وقف العلامة مصطفى صبري، آخر شيوخ
الإسلام في اسطنبول، يخطب أمام عشرة آلاف في جامع السلطان علاء الدين في قونيا، وكان
ذلك في الزمن الذي زحفت فيه العلمانية وهيمنت فيه جماعة الاتحاد والترقي على
البلاد، وانتشر يومها الحديث عن الحرية القادمة من الغرب، في مقابل الاستبداد الذي
أنتجه الدين وحرسه المشايخ في الشرق. وحيث كان الوقت قبيل انتخابات مجلس النواب
فقد خطب الشيخ يحثّ الناس على التمسك بحريتهم، ومقاومة كل تضييق أو خداع يقوم به
من يريد كسب أصواتهم. وقد حاول والي قونيا معمر بك -الذي كان حاضرا في الخطبة- أن
يُشَغِّب على الشيخ، فإذا بالشيخ يستخرج له مثالا من الفقه الإسلامي، فينقلب الحال
عليه!
ذكر الشيخ مصطفى صبري مسألة من الفقه
الحنفي تقول: ماذا إذا وقع نزاعٌ بين رجلين: مسلمٌ وذِمِّيٌّ على طفل، المسلم يقول
إنه عبده، والذمي يقول إنه ولده، وكلاهما جاء بالشهود التي تؤيد كلامه، ولم يتبيّن
وجه الحق للقاضي، فهل يُسَلّم الطفلُ إلى المسلم فيكسب الطفل نعمة الإسلام ويخسر
نعمة الحرية؟ أم يسلم إلى الذمي فيخسر نعمة الإسلام ويكسب نعمة الحرية؟
يختار أبو حنيفة أن يُسَلَّم الطفل إلى
الذِمّي ويكون حرًّا، فإنه إذا سُلِّم إلى المسلم لم يستطع كسب نعمة الحرية بنفسه،
ولكنه إذا سُلِّم للذمي يستطيع بالنظر والتفكير ومقارنة الأديان أن يكسب نعمة
الإسلام بنفسه. والشرع الإسلامي يُعطي للطفل ما لا يستطيع أن يكسبه بنفسه، إذ
الشرع واثقٌ من قوة حجة الإسلام وظهوره، والطفل إذا لم يُسْلِم حين يكبر كان هذا
تقصيرا منه، وجناية جناها هو على نفسه!
يقول الشيخ مصطفى صبري: هذه الفتوى تدل
على ما بلغه الفقه الإسلامي من سعة الأفق، وهي تبرز أهمية الحرية في شرعة الإسلام،
وتُفهم أهيمتها حق الفهم إذا تذكرنا أن الشريعة ترى أن أكبر ملوك غير المسلمين ليس
كفؤا ولا أهلا لأن يتزوج أدنى بنت من بنات المسلمين[1].
***
حين مررتُ بهذه القصة، تذكرت بحثا آخر
كتبه المستشرق الإيطالي ديفيد دي سانتيلانا، وهو قانوني درس المذهب المالكي، عن
الشريعة والقانون والمجتمع، وطفق هذا المستشرق يتناول جوانب الشريعة الإسلامية
بقلم المُعجب المنبهر بها، فكان مما تناوله مسألة الحرية، فقال فيها:
"أما الرق فهو استثناء لتلك
القاعدة (كان آدم وحواء وكلاهما حر)، من هذا المبدأ استخلص الفقهاء مسائل عديدة
إليك بعضها:
1. اللقيط المجهول أصله ترجح حريته على
عبوديته.
2. الحر المشكوك في حريته لا يجبر
مبادهة على إثبات حريته؛ حتى تنهض القرائن والدلائل القضائية على عكس ما يزعم.
3. ترجح حالة الحرية عند وجود الشك.
فالحرية على هذا الأساس لا يمكن أن
تباع أو تشترى لرغبة ساورت صاحبها، أو لنزوة عارضة، والعبودية التي يختارها المرء
بملء رغبته لا تعترف بها الشريعة قانونا قط، وعلى هذا المنوال تحرم الشريعة
الانتحار"[2].
وقد أُعجب دي سانتيلانا على نحو خاص
بالتحرر التام الذي يتمتع به المسلم من سلطة الكهنوتية، حتى قال في ذلك: "أشد
المذاهب البروتستانتية صرامة إنما تكاد تكون مذهبا كهنوتيا صرفا إذا ما قورنت
بعقيدة التوحيد الراسخة، التي لا تلين ولا تتزعزع، ولا تسمح بالتدخل بين الخالق
والمخلوق"، وأعجب بالرحمة التي تهيمن على سائر جوانبها، فيؤكد أن "آيات
القرآن فُصِّلَتْ للناس بمعرفة خبير حكيم لتكون شريعة للحرية، وقانونا للرحمة التي
أنعم الله بها على الجنس البشري"، ويختم
مبحثه اللطيف قائلا: "المستوى الأخلاقي الرفيع الذي يسم الجانب الأكبر
من شريعة العرب قد عمل على تطوير وترقية مفاهيمنا العصرية، وهنا يكمن فضل هذه
الشريعة الباقي على مر الدهور"[3].
***
وصدرت قبل أشهر الترجمة العربية لكتاب
الباحث الأمريكي المسلم، جوناثان براون، بعنوان "الإسلام والرق"، وقد
قرأت شطرًا منه ولم أتمّه، وهو كتاب ممتاز، لكن الشاهد هنا أنه قضى زمنا في أول
الكتاب يحاول أن يُفهم قرَّاءه من الغربيين والأمريكان أن الرق الذي كان في
الإسلام لا علاقة له بصورة العبودية والاستعباد التي تنبثق في أذهانهم لدى سماع
هذه الألفاظ، ذلك أن تلك المعاني السيئة إنما هي المخزون الموروث الذي أنتجته
التجربة الغربية حين استعبدت الشعوب الإفريقية والآسيوية، ولا علاقة لهذه المعاني
بموضوع الرق الذي كان في العالم الإسلامي. وذلك إلى الحدّ الذي لا يمكن فيه الوصول
إلى تعريف دقيق لمعنى "الرق"، بل إن مطالعة التاريخ تكشف أن ظروف
العُمّال الأحرار في المصانع الأوروبية كانت أسوأ حالا بكثير من أحوال العبيد في
العالم الإسلامي، وأن بعض أولئك العبيد وصلوا في العالم الإسلامي إلى مراتب السلطة
العليا كوزراء وأمراء وقادة جيوش يملكون الثروة والسلطة!
وكان قد وقع لي من أخبار العبيد
والرقيق في التاريخ الإسلامي، ما استخلصتُ بعضًا منه، ونشرته في مقال "كيف
عامل المسلمون عبيدهم.. شذرات من مؤلفات الرحالة الغربيين"[4]،
وفيه يقرر المستشرقون والرحالة الغربيون بأنفسهم أن أحوال العبيد في عالم المسلمين
كانت خيرا من أحوال الأحرار في الغرب!
وهذا مع أن الإسلام يرى الرق نقصا،
ويحث على إعتاق العبيد، كما يحث العبد على تحرير نفسه، وقد فتح لذلك الأبواب، وقد
أغلق الإسلام باب استرقاق الناس إلا في الحرب المشروعة، أي أنه جعل الرق بديلا عن
القتل، فكان الرق -في هذا الموطن- من باب الرحمة بالأسير! فلعله أن عاش بين
المسلمين أن يتأثر بهم فيُسلم فيفوز في دنياه وأخراه، ولئن لم يفعل فقد أصابته
الرحمة بالإطالة في عمره فلعله أن يُفتدي أو يفتدي نفسه أو يعيش في الرق عيشة
كريمة!
***
لقد وقف المنصفون من غير المسلمين أمام
فضل النبي ﷺ على هذه الإنسانية حتى تمنى بعضهم أن لو وصلت جيوش الفتح الإسلامي إلى
بلادهم، مثل المستشرق والفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير جوستاف لوبون، ذلك
الذي تحسّر أن المسلمين لم يدخلوا باريس، فلم تنعم باريس بمثل ما نعمت به قرطبة،
فقال في ذلك: "كان يصيب أوربا النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسبانيا من
الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربا التي تكون قد هذبت
ما حدث فيها من الكبائر كالحروب الدينية، وملحمة سان بارتملي، ومظالم محاكم
التفتيش وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع الخطيرة التي ضرجت أوربا بالدماء عدة
قرون"[5].
لقد رأى هذا الرجل فضل النبي متجسدا في
التاريخ، ورأى كيف أن البلاد التي وصلها أتباعه كانت في نعمة ورحمة حُرِمت منها
البلاد التي لم تنعم بأنواره، ليس فقط على مستوى الأخلاق وشيوع التسامح الديني، بل
حتى على مستوى العلوم والحضارة والاختراعات المادية والفنون، يقول: "كلما
أمعنا في درس حضارة العرب، وكتبهم العلمية، واختراعاتهم، وفنونهم ظهرت لنا حقائق
جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأينا أن العرب أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى
لعلوم الأقدمين، وأن جامعات الغرب لم تعرف لها -مدة خمسة قرون- موردا علميا سوى
مؤلفاتهم، وأنهم هم الذين مدنوا أوربا مادة وعقلا وأخلاقا، وأن التاريخ لم يعرف
أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفقهم قوم في الابتداع الفني"[6].
ولم يكن وحده في هذه النظرة، فهذا
المستشرق البريطاني الشهير مونتجمري وات، يقول في ذات المعنى: "إننا -معشر
الأوربيين- نأبى في عناد أن نقر بفضل الإسلام الحضاري علينا، ونميل أحيانا إلى
التهوين من قدر وأهمية التأثير الإسلامي في تراثنا، بل ونتجاهل هذا التأثير أحيانا
تجاهلا تاما، والواجب علينا من أجل إرساء دعائم علاقات أفضل مع العرب والمسلمين،
أن نعترف اعترافا كاملا بهذا الفضل، أما إنكاره أو إخفاء معالمه فلا يدل إلا على
كبرياء زائف"[7].
ينظر آخرون بإعجاب إلى فضل النبي ﷺ في
تحرير الإنسان من الخرافة والأوهام وسلطان الآلهة الوثنية، هذه المستشرقة
الإيطالية لورافيشيا فاجليري تقول: "بفضل الإسلام هُزِمت الوثنية في مختلف
أشكالها، لقد حُرِّر مفهوم الكون، وشعائر الدين، وأعراف الحياة الاجتماعية من جميع
الهولات أو المسوخ التي كانت تحط من قدرها، وحُرِّرت العقول الإنسانية من الهوى.
لقد أدرك الإنسان -آخر الأمر- مكانته الرفيعة، ولقد أذل نفسه أمام الخالق، رب
العالمين، أنه لم يصبح قادرا فحسب على أن يقول مع إبراهيم، {إِنِّي وَجَّهْتُ
وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] بل قد تعين عليه في الواقع أن يقول مع هذا النبي {قُلْ
إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
[الأنعام: 162]. لقد حُرِّرت الروح من الهوى، وأطلقت إرادة الإنسان من القيود التي
طالما أبقته موثقا إلى إرادة أناس آخرين، أو إلى إرادة قوى أخرى يدعونها خفية. لقد
هوى الكهان، وحفظة الألغاز المقدسة الزائفون، وسماسرة الخلاص، وجميع أولئك الذين
تظاهروا أنهم وسطاء بين الله والإنسان"[8].
***
إذا كان هؤلاء الناس قد التفتوا إلى
فضل النبي على الإنسانية في حياتهم الدنيا، وما بث في تاريخ الأرض من الأخلاق
والحضارة والعلم والنور والكرامة وتحرير البشرية من الخرافة والأوهام، فنحن
المسلمين أولى الناس أن نلتفت إلى فضله ﷺ في الدنيا والآخرة، فما الدنيا في الآخرة
إلا كقطرة في بحر، وكل شيء بالنسبة إلى الخلود غيرُ معدود، فبه عرفنا طريق
الهداية، فمن اتبعه فقد أنقذه الله بمحمد ﷺ من النار، والصلاة عليه في الدنيا هو
غفران للذنوب وتفريج للكروب وسببٌ لأن يذكرنا الله تعالى في عليائه جل علاه، وهو ﷺ
شفيعنا يوم القيامة بإذن الله، فبشفاعته يتجاوز الله عن الذنوب والخطايا لمن شاء،
وهو الذي يسقينا في اليوم الرهيب من حوضه الشريف، شربةً تروي الظمأ الشديد القاتل
شربة لا نظمأ بعدها أبدا، لا يُحرمها إلا من بدَّل وأحدث من بعده.
فلو كان اتباع محمد ﷺ يُهلكنا في
الدنيا ويحيينا في الآخرة لكفي بذلك نعمةً ومنّةً وفضلا عظيما، فكيف إن كان اتباعه
هو العز والنصر والتمكين في الدنيا، وهو النجاة والفلاح في الآخرة؟!
كثيرا ما يغيب هذا الجانب، أي: فضل
النبي ﷺ علينا في الآخرة، عن حديث المتحدثين عن فضله، وذلك من آثار طغيان التفكير
المادي الدنيوي على حياتنا المعاصرة.
لن نفهم فضلَ محمد ﷺ علينا في الدنيا
والآخرة إلا إذا تخيلنا مسيرة هذا العالم بدونه، إن مجرد الشروع في تخيل هذا الوضع
يقذفنا في عالم كئيب مظلم أسود؛ عالم تتقاذفه الشياطين، ويهيمن عليه الطغاة
الجبابرة، ويأكل القوي فيه الضعيف.. عالم بلا رحمة ولا شرف ولا أخلاق!
عالم ليس فيه أبو بكر ولا عمر ولا
عثمان ولا علي، لا خالد بن الوليد ولا أبو عبيدة بن الجراح ولا عمرو بن العاص، عالم
ليس فيه عمر بن عبد العزيز ولا هارون الرشيد ولا نور الدين زنكي ولا صلاح الدين
ولا يوسف بن تاشفين ولا عبد الرحمن الناصر ولا المنصور بن أبي عامر ولا عثمان ولا
مراد ولا محمد الفاتح! عالمٌ ليس فيه ذلك الطابور الطويل من العُبَّاد والزُهَّاد
الذين هم مصابيح الدنيا في التقوى والورع والأخلاق، من يتخيل عالما بغير الحسن
البصري وعبد الله بن المبارك وإبراهيم بن أدهم والحارث المحاسبي وبشر الحافي
والجنيد؟! عالمٌ ليس فيه ذلك الموكب المكتظ من العبقريات المدهشة التي فجرت ينابيع
العلوم، أي عالم ذلك الذي يخلو من أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وابن حزم
والجويني والغزالي والزمخشري والفخر الرازي وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن
رجب وابن عبد الهادي! وأي عالم ذلك الذي افتقد الزهراوي والجزري والحسن بن الهيثم والزرقالي
والمرادي وابن النفيس وابن البيطار!
كل أولئك وغيرهم كثير كثير كثير ممن
أقاموا العدل ونشروا العلم وعالجوا الأرواح والأبدان، إنما شربوا من معين محمد،
ومن سنّته ارتووا، وعلى دينه قاموا ونصبوا وماتوا! ولولا محمد لكانوا من أغمار
الناس، أو لذهبت طاقتهم وعبقريتهم في خدمة الطغاة والجبارين الذين غلبوا عليهم!
ستجد عزيزي القارئ الكريم، في هذا
العدد من مجلتنا أنصار النبي، شذرات عن فضل النبي ﷺ على الحيوان وعلى النبات وعلى
الجماد، على الكافرين وعلى المسلمين، من التاريخ ومن الواقع، وهي أمور لا تكفيها
هذه الصفحات القليلة، وإنما هي بمثابة فتح الباب، والدلالة على الكنز العظيم!
فاغترف من الكنز ما استطعت، وانهل من النهر حتى تتضلع، فإن ذلك فلاحك في الدنيا
والآخرة.
[1] مصطفى صبري،
موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، 4/340، 341.
[2] دافيد دي سانتيلانا، القانون
والمجتمع، ضمن: توماس أرنولد (إشراف)، تراث الإسلام، ص417.
[3] نفس المصدر، ص410، 411، 439.
[4] مجلة المجتمع، يوليو 2020م،
الرابط: https://melhamy.blogspot.com/2020/07/blog-post.html
[5] جوستاف لوبون، حضارة العرب،
ص317.
[6] نفس المصدر، ص26.
[7] مونتجمري وات، فضل الإسلام
على الحضارة الغربية، ص8.
[8] لورافيشيا فاجليري، دفاع عن
الإسلام، ص45، 46.
ما شاء الله.. أحسنتم أبا سيف
ردحذفكأنما أقرأ لنفسي... ولكنكم فقتمونى علما.. بارك الله فيكم
ردحذف