لما تولى الخليفة المعتصم بالله العباسي منصب الخلافة
كانت البلاد في وضع حرج، فثمة عدد من التمردات تضرب في أنحاء الدولة، أخطرها ثورة
بابك الخرمي المستفحلة في أذربيجان وما حولها والتي شكلت تحالفا خطيرا مع الروم،
وثورة الزُّط في البصرة. وهذا إلى جانب خطر الروم البيزنطيين الدائم على الحدود.
كذلك كان وضع البلاط نفسه في حرج فلقد تضعضع حال القوة العربية من بعد نكبة الأمين
على يد المأمون، ثم تضعضع حال القوة الفارسية بعد نكبة المأمون لبني سهل وانتقاله
من مرو إلى بغداد، " فكان المعتصم بحاجة إلى عنصر عسكري جديد يسند سلطانه، فالتجأ
إلى عنصر بدأ يتوارد كرقيق إلى البلاد الإسلامية قبله، كما أخذ الإسلام ينتشر في بلاده
بصورة بطيئة، وذلك هو عنصر الترك"[1]،
وقد "كانت المزية الكبرى للأتراك متمثلة في قوتهم العسكرية مع خُلُوِّهم من الأفكار
المتمردة كالشعوبية والعلوية والخارجية"[2].
وقد حقق العنصر التركي مآثر خالدة في الجهاد والمعارك،
وأطال في عمر الخلافة العباسية، وكتب صفحات من تاريخ مجيد ناضر، نستعرض في هذه
السطور شيئا منه.
***
في قرية فارسية اسمها «خرمة» بالقرب من أردبيل ظهرت الفرقة
الباطنية التي نُسبت إليها فسُمِّيَت «الخرَّمية»، في (201هـ)، وقد بدأها جاويذان بن
سهل (أو سرهك) الذي اعتنق مبادئ فارسية كالإيمان بإلهين للنور والظلمة، وتناسخ الأرواح،
وأباح النساء وزنا المحارم والخمر وما إلى ذلك[3].
وحين مات جاويذان ورث بابك دعوته، ذلك أنه كان عشيقا لزوجة
جاويذان، فرتب معها أمر إقناع أتباعه أن روح جاويذان «الإله» قد انتقلت إليه، وبدأ
ثورته (201هـ) في جبل البدين في أذربيجان، ثم ظهر في «خرّمة»[4].
زعم بابك أنه من نسل فاطمة بنت أبي مسلم الخراساني وخاطب
أحلام الفارسيين في القائد الذي سيزيل دولة العرب ويعيد دولة الفرس، ثم إنه أباح قتل
المخالفين ونهب أموالهم -وكان هذا تطورًا جديدًا في فكر المزدكية والباطنية[5]-
فكانت فرصة ممتازة للمجرمين وقطاع الطرق أن ينضموا إليه، كما كانت فرصة لكلِّ صاحب
مذهب أو نحلة أو اتجاه مناوئ للدولة الإسلامية أن يسير في ركاب بابك، ولا ريب أن ثمة
مظالم واقعة جعلت كثيرين من عموم الناس ينضوون إلى حركته أيضًا، فلقد اتَّسع أمر بابك
كثيرًا حتى كانت الوفود تأتي إلى أذربيجان تقدم ولاءها إلى بابك، وبلغت دعوته مدنا
بعيدة نسبية كأصفهان وغيرها[6].
وقد كان الصراع بين الأمين والمأمون ثم اضطراب البلاد على
المأمون بثورات العلويين ثم العباسيين السبب الرئيسي في إعطاء تلك الحركة فرصة في تطورها
واستفحالها، كما ساهم -أيضًا- في قوة بابك تحالفه مع الروم الذين ساعدهم وساعدوه في
الأخبار والاستطلاع، وكان جنود بابك إذا هُزِموا في معركة لجأوا إلى أرض الروم.
***
كان أول عمل سُجِّل للجند الأتراك هو قضاؤهم على تمرد بابك
الخرمي الذي استمرَّ عشرين سنة ذهب فيها نحو ربع مليون مسلم، وهو رقم ضخم هائل في ذلك
الوقت، وكان أمر بابك قد اتَّسع واستفحل ودخلت همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان في تبعيته
(218هـ)[7]
ويبدو أن زعماء هذه البلاد قد حسموا موقفهم بموت المأمون ورأوا أن الدخول في طاعة بابك
إن لم يكن خيرا فإنه سيجنبهم شره.
وقد ظلت حرب بابك هي الشغل الشاغل للمعتصم والعمل
الذي أمضى فيه سنوات خلافته الأولى، وقد أنفق على تجهيز الجيوش معه كل ما استطاع من
الأموال، واهتم بتتبع أخبار الحرب حتى أنشأ مراكز البريد على طول الطريق فكانت الأخبار
تأتيه يوميًّا.
أرسل المعتصم جيشًا بقيادة إسحاق بن إبراهيم
(218هـ) وولاَّه على منطقة الجبال، وحقق الجيش انتصارا على بابك وصلت أخباره (8 من
ذي الحجة 218هـ)، وقد قتل فيه كثيرًا من أتباع بابك حتى اضطرَّ الباقون إلى الانسحاب
إلى بلاد الروم، لكنه لم يكن انتصارًا مؤثرًا أو كبيرًا على مستوى إنهاء التمرد، وعاد
إسحاق إلى بغداد فوصلها (11 جمادى الأولى 219هـ) ومعه الأسرى[8].
ثم أرسل المعتصم جيشًا آخر (220هـ) بقيادة أبي
سعيد محمد بن يوسف فأحرز نصرًا آخر، وكان كسابقه غير مؤثِّر في إنهاء التمرد لكنه يرفع
المعنويات ويهيئ النفوس في الجانبين لبدء تغير الأحوال، ثم أنعم الله على المسلمين
فسخر لهم رجلًا يسمى محمد بن البعيث، وكان حاكمًا لقلعتين في أرض أذربيجان، وقامت بينه
وبين بابك علاقة وثيقة حتى كان سرايا بابك تنزل بقلعة ابن البعيث فيضيفهم ويكرمهم،
فحوَّل الله قلبه، فقام بعملية اغتيال كبيرة لسرية من سرايا بابك حين نزلوا بقلعته،
وأسر قائدهم -واسمه عصمة- فأرسل به إلى المعتصم، وكان هذا الرجل كنزًا معلوماتيًّا
عرف منه المعتصم ما لا يقدر بثمن عن أرض بابك وجيوشه وطريقته في الحرب[9].
ثم عهد المعتصم (220هـ) بقيادة الجيوش إلى القائد
التركي حيدر بن كاوس الأشروسني، الملقب بـ «الأفشين» الذي كان قد تعرّف على مناطقهم
وطريقتهم في القتال التي غالبا ما كانت ليلًا وعلى شكل غارات سريعة، ونصب كمائن في
الفجاج بين المرتفعات، وقد استعد الأفشين خير ما وسعه الاستعداد، فأحكم العيون والاستطلاعات
وتقوية الحصون وتأمين طرق الإمدادات، بحيث صار الطريق آمنًا ومنقسمًا إلى مراحل، ويشرف
على كل مرحلة مجموعة عسكرية، وقد كان من ثمار هذه الخطَّة أن سقط عدد من جواسيس بابك،
وكانت طريقة الأفشين أنه يعطي الجاسوس ضعف الثمن الذي كان يأخذه من بابك مقابل أن يكون
جاسوسًا للمسلمين[10].
وأرسل المعتصم إلى الأفشين مع القائد التركي
بغا الكبير أموالًا جزيلة نفقة لمن معه من الجند والأتباع، وكاد بابك أن يهاجمها قبل
أن تصل لولا أن جواسيس المسلمين في معسكر بابك أوصلت الخبر، فأنقذت الأموال بخطَّة
مناورة وتمويه حتى وصلت إلى جيش المسلمين الذي يقوده الأفشين، وبفضل المعلومات التي
جاءت بها العيون والنظام المحكم الموضوع لحراسة الطريق استطاع الأفشين مهاجمة بابك
في جيشه وهو يحاصر قلعة من قلاع المسلمين، ودارت معركة مريرة استطاع فيها الأفشين إحراز
أول نصر قوي على بابك وقتل من أتباعه أكثر من مائة ألف في بعض التقديرات، واضطرَّ بابك
إلى الانسحاب إلى عاصمته «البذّ» الحصينة منهزما[11].
واستمرت الحروب والوقائع بجيشي الخلافة اللذين
يقود الأفشين أحدهما ويقود بغا الكبير الآخر، وقد جرت معركة هائلة بين بغا الكبير وبابك
(221هـ) استطاع بابك فيها أن يهزم بغا الكبير ويقتل كثيرًا من جنوده، وكان الخطأ البارز
أن بغا تصرف منفردا بجيشه دون خضوع للقيادة العامة للأفشين، غير أن معارك أخرى بين
بابك والأفشين استطاع فيها الأفشين هزيمة بابك، وقد استمرت تلك الوقائع حتى دخل العام
التالي (222هـ) حيث أمد المعتصم الأفشين بجيش آخر، ومعه ثلاثون مليون درهم، واستطاع
الأفشين اقتحام معقل بابك وعاصمة تمرده «البذّ» (20 من رمضان 222هـ) بعد حصار مرير
ومعارك قاسية واجتهاد وجهاد وتعب! وحرر أكثر من سبعة آلاف أسير مسلم[12].
وهرب بابك مع أهله وأولاده من البذ لكنه وقع
في يد أمير بلدة اسمه سهل بن سنباط فخدعه سهل وادعى أنه من الموالين لبابك حتى أسره
وأرسل به إلى الأفشين، وصنع الأفشين استقبالا شعبيا لهذا الأسير الذي دوخ الخلافة الإسلامية
(شوال 222هـ)، وكتب إلى المعتصم بما تم، فأمره أن يأتي به أسيرًا إلى بغداد[13]
فوصلها (3 من صفر 223هـ) واستقبلهما هارون بن المعتصم (الخليفة الواثق فيما بعد) وأمر
المعتصم بإركابه فيلًا؛ لكي يراه الناس في تشهير شعبي كالذي تم في أذربيجان، ثم أُحْضِر
عند المعتصم فأمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه (13 من ربيع الآخر 223هـ)، ثم
أمر بحمل رأسه إلى خراسان «يُطاف بها كل مدينة من مدنها وكورها لما كان في نفوس الناس
من استفحال أمره، وعظم شأنه، وكثرة جنوده، وإشرافه على إزالة ملك، وقلب ملة وتبديلها»[14].
وصَلَب جثته وعلقها في سامراء، وأرسل بأخيه عبد الله بن شروين إلى نائب بغداد ليقتله
هناك ويفعل به مثلما فعل المعتصم بأخيه[15].
وكَرَّم المعتصم قائده الفذ البطل، فقلَّده وشاحين
من الجواهر، وأمر له بعشرين مليون درهم، وولاَّه على السند، وأمر الشعراء أن يمدحوه،
وهذا في ذلك الوقت يعني حملة إعلامية لتكريمه، فقيلت أشعار كثيرة حسنة، كما كافأ الجيش
بعشرة ملايين درهم .. وبهذا انتهى تمرد ذهب فيه ربع مليون مسلم[16].
نشر في تركيا بوست
[1] د. عبد العزيز الدوري: دراسات
في العصور العباسية المتأخرة، مطبعة السريان، بغداد، 1945م. ص12، 13.
[2] محمد إلهامي: رحلة الخلافة
العباسية، مؤسسة اقرأ، القاهرة، الطبعة الأولى، 2013م. 1/557.
[3] المطهر المقدسي: البدء
والتاريخ، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد، مصر. 4/ 30، 31، عبد القاهر البغدادي:
الفرق بين الفرق، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية، 1977م. ص252،
الغزالي: فضائح الباطنية، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت.
ص15.
[4] الطبري: تاريخ الطبري، دار الكتب
العلمية، بيروت، 1415هـ = 1995م. 5/ 139، وابن النديم: الفهرست، تحقيق: إبراهيم رمضان،
دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1417هـ = 1997م. ص417.
[5] ابن النديم: الفهرست ص416.
[9] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، المكتبة
المرتضوية، النجف الأشرف، العراق، 1358هـ. 3/ 199، والطبري: تاريخ الطبري 5/ 210.
[14] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي 3/
200، والمسعودي: مروج الذهب، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، الطبعة الثانية، 1990م.
ص444.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق