** هذا نص كلمتي التي ألقيتها في مؤتمر
"آثر محاولة الانقلاب في تركيا على العالم الإسلامي" والذي عقدته بلدية
كوتاهية، واحتضنته جامعة Dumlupinar
(1) مصائر تركيا بين انقلابين
لئن ضعفت الدولة
العثمانية في أواخر أيامها، وفقدت بعض أراضيها، إلا أنها ظلت قوة قائمة في الساحة
العالمية، لكنها خرجت من ساحة القوى العالمية وبدأت مسار الانهيار الكبير منذ
الانقلاب العسكري على السلطان عبد الحميد الثاني (1909م).
منذ تلك اللحظة انتصرت
الإرادة الغربية على الإرادة الإسلامية في قلب عاصمة الخلافة الإسلامية، وبدأ حكم
الاتحاد والترقي الذي افتتح عهده بالتخلي عن ليبيا بمجرد أن نزلها الإيطاليون في
إعلان صريح أن الدولة العثمانية لا تهتم بهذا الإقليم، ثم نزل الاتحاديون بثقلهم
في الحرب العالمية الأولى مما استنزف المجهود العثماني حيث تحملت الدولة العثمانية
العبء الأكبر في تلك الحرب، ثم هُزِمت مع حلفائها وبدأت تفقد البقية الباقية من
أراضيها وصارت تُعقد الاتفاقيات لتقسيم تركتها.
ثم جاء الحكم الجمهوري
الذي انتزع نفسه من الجسد الإسلامي الكبير، واكتفى بأن يحكم المساحة الجغرافية
الحالية لتركيا، وألغيت الخلافة الإسلامية، واتخذت إجراءات شرسة لمطاردة الإسلام،
فانتهت الدولة العثمانية العظيمة إلى قطعة جغرافية صغيرة من الأرض منعزلة على
نفسها تقطع صلاتها مع المسلمين في الشرق الأوسط والبلقان وآسيا الوسطى، وتنفض يدها
من كل علاقة مع إفريقيا والهند وشرق آسيا.
يمكن اختصار هذا القرن
الفائت كله في أنه صراع بين الإرادتين: الإرادة الغربية والإرادة الإسلامية في
تركيا، فمنذ أتيحت الفرصة للشعب التركي ليعبر عن نفسه وهو يختار مملثي الإرادة
الإسلامية، وما إن يبدأ هؤلاء في العمل الجاد حتى تتحرك الإرادة الغربية لتدبر
انقلابا عسكريا يعيد تركيا من جديد إلى الإرادة الغربية، وهكذا وقع في تركيا أربعة
انقلابات في نصف قرن، حتى عرفت بأنها بلد انقلاب كل عشر سنوات.
الآن فشل الانقلاب
العسكري في تركيا، وكُسِرت تلك السلسلة العنيدة التي طالما كبلتها، وانتصرت لأول
مرة منذ مائة عام إرادة الشعب التركي الإسلامية على إرادة العسكر العلمانيين،
ولهذا فإن العالم الإسلامي يعيش استبشارا كبيرا أن يكون هذا الانقلاب الفاشل هو
التصحيح التاريخ للانقلاب العسكري على السلطان عبد الحميد الثاني، لتبدأ دورة عودة
تركيا كقوة عظمى إسلامية، ويكون جيشها بالفعل هو جيش محمد الذي طالما كان مضرب
المثل في القوة والبسالة والعظمة الإسلامية.
إن أخبار الانقلاب في
تركيا تابعها كل العالم، لأن الجميع يعرف أن مصير هذا الانقلاب فارق في مسيرة
النظام العالمي كله.
(2) آمال الشعوب الإسلامية
أطلق انتصار الشعب التركي
على محاولة الانقلاب العسكري دفقة أمل كبرى لدى الشعوب الإسلامية، لقد رأوا
بأعينهم كيف أن الانقلاب العسكري أمر يمكن إفشاله وهزيمته، ولهذا صار كل قوم
يفكرون في مصيرهم، فإن كانوا يعانون من انقلاب في بلدانهم (كما في مصر واليمن
وليبيا إلى حد ما) صاروا يسألون أنفسهم: لماذا نجح الانقلاب عندنا وفشل في تركيا؟
وصاروا يناقشون الأمر يحاولون أخذ العبرة والعظة والاستفادة في معركتهم القائمة ضد
الانقلاب في بلدهم. وإن كانوا يعانون من استبداد عسكري علماني صاروا يناقشون
التجربة التركية في كيفية القضاء على الدولة العميقة وتحقيق انتصار شعبي.
وهكذا بات المسلمون في
مساء الجمعة هذا والقلق يقتلهم إذ يتابعون أخبار الانقلاب العسكري، ثم أصبحوا
والاسئلة تثور في أنفسهم: كيف يمكن الاستفادة من التجربة التركية. إن هذا الأمل
وحده مكسب عظيم في معركة تحرر الأمة الإسلامية، وأول من يشعر به ويقدره هم
المكافحون في معركة التحرير.
إن نجاح الانقلاب العسكري
في تركيا كان يعني انهيار آخر قلعة إسلامية في هذا العالم، لا يُتصوَّر حجم اليأس
والإحباط الذي كان سيخيم على كل المسلمين بل وعلى كل أحرار العالم إن نجح هذا
الانقلاب، كان المشهد سيبدو قاتما مظلما: مشهد انتصار الشر في كل بقعة على سطح هذا
الكوكب! مشهد ألم لا أمل فيه، وظلام لا شعلة فيه، وإن مجرد النجاة من هذا الإعصار
من اليأس لنعمة كبرى نشكر الله عليها.
(3) ردود فعل الأنظمة
العربية
وعلى قدر ما فرح المسلمون
بفشل الانقلاب التركي على قدر ما نُكب حكامهم، أولئك الذين يحاربون كل تجربة
ناجحة، وكل ثورة باسلة، وكل أمل في المستقبل.. يريدون أن يسود نموذجهم لكي لا تفكر
الشعوب في ثورة، أو في تقدم، لا يريدون للناس أن يأملوا في وضع أفضل مما هم فيه،
لا يحبون أن ترى الشعوب نموذجا ملهما!.. لكل هذا فإن الأنظمة المستبدة –العميلة
للغرب- شاركت بالتخطيط أو التمويل أو حتى بوسائل الإعلام في تشويه التجربة التركية
ودعم الانقلاب العسكري.
كذلك فإن المعارضة
العلمانية في البلاد العربية تمنت نجاح الانقلاب التركي، رغم أنه يفترض بهم أن
يقفوا ضده، فتجربة تركيا هي نموذج واضح لتجربة متقدمة راقية، إلا أن العلمانية
عندهم هي العداء للإسلام، وأهون عندهم أن يتولى السلطة علمانيون مهما كان فسادهم
ويعيش الشعب في الجحيم من أن يتولى السلطة من يوصفون بالإسلاميين وإن حققوا لشعبهم
التقدم والرخاء.. نار العلمانية أحب إليهم من جنة الإسلام.
وفي كل الأحوال فالمتوقع
الآن هو الاستمرار في تشويه التجربة التركية وزعيمها رجب طيب أردوغان، ومضاعفة
الحرب الإعلامية عليها، وستنتقل الأنظمة العربية إلى مراحل أخرى جديدة، منها:
أ. دعم واحتضان جماعة
جولن، التي ستجد أمامها مساحة
واسعة من الدعم المالي والإعلامي وفتح المقرات وإنشاء المدارس والهيئات التابعة
لها في البلاد العربية المناهضة للتجربة التركية، وأبرزها: الإمارات ومصر، وستحاول
تلك الدول استمرار الوجه الإسلامي لهذه الجماعة في احتواء الجماعات الإسلامية
الشبيهة والرموز الدينية الشبيهة أيضا، والمستهدف من هذا هو غسل سمعة هذه الجماعة
وتحسين صورتها لدى الشعوب العربية مقابل استعمالها في التمكين لهذه الأنظمة
العربية وتطويع الشعوب لها، واستمرار تشويه التجربة التركية وقادتها. ولذا ستجدون
في الأيام القادمة وسائل إعلام تفتح شاشاتها وصحفها لفتح الله جولن وكبار أتباعه،
كما ستجدون عددا من الهيئات التابعة لتلك الجماعة تنمو في البلاد العربية جهرا أو
سرا.
ب. دعم المتمردين من
الأحزاب العسكرية الانفصالية في تركيا، وذلك من خلال تقديم الأموال والخبرات
العسكرية والتسهيلات الاستخبارية، إذ حيث لم ينجح الانقلاب العسكري في الاستيلاء
على السلطة فليكن البديل هو الاستمرار في زعزعة أمن واستقرار البلاد لمناكفة هذه
السلطة وإشغالها بنفسها وحصار تمددها إلى المنطقة العربية والإسلامية لتظل التجربة
التركية مهددة بعدم الاستقرار فينعكس هذا بالسلب عليها في أنظار الشعوب العربية
والإسلامية. ستجدون زيادة في دعم هذه الأحزاب المتمردة وستجدون ارتفاعا في سقف
مطالبهم، وازديادا في قوة ووتيرة العمليات المسلحة، والهدف: إضعاف تركيا إن لم يكن
تقسيمها من جديد مما يساهم في كسر قوتها المتنامية.
جـ. تمويل العمليات
التفجيرية والتخطيط لها، وتسهيل تنفيذها، ثم نسبتها إلى أي جماعة مسلحة
إسلامية أو كردية أو حتى يسارية، إذ أن اختراق هذه الجماعات مما احترفته أجهزة
الاستخبارات العربية، والهدف من هذا أن تزيد معدلات إنهاك النظام التركي واستنزاف
قوته حتى يُفرض الاستسلام على السياسة التركية لتعود من جديد إلى بيت الطاعة
الأمريكي!
إن تركيا تحظى بانحياز
الشعوب وتعاطفها الهائل، وهي في الوقت نفسه تحظى بعداء الأنظمة الحاكمة، وصحيحٌ أن
تعاطف الشعوب لن يغني عنها كثيرا في مجال المؤامرات الخطيرة، إلا أن تركيا تستطيع
أن تستثمر هذه العاطفة وتحولها إلى عمل حقيقي فعال. إن في تركيا الآن ملايين العرب
والمسلمين اللاجئين إليها أو الذين فضلوا أن يعيشوا فيها على سائر البلاد في
العالم، ولقد كان أولئك ضمن الذين نزلوا لمواجهة الانقلاب بأنفسهم ومنهم من استشهد
ومنهم من أصيب. تستطيع تركيا أن تحول عاطفة هؤلاء إلى أثر حقيقي من خلال أعمال
ومنظمات وهيئات تستفيد من هذه الطاقة الهادرة في المشروع التركي الكبير.
(4) وقفة مع الديمقراطية
تبدو الديمقراطية في
عالمنا الآن كصنم لا ينفع ولا يضر، من جاء بالديمقراطية تزيحه الدبابات، ومن جاء بالدبابات
لم يؤثر فيه التوسل بالديمقراطية؟
لقد كشف الانقلاب التركي
عن أن كهنة الديمقراطية يمكنهم أن يعطوا الدروس في موضوع آخر تماما وهو "كيف
تصنع انقلابا ناجحا على الديمقراطية"، فحتى فرنسا نسيت حادثة نيس التي تعرضت لها
قبل الانقلاب في تركيا بساعات، ودخلت على خط مطالبة أردوغان باحترام القانون والقضاء
وتوفير حقوق الانقلابيين! فانضمت بهذا إلى المعزوفة الغربية، هذه المعزوفة تثبت أن
انتصار أردوغان في تركيا لم يكن انتصارا على حفنة من العسكريين، بل هو انتصار على العواصم
الغربية التي تعاملت تماما وكأنها مهزومة تفتش في وسائل تحجيم المنتصر والتضييق عليه
وإهدار مكاسبه!
لقد تابعتم جميعا
التعليقات الأولى على الانقلاب وكيف كانت ترحب به، لكن المثير للانتباه هنا هو
توجه وسائل الإعلام الغربية التي طفقت تسأل خبراءها الأمنيين والعسكريين سؤالا واحد:
لماذا فشل الانقلاب في تركيا؟! والخبراء من جهتهم لم يقصروا في الإجابة، وكشفوا عن
أمور "كان من المفترض" أن يقوم بها الانقلابيون كي ينجح انقلابهم! هل
رأيتم كيف استطاع فلاسفة الديمقراطية أن يدرسوا مادة "كيف تصنع انقلابا ناجحا
على الديمقراطية"؟!
نحن لو نظرنا في تاريخ
الديمقراطية لوجدنا أن الغرب لم يحاول زرع الديمقراطية في بلادنا إلا لإضعاف
البلاد الإسلامية بتغيير نظامها الاجتماعي والثقافي والحقوقي ودعم التمردات
الانفصالية عن جسد الدولة العثمانية وإعطاء الأقليات الدينية والعرقية نفوذا أوسع بما
يزيد من إضعاف السلطنة العثمانية ومن طموحات حركات الانفصال عنها وتقييد سلطة
الخلافة لصالح رجالهم في مؤسسات الجيش والإدارة الحكومية.. بينما في مصر مثلا ركل
الغرب الديمقراطية وألغى البرلمان كله ليثبت احتلاله، وظل البرلمان معطلا لعشرين
سنة لم يهتم أحد فيها بالسؤال عن واجب الديمقراطية وحق الشعب المصري!
ولم تزل هذه سُنة الغرب معنا.
فالغرب هو الذي يدعم ويرعى بقاء الأنظمة المستبدة، ثم يُحاسبنا على أننا دول مستبدة
ومتخلفة ولا ينضج فيها النظام الديمقراطي، ويأتي فلاسفته – وعملاؤه في الداخل -ليعطونا
دروسا في الديمقراطية والنظم الحديثة، رغم أنهم نتاج هذه السلطات المستبدة التي فتحت
لهم الصحف والجامعات ومراكز الأبحاث وقنوات التلفاز، وهم أنفسهم لم يدعموا أبدا أي
حراك ديمقراطي ولم يُضبطوا متلبسين بالهجوم على المستبدين، وهم أنفسهم عند أي لحظة
فارقة يصطفون إلى جوار الاستبداد ضد رغبة الشعوب.
هل تحتاج بلادنا إلى التحرر
أم الديمقراطية؟ أو لنطرح السؤال بشكل آخر: هل يستطيع الحصول على الديمقراطية ضعيف؟!
إن بعض الأنظمة تبخل على شعوبها
بمجرد برلمان منتخب حتى هذه اللحظة، والأنظمة التي "تفضلت" على شعوبها ببرلمان
إما أعطتهم برلمانا منزوع الصلاحيات أو برلمانا تصنعه هي بالتزوير، أي أن النظام في
النهاية يزين نفسه ولا يفكر أبدا في أن يكون خادما للناس ومعبرا عنهم!
ولقد حاولت الحركات السياسية
سلوك ما هو متاح فوجدت الطرق أمامها مغلقة، البرلمان مزور أو منزوع الصلاحيات أو يحل
في العام مرتين حتى يرضى عنه الأمير أو الملك، الصحافة حكر على المنافقين، القضاء يعمل
في خدمة السلطة، وحتى الثورات الشعبية التي تنفجر تٌقابل بحميم النيران كما هو في سوريا
وليبيا أو بالانقلابات العسكرية كما هو في مصر. فإذا تسلل رئيس في ظروف استثنائية كمصدق
في إيران ومرسي في مصر ومندريس وأربكان وأردوغان في تركيا، حوصروا بالضغوط من كل جهة
ثم دُبرت عمليات الإطاحة بهم من السفارات الأجنبية. فكيف تأتي الديمقراطية؟ ومن ذا
الذي يأتينا بها؟!
لم يفلت من كل هذا سوى نموذجان:
حماس في غزة وأردوغان في تركيا، ولولا أن لكليهما قوة مسلحة داخلية تدين بالولاء لهما
ما أغنت عنهما الديمقراطية ولا أصوات الناس شيئا، ولكانا قد كررا مصائر مصدق ومندريس
ومرسي.
الواقع أننا نحتاج للتحرر
لكي نستطيع – إن أردنا -حماية الديمقراطية، ديمقراطيتنا التي تُعبر عنا ولا تخالف ديننا
ولا قيمنا، أو إن أردنا صنعنا نموذجا آخر، فنحن أحرار ولنا حضارة زاهرة ونستطيع أن
نبتكر من النماذج ما هو خير وأحسن لنا وللعالمين. ولا يكون ذلك إلا إن تحررنا حقاً
وامتلكنا قرارنا. ودون ذلك حروب ودماء وأهوال، وتلك هي سُنة الدول عبر التاريخ، بما
فيها تلك الدول التي تقهرنا الآن: لم تصل منها دولة إلى هذا المكان إلا بعدما حاربت
وكافحت وتحررت.
هكذا قال شوقي:
فَقُلْ لِبانٍ
بقولٍ ركن مملكة ... على الكتائب يُبْنى الملك لا الكتب
(5) ماذا نتعلم من تجربة
الانقلاب في تركيا
الحقيقة أن ما حدث في
تركيا حافل بالدروس، لكني هنا أختار أهمها وأبرزها كي لا يطول الكلام. وأنا هنا في
موقع الناصح الأمين لإخواني المسلمين عموما والأتراك خصوصا، وهي شهادة ممن شهد
انقلابين في ثلاث سنوات: مصر وتركيا، واقترب من الساحة السياسية المصرية اقترابا يمكنه
من رصد الفوارق. في شهادتي هذه كلام ربما لا يعجب البعض من الأتراك أو من بقية
الحضور، ولكن ديننا يعلمنا أن نشهد لله ونقول بالحق لا نخشى لومة لائم.
أ. القيادة رأس الثورة:
إن لحظة ظهور أردوغان حيا طليقا هي لحظة إعلان أن الانقلاب لم ينجح (بعد)، فهي لحظة
بداية المعركة، وكانت لحظة نجاح الانقلاب هي اللحظة التي سيظهر فيها أسيرا أو قتيلا،
كما أن لحظة الإجهاز التام على الإنقلاب هي لحظة إظهارهم قادة الانقلاب مقيدين يُساقون
إلى الاعتقال! لحظة ظهور أردوغان حرا طليقا هي اللحظة التي تبعتها
كل المواقف السياسية أو الميدانية، ورغم أن بن علي يلدرم ظهر قبله في اتصال هاتفي إلا
أن ظهوره لم يكن ذا قيمة مؤثرة، فالحق أن الشعوب تسمع للزعماء لا لمجرد من يتولون المناصب
العليا. من بعد لحظة ظهور أردوغان ظهرت بيانات الآخرين بما
فيهم المعارضة السياسية (هذه المعارضة ظلت طوال سنين وحتى أشهر ماضية تلمح للجيش بالتدخل!)،
وهي تلك اللحظة التي ألقت الخوف في قلوب بعض الانقلابيين فتراجعوا فازداد الأمر ارتباكا
وتدهورا.
ب. قرار المواجهة:
لو ظهر أردوغان لمجرد أن يشرح أو يقترح حلا أو يدعو لوساطة أو يعلن موافقته على اقتراح
لما حصَّل شيئا شعبيا كبيرا، لكن ظهوره كان قصيرا وواضحا وحازما: الدبابات التي في
الشوارع لا تتبع الشعب، يجب تحرير المطارات، هذه محاولة انقلابية وكل المشاركين فيها
سيدفعون الثمن، على الشعب النزول إلى الشوارع والميادين وتحرير مطار أتاتورك.. هذه
العبارات القصيرة (والتي لم تخل من عبارات عاطفية كالحديث عن محاولة قتله وقصف مكانه)
هي التي نقلت الشعب من موقع المشاهد المشلول الذي لا يدري ماذا يحدث إلى موقع الفاعل
المتحرك المبادر المهاجم. قبل هذا التوضيح لزم الناس بيوتهم يترقبون ويتخوفون، ولا
يدرون هل هذه الدبابات التي في الشارع انقلاب أم هي تابعة للرئاسة لإجهاض الانقلاب،
وإن كانت هذا أو ذاك فماذا يكون دورهم الآن. قرار المواجهة هذا حرك الناس
والطاقات جميعا، رسائل تصل من وازرة الاتصال إلى هواتف المواطنين تدعوهم للنزول، وزارة
الأوقاف عممت على المؤذنين والأئمة فتح المساجد وإعلان التكبيرات، بلديات حركت سيارات
المطافئ والنظافة تحركت لتحاصر ثكنات عسكرية أو لتقطع طرق إمدادات عسكرية أو لتقتحم
مدارج طائرات في قواعد جوية [وكل هذا صنع شللا في حركة الانقلابيين] وأناس يحاصرون
الدبابات أو يغلقون الطرق بسياراتهم وأنفسهم أمامها أو أمام أي حركة من قاعدة عسكرية. هذا كله وغيره
ما كان ليحدث لولا أن الناس وصل إليهم قرار المواجهة، فصار كلهم يبدع بما استطاع!
جـ. درس القوة التي
تحمي الحق: لم يكن ممكنا حماية أردوغان ولا إنقاذه (وإنقاذ البلاد كلها من ورائه)
لولا أولئك الذين اصطنعهم وكسب ولاءهم من المسلحين، مهما كان عدد الشعب في الشوارع
والميادين فإنهم لا يصمدون أمام الرصاص والقذائف المنهمرة عليهم من المدرعات والدبابات
والطائرات، هؤلاء القوات الخاصة منهم من كان في مقراته يصد هجوم الانقلابيين ومنهم
من خرجوا إلى الشوارع يواجهون جنود الجيش بالرصاص والتسليح الخفيف، ومنهم سيارات كانت
تمشي في الشوارع تدعو الناس إلى النزول وتعدهم بإمدادهم بالأسلحة. عند لحظة المواجهة
المسلحة يكون المشهد قد اعتدل واتزن، صارت القوة أمام قوة، فكيف بقوة تحرص على المواجهة
يقودها زعيم ما زال يسير الأمور ويتكرر ظهوره مقابل قوة قد ساد الارتباك صفوفها ووجدت
نفسها أمام وضع لم تكن تتوقعه ميدانيا وسياسيا؟! وقد صدر فيما بعد تصريح يقول بالتفكير في صدور قانون
بتسليح الشعب لمواجهة مثل هذه الأوضاع فيما بعد، ولو صدر هذا القرار فسيكون تاريخ استقلال
تركيا الحقيقي. فالشعوب المسلحة هي التي لا يحكمها استبداد ولا يقهرها احتلال.
دـ. درس الحسم: إن
الانقلابات هي الوجه الآخر للثورات، وحديث الانقلابات والثورات هو في الحقيقة حديث
الحرب نفسه، حيث لا يكسب طرف إلا بمقدار ما يخسر الآخر، وأي تهاون مع العدو قد يساوي
انقلاب نتيجة الحرب كلها. وهذا ما فعلته سائر الانقلابات في الثورات الناجحة عبر التاريخ،
وهو ما فعله بنا السيسي كذلك. لقد كانت الأوامر باعتقال أردوغان أو قتله في الحال،
فتم قصف مقره ثلاث مرات واقتحمته قوة مكونة من 40 جنديا، وإطلاق النار عند أي محاولة
مقاومة من الشرطة، وقُصِف مبنى المخابرات ومقر القوات الخاصة، وكسرت الطائرات الحربية
حاجز الصوت، ومات في الليلة الأولى مئاتٌ إما بالرصاص أو بدهس الدبابات والمدرعات..
وكان لدى الكل أوامر بإطلاق النار. ولأن الجميع يعرف أنها ضربة واحدة: حياة أو موت،
فلقد كان فشل جزء بسيط من الخطة (اغتيال أردوغان) يساوي أن يفكر بعض من لم ينكشفوا
بعد في التراجع وإعادة التموضع، وهو ما أدى إلى مزيد من تدهور الخطة وفشلها.
حفظ الله تركيا وشعبها،
وجعل انتصارها هذا فاتحة انتصارات الأمة الإسلامية في المرحلة المقبلة، ونسأله
تعالى أن يحفظ شعوبنا وبلادنا وأن يخلصها من الاحتلال والاستبداد، وأن ينعم علينا
باليوم الذي نكون فيه جميعا أمة واحدة في دولة واحدة لها قوة هائلة واحدة هي القوة
العظمى التي تنشر العدل والحق في هذا العالم الزاخر بالمظالم والجرائم.
نشر في تركيا بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق