قد التزمنا في هذا المقال أن نسوق أقوال
المؤرخين الغربيين فقط ليكون ذلك أبلغ في الحجة!
قليل من العرب والأتراك من يعرفون أن
القسطنطينية فضَّلت أن تذهب إلى الأتراك على أن تخضع لسلطان الكاثوليكية في روما، وفيما
قبل هذا الفتح العظيم جرت أحد أهم المحاولات في توحيد الكنيستين تحت سلطان البابا
في روما، وأخفق الاتفاق الذي عقد قبل أربعة عشر عاما (1439م)، ويروي المؤرخ
الأمريكي ول ديورانت أنه "لما عاد الإمبراطور اليوناني وحاشيته إلى القسطنطينية
(بعد إتمام هذا الاتفاق)، قوبلوا بالإهانات والشتائم، فقد رفض رجال الدين والشعب الخضوع
إلى روما"، وما إن انتصر اتجاه الاتحاد بالقوة –في العام السابق للفتح 1452- حتى
تجنب الشعب "الاتصال بالكنيسة الكبرى؛ ولَعَن رجال الدين المعارضون للاتحاد كل
من يؤيدونه، ورفضوا أن يغفروا ذنوب كل من حضروا قراءة المرسوم، وأهابوا بالمرضى أن
يموتوا دون تناول القداس بدل أن يتناولوه من يد قس "اتحادي"، ورفض بطارقة
الإسكندرية، وإنطاكية، وبيت المقدس (قرار الاتحاد)"[1].
وساعتها "قال الرجل الثاني في الإمبراطورية البيزنطية القائد الأعلى لوكاس
نوتار: إنني أفضل أن أرى عمائم الأتراك في القسطنطينية على أن أرى قلنسوات رجال
الدين اللاتين"[2].
ويعلق المؤرخ الفرنسي فرناندو بروديل على
هذا فيقول: "الحق أن الكنيسة الأرثوذكسية –ولنا أن نقول
الحضارة البيزنطية- فضَّلَتْ على الاتحاد مع اللاتينيين الخضوعَ للأتراك، ولا سبيل
هنا إلى إلقاء الأمر على قرار متعجل اتُّخِذ عفو الساعة في مواجهة حدث معين، وإنما
لا يعدو الأمر أن يكون النتيجية النهائية والطبيعية لسباق زمني طويل من تحلل
إمبراطورية بيزنطة ذاتها، والتي رفضت الوحدة مع اللاتينيين وكانوا دون سواهم
القادرين على إنقاذها من الخضوع لبراثن الأتراك، وذلك من ناحية أخرى ما عمل على
ازدياد نفور اليونانين من التقارب مع اللاتينيين وكانت بينهم خلافات عقدية
لاهوتية. فقد كانت الوحدة ممكنة... ولكن اليونانيين كانوا يفضلون الأتراك... ويكتب
بطريرك القسطنطينية عام 1385 إلى البابا أوربان السادس يقول: إنهم [أي: الأتراك
المسلمون] على الأقل يتركون للكنيسة اليونانية كامل حرية الحركة... ويكتب بترارك –وهو
من أشهر كتاب العلوم الإنسانية في عصر النهضة ومن المؤرخين البارزين- يقول: لا شك
أن هؤلاء المنشقين [أي: أهل القسطنطينية] خافوا منا.. وكرهونا من أعماقهم"[3].
ويذكر المستشرق البريطاني المعروف توماس
أرنولد أنه "لم تكد حاضرة الإمبراطورية الشرقية القديمة (القسطنطينية) تسقط
في أيدي العثمانيين حتى توطدت العلاقات بين الحكومية الإسلامية والكنيسة المسيحية
بصفة قاطعة وعلى أساس ثابت. ومن أولى الخطوات التي اتخذها محمد الثاني بعد سقوط القسطنطينية
وإعادة إقرار النظام فيها، أن يضمن ولاء المسيحيين بأن أعلن نفسه حامي الكنيسة الإغريقية؛
فحرَّم اضطهاد المسيحيين تحريما قاطعا، ومنح البطريق الجديد مرسوما يضمن له ولأتباعه
ولمرءوسيه من الأساقفة حق التمتع بالامتيازات القديمة والموارد والهبات، التي كانوا
يتمتعون بها في العهد السابق. ولم يقتصر المسلمون في معاملة رئيس الكنيسة على ما تعود
أن يلقاه من الأباطرة المسيحيين من توقير وتعظيم، بل كان متمتعا -أيضا- بسلطة أهلية
واسعة... وكان من أثر ذلك أن الإغريق -ولو أنهم كانوا يفوقون الأتراك عددا في كل من
الولايات الأوربية التابعة للدولة العثمانية- قد جعلهم التسامح الديني الذي رخص لهم،
وما تمتعوا به من حماية لحياتهم وأموالهم، يسرعون في الموافقة على تغيير سادتهم وإيثار
سيادة السلطان على سيادة أية سلطة مسيحية، وكان الغزاة العثمانيون في بقاع كثيرة من
المملكة يلقون ترحيبا من جانب الإغريق، ويعدونهم مخلصين لهم من الحكم الظالم المستبد"[4].
وهكذا فإن احتفاظ الكنيسة –كما يقول نيقولا فاتان–
"باستقلال روحي لم يكن بوسعه إلا أن يداعب مشاعر الشعب المعادية للاتينيين،
وسوف تدار "الأمة" اليونانية وتُمَثَّل من جانب البطريرك، وسوف تُحَلُّ
الخلافات بين اليونانيين عن طريق محاكم أرثوذكسية، وأخيرا، فإن الممارسة الحرة
للعبادة سوف تكون مكفولة، وصحيح أن هذا القانون يتمشى مع الوضع العادي للطوائف
المسيحية في البلدان الإسلامية، لكن تأكيده على نطاق الدولة وتعزيز مكانة
البطريركية يشكلان حدثا هاما"[5].
ويدافع المستشرق الأمريكي الصهيوني برنارد
لويس عن صورة العثمانيين الفاتحين، رغم أنه من ألدّ أعدائهم، فيقول بأن
"الأتراك الذين دخلوا القسطنطينية فاتحين، لم يكونوا المتوحشين البدائيين كما
يصورهم بعض كتاب الغرب. بل كانوا ورثة وحاملي حضارة قديمة ورفيعة: أي حضارة
الإسلام القديمة، والتي هم أنفسهم أضافوا إليها قدرا غير يسير"، وهو حين يصف
عظمة اسطنبول لا ينسى أن يقول أن "معظم اليونانيين الذين كانوا غادروا
المدينة قبيل الفتح قد عادوا إليها إلا القليل منهم، وجاء الآخرون من جميع أنحاء
الإمبراطورية ليشاركوهم، وشكل هؤلاء جالية غنية تحت زعامة بطريركهم. وقد ازداد عدد
اليهود أيضا، والذين كانوا موجودين من قبل في العاصمة البيزنطية"[6].
ويفسر المستشرق الألماني كارل بروكلمان هذه
العودة بقوله: "عمل محمد على تنظيم أحوال اليونان (الروم) المغلوبين، للتو
والساعة. والواقع أنه أبقى على استقلال البلغار الكنسي، فِعْل أسلافه من قبله،
واعترف –وفقا للفكرة الإسلامية المعززة بالتقاليد الدينية- بجميع السلطات الدينية
اليونانية. بل إنه زادها قوة إلى قوة بأن وكل إليها أمر القضاء المدني وتطبيق
أحكامه على أتباعها... ولم يكد يُعَيِّن في البطريركية ممثلا حازما للكنيسة
الوطنية حتى رجع إلى أرض الوطن، بناء على دعوته، عدد غفير من الروم الذين نزحوا عن
ديارهم قبل الكارثة"[7].
وهو يقصد بالكارثة: الفتح! ولكنه مستشرق يرى الكارثة ولو في التسامح العظيم الذي
لم يوجد في تاريخهم مثله!!
وما إن تم الفتح حتى بدأ محمد الفاتح في
سياسته "الرامية إلى استعادة شأن اسطنبول، وقد أمر محمد الثاني بأعمال هامة:
إصلاح الحصون وبناء قلعة الأبراج السبعة (يديقولي) وقصر في وسط المدينة، وفي عام
1459 يتلقى كبار وجهاء الدولة الأمر بأن ينشئ كل منهم مجمعات علاجية وخيرية
وتجارية حول المساجد الكبرى. وعندئذ تعاود الحياة الفكرية والاقتصادية الازدهار في
المدينة"[8]،
حتى "بلغت العاصمة قمتها من
المجد"[9] في
عهد سليمان القانوني بشهادة برنارد لويس!
نشر في: تركيا بوست
[2] نيقولو باربارو: الفتح
الإسلامي للقسطنطينية، ترجمة ودراسة د. حاتم الطحاوي، عين للدراسات والبحوث،
القاهرة، الطبعة الأولى، 2002م. ص35 (مقدمة المترجم، وهو ينقل عن:
Dukas: decline decline and fall of byzantium, Trans. By,
Harry J. Magoulias (Detroit, 1975) p. 210.
[3] فرناندو
بروديل: تاريخ وقواعد الحضارات، ، ترجمة وتعليق سفير. د. حسين شريف، الهيئة المصرية
العامة للكتاب، 1999م. ص25.
[4] توماس أرنولد:
الدعوة إلى الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم حسن وآخرون، مكتبة النهضة المصرية، 1980م.
ص170 وما بعدها.
[5] نيقولا فاتان: صعود
العثمانيين، ضمن "تاريخ الدولة العثمانية" بإشراف: روبير مانتران، ترجمة
بشير السباعي، دار الفكر، القاهرة، الطبعة الأولى 1993م. 1/124.
[6] برنارد لويس:
اسطنبول.. وحضارة الخلافة الإسلامية، ترجمة وتعليق: سيد رضوان علي، الدار
السعودية، جدة، الطبعة الثانية، 1402هـ = 1982م. ص135.
[7] كارل
بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: أمين نبيه فارس ومنير البعلبكي، دار
العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1968م. ص431.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق