وضعنا في "مكتبة الثائر المصري" كتابين، أولهما يحكي تجربة ناجحة في تأسيس حركة مقاومة تحت ظروف
مستحيلة وهي حركة حماس من خلال تأريخ مؤسسها لها من كتاب "أحمد ياسين شاهد
على عصر الانتفاضة" (الجزء الأول، الجزءالثاني)، وثانيهما
يحكي تجربة فاشلة لمقاومة انقلاب عسكري في الجزائر من خلال تأريخ مؤرخ الجهاديين
الأبرز أبي مصعب السوري (الجزء الأول، الجزء الثاني)، وبهذه
الأسطر القادمة نختم هذه التجربة.
ذكرنا في المقال الماضي نبذة عن أبي قتادة الفلسطيني
الذي تبوأ مكان المرجعية العلمية –من لندن- للجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر،
والتي وصلت في انحرافها لتعميم التكفير وانتهاج القتل حتى ضد المجاهدين، ومن هنا
نكمل خلاصات الكتاب على لسان أبي مصعب السوري:
24. بنى أبو قتادة موقفة الذي كان يصدره في نشرة
"الأنصار" على خلفية من سلفيته المتعصبة وخبرته المعدومة بالعمل
الجهادي، فتخيل أن أبو عبد الرحمن أمين وأتباعه يمثلون جانب الحق، وكل من خالفه
فهو واقع في الردة، سواء أكانت الحكومة أم من يرى بالعودة للبرلمان، بل حتى القرى
الجزائرية كفَّر خصوصا من حملوا السلاح ليدافعوا عن أنفسهم ضد مجازر أبي عبد
الرحمن أمين أو مجازر الاستخبارات التي تنفذ باسمهم، وذكر في بعض المجالس جواز سبي
نساء هؤلاء المرتدين!! فاضطررت للانصراف عن هؤلاء ولكن دون إعلان كإبقاء لخط
المحاولة والتسديد، واكتفيت بمقالي في نشرة الأنصار.
25. تحولت "الأنصار" من دعم قضية الجزائر إلى
إشعال المعارك بين السلفية وسائر الإسلاميين، وعبثا حاولنا إفهامه بأنها معارك
هامشية وليس وقتها، فكنا نوصم بالابتداع والجهل بالعقيدة. ثم صارت "الأنصار"
بوقا لإعطاء التأصيل الشرعي لانحرافات وجرائم الجماعة الإسلامية المسلحة، تماما كما
يفعل علماء السلاطين، ثم انقطعت علاقتي بهم تماما حين بررت "الأنصار"
جريمة قتل الشيخ محمد السعيد، ثم كانت الفاصلة حين أصدر أبو عبد الرحمن أمين منهجه
في كتاب "هداية رب العالمين"، فأسرف أبو قتادة في مدحه ووصله بمنهج ابن
تيمية وابن حنبل!! وهو كتاب حافل بالجهل والتكفير، فتداعى الجهاديون في لندن إلى
اجتماع طارئ وأنكروا جميعا انحرافات الكتاب وهاجموه، والغريب أن أبو قتادة نفسه
انضم إليهم فأنكر "المنهج" وهاجمه، واعتذر عن مديحه السابق بأنه يجب رغم
كل شيء نصر الراية السلفية، وانتهى الاجتماع بشجار عنيف بيني وبينه، واستقر أمر
الجهاديين على أن انحرافات أبي عبد الرحمن أمين قد بلغت مرحلة متأخرة، وصار كل
منهم يفكر فيما ينبغي العمل لإنقاذ المسلمين والتجربة كلها، أما أبو قتادة –وتابعه:
أبو الوليد الفلسطيني الذي صار نائبا عنه- فقد استمرا في خطهما في تبرير وتأصيل
جرائم الجماعة المسلحة بزعم كونها "الراية السلفية"، إذ –والحق يقال-
كانت جماعة أبو عبد الرحمن أمين ترتكب الجرائم بدافع من إجرامها وانحرافها لا
التزاما بتعاليم أبي قتادة!
26. الجهاديون وإن كانوا يرفضون الديمقراطية ويرونها
دينا وفلسفة سياسية، إلا أنهم لا يكفرون من يمارسها من الإسلاميين الذين يتوهمون
إمكانية تطبيق الشريعة والتمكين للدين من خلالها، ولكن أبو قتادة خرج عن هذه
الفكرة فتعامل مع هؤلاء بالتكفير واستحلال دمائهم وسبي نسائهم. وهذا الذي قاله –فضلا
عن شذوذه وشططه ومخالفته السياسة الشرعية- هو منتهى أمل أعداء المسلمين.
27. عملتُ ما وسعني على كشف حقيقة هؤلاء المنحرفين
وتحذير الجهاديين منهم ووقف الدعم عنهم، ولكن بعض كبار أولئك كانوا يخشون على كل
المسار ويرون أنه ما تزال فرصة للنصيحة، فكنت أقول: إنكم تنصحون المخابرات! هل
تأملون في نصح المخابرات؟! ثم إنه لم يكن بيدي أدلة قاطعة ملموسة بل كانت
استنتاجات، حتى استطاع بعض الجهاديين الفرار من قيادة تلك الجماعة المجرمة ووصل
بعضهم إلى لندن، فسمعنا منهم الفظائع والأهوال فتأكد بالأدلة ما توصلنا إليه
بالاستنتاج.
28. روى هؤلاء ما كان من قتل المشايخ غيلة بلا محاكمة
ولا نقاش، وقتل المجاهدين، وقتل كل من طالوه ولم ينضم تحت إمرتهم، وارتكابهم مجازر
في القرى، وانتهاك الأعراض بدعوى سبي نساء الطواغيت، واجتمع الجهاديون في لندن
لاتخاذ قرار وإصدار بيان جماعي، وتوليت ترتيب هذا الأمر ونشره في جريدة الحياة، ولما
وضعنا الأدلة أمام أبي قتادة انهار وجلس يبكي وقال: لو يجوز الانتحار لانتحرت،
وكتب بيانا يتبرأ فيه من جماعة أمين وانحرافاتهم ولكنه مع هذا كتب بيانا آخر يعلن
تمسكه فيه بمواقفه السابقة! ومن هنا انقلب عليه شبابه ورموه بالابتداع والانتكاس،
ونصبوا عليهم خليفته أبو الوليد الفلسطيني!
29. لم يلبث أبو عبد الرحمن أمين أن قُتِل، فسجد
الأكثرون شكرا لله، ثم تولى بعده "عنتر الزوابري" وهو شرٌّ منه وأضل، ثم
لم يلبث أبو الوليد الفلسطيني أن انسحب واعتزل هذه المتاهة، فتولى الأمر بعده
"أبو حمزة المصري" وهو ممن خاض المعارك ليتولى مكانة المرجعية العلمية،
لكن لم يطل به المقام حيث أصدر الزوابري بيانا كفَّر به عموم الشعب الجزائري وسبهم
بأقذع التهم فانسحب أبو حمزة ورماهم بالخروج والتكفير.
30. تنبهت مبكرا لليد الاستخبارية فيما يجري بالجزائر،
لكن عددا من العوامل منعت الاستفادة من هذا، منها: جو الإرهاب الفكري الذي فرضه
أبو قتادة بتعصبه للسلفية وإسرافه في التبديع والتضليل، العاطفة وحسن الظن عند
الجهاديين الذين ظل بعضهم حتى بعد ورود الأدلة يحاولون المناصحة قبل التبرؤ جهرة
منهم، تشدد بقية فصائل الصحوة ومنابذتها للجهاديين فلو تعامل الإنقاذيون والمشايخ
الكبار بنوع عطف وأبوية لكان الحال غير الحال.
31. خلاصة ما جرى في الجزائر أن الغرب فوجئ بصعود
الإسلاميين، فنفذ الانقلاب العسكري، ثم نفذ خطته الجهنمية بتحويل معركة الإسلاميين
من السلطة إلى الشعب، وبذر الشقاق والعداء والقتال بين فصائل الصحوة، وتمكنت
الاستخبارات من تنفيذ هذا اعتمادا على الشرائح الجاهلة المتطرفة في الإسلاميين، مع
حملات إعلامية مكثفة، فصنع هذا كله عزلة للمجاهدين عن عموم الشعب، وركزت الحملة
العسكرية على الفصائل المعتدلة وتركت المجال مفتوحا لفترة أمام المنحرفين
والمتطرفين الذين اخترقتهم واستعملتهم في عقاب المناطق التي اختارت الإسلاميين وفي
قتال الفصائل الجهادية الأخرى. وبعد أن وصلت حالة المجاهدين إلى الإنهاك التام
طرحت الدولة مشروع الاستسلام (الوئام المدني) فكان طبيعيا أن يهرع إليه كثيرون
فرارا من جحيم ما وصلت إليه أحوالهم الداخلية، وصار الاستسلام الجماعي أفضل
الخيارات.
32. لم تستطع الفصائل المجاهدة في هذا الحال إعادة
استئناف المسار، كانت العزلة عن الشعب وفقدان الثقة أهم الأسباب، بالإضافة إلى أن
الوضع العالمي تغير بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وصارت "مكافحة الإرهاب"
منظومة عالمية واحدة، على عكس المساحات والثغرات التي كانت أيام تقسم الدول إلى
معسكرين.. وهكذا تتابع تساقط الفصائل، إما بالهزيمة عسكريا أو بالاستسلام.
33. أهم دروس التجربة الجزائرية: الشعوب تختار الإسلام،
لن يسمح الغرب ولا الحكومات حتى للمعتدلين بالوصول للسلطة، التلاحم بين المجاهدين
وشعبهم هو سندهم الأول، الحرب ضد الإسلاميين بلا رحمة ولا أخلاق، ينفذ العدو مخططاته
الشيطانية اعتمادا على ثغرات حقيقة ومشكلات داخل الإسلاميين، الثغرة الكبرى هي
غياب العلماء عن الجهاد.
نشر في مدونات الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق