في مقاله الذي
اشتهر وانتشر، وضع مايكل مور ضمن أسباب توقعه لفوز ترامب بالرئاسة: أنه وفريقه
وأتباعه أكثر حماسة وتمكسا وتعصبا لأفكارهم من جمهور هيلاري كلينتون، ومن ثَمَّ
فهم الأقدر على بذل المجهود في الدعاية والحشد والإقناع، وهم الأكثر نشاطا في
النزول من البيوت والوقوف في الطوابير وانتظار التصويت، وعليه فهم الأوفر حظا في
حصاد الأصوات والفوز بالرئاسة.
هذه
النزعة في التحليل تظهر كثيرا في المؤلفات الغربية التي تحاول تحليل المخاطر
المتوقعة على الحضارة الغربية، إذ تسود قناعة مفادها أن الحضارة الغربية توفر
للمواطن رفاهة مادية بينما لا توفر له رسالة قيمية تداعب خياله وتفجر طاقاته في
ساحات البطولة، لا سيما منذ سادت النزعة التي تستبعد الدين أو تشكك فيه أو تعتبره
شيئا هامشيا للغاية وشخصيا للغاية. وفي هذا الإطار ننقل عن إيان بوروما وأفيشاي
مرجليت - وهذا
الثاني إسرائيلي وأستاذ فلسفة بالجامعة العبرية في القدس وحاصل على جائزة إسرائيل في
الفلسفة- قولهما:
"الطبيعة
البورجوازية، المادية، غير البطولية، وغير الطوباوية، التي تتسم بها الحضارة
الليبرالية يمكن أن تجعل من الدفاع عن هذه الحضارة أمرا عسيرا. وحين تسود السوق
الحرة، كما هو الحال في الولايات المتحدة، يشعر المثقفون أنهم هامشيون، وأنهم لا
يُقَدَّرون حق قدرهم، وينزعون إلى الانشداد نحو السياسة أو نحو السياسات التي
تطلق أكبر المزاعم، وإذ يأخذون حرياتهم على أنها من المسلمات، يقعون بسهولة
فريسة لأعداء الغرب[1]، فجمهورية
فيمار لم تسقط بسبب الوحشية النازية، أو الغباء الرجعي، أو الطموح العسكري، أو
الآراء التي عبر عنها أمثال مولر فان دِن بروك، بل سقطت أن قلة قليلة وحسب كانت
مستعدة للدفاع عنها"[2].
وهكذا يبدو أن كلينتون لم
تجد إلا قلة قليلة فحسب كانت مستعدة للبذل من أجلها مقارنة بترامب، ولو مددنا الخط
على استقامته لوصلنا إلى أن كلينتون تمثل نموذج الحضارة المادية الليبرالية
البرجوازية غير البطولية، نموذج الإحصائيات الباردة والابتسامات الدبلوماسية والحفاظ
على التوازنات وعلى الخطاب المائع المغازل للجميع، في مقابل ترامب المتحمس المتعصب
الصادم الطموح الذي لا يجامل ولا يداري ولا يبالي، نموذج الفكرة الواضحة الصريحة
مهما كانت حادة ومتطرفة ومزعجة، الفكرة التي تثير الأنصار وتلهبهم كما تصنع الخصوم
وتفزعهم، وهكذا صنع ترامب أنصاره، وبحماستهم تلك فاز!!
بهذا المنظور يمكن القول
بأن الذين انتخبوا ترامب إنما نظروا إليه كبطل يمكنه إنقاذ أمريكا التي تتدهور
وتسير في الطريق الخاطئ لنموذج حضاري صار يجلب الغرائب –كما يقول مايكل مور-
كالرئيس الأسود، وامرأة، ويُتوقع أن يأتي بعدهما بمثلي أو بمتحول الجنس ثم بحيوان
بعد أن يسبغ عليه "حقوق الإنسان"!!
ولئن كان هذا مفهوما في
ذلك السياق، فالمثير للتأمل حقا هو ما كان يجري عندنا..
لم تتعامل عموم البيئة
العربية والإسلامية، كما تبدى من خلال التعليقات الإعلامية وعلى مواقع التواصل
الاجتماعي، مع فوز ترامب بالفزع الواجب المتوقع، فقط تلك الشرائح النخبوية
المنسوبة إلى الواقعية والعقلانية والسياسة والمحافظة والتوازن... إلخ هي التي
تلقت نبأ فوز ترامب كصعقة كهربائية حادة، خصوصا وقد خانتهم استطلاعات الرأي
والإحصاءات، بل نقولها بوضوح أشد: خانتهم أفكارهم عن الديمقراطية وعن الشعب
الأمريكي والتي لم يكن متوقعا بحال أن تهديهم إلى مثل هذه النتيجة: لقد أنتجت
"آليات الديمقراطية" ما يناقض "فلسفة وقيم الديمقراطية"،
وانقلبت "الوسيلة" على "الغاية"، وصارت أمامهم مهمة عسيرة في
تفسير ما حصل.
لقد أسفرت تعليقات عموم
الجماهير عن حالة من اللا مبالاة، وكثرت تعليقاتهم التي تجري على هذا المذهب:
"لا تنتخبوا ترامب، سيدمر العالم بجنون، انتخبوا كلينتون، ستدمر العالم
بعقلانية"، "الفارق بين ترامب وكلينتون أن الأول سيقطعنا بالساطور بينما
الثانية ستقطعنا بالشوكة والسكين"، "فاز أبو لهب على حمالة
الحطب".. وهكذا! ولم يُخْفِ كثير منهم أن فوز ترامب أفضل لأنه يمثل حالة من
الوضوح تغني الجميع عن الزخارف التي تتجمل بها السياسة الوحشية. زملاؤنا في المعهد
المصري رأوا في فوز ترامب راحة لهم من البحث والتحليل لفرط صراحته وبساطة أفكاره،
على عكس كلينتون ذات الثقل الفكري والسياسي المغلف بدبلوماسية، ومدير المعهد قال:
"فوز ترامب سيختصر على العالم فصول القصة لنصل سريعا إلى النهاية".
بخلاف تلك النخبة "الواقعية
العقلانية... إلخ"، يبدو العالم وقد سيطرت عليه نزعة غضب وروح متفجرة، إن لم تكن
مرحبة بمن يبدو أنه سيهدم المعبد فهي على الأقل لا تبالي به. بعضهم الذي أدركه
الغرق وافترسته المصائب يردد مع أبي الطيب المتنبي: أنا الغريق فما خوفي من
البلل؟! وبعضهم لم يدركه الغرق بعدُ، لكنه يعلم أن الخير لن يدركه كذلك، وحيث صارت
الأحلام بعيدة المنال فهو يردد مع أبي فراس الحمداني: إذا متُّ ظمآنا فلا نزل
القطر!
تمنى بعضهم الهجرة إلى
خارج الكوكب! فنصحهم آخرون بأنه لم يعد في العالم مكان آمن للهجرة، لقد صار المكان
الآمن هو خط القتال الأول، ففيه نصر أو فيه موت سريع بلا إذلال! لقد صار ترامب –مثل
بوش الابن وشارون من قبله- شخصا يعقد عليه الثوريون والجهاديون آمالهم وهم أعدى
أعدائه، ينتظرون أن تثير سياسته طاقة الأمة وتحفزها وتنشطها، وتقطع على عملائه
وأذنابه طرقهم الالتوائية في تجميل أنفسهم ومداراة عمالتهم، ثم هي توفر عليهم عناء
الاشتباك مع التوافقيين والمسالمين ومن يحبون دائما البحث عن حلول وسط، لسان
حالهم: جاءكم من لا يفهم هذه اللغة، فرددوا مع المتنبي:
إذا لم يكن من الموت
بُدٌّ .. فمن العجز أن تموت جبانا
ولو أن الحياة تبقى لحيٍّ
.. لعَدَدْنا أضلَّنا الشجعانا
"ترامب يليق بهذا العالم"..
قالها الكثيرون تشفيا
وانتقاما، وضعوا صوره مع السيسي وبشار وغلام كوريا الشمالية وأمثالهم، ولكن: قد
قالها الكثيرون أيضا على سبيل التفسير، إن قرونا من زراعة الشر والدمار لا بد لها من
ثمار، والزينة لا تثبت على الوجه أبد الدهر، ولا بد أن يكشف الشيطان وجهه القبيح يوما..
ويبدو أن الجميع سئم الملالة، ويريد أن يرى الوجه الحقيقي للشيطان!
يتوقع المرء الكثير من
الدراما في سنوات ترامب، إذ كيف برجل يرى فيه شعبه وأعداؤه بطلا منقذا لحضارتهم؟!
[1] هنا يقصد
بأعداء الغرب من يرون أنفسهم حملة رسالة وفكرة، ولهذا يتحركون بدوافع بطولية
ويبذلون التضحيات، مثل الفاشية والنازية والشيوعية والإسلامية.. فهذه التوجهات
تستهوي المثقفين لما فيها من بطولة وكفاح وشعور بتحقيق الذات أكثر مما تستهويهم
الليبرالية الدنيوية الخالية من كل هذا، فيقعون حينئذ في حبال تلك التوجهات
المعادية للغرب، ويمارسون الهجوم على الحضارة الغربية من خلال الحرية التي أتاحتها
لهم هذه الحضارة نفسها، فيرسخون لكراهيتها والنفور منها، وبالتالي يعمقون من عيوبها
ويوسعون ثغراتها، ما يجعل أبناء هذه الحضارة أنفسهم ينفرون منها فيكونون أبعد عن التفكير
في التضحية من أجلها والدفاع عنها.. وبالتالي يكون هؤلاء المثقفون أنفسهم من أسباب
انهيار الحضارة الغربية.
[2] إيان
بوروما وأفيشاي مرجليت، الاستغراب: موجز تاريخ النزعة العدائية للغرب،
ترجمة: ثائر ديب، (نسخة إلكترونية من موقع مكتبة نون، بدون بيانات نشر)، ص86.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق