لا بد للثورة من فهم للجغرافيا السياسية والميول
الاجتماعية للمناطق المختلفة لتختار من بينها المكان الذي يكون نواة بذرتها ومقر
تخطيطها وكتلة حاضنتها الشعبية.. وهذا درس الثورة العباسية في هذا الموضوع.
ذكرنا في المقال الماضي كيف وصلت زعامة تنظيم سري علوي إلى محمد بن علي العباسي الذي نقله من مجرد
دعوة إلى تنظيم حركي فعال، والنقطة الأهم التي تغيرت في هذا التنظيم السري أنها سارت
بمحبي آل البيت وأنصارهم، بجانب كبير منهم، نحو العباسيين الذين لم يكونوا في هذا الوقت
مصدر قلق بالنسبة إلى الأمويين كأبناء عمومتهم العلويين، فتأسَّست للعباسيين –بوصية
أبي هاشم- شرعيةٌ جُمِع لهم فيها كل أنصار آل البيت، الذين ما جال ببال أكثرهم أن الإمام
عباسي لا علوي، وهي الشرعية التي استمرَّت معهم حتى قامت الدولة بالفعل، وحينها سيكون
لكلِّ حادث حديث.
بداية الحركة
تسلَّم محمد بن علي العباسي أمر أتباع أبي هاشم عبد الله
بن محمد بن الحنفية، وكانت حلقة الوصل بينه وبينهم سلمة بن بجير، وكان أغلبهم من بني
مسيلة؛ وهم قوم يُقيمون بالكوفة، وهؤلاء هم الذين سيُؤَسِّسون الدعامات الأولى والرئيسية
للدعوة العباسية؛ فمنهم: بكير بن ماهان، وأبو سلمة الخلال، وميسرة الرحال، وأبو موسى
السراج، وأبو عكرمة زياد بن درهم. إلَّا أنَّ عدد الكوفيين ظلَّ في الدعوة قليلًا لا
يبلغ الثلاثين؛ لأن محمدًا العباسي كان حَذِرًا من الكوفيين، وأغلب الظن لما لهم
من تاريخ في إفشال الثورات العلوية بقلة ثباتهم وسرعة انفضاضهم، وقد ورد عنه قوله لأتباعه:
"ولا تُكْثِروا من أهل الكوفة، ولا تقبلوا منهم إلَّا أهل النيات الصحيحة"[1].
لكنَّ سلمة بن بجير لم يَطُلْ به العمر؛ فما إن خرج من عند
محمد بن علي حتى مرض ومات في الطريق، وكأنما لم يتحمَّل الحياة بغير شيخه أبي هاشم،
فما استطاع أن يرى الكوفة خالية منه، فكان القائم على الدعوة في الكوفة بعده أبو رباح
ميسرة النبال، الذي صار بهذا أول كبير للدعاة في الكوفة، وثاني كبير للدعاة -بعد ابن
بجير- العباسيين، لكنَّ أبا رباح لم يُكمل هو الآخر شهورًا معدودة حتى تُوُفِّيَ قبل
انقضاء عام 100 هـ، وأوصى من بعده لسالم بن بجير، الذي سارع بالإرسال إلى محمد بن علي
بما حدث من موت ابن بجير وأبي رباح مع بكير بن ماهان[2].
بكير بن ماهان
لم يكن رجلًا عاديًّا .. بل هو عمليًّا المؤسس الحقيقي للدعوة
العباسية في العراق وخراسان، وبه دخلت الدعوة العباسية منعطفًا جديدًا؛ وذلك على مستوى
الرؤية والتخطيط، وليس التنفيذ فحسب.
تعرف على دعوة بني العباس سنة (105هـ)[3]، والأرجح أنه تعرف عليها قبل هذا الوقت، وكان مولى لبني
مسيلة؛ غير أنه كان بمنزلة أولادهم الذين من أصلابهم؛ فهو شخصية محبوبة طيبة الأخلاق
والصفات، وما كان له أن يكون من مؤسسي الدعوة لو لم يكن كذلك؛ إضافة إلى امتلاكه مهارة
الدعوة والتنظيم والاستيعاب، وكان إضافة إلى ذلك ذكيًّا ألمعيًّا ذا شخصية قوية مع
نظرة فاحصة يعلم بها طبائع الناس، لا سيما وأنه كان من الجنود الذين شاركوا في الفتوحات،
وغزا مع يزيد بن المهلب بن أبي صفرة في خراسان ودخل معه جرجان، وكان من أصحاب التجارب،
وسافر كثيرًا من البلاد[4].
استعدَّ بكير بن ماهان للسفر بالرسالة إلى محمد بن علي، وقبل
أن ينطلق إليه جاءه خبر بوفاة أخيه في السند، فأعفاه سالم بن بجير من مهمَّة الرسالة؛
لكي يُدرك أمر أخيه وميراثه منه، لكن بكيرًا رفض وفَضَّل الآخرة على الدنيا، وترك الميراث
الكبير لحساب المهمَّة الدعوية، وانطلق إلى دمشق، فاشترى عطورًا، ولبس ثياب العطارين،
واصطنع أنه تاجر يجوب البلاد؛ حتى وصل بعد بعض الاحتياطات والاحترازات إلى محمد بن
علي بالرسالة، ولقد حزن محمد حزنًا شديدًا لموت ابن بجير، كما تأسَّف لموت أبي رباح؛
لكنه اطمأن لوضع الدعوة في الكوفة. وكان أول ما نصح به بكيرُ بن ماهان محمدَ بن علي
أن يتخذ منزلًا بعيدًا عن إخوته (وهم أكثر من عشرين)؛ حتى لا ينتبه أحد منهم أو من
جيرانه إلى مَنْ يقدم عليه ويذهب من عنده؛ فيفشو سرُّ الدعوة، فاتخذ محمد منزلًا أبعد
عن الناس، كما نصحه بأن يجعل واحدًا من أهله في حكم «السكرتير» أو مدير الأعمال؛ حتى
يكون الاجتماع بينهما طبيعيًا وغير لافت للأنظار، كما أن هذا يقلل لقاء الأتباع بالإمام
محمد نفسه، فيظلّ بعيدًا عن الشبهات ما أمكن، فاختار محمدٌ فضالة بن معاذ مولاه لهذه
المهمَّة، ثم نصح بكيرٌ محمدًا بأن يجعل أساس دعوته في خراسان لأنه -وهو الذي جال في
البلاد- قد رأى بنفسه حبَّ هؤلاء القوم لآل البيت، واستغرابهم أن العرب لم يصرفوا الأمر
لآل بيت نبيهم بعد موته[5]، وأنهم على أتمِّ استعداد أن ينصروا هذا الحق الضائع، وأن
يُعيدوه إلى أهله، فقال محمد: إن خراسان هي أساس هذه الدعوة[6].
وبهذا انتهت المهمَّة العاجلة لبكير بن ماهان فعاد إلى الكوفة،
وصارت الرسائل بينهم وبين محمد بن علي تكتب إلى فضالة بن معاذ، وانطلق إلى السند ليأتي
بميراث أخيه، وليُؤَسِّس لأمر الدعوة في خراسان.
لماذا خراسان؟
كان محمد بن علي العباسي بصيرًا بالحال في عصره، فعندما قرَّر
أن يجعل خراسان مركز دعوته شرح لأتباعه أسباب هذا القرار؛ قائلًا:
«أمَّا الكوفة وسوادهم فهناك شيعة عليّ بن أبي طالب. وأمَّا
البصرة فعثمانية تدين بالكفِّ وتقول كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل.
وأمَّا الجزيرة فحرورية مارقة، وأعراب كأعلاج، ومسلمون في أخلاق النصارى. وأمَّا أهل
الشام فليس يعرفون إلَّا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان، عداوة لنا راسخة وجهلًا متراكمًا.
وأمَّا أهل مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر، ولكن عليكم بخراسان؛ فإن هناك
العدد الكثير والجلد الظاهر، وصدورًا سليمة، وقلوبًا فارغة، لم تتقسمهم الأهواء، ولم
تتوزَّعهم النِّحَل، ولم تشغلهم ديانة، ولم يتقدَّم فيهم فساد، وليست لهم اليوم همم
العرب ولا فيهم؛ كتحازب الأتباع بالسادات، وكتحالف القبائل وعصبيَّة العشائر، ولم يزالوا
يذلون ويمتهنون، ويظلمون ويكظمون، ويتمنّون الفرج ويؤمّلون «الدول»، وهم جند لهم أجسام
وأبدان، ومناكب وكواهل وهامات، ولحىً وشوارب، وأصوات هائلة، ولغات فخمة، تخرج من أفواه
منكرة، وبعدُ فكأني أتفأّل إلى المشرق وإلى مطلع سراج الدنيا ومصباح الخلق[7].
وهذه المقولة فوق أنها بيان لبصيرة محمد بن علي، ومعرفته
بالبلاد، تكشف لنا أحوال هذه الحواضر الإسلامية:
·
فأمَّا الكوفة فهي علوية؛ ترى أن الحق في الخلافة لعلي وأبنائه من بعده، فلن
تصلح للعباسيين.
·
وأمَّا البصرة فقومها ليسوا أهل فتن؛ بل هم أهل زهد وتصوف وتقشُّف، شعارهم:
كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل.
·
وأما الجزيرة (أي: الجزيرة الفراتية) فتسودها أفكار الخوارج، وهم لا يرون أن
الخلافة من حقِّ أحد بعينه لا من آل البيت ولا من خارجه.
·
وأما الشام فهو عصبة الأمويين وأهل الشام تعلَّقُوا بهم منذ كان معاوية واليًا
عليهم أيام عمر بن الخطاب، وخاضوا معه الحروب الداخلية والخارجية، ولا يُفَضِّلُون
على الأمويين أحدًا.
·
وأمَّا مكة والمدينة فأهلها ممن حَكَمَهم أبو بكر وعمر أرشد حكم؛ فهم يرون الأمر
في قريش عامة ولا يضعونها في أحد بعينه من آل البيت.
·
وأمَّا خراسان فقد اجتمع فيها العديد من المزايا، ففيها المقاتلون العرب أو
كما يقال - «جمجمة العرب وفرسانها»[8]- الأشداء، مع كثرة عددهم، وامتلاكهم الصبر والجلد والقوة،
ثم إن خراسان لم تنتشر فيها فكرة أو دعوة أو ملة لا تناسب العباسيين، وهكذا يمكن الدخول
إلى قلوب الخراسانيين عبر دعوة آل البيت ومحبتهم، وهي واجب على كل مسلم، كما أن خراسان
قد انخفضت فيها عصبيات العرب القديمة بين القبائل، وصار من الممكن تجميعهم خلف فكرة
دون الخشية من تكتل القبليات العربية الذي كان قديمًا، ثم إنهم ممن وقعت بهم المظالم،
التي تجعلهم غاضبين متذمرين، يأملون تغير الحال وتقلب الدول.
إنها كلمات من عيون الحِكَم السياسية المثيرة للإعجاب بنفسها
وقائلها.
إضافة إلى أن خراسان في مشرق الدولة الإسلامية؛ ومن ثَمَّ
فهي أبعد عن يد سلطة الدولة الأموية، وكانت العلاقة بين محمد بن علي وأهل خراسان قد
بدأت قديمًا في حلقة أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، التي كان يرتادها بعض من
الخراسانيين، ولما سألوه ممن يأخذون العلم إن مات هو؟ قال: لا أعلم أحدًا أعلم من محمد
بن علي ولا خيرًا منه، ثم صاروا يأخذون العلم منه[9].
وهكذا قررت الدعوة العباسية أن تنطلق من خراسان.
نشر في ساسة بوست
[5] وهذه هي التقاليد
الفارسية التي شَكَّلت ثقافتهم، وما كان لهم أن يستوعبوا أن الإسلام يجعل الزعامة بالشورى
لا بالنسب في ظلِّ العديد من الحركات الشيعية، التي تؤصل لمبدأ حق آل البيت بالخلافة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق