لا
تزال قصة الثورة العباسية تمدنا بالدروس والعبر، وقد تناولنا في المقالات السابقة
دروسها في: اختيار
مكان الثورة، وتأسيس
الخلايا السرية، ومقاومة
الاختراقات،
ورسمنا صورة
مختصرة عن التنظيم السري الذي خطط ومهد للثورة العباسية.
فرصة ثورية غير ناضجة
بعد إعادة الهيكلة وتأسيس المعاني والآداب للتنظيم مضت الدعوة
في طريقها السرِّيِّ مضيًّا حثيثًا، لكنها لم تكمل ثلاث سنوات أخرى حتى فاجأتها ثورة
علوية أخرى في الكوفة، يقودها زيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب (120هـ).
كان زيد بن علي في المدينة المنورة، ثم قدم إلى الكوفة في
دعوى نزاع على مال قيل: إنه أخذه من خالد بن عبد الله القسري. فلما قُضي الأمر وأراد
الخروج من الكوفة، تبعه كثير من أهلها يُبايعونه على الخروج على بني أمية ويحرضونه
على ذلك، وبايعه على هذا أربعون ألفًا منهم، ثم انتكس أمره حين سأله بعض الشيعة[1] عن رأيه في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما تركوه وانسحبوا عنه.
ثم تكرَّرت معه قصة جدَّه الحسين -رضي الله عنه-؛ إذ انفضَّ عنه أهل الكوفة بأثر الترهيب،
ولم يُقاتل إلَّا في جمع صغير حتى قُتِل رضي الله عنه.
وما يهمنا الآن في سياق التأريخ للعباسيين أن ثورة زيد في
الكوفة فاجأت دعاة العباسيين بظهور رجل من آل البيت يتزعَّم ثورة على بني أمية، وهو
الهدف نفسه الذي يدعون إليه؛ فلا شكَّ أنه ساهم في انفضاض بعض أتباعهم انحيازًا إلى
ثورة زيد بن علي، كذلك كان الدعاة العباسيون أنفسهم على شكٍّ من أمرهم: هل يتبعون زيدًا
باعتبار أنه ثائر من آل البيت وينحازون بثقلهم إليه؟ أم لا يتبعونه ولا يمنعون منِ
اتباعه؟ أم يُخَذِّلون الناس عنه؟ ثم حسم الأمر بما جاءهم من الإمام محمد بن علي باجتناب
هذه الثورة التي توقَّع لها الفشل، بل زادت بعض روايات أنهم مارسوا التخذيل عنه -أيضًا-
مما تسبب في ازدياد انفضاض الناس عن زيد بن علي، وأهمُّ من هذا وذاك أن الدعوة دخلت
في طور الكمون والهدوء مرة أخرى؛ حتى انتهت هذه الثورة[2].
ومن المتوقَّع أن أثر هذه الثورة عاد على أهل الدعوة العباسية
بالخير على مستوى الثقة بالقيادة، وبالمنهج التنظيمي الهادئ المتدرِّج، ولكنه عاد بأثر
سلبي على بيئة الدعوة؛ التي تعرَّضت لإحباط جديد بعد هذا الفشل الجديد، فلو نظرنا بعين
المحب لآل البيت والثائر معهم لرأينا فشل الثورة ومقتل زيد، وكأنه حلقة جديدة في مسلسل
لا يُريد أن ينتهي؛ بل ولا تبدو له نهاية .. وما كان أحد منهم يدري ولا من غيرهم أن
عشر سنوات فحسب تفصلهم عن نهاية الدولة الأموية القوية، وكذا الناس في كل عصر؛ ولا
يعلم الغيب إلَّا الله!
لكن ها هنا سؤال: هل يصدق هذا على مثل حال الصف الثوري
الإسلامي إزاء موجة (11/11)؟ ومن ثَمَّ ينبغي ألا يندفع إليها ولا يساهم فيها أو
حتى يمارس التخذيل عنها؟
والإجابة: لا يصح القياس بين الموقفين، فتنظيم الدعوة
العباسية كان تنظيما متماسكا لديه رؤية وخطة وأنصار وأرض وخلايا سرية عاملة وقيادة
تحوز الشرعية والثقة، وكل هذا معدوم في المشهد الإسلامي الحالي المعارض للانقلاب،
ولهذا يمكن النظر إلى حكمة العباسيين في تجنب التورط في فرصة ثورية غير ناضجة،
فيما لا يمكن القطع بهذا في الواقع الحالي. وهذا مجرد استطراد وأما الرأي في موجة
11/11 وما ينبغي فيها فندعه لمقام آخر.
وفاة الإمام محمد بن علي العباسي
وفى سنة (125هـ) تُوُفِّيَ محمد بن علي العباسي وعمره ستون
سنة أو أكثر قليلًا (2)، في السنة نفسها التي مات فيها خليفة الأمويين هشام بن عبد
الملك، لكنَّ محمد بن علي ورثه مَنْ كان على المستوى المطلوب فأكمل ما بدأه، على خلاف
مَنْ ورثوا هشام بن عبد الملك .. ذلك هو ولده إبراهيم بن محمد، وكان الإمام محمد قد
أوصى النقباء في الاجتماع الأخير بهم بابنه إبراهيم، وتوقَّع أنه قد لا يعيش إلى العام
القادم[3].
وحمل أبو مسلم خادم الإمام محمد خبر وفاته، وتولِّي ابنه
إبراهيم الإمامة من بعده إلى أتباعه وأنصاره في العراق وخراسان[4].
كان الإنجاز الكبير لمحمد بن علي العباسي تأسيسه للتنظيم؛
فمن هنا تحوَّلت الفكرة الهائجة في العقل والقلب إلى عمل في الواقع، فلهذا وككل المؤسسين
فلا بد أن محمدًا قد ملأ نفوس أصحابه بالحب والإجلال والتعظيم، وقد ساعده في ذلك أنه
سليل آل البيت، لكن شخصيته -أيضًا- كانت على القدر المطلوب من الكفاءة والدين والعلم
والأخلاق، فهي الشخصية التي بهرت أستاذه أبا هاشم عبد الله؛ فجعلته يُوصي طلابه بالأخذ
منه، ثم جعلته أخيرًا يُوصي إليه بأمر الدعوة، وكانت الأيام تزيدها حنكة وتجربة وتوهجًا؛
حتى استطاع أن يُدير تنظيمًا رأسه في الشام (معقل الأمويين) وطرفه في خراسان، في زمن
تنتقل فيه الأخبار والتعليمات على ظهور الجياد.
إن اللحظة المفصلية في تاريخ محمد بن علي، وهي لحظة مفصلية
في تاريخ الإسلام، بل وتاريخ الدنيا حين وضعت بين يديه وصية لدعوة جنينية ما زالت في
طور التكوُّن؛ فالتقط الفرصة بسرعة بديهة عجيبة، واستوعب الأمر، ثم استوعب شخصيات الدعاة،
وحلَّ في نفوسهم محلَّ شيخهم أبي هاشم، وأنشأ معهم علاقة وثيقة تقوم على الأخوة والتعاون؛
كان يخاطب سلمة بن بجير: «أنت أخي دون الإخوة، ولست أقطع أمرًا دونك، ولا أعمل إلَّا
برأيك، وهذا الأمر لا تنال حقيقته إلَّا بالتعاون عليه». و «لك سبقك في هذا الأمر،
ولك فيه فضلك بنفسك وبما مضى عليه أبوك رحمه الله، ولكل رجل خاصة، وخاصتي من أهل مصركم
أنت وقبيلك». كما يقول عن بكير بن ماهان: «قد وَجَّهْتُ إليكم شُقَّة مني»[5].. وهكذا!
واستطاع محمد بن علي أن يحافظ على استمرار الدعوة وسريتها
بإخفاء اسم الإمام، الذي لم يكن يعرفه إلَّا كبير الدعاة في الكوفة، وكبير الدعاة في
خراسان، وعدد محدود لا يتجاوز أصابع اليد يسير بالرسائل منه وإليه، وعلى الرغم مما
أثارته مجهولية اسم الإمام هذه من مشكلات للدعاة؛ فإنها حافظت على رأس الدعوة حتى اللحظة
الأخيرة .. وسنرى أنه في اللحظة التي اكتُشف فيها إمام الدعوة كان الوقت قد فات، والدولة
قد قامت، وما عادت معرفة الإمام شيئًا مؤثِّرًا في مجرى الأحداث.
ما كنا سندري شيئًا من أحوال محمد لولا أن دولته التي غرسها
قامت .. فكم من مؤسسي الحركات تجاوزهم التاريخ؛ لأن حركاتهم فشلت! فبقدر نجاح الحركات
يُذكر رجالها.
نشر في ساسة بوست
[1] مفهوم «الشيعة»
تعرَّض إلى تطور تاريخي؛ ففي حين كان معناها في عصر علي بن أبي طالب هو المعنى اللغوي
نفسه «الأنصار والأتباع وما إلى ذلك»، صار اسم الشيعة ينصرف إلى مذهب فكري يرى أحقية
آل البيت بالخلافة، وهنا في تلك اللحظة سيظهر بوضوح مذهب آخر في الشيعة يسب أبا بكر
وعمر، ولا يترضى عليهما، ويراهما اغتصبا حق علي - رضي الله عنه - في الخلافة، وسيُطلق
على هؤلاء لفظ «الرافضة» أو «الروافض»؛ لأنهم رفضوا زيد بن علي حين لم يوافقهم على
سب الشيخين .. كما سيُعرف مَنْ وافقوه بـ «الزيدية»، وهم أقرب طوائف الشيعة إلى أهل
السنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق