أكتب هذه الكلمات وأنا في انتظار الطائرة التي تتجه بي
إلى مؤتمر علمي دولي عن "صلاح الدين الأيوبي" يضم ثمانين شخصية علمية
عربية وأجنبية، وحين تكون في هذه الأجواء يكون أقسى ما ينزل بك من أحداث أن ينتشر
مقطع فيديو للواء أركان حرب نجم الدين محمود، مدير إدارة المتاحف العسكرية
المصرية، يفخر فيه بانتصارات الجيش المصري، ومنها (معركة حطين) التي قادها (رمسيس
الثالث) وانتصر فيها على (الحيثيين)، ومنها (معركة عين جالوت) التي قادها (صلاح
الدين) لتحرير القدس! ومنها (معركة نسيب البحرية) التي قادها إبراهيم باشا الابن
الأكبر لمحمد علي![شاهد الفيديو]
هذا الكلام نطق به رجل مهنته تفرض عليه التخصص في
التاريخ العسكري المصري، فإذا به يجهل العلم الذي يُدَرَّس للأطفال في المدارس
الابتدائية!! وهذا فضلا عن الخطأ الظاهر في معركة نسيب التي لم تكن بحرية بأي حال،
بل كانت برية عند على الحدود السورية التركية، مما لا يجعل الخطأ هنا مجرد زلة
لسان بل هو جهل فاحش، ولكنه على كل حال أقل من الجهل في صلاح الدين وحطين وعين
جالوت!!
وليس الرجل إلا واحدا من طبقة غريبة نكتشفها في مصر
يوميا تحمل عنوان "خبير استراتيجي" من العسكريين المتقاعدين، ولهم في كل
يوم جديد طريف مثير للسخرية والشفقة والحسرة معا كتصريحات شفيق قبل انتخابات
الرئاسة ثم قصة عبد العاطي مخترع جهاز الكفتة ثم تصريحات اللواء محافظ السويس عن
الرياح وعن مقاومة الفئران وغيرها مما يستحق أن يُفرد له دراسة خاصة، ثم يأتي على
رأس الهرم عبد الفتاح السيسي الذي لم يخجل من أن يقدم نفسه كـ "طبيب
الفلاسفة"، في حين أن حصيلته اللغوية وأسلوبه في التعبير يدلان على فقر
وضحالة علمية فضلا عن تفكير بسيط محدود مؤسف.
(1) جيوش العدو
وضع المستشرق الأمريكي
فيليب حتى (وهو لبناني الأصل) كتابا في تاريخ العرب، هو "تاريخ العرب
المطول"، وهو كتاب قيِّم على ما فيه من ملاحظات، وفيليب هذا هو أحد أعمدة
الاستشراق الأمريكي، وهو مؤسس قسم الدراسات الشرقية في جامعة برنستون التي هي كهف
الاستشراق وقلعته الكبرى منذ نبغ العصر الأمريكي، ثم كلفته الجامعة بوضع مختصر له،
فاختصره في "العرب.. تاريخ موجز".
ذكر فيليب حتي في مقدمة
الترجمة العربية لكتابه هذا أنه طُبِع ست طبعات خلال عام ونيف، منها طبعة خاصة بالجيش
الأمريكي[1]! فالجيوش هناك تقرأ خلاصة ما وصل إليه مفكروها وكبار خبرائها!
ومن يطالع في تاريخ
الاستشراق سيجد جملة من المستشرقين الخبراء خدموا في الجيوش الأجنبية، فقدموا لها
خلاصات علمية لا تقدر بثمن، (وهذا بخلاف المؤسسات والمجامع العلمية والجواسيس الذين
كانت مهمتهم فقط تقديم المعلومات).
ومن بين أشهر هؤلاء المستشرقين:
برنارد لويس المستشرق الصهيوني المعروف وصاحب خريطة تقسيم المنطقة العربية حسب
الأعراق والطوائف، فقد خدم في الجيش البريطاني بعد أن صار محاضرا في جامعيا في
الحرب العالمية الثانية. ومنهم: لوي ماسينيون وهو غني عن التعريف وقد كان مستشار وزارة
المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، والراعي الروحي للجمعيَّات التبشيرية الفرنسية
في مصر، وخدم بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالمية الأولى، واشتهر بكتابه
عن الحلاج وبحوثه في الفلسفة الإسلامية والتصوف. ومنهم: المستشرق البريطاني
أندرسون الذي التقاه الشيخ مصطفى السباعي وسجل أنه "رئيس قسم قوانين الأحوال الشخصية
المعمول بها في العالم الإسلامي -في معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن- وهو متخرج
من كلية اللاهوت في جامعة كمبردج، وكان من أركان حرب الجيش البريطاني في مصر خلال الحرب
العالمية الثانية كما حَدَّثَنِي هو بذلك عن نفسه"[2].
ومنهم من هو أقل شهرة
مثل: رونالد فيكتور بودلي، والذي كان برتبة كولونيل في الجيش البريطاني، وعمل في
صفوفه في العراق وشرقي الأردن، ثم عمل مستشارا لسلطنة مسقط، وكان أوائل من عَبَروا
الربع الخالي، وكشف عن أسراره المجهولة بين عامي (1930 - 1931م)، ولما ترك الخدمة
عاش بين عرب الصحراء، وألف عدة كتب أشهرها (الرسول: حياة محمد)، و(رياح الصحراء)،
و(صمت الصحراء) وغيرها. ومنهم: هنري دي كاستري، وكان مُقَدِّمًا في الجيش الفرنسي بالجزائر،
وقضى زمنا في الشمال الإفريقي، ومن كتبه (الإسلام خواطر وسوانح)، و(مصادر غير منشورة
عن تاريخ المغرب)، و(الأشراف السعديون)، و(رحلة هولندي إلى المغرب)، وغيرهما.
وقد ذكر د. مازن مطبقاني،
وهو متخصص في الاستشراق وأعد رسالته للدكتوراة عن الاستشراق الأمريكي، أثناء وجوده
في أمريكا أنه رأى طلابا مبتعثين من الجيش الأمريكي "لدراسة أحوال الشرق الأوسط
الفكرية والسياسية والاجتماعية. وقد درس اللغة العربية مدة ثلاث سنوات"، وعرف
بطالب آخر يعمل "في البحرية الأمريكية وقد كان بحثه لدرجة الماجستير حول التنصير
في الخليج العربي" فأخذ نسخة منها وترجمها ونشرت بالعربية[3].
هذه مجرد أمثلة وشذرات
لما تتعلمه جيوش العدو عنا نحن لا عن أقوامهم هم!
(2) صناعة الجهل في الجيش
المصري
يمكننا توقع كيف نشأ جيل
من الجهلة محدودي العقول في الجيش المصري عبر تلك الحكاية التي يرويها نورفيل دي
أتكين، العقيد المتقاعد في الجيش الأمريكي، والذي قضى فترة في تدريب الجيش المصري
ضمن برامج التعاون العسكري بين البلدين، يقول:
"في كل المجتمعات، تكون
المعلومات وسيلة لكسب العيش أو امتلاك القوة، لكن العرب يدخرون المعلومات ويحتفظون
بها بإحكام خاص. وغالبا ما يفاجأ المدربون الأميركيون على مر السنين بحقيقة أن المعلومات
التي يقدمونها إلى المسئولين الكبار لا تتخطاهم. فبعد أن يتعلم أي فني عربي تنفيذ بعض
الإجراءات المعقدة، فهو يعرف أنه الآن لا يقدر بثمن طالما أنه هو الوحيد في وحدته الذي
يمتلك تلك المعرفة؛ وبمجرد أن يوزعها على الآخرين، لن يعد هو مركز المعلومة الوحيد،
مما يبدد سلطته. وهذا ما يفسر اعتياد اكتناز الكتيبات والكتب والنشرات التدريبية، وغيرها
من أدبيات التدريب أو الخدمات اللوجستية. في أحد المرات، تَسَلّم فريق تدريب متنقل
من الجيش الأمريكي يعمل مع القوات المدرعة المصرية بعد طول انتظار آخر كتيبات التشغيل
التي ترجمت إلى اللغة العربية بمشقة. أخذ المدربون الأمريكيون الكتيبات حديثة الطباعة
مباشرة إلى ساحة الدبابات وقاموا بتوزيعها على طاقم جنود الدبابات. لحق بهم مباشرة
قائد السرية- وهو خريج مدرسة المدرعات في فورت نوكس كما تلقى دورات متخصصة في مدرسة
ذخائر ابردين- ليجمع الكتبيات من طواقم. وعندما سئل عن سبب أخذه للكتبيات، قال القائد أنه لا فائدة من إعطائها للسائقين
لأن المجندين لا يستطيعون القراءة. لكنه في الواقع لم يُرِد أن يجد المجندين مصدرًا
مستقلًا للمعرفة. فكونه الشخص الوحيد الذي يمكنه شرح وسيلة إطلاق النيران أو تصويب
أسلحة المدفعية يجلب الهيبة والاهتمام. ومن الناحية العسكرية، هذا يعني أن القليل جدًا
من التدريبات التي تتلاقها تلك القوات تنتقل إلى غيرهم، فمثلًا بالنسبة لطاقم الدبابات،
قد يكون جنود المدفعية، والحمالون، والسائقون بارعون في وظائفهم ولكنهم ليسوا على استعداد
للقيام بدور آخر في حال وقوع الإصابات. ويقيد عدم فهم وظائف بعضهم البعض قيامهم بالعمل
بسلاسة. كما يعني الأمر على مستوى أعلى عدم وجود عمق في البراعة التقنية"[4].
وهذه الرواية تفسر لنا من
جهة أخرى كيف يستطيع أولئك "الخبراء الاستراتيجيون" من العسكريين
المتقاعدين أن يتحدثوا في الإعلام وكلهم ثقة وافتخار بما هو مثير للسخرية
والكوميديا، يبدو أنهم تعودوا السيطرة بهذه المعلومات على طبقات من الجهلة
المحرومين من القراءة والاطلاع، حتى طال عليهم الأمد، فصدقوا أنهم خبراء وظنوا أنه
يمكنهم مخاطبة سائر الناس بهذه الخرافات والتخريفات التي يلوكونها.
وهي تفسر أيضا كيف يستطيع
أمثال عكاشة وأحمد موسى أن يكونوا مراجع فكرية لهذه الطبقة من العسكريين، وأن يكون
كلامهم –بكل ما فيه من مضحكات وتناقضات- هو المصدر الثقافي المُكَوِّن لعقول ونفوس
هذه الفئة.
وكنت ذات مرة مع واحد من
أشهر الباحثين في شؤون العلاقات المدنية العسكرية، وطرح وجهة نظر في الملف المصري
تقول بالحوار والتفاوض مع قادة الجيش، فسألته: أنت تتابع مستوى العقليات التي
تتحدث في الجيش من محافظين و"خبراء استراتيجيين" وغيرهم، برأيك: هل يمكن
إقامة حوار أو تفاوض مع شخصيات بهذا المستوى من الفهم؟ فابتسم وسكت!
ويالها من مأساة ومن
مأزق!
[2] مصطفى
السباعي، الاستشراق والمستشرقون: ما لهم وما عليهم، (بيروت: المكتب
الإسلامي ودار الوراق، بدون تاريخ)، ص66.
[4] نورفيل دي
أتكين، لماذا يخسر العرب الحروب، ورقة بحثية بتاريخ (1 ديسمبر 1999م) على موقع راقب، ويمكن مطالعة الأصل الإنجليزي على موقع ميدل
إيست فورم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق