مات
مؤسس الدعوة العباسية محمد بن علي العباسي بعد أن أتم التأسيس (كما تناولناه في
المقالات الماضية)[1]،
ثم استكمل ولده إبراهيم البنيان من بعده، فخرج بالدعوة إلى الدولة، لقد ظلَّ بعد وفاة أبيه سبع سنوات فحسب ثم اكتُشف أمره فقُتِل،
لكن قتله لم يَعُدْ مؤثِّرًا فلقد كانت الدولة قد قامت بالفعل، وسبق السيف العذل.
إبراهيم بن محمد العباسي
كان سيدًا في أهله، وافر العقل فصيحًا، وحياته كلها دليل
قائم على رجاحة عقله وذكائه المفرط وحكمته، وكان فاضلًا نبيلًا، وكان معروفًا بالكرم
المديد، والعطاء الجزيل، وإرضاء السائلين مهما كان ما بيده قليلًا، ورويت في هذا كثير
من القصص في الكتب التي اهتمَّت بتاريخ العباسيين؛ حتى قيل: إن إبراهيم بن محمد كان
إذا قدم الحرمين بهج به من بهما من ولد عبد المطلب وجذلوا، وتباشروا به واستبشروا،
ومَنْ كان في نعمة زاد في نعمته، ومَنْ كان منهم مختلًا أنعم عليه[2].
§
السخاء من رقة القلب والرحمة أصل كُلِّ حسنة.
§
وسئل عن البلاغة فقال: معرفة الوصل من الفصل، وإصابة المعنى، واختصار الطريق
إلى الغاية الَّتِي يريد.
§
سمعتُ أبي يقول: لا يزال الرجل يزداد في رأيه ما نصح لمَنِ استشاره. ثم قال:
وأنا أقول: نصح المستشير قضاء لحقِّ النعمة في صواب الرأي.
§
الكامل المروءة مَنْ أحرز دينه ووصل رحمه، واجتنب ما يُلام عليه.
§
لا تدعوا إلى طاعتنا عشرة أصناف من الناس: الطويل الممدد[4]، والقصير المردد[5]، والجعد القطط[6]، والأمهق المغرب[7]، والأعور بعين اليمين، والزائد والناقص في الخلقة، والمتشبه
من الرجال بالنساء ومن النساء بالرجال، والمصفر لونه من غير علَّة[8].
وكان من أقوى ما ساعده على الانتقال من مرحلة الدعوة إلى
مرحلة الدولة، ما نزل بالأمويين من تفرق ونزاع فيما بينهم مما عرضنا له في مقالات
أخرى[9]، وقد ألقى كل هذا بأثره الكبير على كافة أنحاء الدولة، وبالذات على
خراسان، المنطقة التي يُخطط أن تنطلق منها الثورة العباسية.. وهنا نركز النظر على
الأحوال التي عاشتها خراسان في ذلك الوقت.
أحوال خراسان
كان الوالي على خراسان في هذه الفترة رجلًا يسمى نصر بن سيار
الليثي المضري، وهو أحد الأبطال البارزين في الحرب والسياسة ومن أصحاب الفتوحات في
بلاد ما وراء النهر، وهو خطيب مفوَّه وشاعر مُجيد، قال الذهبي: كان من رجال الدهر سؤددًا
وكفاءة، وكان نصر قبل توليه أمر خراسان قائدًا للعرب المقاتلة في بلخ -أحد حواضر خراسان
المهمَّة- وكان في ذلك الوقت من معارضي أسد بن عبد الله القسري والي خراسان، بعد أن
كان لفترة من الفترات ساعده الأيمن، ورَجُلَه في الإدارة والحرب في بلاد ما وراء النهر،
ظهر نصر بن سيار كزعيم قوي لقبائل الأزد وللعرب المقاتلة لا سيما البصريين، وكان أتباع
نصر يضمون بالإضافة إلى قبائل مضر أفخاذًا عديدة من قبائل أخرى[10].
وقد ظهر انقسام بين العرب في خراسان[11]؛ فكان قسم مع نصر بن سيار، وقسم آخر مع زعيم آخر قوي هو
جديع الكرماني (وهو عربي من معد، وسمي بالكرماني؛ لأنه وُلد في كرمان)[12]، فكان تعيين الخليفة هشام بن عبد الملك لنصر بن سيار في
ولاية خراسان دليلًا على رؤية الخلافة بأن كتلة نصر بن سيار هي الأقوى، وبالتالي فهي
الأقدر على حكم خراسان[13].
هذا رأيٌ، والرأي الآخر يقول بأن الخليفة هشام بن عبد الملك
لما استشار خبيرًا بشأن خراسان، وهو عبد الكريم بن سليط الحنفي، لم يجد أحدًا أنسب
للولاية من نصر بن سيار، فكل الخيارات كانت بين رجل من العرب اليمانية كجديع الكرماني،
أو رجل لا يقبله أهل خراسان كقطن بن قتيبة الباهلي، أو لا يخلوَنَّ من عيوب قادحة في
النزاهة والأمانة، بينما كان عيب نصر بن سيار أنه لا عشيرة له، وقد اختاره الخليفة
هشام باعتبار أن دعم الخلافة له يُغنيه عن العشيرة القوية[14]، ويجعله محايدًا في النزاع بين الكتل المختلفة وأكثر ولاء
للخلافة[15]، فولاَّه خراسان (رجب 120هـ)، لكنَّ نصرًا لم يكن محايدًا، بل كان على مذهب
الخليفة هشام في استبعاد اليمانية والربعية، فلم يكن يستعين بأحد منهم، ولا شك أن أوقع
بهم بعض مظالم[16].
فلما مات هشام بن عبد الملك وجاء الوليد بن يزيد إلى الخلافة؛
عاد إلى النظام القديم في جَعْل خراسان تابعة لولاية العراق، فقام والي العراق يوسف
بن عمر بعزل نصر بن سيار، لكنَّ الوليد نفسه ما لبث أن قُتل وجاء يزيد بن الوليد، الذي
عيَّن على العراق منصور بن جمهور، فعين منصورٌ أخاه منظورًا على خراسان، لكنَّ نصرًا
عاد إلى مرو وتولاها غصبًا بلا تفويض من الخليفة، ورفض الاعتراف بمنظور بن جمهور واليًا،
وتمَّ له الأمر، وأعاد عاصمة خراسان إلى مرو بدلًا من بلخ؛ التي اتخذها أسد القسري[17]، لكنَّ نصرًا فشل في كسب ودِّ جديع الكرماني؛ فأقصاه من
مركزه كزعيم للأزد، ولكنَّ هذا لم يفلح لسعة نفوذ الكرماني[18].
قبل تلك السنين في خراسان، كان نصر بن سيار ممن خاض معارك
عسكرية كبيرة مع الأتراك في بلاد ما وراء النهر، وخاصة الشاش، واتفق مع أميرها على
طرد الحارث بن سريج المرجئي من الشاش إلى فاراب[19].
والحارث بن سريج هو أحد الثوار على حكم بني أمية في خراسان،
كان شجاعًا بطلًا موهوبًا في القيادة، ثار على الأمويين في عام 116 هـ، واستطاع أن
يجمع معه كثيرًا من الناس؛ حتى بلغ جيشه ستين ألفًا فيما يقال -وإن كنا لا نطمئن إلى
هذا الرقم ونراه مبالغة، لكنَّه دليل على قوة وخطورة هذه الثورة- واستولى على حواضر
مهمَّة في خراسان كبلخ والجوزجان ومرو الروذ والطالقان، ثم انهزم عند مرو وهرب إلى
الشرق؛ حيث بلاد الترك، فظلَّ هناك اثني عشر عامًا، وشنَّ فيها الغارات على بلاد المسلمين
بجيش من الترك، أو كان في قيادة جيوشهم التي تهاجم المسلمين، وكان يدلهم على المسالك
والثغور، ثم أراد الوليد بن يزيد أن يسترجعه إلى الإسلام والمسلمين؛ فدعاه وأرسل إليه
نصر بن سيار أمانًا من الخليفة يزيد بن الوليد؛ فعاد وتاب وزار بلاد الشام، ثم استقرَّ
في مرو (127هـ)، وأجرى عليه نصر راتبًا كبيرًا (خمسين درهمًا في اليوم)، وعرض عليه
الولاية فلم يرضَ بها؛ وقال: إنه ليس يريد الدنيا، وإنما يريد أن يكون الأمر شورى.
وظلَّ على بعض المناوأة لنصر بن سيار[20].
ويغلب على الظن أن الحارث لم يكن مخلصًا فيما دعا إليه، وإنما
كان زعيم قبيلة ورجل سياسة حاول من خلال الشعارات التي رفعها أن يكسب الأنصار، فهو
لم يتورع عن الانضمام إلى الترك المشركين واستخدامهم من قبلُ لشنِّ الهجمات على المسلمين،
وقد عاش بين هؤلاء المشركين سنين عديدة[21].
واستغلَّ جديع الكرماني -منافس نصر وخصمه- الأزمة بين نصر
بن سيار والخلافة في دمشق بتوليه أمر خراسان دون تفويض من الخلافة؛ ولهذا سجنه نصر،
لكنَّ الكرماني هرب من السجن واجتمعت له اليمانية والربعية -أيضًا- بعد أن ذكَّرهم
بالأحلاف القديمة بين قومه وقومهم[22]، ثم استطاع نصر أن يحلَّ الخلاف، ووعد بدفع العطاء للعرب
وخاصة أتباع الكرماني[23].
ثم ما لبث أن عيَّن الخليفة يزيد بن الوليد على العراق عبد
الله بن عمر بن عبد العزيز؛ بدلًا من منصور بن جمهور (126هـ)، فعيَّن بدوره نصر بن
سيار على خراسان، فعادت إلى نصر شرعية الولاية على خراسان، وعادت معها ثورة جديع الكرماني؛
الذي رأى في هذا التعيين انتصارًا لنصر؛ فأعلن عصيانه، ثم إن الخليفة يزيد بن الوليد
ما لبث أن مات، وزادت الاضطرابات في دمشق بين الأسرة الأموية؛ مما ألقى بتأثيراته على
وضع نصر بن سيار بالضعف وعلى وضع الثائرين بالقوة، وظهر لمرة أخرى الحارث بن سريج المرجئي[24].
ولما استقرَّ الأمر لمروان بن محمد عيَّن على العراق يزيد
بن عمر بن هبيرة؛ الذي ثَبَّت نصر بن سيار على خراسان، لكنَّ شرعية مروان بن محمد نفسه
كانت موضع جدل وكلام، واتخذ الحارث بن سريج من ولاية مروان فرصة لإعلانه الثورة؛ بحجة
أنه أخذ الأمان من يزيد بن الوليد، وأن «مروان لا يجيز أمان يزيد»[25]، وتحالف معه جديع الكرماني. ثم استطاع نصر أن يهزم الحارث؛
لكنَّه اضطر إلى الانسحاب بعد تقدُّم أتباع الكرماني، فانسحب إلى نيسابور فيما سيطر
الكرماني والحارث على مرو[26].
غير أن التحالف لم يستمر طويلًا فما هو إلَّا أنَّ تقاتل
الحارث والكرماني؛ إذ انفض عن الحارث مَنِ انخدع بشعارات القتال في سبيل الحق ورأوا
أن الكرماني يقاتل على العصبية لا على الحق، ثم رأوا كذلك غدرات حدثت من الحارث بن
سريج، فهُزم الحارث بن سريج وقُتِل (رجب 128هـ) بعد ثلاثين يومًا فقط من نصرهما على
نصر بن سيار[27].
وكانت هزيمة الحارث ضربة أخرى من اليمانيين للمضريين بعد
هزيمتهم لنصر بن سيار المضري أيضًا، مما أَجَّج الصراع القبلي، وجعل المضريين أصحاب
ثأر.
وهكذا استمرَّ زعماء خراسان في التقاتل والحرب، وما بين كرٍّ
وفرٍّ، وتحالف وانفصام، كانت الدعوة العباسية تُواصل تقدُّمها بين الناس، وتدخل في
طور جديد.
نشر في ساسة بوست
[2] مجهول: أخبار
الدولة العباسية ص382، والبلاذري: أنساب الأشراف 4/ 123 وما بعدها، وابن عساكر: تاريخ
دمشق 7/ 202 وما بعدها، والصفدي: الوافي بالوفيات 6/ 70 وما بعدها، والذهبي: سير أعلام
النبلاء 5/ 379، 380، والذهبي: تاريخ الإسلام 8/ 368، والزركلي: الأعلام 1/ 59.
[8] في هذه المقولة
سار على خطى أبيه محمد بن علي في اجتناب ذوي الصفات الجسدية المميزة؛ مبالغة في السرية
والتخفي والابتعاد عن أي خيط يمكن أن يؤدي إلى كشف التنظيم.
[10] ابن خلكان:
وفيات الأعيان 7/ 108، والذهبي: سير أعلام النبلاء 5/ 463، 464، والصفدي: الوافي بالوفيات
27/ 41، والزركلي: الأعلام 3/ 28، ود. فاروق عمر: الثورة العباسية ص79.
[11] لكي يكون القارئ
على بينة من الخريطة في خراسان نقول: يُنسب العرب إلى جَدَّين كبيرين هما قحطان وعدنان،
فمنهما تتفرع القبائل العربية، وفيما يخص حال خراسان الذي نناقشه الآن وفي
المقالات القادمة فإننا سنجد كثيرًا لفظ «العرب اليمانية» أو «اليمنية» أو «اليمانيين»
كما سنجد لفظ مُضَر أو المضريين وسنجد لفظ ربيعة أو الرَبْعيين، وسنسمع أسماء بعض القبائل،
فسيكون مهما أن نعلم أن: القبائل اليمانية هي القبائل التي تنتسب إلى قحطان وتشمل قبائل
الأزد وطىء وكنده، بينما تنتسب قبائل ربيعة ومضر إلى عدنان وتشمل قبائل كنانة وبني
سليم وهذيل وثقيف وبني تميم وبني حنيفة.
[20] خليفة بن خياط:
تاريخ خليفة 1/ 95، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 154 وما بعدها، 4/ 169 وما بعدها، وابن
عساكر: تاريخ دمشق 8/ 317، 319 (ترجمة أسد بن عبد الله القسري)، 25/ 255 (ترجمة عاصم
بن عبد الله)، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/ 410 وما بعدها، والذهبي: تاريخ الإسلام
7/ 311، 314، وابن كثير: البداية والنهاية 9/ 342، 353، 10/ 28، 29، والزركلي: الأعلام
2/ 154.
[22] إن هذا يشير
إلى أي مدى وصلت العصبية في خراسان؛ حتى إن أحدهم لَيُحْيِيَ أحلافًا كانت في الجاهلية،
انظر نص هذا الحلف في: الدينوري: الأخبار الطوال ص353، 354.
[23] البلاذري:
أنساب الأشراف 4/ 129، والدينوري: الأخبار الطوال ص352 وما بعدها، والطبري: تاريخ الطبري
4/ 265 وما بعدها.
[27] خليفة بن خياط:
تاريخ خليفة ص109، والبلاذري: أنساب الأشراف 4/ 129، والطبري: تاريخ الطبري 4/ 296
- 298.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق