كان محمد بن علي أكبر أبناء أبيه علي بن عبد الله بن العباس، وكان
جميلًا طويل القامة، صاحب عقل وعلم وفضل وحلم وعبادة؛ حتى رُوي عن أخيه عيسى بن علي
أنه يزيد في الفضل على أبيه علي بن عبد الله بن عباس، وكان من علماء عصره حتى عَدَّه
ابن حبان في مشاهير علماء الأمصار، وقال فيه: «من عُبَّاد أهل المدينة وعلماء بني هاشم».
ومِنْ أشهر مَنْ تلقى عنه العلم أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، ولقب-لكثرة
عبادته- بلقب أبيه «السَّجَّاد»[1].
وحياته تدلُّ على ما تميز به من قوَّة الشخصية والذكاء والفطنة،
والمهارة في التجميع والتأسيس والتنظيم، والقدرة على قراءة الواقع قراءة خبيرة متعمِّقَة.
في الحُمَيْمَة
كان علي وأولاده من المشهورين بالزهد والعبادة مما زاد في
حبِّ الناس لهم؛ حتى إن اشتهر العباسيون بالزهد والعبادة في الحميمة حتى لقد قيل:
«لقد أفضت الخلافة إليهم وما في الأرض أحد أكثر قارئًا للقرآن، ولا أفضل عابدًا وناسكًا
منهم بالحميمة»[2].
وربما لم يكن هذا الوضع مطمئنًا للأمويين وهم-أي العباسيين-
في دمشق عاصمة الخلافة التي تزدحم عليها الأقدام، ويسهل فيها الاستكثار من الأتباع
والالتقاء بهم، فكان قرار هشام بنزولهم الحميمة-التي لا هي بعيدة ولا هي قريبة من دمشق-
يجعلهم أبعد عن الالتقاء بالناس وتكوين الأتباع، كما يجعلهم غير بعيدين عن يد الخلافة
إذا بَدَر منهم ما يُخشى خطره.
لكن محمد بن علي استثمر كَوْن الحميمة بعيدة عن عين الأمويين
ورقابتهم، ولئن كان الأمويون يخشون من ثورة أو فتنة علنية في دمشق؛ فإن تفكير محمد
بن علي باتجاه تكوين التنظيم السري، والحميمة-في هذه الحال- أنسب من دمشق.
إن اختيار المركز هو الخطوة الأهمُّ في تأسيس الدول من الناحية
والإستراتيجية؛ ولهذا فإن اختيار علي بن عبد الله للحميمة-التي تقع بين دمشق وفلسطين
وعلى طريق الحجاز- لم يكن عشوائيًّا، بل هو وضع حجر الأساس للدعوة العباسية، فعند الحميمة
يمكن التخفِّي في ثوب العالم الذي شغله علمه، والتاجر الذي يسعى في تجارته، والحاج
الذي يُريد البيت الحرام؛ ولهذا يجعل بعض المؤرِّخين-كالمسعودي واليعقوبي- عليَّ بن
عبد الله هو المؤسِّس الحقيقي للدعوة العباسية[3].
إلا أن هذا الرأي قال به قليل من المؤرِّخين، وأغلبهم-كما
نرى من المصادر- يُرْجِعون فضل تأسيس الدعوة العباسية إلى محمد بن علي.
آل البيت المعارضون
قال الذهبي: ولكن آل العباس، كان الناس يحبُّونهم، ويحبُّون
آل علي، ويودُّون أن الأمر يئول إليهم؛ حبًّا لآل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبغضًا
في آل مروان بن الحكم، فبقوا يعملون على ذلك زمانًا؛ حتى تهيأت لهم الأسباب، وأقبلت
دولتهم وظهرت من خراسان[4].
ما من شكٍّ في أن الناس كانوا يحبُّون آل البيت أكثر من حبِّهم
لبني أمية، ولقد أمدَّ هذا الحبَّ رافدان: كونهم من سلالة النبي- صلى الله عليه وسلم-،
ثم ما نزل بهم من مظالم على يد الأمويين؛ لا سيما في الثورات التي انتهت إلى الفشل.
إلا أن أتباع آل البيت لم يكونوا جبهة موحدة؛ بل كان كلما
قُتل أو مات واحد من أئمة آل البيت تَفرَّق الأتباع إلى أكثر من مجموعة، بحسب اختلافهم
على الإمام الذي ينبغي أن يليه؛ فمن بعد مقتل الحسين- رضي الله عنه- رأت جماعة أن الأولى
بالإمامة من بعده أخوه محمد بن علي بن أبي طالب (محمد بن الحنفية)، وهو ابن علي من
زوجته خولة بنت جعفر من قبيلة بني حنيفة؛ ولذلك دُعي «ابن الحنفية»، وكانت حُجَّتهم
أنه لم يبقَ بعد الحسن والحسين أحد أقرب إلى عليٍّ من محمد ابن الحنفية؛ فهو أَوْلَى
الناس بالإمامة، كما كان الحسين أَوْلَى بعد الحسن من ولد الحسن. وقد انتهت هذه الجماعة-بعد
انقسامات أخرى- إلى زعامة أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية.
ورأت جماعة أخرى أن الإمامة من بعد الحسين ينبغي أن تكون
في ولده زين العابدين علي بن الحسين؛ وأنها ينبغي ألا تخرج إلى خارج أبناء فاطمة رضي
الله عنها، وانتهت هذه المجموعة-بعد انقسامات أخرى- إلى زعامة زيد بن علي بن الحسين،
الذي قاد ثورة ضد هشام بن عبد الملك وانتهت بالفشل؛ لكنَّ زعامة زيد لم تكن الزعامة
الوحيدة، فظلَّت شخصيات أخرى تقود حركة المعارضة؛ مثل: جعفر الصادق-الذي كانت معارضته
سلمية، ولم يُحاول أن يثور على الأمويين- وعبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب، وابناه محمد «النفس الزكية»، وإبراهيم.
وكانت ثمة جماعة أخرى؛ هي العباسيون الذين لم يظهروا على
مسرح الأحداث، ولم يُتوقَّع منهم خطر كبير.. لكنَّهم اكتسبوا قوَّة أخرى جديدة على
غير ترتيب.. فكيف حصل هذا؟
وصية أبي هاشم عبد الله
ذكرنا أن زعامة المجموعة التي رأت انتقال الإمامة إلى محمد
ابن الحنفية انتهت إلى ابنه أبي هاشم عبد الله، لكنَّ أبا هاشم لم يكن له ولد، فلما
كان عائدًا ذات مرَّة من زيارة للخليفة الأموي[5] شعر بالمرض وأحس بقرب أجله، فذهب إلى الحُمَيْمَة حيث استقرَّ
أولاد علي بن عبد الله بن العباس، وكبيرهم محمد بن علي الذي كان أفضل تلاميذه، فأوصى
إليه بالإمامة من بعده، أي إمامة الدعوة التي كان يتزعَّمها أبو هاشم-والتي كانت سِرِّيَّة
في مستقبل أمرها، وتعمل على الثورة على الأمويين-أيضًا- وتمكين آل البيت من الحكم-
فبهذا انضمَّ جُلُّ أتباع أبي هاشم إلى أتباع محمد بن علي العباسي، ومن هنا كانت البداية
الحقيقية الفعالة للدعوة العباسية.
بعض المؤرِّخين لم يصدق هذه الرواية، واعتبروها نوعًا من
ادِّعاء الشرعية؛ الذي احتاج إليه العباسيون لينضمَّ إليهم العلويون في معركتهم ضدَّ
الأمويين.. لكنَّ المؤرِّخين الأوائل أثبتوا هذه الواقعة في كتبهم وتلقَّوْهَا بالقبول.
والجدير بالذكر أن روايات البلاذري واليعقوبي والطبري استُقِيَتْ
من مصدر واحد؛ هو إمَّا الهيثم بن عدي أو المدائني، وكلنا الروايتين على جانب لا يُستهان
به من حيث صحَّة روايتهما التاريخية، كما أن الاختلاف في الأسلوب والألفاظ مع اتفاق
المعنى يُؤَيِّد الصحَّة التاريخية، كما يذكر الوصية ابن سعد في الطبقات وابن حبيب
في أسماء المغتالين، وابن قتيبة في المعارف، والمسعودي في مروج الذهب، والمجهول صاحب
كتاب العيون والحدائق، والمجهول الآخر صاحب «أخبار الدولة العباسية»، كما ذكرها المتأخِّرُون
من المؤرِّخين؛ مثل: ابن عبد ربه، والمقدسي، وابن عساكر، وابن الأثير، وابن خلكان،
وابن خلدون، والمقريزي، وابن تغري بردي، والداؤدي، كما ذكرها مؤرِّخو الفرق؛ مثل: النوبختي،
والقُمِّي، وذكرها الأشعري بقوله: «ويزعمون...»[6]، والبغدادي، والشهرستاني، والإسفراييني. ويظهر مما سبق أن
المصادر الأصلية تتَّفِقُ على الحقيقة التاريخية للوصية[7].
على أن الفهم المستقيم لهذه الوصية كما يبدو لنا هو تسليم
نواة «تنظيم الدعوة» لآل البيت لمحمد بن علي؛ باعتبارها حركة سياسية إصلاحية ترى في
تولِّي آل البيت للخلافة سبيلًا لإنهاء المظالم والانحرافات لدى الأمويين، لا على أنها
دعوة دينية تُمَثِّل مذهبًا عقديًّا، يجعل استحقاق آل البيت بالخلافة واجبًا دينيًّا؛
إذ لم يثبت على أبي هاشم-فيما نعلم- انتحاله لغير مذهب أهل السنة والجماعة، ولا ورد
عنه طعن في خلافة الشيخين أو عثمان، على أنه حتى إن افترضنا أنه كان يرى الخلافة استحقاقًا
لآل البيت، ويرى عليًّا الأولى بها، فإن الوصية لمحمد لا تعني كذلك أكثر من تسليم أمر
التنظيم ليُكمل المهمَّة، ولا يثبت هذا أنه كان على علم بالغيب، أو أن لديه علمًا خاصًّا
بأن الخلافة في العباسيين!
أقام محمد بن علي العزاء لأبي هاشم، ثم جمع مَنْ كان عنده
من أنصار أبي هاشم، وقال لهم: «لئن كنتم أصبتم بموته لقد خصصت بذلك منه، وقد جمعني
وإياكم القيام بهذا الأمر، وعلمت منه كثيرًا مما لم تعلموا؛ فاتقوا الله ربكم، وحافظوا
على هذا الحقِّ الذي سعيتم في إقامته، واحفظوا ألسنتكم فلا تطلقوها إلَّا في مواضع
النفع والغناء، وتصبروا للمكروه فقد قرن بكم، فإن حفظتم ذلك فأنتم شيعتي وخاصتي، وأولى
الناس بي في محياي ومماتي»[8].
فاستوعب محمد أتباع أبي هاشم؛ لكنه انتظر حتى يأتي أكبر أتباع
أبي هاشم وأوثقهم، وهو سلمة بن بجير[9] الذي كان قد تأخَّر في دمشق، ولما جاء سلمة وعرف بالخبر
وبأمر الوصية؛ انتقل ليكون الذراع الأولى لمحمد بن علي العباسي في أمر دعوته، وهو الأمر
الذي استقبله محمد بالتقدير والترحيب، والوعد بأن الأمر سيكون شورى، وأنه ليس أمر دنيا
فتتناوله الأهواء، ويُطمَع إلى الاستبداد فيه؛ بل هو أمر دعوة حقٍّ[10].
وبهذا بدأت مرحلة من الدعوة والعمل السرِّي استغرقت ثلاثين
سنة، بدأت في نهاية القرن الأول الهجري (97 أو 98 أو 100 هـ، بحسب اختلاف الروايات)
وحتى 129 هـ، حين أُعلنت الدعوة في خراسان.
نشر في ساسة بوست
[1] ابن حبان:
مشاهير علماء الأمصار ص207، وابن عساكر: تاريخ دمشق 54/ 365 وما بعدها، وابن خلكان:
وفيات الأعيان 4/ 186، والصفدي: الوافي بالوفيات 4/ 77، 78، وابن حجر: نزهة الألباب
ص361، والزركلي: الأعلام 6/ 271.
[7] د. فاروق عمر: الثورة العباسية
ص32 وما بعدها، وذكرها-أيضًا- المحدث والمؤرخ الكبير الإمام الذهبي في: سير أعلام النبلاء
4/ 129، وتاريخ الإسلام 6/ 406، والمحدث الإمام المزي في تهذيب الكمال 16/ 86.
[9] وسلمة هذا
هو ابن بجير بن عبد الله، وأبوه كان-أيضًا- من قادة أتباع محمد بن الحنفية، ومن كبار
القادة مع المختار بن عبيد الثقفي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق