قبل سبع وعشرين سنة (24 نوفمبر 1989م)، اغتالت يد الشر
والإجرام شيخ المجاهدين العرب في أفغانستان، إذ انفجرت سيارة الشيخ وهو ذاهب لأداء
صلاة الجمعة، لتُخْتَمَ حياةٌ حافلة بالبركة، علما وعملا، تأليفا وجهادا، فنال الشهادة
وهو ما يزال في السابعة والأربعين من عمره، وبذلك يوضع اسمه بين العمالقة الكبار
الذين بارك الله في أعمالهم، فجاءوا في الأمد القليل بالعمل الجليل.
وقد أراد أهله وأصحابه أن يجموا تراثه من التأليف،
فجمعوا له ما ألفه في عشر سنين، وعجزوا عن أن يجدوا آثارا أخرى له من الكتابات
والمحاضرات ألقاها في أوروبا وأمريكا والخليج وغيره، وبالرغم من هذا فإن الذي
جُمِع ملأ أربع مجلدات كبيرة، في نحو أربعة آلاف صفحة، كل صفحة حُشِد فيها الكلام وضُيِّق
حتى يصغر الحجم، فلو أنها طبعت في نحو ما تطبع به المجلدات في العادة فلن تقل بحال
عن عشرين مجلدا!!
جمعت هذه المجلدات حديثا في العقيدة وفي الفقه وفي التاريخ،
وكان أعظم شأنها ما كُتِب في الجهاد وفقهه وأحواله وبناء المجاهد ونحو ذلك.
من لم يعرف مؤلفها لم يشك أبدا في أنه كان متفرغا للعلم وطلبه
والعكوف على أوراقه وكتبه، ثم تأتي المفاجأة حين تعرف أن صاحب هذا العطاء العلمي الضخم
هو رأس الجهاد في عصره، وعلم من أعلام الجهاد منذ زمنه وإلى ما شاء الله..
إنه الشيخ الشهيد: د. عبد الله عزام.
فلو أنه لم يكتب حرفا لما لامه أحد، ولو أنه كان مُقِلاًّ
لم يَعِبْ عليه أحد، أما وهو من هو في الجهاد ثم يترك هذا الإرث الغزير من العلم فتلك
هي الهمة.. تلك هي الهمة!
ولعلها من بركة الجهاد عليه أن تَرَكَ -وهو إمام الجهاد-
ما لم يتركه إلا النادرون من العاكفين على الكتب والورق!!
على أن أهم ما في هذا التراث هو رشده ونضجه، فالرجل
العالِم حين يخالط أحوال الجهاد والمجاهدين يستطيع أن يضع يديه على الثغرات وأن
يعالجها، والواقع أن جانبا عظيما مما تُنكب فيه الحركات المجاهدة أنها لم تطلع ولم
تتشرب التجارب الجهادية السابقة، ولا تعاملت بالتوقير المطلوب مع تراث شيوخ
المجاهدين، فتكررت كثير من الأخطاء التي كررت معها مزيدا من الأزمات.
ونحن نستثمر هذه الذكرى في إلقاء ضوء على بعض أقواله،
مثيرين بهذا شوق من لا يعرفه وعزم من يعرفه على النهل من تراثه الثرّ المجموع تحت
عنوان: "الذخائر العظام فيما أُثِر عن الإمام الهمام الشهيد عبد
الله عزام".
(1) ليت الجيوش العربية ما
دخلت فلسطين
"ليت الدول العربية ما دخلت فلسطين، لأنها دخلت لتسلم
الأراضي لليهود وصيانة نبتتها الناشئة من أعاصير الرياح الإسلامية التي يمكن أن تعصف
بها، وما خدع شعب أو ظلم أكثر من الشعب الفلسطيني. فلقد دخلت الجيوش العربية لتسليم الأراضي لليهود،
وكان دور الأسلحة الفاسدة التي أرسلها الملك فاروق جد مدمر للنفسية العربية والإسلامية. وكذلك قام الجيش
العراقي بالدور الموكل إليه على الوجه الأكمل وكلمته التي كان يرددها كلما استنجد الشعب
الفلسطيني به (ماكوا أوامر) لا زالت مرارتها تسري لهيبا في دماء أبناء فلسطين.
وأما الجيش الأردني فحَدِّثْ عن دور قائده الإنجليزي الجنرال
كلوب باشا ولا حرج، فقد جاء ليستلم مواقع المجاهدين من الإخوان القادمين من مصر، وقد
كان القائد الأردني الذي يستلم مواقع مار الياس اسمه عبد القادر يسير مع موسى دايان
ليسلمه الخنادق والمراكز الواحد تلو الآخر، وكان حسين حجازي القائد المصري من الإخوان
المسلمين قد رفض أن يسلم مواقع مار الياس إلى سبعة من الجيش معهم شاويش فصاح حسين حجازي
بالشاويش (انصرف راجعا) كيف تحمون موقعا فيه
ثلاثمائة مجاهد واثنا عشر ضابطا بسبعة من الجنود؟
وهنا ظن عبد القادر أن حسينا من أبناء فلسطين فشتم أبناء فلسطين قائلا: أنتم خونة بعتم
أرضكم!!... ولذا فعبد
القادر -بعد المؤامرة التي مزقت هذا الشعب وباعت أرضه وعرضه ودمه- يقول: أنتم خونة
أيها الفلسطينيون، وقد كان بجانبه دايان يسلمه عبدُ القادر الموقع تلو الموقع!!.
وبعد أن قامت الجيوش العربية بدورها المحدد -وهو تسليم الأرض لليهود- قامت كثير من الألسنة تلوك أعراض
أبناء فلسطين الممزقة، وتنهش لحومهم بعد أن مزقتها بالحراب"[1].
(2) دروس من أرض الجهاد
أدركت أن التربية ركن ركين وجزء أساسي في الإعداد لأي عمل
جهادي، وقبل امتشاق الحسام وانتضال السلاح، ولا يمكن للنفس المقصرة أن تتسلق إلى قمة
سنام الإسلام وهي عاجزة عن صعود أولى درجات السلم، ولئن قفزت فوصلت فإنها لا تستطيع
الصمود، فإن استطاعت بطاقة اندفاعها وحماسها على الصعود فإنها لا تطيق طويلا الصمود،
وعندها تسقط من فوق القمة.
وبالمعايشة مع الإنصاف يمكن أن تذوب كثير من الخلافات بين
الجماعات وتنصهر الطاقات من شتى المآرب والدعوات في بوتقة العمل الواحد، وعلى حرارة
الأحداث وسخونة الوقائع والمشكلات.
وبالمعايشة فوق أرض المعركة تبددت كثير من الأوهام، وزال
كثير من الغبش واللبس الذي نشأ في الظلام، وأدرك الإنسان أن العمل الجدي الواقعي غير
الأحلام العذبة التي تداعب الخيال، وإن الآمال لا بد لها من عظام الرجال لينقلوها إلى
وقائع وأفعال.
وبالتجربة الحية الواقعية أدركت أن الجماعات الإسلامية يكمل
بعضها بعضا، ولا غنى عن التعاون على البر والتقوى، ولا يمكن لأي حركة أن تقيم مجتمعا
إسلاميا بدون الاستفادة من طاقات المسلمين، وأن تكسب كل ذرة خير تستطيعها في صالح العمل
الإسلامي ابتغاء مرضات الله![2]
(3) مراعاة الحاضنة الشعبية
"إن مراعاة المذهب الحنفي من قبل المجاهدين العرب أمر ضروري وشرط أساسي لنجاحهم
داخل أفغانستان، ولا يمكن للعربي أن يصل إلى قلب الأفغاني إلا إذا احترم دينه، والدين
في ذهن الأفغاني متمثل في المذهب الحنفي، فمن خالفه فإنما يخالف الإسلام نفسه، وأي
عربي يخالف المذهب الحنفي فإنما هو وهابي، والوهابية في نظر الأفغاني العامي إنما هي
طائفة من الطوائف الضالة الخارجة عن الملة الإسلامية كالنصيرية والقاديانية والدروز
والإسماعيلية، ولقد عملت عوامل كثيرة على تعميق هذه النظرة تجاه الوهابية، وهذه العوامل
ذات جذور تاريخية تمتد قرونا.. على رأسها:
1. الخلاف بين الدولة العثمانية وبين الوهابية، والدولة العثمانية
لها احترام كبير في نفوس الهنود والباكستانيين والأفغان، لأنها دولة الخلافة ومنار
الإسلام.
2. الإعلام البريطاني الذي مكث فترة طويلة يعمق هذا الشرخ ويزيد
هذه الهوة، ولا زالت إذاعة بي بي سي تبث سمومها يوميا لهدم الثقة بين العرب والأفغان.
3. الصوفية التي كان لها سيطرة على نسبة من الناس.
4. الشيعة، وهؤلاء سواء في إيران أو في داخل أفغانستان لا زالوا
يضربون بمعاولهم ويحاولون أن يهدموا الصلة بين العرب والمسلمين في أفغانستان وباكستان
وغيرها.
ولأجل هذا كله فقد كنا نرجو الإخوة العرب أن يتركوا بعض هيئات
الصلاة المخالفة للمذهب الحنفي، وفي هذا فتاوى كثيرة من العلماء وعلى رأسهم الإمام
أحمد بن حنبل والإمام مالك وابن تيمية"[3].
أقول: ما يزال هذا الكلام مفقودا في الساحات الجهادية
للأسف الشديد، وقد تسبب فقدانه هذا في أزمات عديدة بعضها لم يعد بالإمكان جبره!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق