا أن تدوين الحديث وتصحيحه وتضعيفه تأثر بالسياسة والسلطان،
ثم لم يستطع واحدٌ منهم أن يقدِّم دليلا واحدًا على حديث واحدٍ صححه المحدثون،
كُتِب أو دُوِّن برغبة السلطة! بل إن المنهج النقدي الصارم الذي أسسه المحدثون لو
طُبِّق على التاريخ فلن يبقى لدينا تاريخ، لأنه ما من خبر من أخبار التاريخ يُروى
بالسند المتصل من العدل الضابط عن مثله من مبتدئه إلى منتهاه، ولا تكتنفه شذوذ أو
علة!
بل إن أرقى ما وصلت إليه مناهج البحث
المعاصرة من التوثيق العلمي والصرامة المنهجية هي أقل من شروط الحديث الصحيح لدى
المحدثين، ففي أرقى جامعة علمية في هذا العصر، يكفي الباحثَ أن يوثق معلومة أخذها
إذا ذكر اسم الكتاب ومؤلفه والطبعة ورقم الصفحة. هذا نفسه لم يكن مقبولا لدى
المحدثين، بل كانوا ينظرون في صاحب الكتاب ويختبرون هل كان يكتبه بنفسه أم يمليه؟
وهل كان ثمة أحد من ولده أو تلاميذه يمكن أن يُدخل في الكتاب ما ليس منه؟ وهل صاحب
الكتاب يتذكر ما في كتابه جيدا أم يمكن إذا غولط في بعض معلوماته أن يغلط أو ينسى؟
ولهم في هذا مواقف عجيبة وطرائف غريبة من اختبار التلاميذ لشيوخهم ليحققوا ضبط
النقل. هذه الشروط لا يمكن للباحث المعاصر في أرقى جامعة علمية معاصرة أن يحققها،
إذ لا يمكن لأحدٍ يمسك بالكتاب أن يضمن تماما كون كل كلمة فيه قد خطَّها المؤلف،
وأن الكتاب سالمٌ من تدخل باحث مساعد أو مراجع لغوي أو محرر أو دار النشر، ثم كم
في الباحثين المعاصرين من يستطيع الوصول إلى مؤلف كل كتاب، فيختبره في كتابه،
فينظر إن كان قد نسي شيئا منه أو لم يضبطه!!
لذلك كله، استحال على الطاعنين أن
يقدموا دليلا واحدا على أن تدوين الحديث قد خضع لرغبة السلطة! وسائر ما كتبوه في
هذا مجرد ثرثرة ولغو فارغ!
لقد ظن المستشرقون وتلاميذهم من
العلمانيين أن المحدثين كانوا من علماء السلاطين، ذلك أنهم يتصورون العلاقة بين
العلماء والسلطة كما كانت العلاقة بين الكنيسة والقصر في العصور الأوروبية الوسطى،
أو بين مؤسسات الثقافة والسلطة في عصر الدولة الحديثة. لقد فات كثيرا منهم أن
الإسلام لم تكن فيه هذه السلطة المتغولة، وأن نظامه جعل السلطة محدودة الصلاحيات،
وأن طريقة التلقي العلمي للقرآن والسنة -من النبي إلى الصحابة إلى التابعين إلى
تابعيهم وحتى مصنفي كتب الحديث- لم تكن تمرُّ عبر السلطة، ولم تكن تتأثر بها.
بل إن الأمة الوحيدة التي هزمت
المعرفةُ فيها السلطة هي أمتنا الإسلامية، فبينما كان الحكم للأمويين والعباسيين،
وبينما كان العلويون هم المعارضة المضطهدة سياسيا، كانت البيئة العلمية تزخر
بالأحاديث الكثيرة المنتشرة في فضل علي رضي الله عنه، بينما تقل الأحاديث جدا في
فضل معاوية والعباس –رضي الله عنهما- وهما أساس الدولتين الكبيرتين: الأموية
والعباسية.
ما من أمة استطاع أهل العلم فيها أن
يغلبوا سطوة السلطة وترويج ما يزعجها ويربكها سوى أمتنا الإسلامية، حتى إن
الاحتكاك الوحيد المعروف بين العلماء والخليفة في عصر تدوين السنة كان هو قضية خلق
القرآن، وهُزِمت فيها السلطة أيضا. وسوى ذلك لا نعرف أن السلطة حاولت إجبار
المحدثين على اختراع أحاديث لنصرتها. ولو حصل هذا لكانت فضيحة أشهر وأكبر وأعظم من
فضيحة محنة خلق القرآن!
وبهذه المناسبة فيجب أن أشير هنا إلى
ثلاثة كتب متميزة في هذا الموضوع، موضوع براءة المحدثين من الخضوع للسلطة، وبراءة
السلطة الإسلامية من إجبار المحدثين على اختراع حديث منسوب للنبي ﷺ لتأييدها:
1. الأول هو كتاب "المحدثون
والسياسة"، وهو رسالة دكتوراة للشيخ الدكتور إبراهيم العجلان، وهو سِفْرٌ
جليل في تسعمائة صفحة، صدر قبل خمس سنوات (2017م) عن مركز البيان للبحوث، وفيه
تتبع الرجل مطاعن القائلين بتأثير السياسة في رواية الحديث، ثم عاد عليها بالنقد
والنقض، وإثبات ما فيها من المبالغة والمجازفة حتى كأنه لم يترك بعده قولا لقائل.
وكنتُ قد كتبت مقالا عن هذا الكتاب فليُرجع إليه.
2. والثاني هو كتاب "أسباب إيراد
الحديث" للأستاذ الدكتور بكر قوزدوشلي، وهو كتاب لطيف وفكرته مبتكرة، إذ تتبع
المؤلف فيه الأسباب التي دفعت الصحابة والتابعين لرواية الحديث، من خلال ما تكشفه
الروايات نفسها، ليجمع بذلك صورة تاريخية لحركة رواية الحديث في القرن الأول
الهجري، فينكشف في سياق هذه الرحلة اللذيذة حقا كيف أن دوافع رواية الحديث كانت
علمية ودعوية خالصة، وأنها استحثتها الحوادث والحاجة بأكثر مما سيَّرتها إرادة
سلطوية، بل إن الإرادة السلطوية تغيب تماما عن هذا المجال، ولئن حضرت السياسة
فإنما يُروى الحديث عادة لتقويمها وإدانتها وتصحيح اعوجاجها!
3. والثالث هو كتاب "السلطة
السياسية وحركة رواية الحديث ونقده" للدكتور أحمد صنوبر، الأستاذ المساعد في
قسم الحديث بجامعة 19 مايو في اسطنبول، وهذا الكتاب هو وقفة مع أحاديث الفضائل
المتعلقة بعلي ومعاوية والعباس –رضي الله عنهم جميعا- وفيه يرصد انتشار الأحاديث
المتعلقة بكل منهم في عصري الدولتين الأموية والعباسية، ليختبر حقيقة الشبهة التي
تقول بتأثير السلطة في تدوين الحديث. ثم يختبر فرضية أن تكون الأسانيد مزوّرة قد
اتفقت جماعة المحدثين على تزويرها، فيرصد عوائق التزوير الداخلية (المتعلقة
بالسند) والخارجية (المتعلقة بالظروف والأوضاع العامة) وما أسماه "الانسجام"
بين المعلومات الواردة عن الرواة في كتب الحديث والرجال والتاريخ المشرقي
والمغربي، بما يستحيل معه اختراع راوٍ تدور عليه الرواية! وفي الكتاب –الذي سيصدر
قريبا إن شاء الله- أمورٌ أخرى لا أريد أن أكشفها كلها. وقد سعدنا في هذا العدد من
مجلة "أنصار النبي ﷺ" بانضمام د. أحمد صنوبر إلى كُتّابنا، معرفًا
بكتابه الصادر حديثا "من النبي ﷺ إلى البخاري"، والذي هو تبسيط لتاريخ
رواية الحديث منذ تفوه به النبي حتى وُضِع في كتب السنة الصحيحة، وكيف انتقل
الحديث من النبي إلى الصحابي، ثم منه إلى التابعي، ثم من التابعين إلى تابعيهم، ثم
من هؤلاء إلى جامعي الحديث ومدونيه ومصنفيه، وكيف صحب هذا الانتقال منهج نقدي علمي
حال دون أن يتأثر الحديث بأي رغبة سياسية!
والواقع أني أراني محتاجا لأن أتقدم
على هؤلاء الأساتذة الأفاضل خطوة، فلئن كانوا قد دافعوا عن المحدثين فبرؤوهم حتى
ما تركوا مقالا لقائل، فأجدني مضطرا للدفاع عن السلطة الإسلامية التي لم تجد من
يدافع عنها؛ ذلك أن صورة السلطة في أذهاننا نحن المعاصرين هي سلبية غالبا أو حتى
دائما، فكأن السلطة والشرّ قرينان، ولست ألوم المعاصرين على هذا التصور، كذلك فإن
أسلافنا المتقدمين قد أفاضوا في نقد السلطة الإسلامية وإدانتها والنكير عليها حتى
يتصور قارئ كلامهم أنها كانت سلطة على غرار الطغيان والاستبداد الذي نحياه في
أيامنا هذا!
ومعاذ الله! إنك لا تجد في تاريخنا
الإسلامي خليفة صالحا أو ظالما فكَّر في اقتراف الكذب على رسول الله، أو حمل
المحدثين على ذلك بالرغبة أو بالرهبة، وحتى المأمون صاحب فتنة خلق القرآن، الذي
يضرب به المثل، لم يكن مريدًا للشر ولا ساعيا في هذه المحنة بغرض تثبيت سلطته
وتأييد سياسته، أبدًا، إنما اعتنق الرجل رأيًا باطلا، ظن أنه من الحق وأنه من
تنزيه الله وتوحيده ووصفه بالكمال، فاستعمل سلطة الدولة في نشر هذا الرأي وتأييده!
أي أنه كان ساعيا في نصرة ما يرى أنه الحق الواجب في ذات الله، ولم يكن ساعيا في
استخلاص شرعية لنفسه أو تأييدا لسلطته!
لم تخل أيام تاريخنا من المظالم
والأزمات، فإنما نحن بشر، ولكن لم يقف خليفة أو سلطان يوما ليقول: أرى أنه يجب أن
يكون كذا وكذا، ويجب على هؤلاء العلماء أن يخرجوا لي الفتوى بما أريد مهما كانت
تخالف ما يرونه، وإلا فإنهم غير خاضعين للدولة، وسأصنع بنفسي قانونا أضع فيه ما أريد
رغم أنوفهم بل بعيدا عنهم.
إن السلطة في تاريخنا الإسلامي، وفي
سياقنا الحضاري، لم تفعل هذا.. فإن قلنا: لم تفعله دينا فقد مدحناها بما كان فيها
من الدين والخضوع له والوقوف عند حدوده، وإن قلنا: لم تفعله عجزا فقد مدحنا نظام
الإسلام الذي لم يجعل للسلطة هيمنة على الدين والعلم، ولا سبيل إلى احتمال ثالث!
ولقد مرَّت على السلطة الإسلامية
أوقاتٌ لو شاءت فيها أو استطاعت أن تحذف حديثا أو تروي حديثا لفعلت، لشدة الحاجة
إليه، وأقربها إلينا زمانا تلك المحنة التي تعرض لها السلطان عبد الحميد الثاني،
فقد سعى الإنجليز في توظيف حديث "الأئمة من قريش" ليطعنوا به في شرعية
خلافة العثمانيين، واستثارة الشريف حسين ومن معه للانقلاب على العثمانيين،
وإغرائهم بخلافة عربية قرشية هاشمية، فلو كان عبد الحميد قادرا أو راغبا لسعى في
حذف هذا الحديث، ولكنه لم يرغب، ولو رغب لما قدر، بل طُبعت النسخة السلطانية
الحميدية من صحيح البخاري، وغيرها من كتب السنة في زمن عبد الحميد وبرعايته، وبقي
فيها هذا الحديث[1].
من الأولى بمن يثيرون المطاعن في
المحدثين أن ينظروا في أنفسهم، فإنهم لو أخلصوا للعلم وتجردوا له، لازدادوا إيمانا
بأن هذا الدين دين الله المحفوظ، ولازدادوا فخرا وتيها بتراث علمائنا الأولين
الذين بلغوا قبل ما يزيد عن ألف سنة ما لا تبلغه المناهج العلمية الآن[2].
نشر في مجلة أنصار النبي ﷺ، نوفمبر 2022م
[1] لمزيد من
التفصيل ينظر بحث: حديث الأئمة من قريش في العصر العثماني: https://bit.ly/3eccXSv
[2] للمزيد في
موضوع المقال،
ينظر بحث: فحص دعوى
تأثير السياسة في تدوين الموطأ: https://bit.ly/2JQ0KFr
وبحث: أخطاء فهم
الحديث في ضوء الثقافة المعاصرة: أحاديث طاعة الأمراء في البخاري نموذجا: https://bit.ly/2tZPNNd
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق