مما
لا يأخذ حظه كثيرا في العرض التاريخي للفتوحات الإسلامية أمر ابتكارات المجاهدين
واختراعاتهم في ميدان الحرب والقتال، مع أنه من أهم الأمور التي ينبغي التعرض لها
والتركيز عليها والاهتمام بها، فإن ابتكارا واحدا ربما غيَّر مصير المعركة، وربما
كان مصير تلك المعركة هو ما تتحدد به
مصائر الأمم والشعوب وخرائط الجغرافيا والتاريخ، فالمعارك هي السطر الأول والأخير
في صفحة تاريخ كل أمة، فليس من أمة إلا وبدأت بحرب تأسيس أو تحرر أو استقلال، وليس
من أمة إلا وختمت صفحتها بحرب سقوط وانهيار.
1. مواجهة الفيلة في القادسية
كان
من أعظم المحن التي أتعبت المسلمين في فتوح فارس أن الفرس يقاتلون على الفيلة، ولم
تكن خيول العرب قد شاهدت الفيلة من قبل، فكانت تنفر منها، وسلاح الفرسان هو السلاح
الضارب في جيوش تلك الأيام، فكانت الخيل ترى تلك الكائنات الغريبة الضخمة الثقيلة
فتنفر، فيتعطل سلاح الفرسان بجيش المسلمين، ولم يكن للمسلمين فيلة بالمقابل، ولا
كانوا يعرفون كيف يعطلونها، فصار الأمر يمثل خللا خطيرا في حسابات المواجهة،
فابتكرت عقولهم أربعة وسائل مبتكرة:
أولا:
هجوم نوعي
كان
يُربط إلى الفيل تابوتان على جانبيه، يُحمل فيهما المقاتلون، وهما مرتبطان معا عبر
ظهر الفيل، فحين يهجم الفيل على الجيش تَنْفِر منه الخيل والمشاة وترتبك الصفوف
فيستطيع المقاتلون على جانبي الفيل استغلال حالة الارتباك هذه ليطعنوا بالرماح تلك
الجموع المتفرقة المختلة فتكون الخسارة مضاعفة: اختلال الصفوف، وخسائر في
المقاتلين، ثم يأتي من خلفهم المشاة فيحصدون هذا الوضع بمزيد من إيقاع القتلى
والجرحى.
تفتقت
عقول المجاهدين عن خطة مضادة، هجوم نوعي من فرق خاصة تهاجم الفيل من الخلف ومن
الأجناب فتكون مهمتها قطع الأحزمة التي تربط التابوتين عبر ظهر الفيل، فتسقط
التوابيت بمن فيها من المقاتلين، فما إن يحدث حتى يهجم حملة الرماح على الفيلة
بالطعن من بعيد بعد أن صاروا بلا مقاتلين، فيوجهونه برماحهم بعيدا عن المسلمين.
أدت
هذه العمليات لاختفاء الفيلة طوال اليوم الثاني من معركة القادسية الفاصلة، فلقد
قضى الفرس يومهم في إصلاح التوابيت، ثم دعم الفرس المقاتلين على الفيلة بمقاتلين
إضافيين للحراسة كي لا يتكرر الهجوم النوعي السابق، لكن الأمر جاء على عكس
إرادتهم، فقد عطلت القوات الإضافية مساحة حركة الفيلة ومناوراتها، ثم إن الفيل صار
يستأنس بكثرة ما حوله وهو ما خفَّ من توحشه وشراسته، ثم إن مقاتلي الفيلة صاروا
متوجسين يهتمون بالدفاع أكثر من الهجوم. فساهم جميع ما سبق في خفض عمل الفيلة.
ثانيا:
برقعة الإبل
وتلك
من بنات أفكار القعقاع بن عمرو التميمي، فقد فكر في أن يصنع بسلاح الفرسان الفارسي
كما فعلوا بالمسلمين، فعَمِدَ إلى إلباس عدد من الإبل براقع كبيرة تجعل منظرها
جديدا، كأنما حيوان جديد دخل المعركة، ووضع حول كل إبل مبرقعة جنودا تحميه وتصحبه
في الهجوم، فنفرت خيل الفُرْس من الإبل المبرقعة ووقع لهم مثلما وقع في اللحظات
الأولى لخيل المسلمين. وبهذا حُرِم الفرس من سلاح الفرسان أمدا.
ثالثا:
فيل من الطين
وهذا
ابتكار لجندي من المسلمين لم نعرف اسمه، وذلك أنه لما وجد خيل المسلمين تنفر من
الفيلة قضى ليلته في بناء فيل من الطين، وصار يقرب فرسه منه حتى قضى الفرس معه
طوال الليل فأنس به فلم يعد ينفر منه، فلما أصبح يوم القتال امتطى الرجل صهوة
جواده وأقبل على الفيل فلم ينفر منه، فكان هذا مما حَثَّ خيول المسلمين على الثبات
للفيلة، ونادى به الناس: إنه قاتلك (أي الفيل)، فقال لهم: لا ضير أن أُقتل ويُفتح
للمسلمين.
رابعا:
دور المعلومات
وهو
أخطر الأدوار، وقد قامت به القيادة الإسلامية، حيث نشط المسلمون في جمع المعلومات
عن الفيلة ومقاتلها ممن أسلم من الفرس أو من العراب الموالين لهم، فظفروا بمعلومات
ثمينة أهمها: أن الفيلة لا نفع منها إذا فقدت عيونها أو أشفارها. كما اكتشفوا أن
فيلين فقط هما بمثابة القيادة التي تتبعها بقية الفيلة: الفيل الأبيض والفيل
الأجرب.
أرسل
سعد بن أبي وقاص بالمعلومات إلى بني تميم (بقيادة: القعقاع بن عمرو التميمي وأخيه عاصم)
ليتولوا أمر الفيل الأبيض، وأرسل إلى حمال بن مالك (أمير المشاة) والربيل بن عمرو وهما
في مقدمة بني أسد أن يتوليا أمر الفيل الأجرب.
انطلق
القعقاع وعاصم في فرقة مهمتها تشتيت قوات الحماية حول الفيل، ثم وضعا رمحيهما في
وقت واحد في عيني الفيل، فرفع الفيل خرطومه فاستبقه القعقاع بسيفه فقطعه، فسقط على
الأرض أعمى فقتل عددا من مقاتليه، وأربك الجهة التي حوله فتسابقت إليهم كتيبة بني
تميم.
وانطلق
حمال بن مالك والربيل بن عمرو واستطاعا ضرب خرطوم الفيل وطعن عين واحدة منه، وأصيب
الربيل بضربة حطمت أنفه من سائس الفيل إلا أنه أفلت منها، غير أن النتائج التي
حققاها كانت أفضل، إذ أن الفيل الأعور عرف طريق هروبه من المسلمين فانطلق إلى
الخلف يدوس صفوف الفرس ويخترقها فأطاعته بقية الفيلة التي هرعت وراءه حتى خرجت من
المعركة وأهلكت من كان في توابيتها. بينما ظل الفيل الذي عمي تماما والذي ضربه
القعقاع وعمرو لا يعرف أين يذهب فصار مترددا بين الصفين، إذا قدم على المسلمين
نخسوه بالرماح وإذا قدم على الفرس نخسوه بالرماح ولا يدري كيف يتحرك[1].
2. عبور صحراء السماوة
أراد
أبو بكر الصديق أن يدعم الفتوحات على جبهة الروم فأرسل إلى خالد بن الوليد (قائد
جبهة الفتح في فارس) أن يصطحب نصف الجيش وينطلق إلى الشام، ومع دقة الموقف في
الشام قرر خالد أن يعبر إليها من طريق سريع يوفر الوقت ويُدخله إلى عمق الشام، ولم
يكن أمامه إلا عبور صحراء السماوة القاحلة بين العراق والشام، فلو سلك طريق الجنوب
طال عليه الوقت وربما فاتته الفرصة، ولو سلك طريق الشمال لتعرض لمواجهات مع روم
وأعراب في مناطق لم تفتح بعد. فكان قراره الخطير ومغامرته الجريئة بعبور صحراء
السماوة، فكيف فعل في طريق خالية من الماء والطعام تماما لخمسة أيام؟!
قرر
خالد أن يتزودوا من الماء لخمسة أيام، وأمر لكل صاحب خيل بقدر ما يسقيها، ثم أمر
بتعطيش الإبل وحبسها عن الماء حتى كان آخر يوم قبل الرحيل فأطلق الإبل للماء فروت
حتى امتلأت أسنمتها، ثم ربطوا أفواهها، فجعلوها كأنها مخزنهم للطعام، فإن احتاجوا
ذبحوا الإبل فأكلوا منها ومزجوا ما في كروشها من الماء بالألبان في ضروعها، فكان
هو طعامهم وطعام خيولهم.
وفي
خمسة أيام قطع الجيش المسلم الصحراء فصار في عمق الشام قريبا من دمشق، فتحققت
المفاجأة الحربية للطرفين: المسلمين فارتفعت معنوياتهم والروم فازداد اندهاشهم،
ومن هناك تولى خالد قيادة فتوح الشام وبدأ مآثره الخالدة[2].
3. معركة ذات الصواري
بدأ
المسلمون ببناء أسطولهم في عهد عثمان رضي الله عنه لما تحقق أن تأمين الفتوحات
البرية لا يتم بغير أسطول يصد الهجمات البحرية للأسطول البيزنطي العتيد على ساحل
الشام، وأسرع المسلمون ببناء أسطول في مدن الشام ومصر، ثم خاضوا أول معاركهم
البحرية مع أسطول الروم العريق (34 هـ) عند ساحل أنطاليا.
وكانت
معركة فاصلة مصيرية، فالمواجهة بين مائتي سفينة للمسلمين أمام ثمانمائة سفينة
بيزنطية، وعلى قيادة الروم الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل بنفسه، والنتيجة
ستحدد لمن ستكون سيادة البحر المتوسط!
مع
شدة حرج المعركة ونتائجها كان المسلمون بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح قد
ابتكروا فكرتهم الخطيرة: تحويل المعركة البحرية إلى معركة برية حيث يستطيع فيها
المجاهد المسلم تحقيق نتائج أفضل، لا نعرف بالضبط صاحب الفكرة، وحسبه أن الله
يعرفه، والطريقة كالآتي:
تهبط
مجموعات خاصة من المسلمين تحت الماء فتربط السفن بعضها ببعض، فهي حين تربط السفن
الإسلامية ببعض فإنها تحولها كجزيرة فسيحة تمنع أسطول الروم من النفاذ بينها
واختراقها وتطويقها، فإن تم لها ذلك، ربطت ما استطاعت من سفن الروم بسفن المسلمين،
وبهذا تحولت السفن إلى سطح بري أجبر به البيزنطيون على خوض معركة شبه برية فوق
السفن.
وكان
موقع المعركة بين خلجان وشبه جزر برية مما جعل فكرة ربط السفن تحصر حركة الأسطول
البيزنطي، وهكذا استطاع المسلمون فرض أسلوبهم، واستطاعوا أن يحققوا نصرا مبهرا غير
متوقع بالأسطول الإسلامي الوليد على الأسطول البيزنطي العريق، بل وتحققت أقوى
نتيجة حربية في تاريخ المعارك الإسلامية الرومية حتى تلك اللحظة إذ أصيب
الإمبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل. واستطاع المسلمون إخراج الأسطول البيزنطي
لفترة من شرق البحر المتوسط إذ اضطر الإمبراطور البيزنطي لنقل قاعدته البحرية
لتكون في جزيرة صقلية[3].
الخلاصة
لا
تشكو الأمة من ندرة في أهل البسالة والتضحية والفداء، ولكن تشكو من ندرة من
يستطيعون ردم وتضييق الفجوة العلمية بيننا وبين عدونا، لا سيما وتلك الفجوة محروسة
بالأنظمة المستبدة التي إن قُدِّمت لها اختراعات أو ابتكارات فأحسن ما يكون أن
تهمله، وربما سجنت أو طردت صاحبه. إن الأمة تفتقر إلى الوسائل التي تجعل تضحية
الفدائيين ذات ثمن وأثر ونفع، بدلا من أن يذهبوا هكذا مجانا.
لا
تزال مشكلة الطيران تمثل تحديا ضخما، فكأنها لأول وهلة كمشكلة الفيلة قديما، ولعل
من سيبتكر وسيلة لمواجهته لا يقل أجرا عن أجداده الفاتحين الأوائل، ومثلها مشكلة
الطائرات بلا طيار، وأنماط الاتصالات ونقل البيانات والتشفير، ومن وارئها تلك
الصواريخ بعيدة المدى التي تصيبنا من وراء البحار ومن قواعد بحرية، وقبل أيام جاءت
أخبار باصطناع جنود آليين يعملون بتقنيات الذكاء الاصطناعي.. ولا يزال مسلسل
التحديات طويلا، وهو ما سيحتاج مجهودا عسيرا وصبرا وجلدا كبيرا.
ولعل
من فرص اليوم أن كثيرا من المجهود يمكن أن يجري بعيدا عن مواطن الخطر، فالحصول على
المعلومات وتحليلها والبحث عنها يمكن أن يكون من أي مكان، بل ويمكن أن يشارك فيه
أصحاب الأعذار ممن عفا الله عنهم من المشاركة بأنفسهم، فقد أوجب الله عليهم
النصيحة لله ورسوله، فهم مكلفون بسائر ما يدعم الثائرين والمجاهدين، وبهذا يكتب لهم
أجر الجهاد وهم في مأمنهم كما قال رسول الله عنهم "إن بالمدينة قوما ما سرتم
مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم شاركوكم في الأجر".
وأما
أصحاب التخصص من المهندسين والكيميائيين والمبرمجين ونحوهم فهم أول المسؤولين
الذين يتعين عليهم استعمال هذا العلم في إنقاذ هذه الأمة، فذلك دورهم الأكبر
والأخطر، وهو بابهم الكبير بل لعله يكون الوحيد نحو الجنة في الآخرة وخلود الذكر
الحسن في الدنيا.. ويا له من شرف أن يكتب المرء اسمه في نفس السجل الذي كتب فيه
اسم خالد والقعقاع والفاتحين العظام.
نشر في مجلة كلمة حق
[1] أحسن ما
رأيته في تحقيق شأن الفتوح كتب المؤرخ العسكري أحمد عادل كمال، فقد اجتهد في جمع
وتحقيق المرويات حتى أخرجها صورة واضحة للمعارك الإسلامية، ولهذا أفضل في شأن
المعارك العزو إلى كتبه لا إلى المصادر القديمة، وفيما نقلناه هنا من شأن
القادسية، ينظر كتابه: القادسية، ط9 (بيروت: دار النفائس، 1989م)، ص122 وما
بعدها.
إلا أن وقعة صناعة فارس فيلا من الطين
نقلناها من: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم
أطفيش، ط2 (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1964م)، 2/363.
[2] انظر
تفصيل القصة وتحديد المسار بدقة عند: أحمد عادل كمال، الطريق إلى المدائن، ط6
(بيروت: دار النفائس، 1986م)، ص321 وما بعدها.
[3] ابن عبد
الحكم، فتوح مصر والمغرب، (القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 1995م)، ص217،
218؛ أرشيبالد ر. لويس، القوى البحرية والتجارية في حوض البحر المتوسط،
ترجمة: أحمد محمد عيسى، (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، بدون تاريخ)، ص91، 92.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق