قال
الخليفة العباسي المأمون: «أَجَلُّ ملوك الأرض ثلاثة، وهم الذين قاموا بنقل الدول وتحويلها:
الإسكندر، وأزدشير، وأبو مسلم الخراساني».
وقد
وصلنا في حكايتنا فصول الثورة العباسية ودروسها، في المقالات الماضية[1]،
حتى اللحظة التي تسبق انطلاق الثورة في خراسان، والذي سيكون على يد أبي مسلم
الخراساني.
فما قصة أبي مسلم؟
تتعدَّد الروايات وتصل إلى حدِّ التضارب حول أصل أبي مسلم
الخراساني وطريقة انضمامه إلى الدعوة؛ وانقسم المؤرِّخون تبعًا لذلك في القول بأنه
مولى فارسي أو هو عبد، وإذا ما أخذنا بالرواية التي يتناقلها الكثير من المؤرِّخين؛
فإن القصة تكون كالآتي: وُلِد أبو مسلم في قرية قرب أصبهان من أب فارسي وأم أَمَة،
ولقد اضطر والده تحت ظروف مالية قاهرة إلى بيع الأَمَة التي كانت حاملًا بأبي مسلم
إلى عيسى العجلي؛ الذي كان يمتلك بعض الأراضي في ضواحي أصبهان، فهناك وَلَدَت إبراهيم
الذي نشأ مع أولاد العجلي، وحينما شبَّ عمل في خدمتهم، وفي جمع الأموال من مزارعهم
المنتشرة في أصبهان والكوفة، وصار مولى لهم.
وفي الكوفة تعرَّف على بعض الأتباع من الغلاة، وجذبه العمل
إلى «آل البيت»؛ بل اشترك في حركة المغيرة بن سعيد العجلي في الكوفة عام 119 هـ؛ لكنه
استطاع أن يفلت من السلطة الأموية ولم يُمَسَّ بأذى. وظلَّ ملازمًا لأبي موسى السَّرَّاج
يعمل في صناعة السروج، ويتلقى منه آراء الشيعة لآل البيت، وعند العجليين تعرَّف أبو
مسلم على الدعوة العباسية، حينما التقى ببعض الدعاة العباسيين الذين زاروا بعض العجليين
في سجن الكوفة -وكانوا في طريقهم إلى الحجاز- فلفت أنظارهم؛ فأعجبوا به وكسبوه إلى
دعوتهم، وأخذوه معهم إلى إبراهيم الإمام بعد أن استأذنوا أبا موسى السراج[2].
ملامح شخصية أبي مسلم
كان أبو مسلم قصيرًا، أسمر، جميلًا، نقي البشرة، أحور العين،
عريض الجبهة، حسن اللحية وافرها، طويل الشعر، طويل الظهر، قصير الساق والفخذ، خافض
الصوت، فصيحًا بالعربية والفارسية، حلو المنطق راوية للشعر، عالمًا بالأمور، لم يُر
ضاحكًا ولا مازحًا إلَّا في وقته، ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات
العظام فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يُرَى مكتئبًا، وإذا
غضب لم يستفزه الغضب. ظهرت عليه ملامح النبوغ منذ صغره، ثم زادت مع الأيام توهجًا واشتدادًا؛
فكان شجاعًا ذا عقل ورأي، وتدبير وحزم، وكان عالمًا بالشعر[3].
كان أبو مسلم من الأمثلة التي تُضرب في علوِّ الهمَّة، وذلك
في كل أموره، كما كان شخصية قوية وعنيدة لا تقبل بالهزيمة، ولو كانت في لعبة شطرنج،
يروي أحد أقرانه هذا الجانب من شخصيته فيقول: «كنت أطلب العلم فلا آتي موضعًا إلَّا
وجدت أبا مسلم قد سبقني إليه، فألفني، فدعاني إلى منزله، ودعا بما حضر فأكلت، ثم قال:
كيف لعبك بالشطرنج؟ فقلت: إني لاعب بها. فدعا بشطرنجه فتناولت السواد فوضعته بين يدي،
فتناولها من بين يدي وأعطاني البياض، فأَشْفَتْ شاهه على القتل[4]، فداخَلَه أمرٌ عظيم، فاغتممت له، ثم قال لي: العب فقد فرج
الله. فَخَلَّص شاهه، وجعل يقول:
ذروني ذروني ما قَرَرْتُ
فإنني ... متى ما أُهِج حربا تضيق بكم أرضي
ويقول هو عن نفسه: ارتديت الصبر، وآثرت الكتمان، وحالفت الأحزان
والأشجان، وسامحت المقادير والأحكام، حتى بلغت غاية همتي، وأدركت نهاية بغيتي[6].
تميز أبو مسلم عن غيره من دعاة العباسيين بالكفاءة والعسكرية،
ودهاء الدبلوماسية، وفتوة الشباب[7]، وأثبتت الأيام أنه إداري ناجح، كان يهتم بإحصاء قوته وجنده
ومعرفتهم بأعيانهم وأنسابهم وبلدانهم[8]، وفعله فيما سيأتي هو أوضح دليل على مواهبه!
استقرَّ أبو مسلم عند الإمام محمد بن علي العباسي يعمل في
خدمته، ومن بعده مع ابنه إبراهيم بن محمد، ولفتت شخصيته ومواهبه نظر إبراهيم بن محمد؛
فاستعمله في حمل الرسائل إلى الكوفة وخراسان، وهو عمل في غاية الخطورة -بالنسبة إلى
تنظيم سري- يدل على ثقة الإمام إبراهيم في كفاءة أبي مسلم وأمانته، وإخلاصه للدعوة،
والإمام إبراهيم هو الذي طلب منه تغيير اسمه إلى عبد الرحمن بن مسلم، وكَنَّاه بأبي
مسلم الخراساني[9].
لا ندري بالتحديد كم ظلَّ أبو مسلم يحمل الرسائل بين مراكز
الدعوة، لكنَّه ظلَّ فيه إلى عام 128 هـ؛ حيث سيتم تكليفه بالمهمَّة التي أدخلته باب
التاريخ!
أبو مسلم أمير الدعوة في خراسان
من خلال هذا العمل اكتسب أبو مسلم معرفة بأحوال خراسان[10]، كيف لا وهو يُطالع تقارير تتوخَّى أكبر قدر من الصدق والدقة
لأنها مرفوعة إلى الإمام.
وفي (128هـ) طلب النقباء في خراسان أن يُرسل الإمام مَنْ
ينوب عنه من أهل البيت؛ ليكون ممثلًا له أثناء إعلان الثورة، وذلك لاشتداد العصبيات
في خراسان ذلك الوقت؛ مما يجعل وجود رجل من آل البيت قوة للدعوة، وبعد فشل إبراهيم
الإمام في إقناع عدد من الرجال مثل سليمان بن كثير وقحطبة بن شبيب وإبراهيم بن سلمة،
قرَّر اختيار مولاه أبى مسلم الخراساني[11].
وأغلب الظن أن رفض نقباء خراسان القيام بهذا الأمر كان نوعًا
من الزهد في المسئولية إزاء هذه المرحلة الفاصلة، وهذا مما يظهر في عدد من أقوالهم
مثل قول سليمان بن كثير: «ما كرهت القيام بهذا الأمر إلَّا أنَّ أكون أضعف الناس فيه
نية». والزهد في المناصب الكبرى لدى مؤسسي الدعوات الدينية أمر مفهوم؛ فالغالب على
هؤلاء الرجال أنهم يفزعون عند الجزع، ويقلون عند الطمع، ويتعرَّضون للمخاطر لا يرجون
إلَّا وجه الله وثواب الآخرة، كما يبدو أنهم كانوا يتوقَّعون في حال رفضهم أن يقدم
عليهم واحد من آل البيت، وربما الإمام نفسه ليقود الثورة؛ كما هو الحال في كل ما سبق
من ثورات معروفة.
وعلى الناحية الأخرى فلم يكن أمام الإمام إبراهيم إلَّا أنَّ
يدفع برجل مثل أبي مسلم؛ الذي توفرت له عدة مزايا تجعله الرجل المناسب:
فهو رجل من غير آل البيت، فلن يُؤَثِّر ظهوره على سرية اسم
الإمام، الذي سيظل مجهولًا بالنسبة إلى الأمويين، حتى اللحظة المناسبة التي يتحقق فيها
النجاح الكامل، وفي حالة ظهوره وفشل الدعوة فإن رأس الدعوة المتمثل في الإمام سيظل
مجهولًا؛ ويتمكن من إعادة ترتيب الصفوف من جديد، مثلما حدث عند مقتل أبي عكرمة السراج
وحيان العطار وعند مقتل خداش.
وهو في ذاته رجل كفء لهذه المهمَّة، وقد ظهرت منه المواهب
الذاتية المدهشة التي تجعله مؤهلًا للقيام بهذا الدور؛ حتى لقد وصفه الإمام إبراهيم
بعد التجربة والمعاشرة بقوله: «هذا عضلة من العضل[12] ... إني قد جربت هذا الأصفهاني، وعرفت ظاهره وباطنه، فوجدته
حجر الأرض»[13]. وبالإضافة إلى هذا فهو قد اكتسب علمًا وخبرة بالحال من
واقع عمله في نقل الرسائل.
ثم هو رجل من الموالي؛ ومن شأن اختياره قائدًا للدعوة في
خراسان أن يجذب للدعوة كثيرًا من الموالي، الذين سيرون بأعينهم كيف لا تُفَرِّق الدعوة
الجديدة بين العرب وغيرهم، بل كيف يبلغ المولى أن يكون سيِّدًا على شيوخ العرب! وقد
أسهم هذا بالفعل في انحياز كثير من الموالي إلى الدعوة العباسية.
وعلى الرغم من أن هذا السبب الأخير قد يُحدث أزمة في صفوف
الدعوة، فقد لا يتقبل نقباء الدعوة وهم شيوخ العرب أن يتولَّى عليهم واحد من الموالي،
لا بل هو مع هذا الخادم الذي كان يخدمهم قبل سنوات بسيطة، والذي دخل الدعوة على أيديهم
.. على الرغم من هذا فإن الإمام إبراهيم قد عرض الأمر عليهم من قبل فلم يقبلوا، وأصرُّوا
على أن يبعث لهم الإمام من عنده مَنْ يقود أمرهم في هذه اللحظات، فمن ثَمَّ كان طبيعيًّا
ألا يعترضوا على هذا الاختيار .. على أنه قد احتاط مرَّة أخرى لمثل هذا السبب فكتب
مع أبي مسلم أنه لو وافق سليمان بن كثير على أن يظلَّ هو الأمير فهو الأمير؛ وعلى أبي
مسلم أن يكون من جنوده باذلًا له حقَّ السمع والطاعة.
ترى كيف ستمضي الأمور؟
هذا ما نؤجل الحديث عنه للمقال القادم إن شاء الله
تعالى.
نشر في ساسة بوست
[2] البلاذري:
أنساب الأشراف 4/ 119 وما بعدها، والدينوري: الأخبار الطوال ص337، 338، والطبري: تاريخ
الطبري 4/ 215، 290، ومجهول: أخبار الدولة العباسية 253 وما بعدها (وقد أفاض في ذكر
نسبه وخبره حتى انضمامه للدعوة واستقصى جميع الروايات في أمره)، والخطيب البغدادي:
تاريخ بغداد 10/ 207 وما بعدها، وابن عساكر: تاريخ دمشق 35/ 408 وما بعدها، وابن الأثير:
الكامل في التاريخ 4/ 461، 474، والذهبي: سير أعلام النبلاء 6/ 52، وصالح سليمان الوشمي:
أبو مسلم الخراساني ص11 - 19، ود. فاروق عمر: الثورة العباسية ص86.
[3] ابن عساكر:
تاريخ دمشق 35/ 413، وابن خلكان: وفيات الأعيان 3/ 146، وما بعدها، والذهبي: سير أعلام
النبلاء 6/ 48، وصالح سليمان الوشمي: أبو مسلم الخراساني ص19 - 21، 95 - 99.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق