نضع اليوم الكتاب الثالث في "مكتبة الثائر المصري"، بعدما
انتهينا من خلاصات كتابين عن أحمد ياسين وتأسيس حماس (الحلقة الأولى، الثانية) وعن التجربة
الجزائرية (الحلقة الأولى، الثانية، الثالثة)، ذلك هو
كتاب "حقيقة النظام الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين" لمؤرخه
والقيادي فيه: محمود الصباغ.
ومحمود الصباغ شاهد عيان إذ كان من القيادة العليا
للنظام الخاص، ولم يؤلف –فيما أعلم- غير كتابيْن، الأول هو الذي بين أيدينا، وهو
يروي التجربة منذ البداية وحتى انكشاف التنظيم في حادثة الجيب المشهورة (1948م)،
والثاني يعد امتدادا للأول وإكمالا له وهو كتابه "التصويب الأمين لما كتبه
القادة السابقون عن النظام الخاص للإخوان المسلمين"، والكتابان هما أدق تأريخ
كُتب عن هذه التجربة على الإطلاق، بل هذا الكتاب الثاني لا مثيل له، ولا يمكن فهم
ما جرى بين عبد الناصر والإخوان بغير الاطلاع عليه. (للمزيد عن محمود الصباغوكتابيه).
لم يكن النظام الخاص للإخوان مجرد حركة عسكرية بل كان
جهاز مخابرات أيضا، وكان عصب الجماعة وعمودها الفقري، وكان الطليعة المهيئة لصناعة
التغيير، فالجماعة "العلنية" في ذلك الوقت كانت مفتوحة يدخلها من يشاء،
ونشاطها دعوي اقتصادي إعلامي وسياسي، أما النظام الخاص فهو جناح المقاومة الذي
يعمل بدأب للتحرير والاستقلال. وتعد تجربة النظام الخاص أنضج تجربة مقاومة مصرية
على الإطلاق، فهي أقوى من سائر الحركات التي عاصرتها كالقمصان الزرق والخضر وباقي
الحركات السرية، وهي أنضج وأحكم من تجربة الجهاد والجماعة الإسلامية في الربع
الأخير من القرن العشرين، إلا أنها أجهضت مرتين: مرة بالانكشاف الأمني المفاجئ في
حادث السيارة الجيب ولما ظهر من قوة الإخوان لما اشتركوا في حرب فلسطين، والمرة
الثانية –وهي القاصمة- بالضربة الناصرية مطلع الخمسينات، ولكن الضربة الناصرية ما
كانت لتنجح لولا أن القيادة السياسية للإخوان حينئذ (ممثلة في الهضيبي وفريقه) كانت
حافلة بالسذاجة والأخطاء والارتباك، فاستعملها عبد الناصر لضرب النظام الخاص
ورجاله، ولما تمَّ له هذا، انطلق فافترس الإخوان جميعا.
في هذه السطور القادمة نعرض لخلاصات هذا الكتاب على لسان
محمود الصباغ، ونكرر دائما أن ما نقوم به في هذه السلسلة إنما هو تعريف مختصر لا
يُغني عن قراءة الكتاب الأصلي لمن أراد مزيد فهم وتوسع، ولكونها شديدة الاختصار
فهي تحتاج قدرا وافرا من حضور الذهن.
خلاصات الكتاب:
1. تعرض الإخوان لأربع ضربات قاصمة في جيل واحد؛ الأولى
حين صدَّقوا النقراشي وانخدعوا بسعيه في التحرر من الإنجليز ودعم جهاد فلسطين فما
لبث أن تحول عليهم فحلَّ جماعتهم وسجنهم وعذبهم فأثار فتنة كان أول ضحاياها.
والثانية حين صدَّقوا عبد الناصر الذي كان منهم ثم صديقا لهم وتولى قيادة الضباط
الأحرار بمشورتهم وكانت المبادئ الستة صورة من دعوة الإخوان، لكنه ما إن استقر في
الحكم حتى شن عليهم حرب إبادة (1954م). ثم كانت الثالثة (1965) أشد وأشنع وأقبح من
التي قبلها. ثم كانت الرابعة حين انقلب السادات عن مساره في إتاحة الحريات والسماح
بالمعارضة فرأى نفسه فرعونا يحكم عبيدا حتى خرج له منهم شباب أرسلوه إلى النار في
يوم زينته. وهكذا لا بد من دراسة التاريخ للاستفادة من حِكَمِه البالغة حتى لا
يأتينا انقلاب آخر.
2. لم أنشغل بالسياسة حتى نهاية دراستي الثانوية، فكل
هذه الأحزاب مجرد خدعة لم تقبلها فطرتي البسيطة، يعلنون أنهم يسعون للاستقلال
بينما الإنجليز أنفسهم من يصرحون لهم بالعمل السياسي، إنما هو اتفاق ضمني يُترك
لهم فيه حرية القول والكلام للاستهلاك المحلي، وانتخاباتهم ذاتها خدعة زائفة، ولو
صدق منهم أحد في عداوة الإنجليز لسلك السبيل الفطري الطبيعي: الجهاد والمقاومة.
3. الجهاد فطرة، فليست مصر أول دولة تُحتل، ولا يحق لشعب
إذا هُزِم جيشه أن يستسلم للمحتل احتراما لقانون المحتل، وأبطال المقاومة في كل
الدنيا هم المجرمون في نظر قانون المحتل. والجهاد فريضة إسلامية، وهو رسالة النظام
الخاص ومهمته ضمن دعوة الإخوان المسلمين. والمسلم يجاهد حماية للدعوة وضمانا
للسِّلْم وأداء للرسالة الكبرى التي حملها المسلمون للإنسانية، فالمسلم حرام عليه
أن يجاهد لغير مقصد الرسالة كحب الظهور أو المغنم أو المال، ولذلك كان الجهاد في
الإسلام رحمة وكانت له آداب وتعاليم وضوابط واضحة.
4. كتب الكثيرون من صفوة الإخوان عن النظام الخاص –ومنهم
المرشد عمر التلمساني- فأخطأوا وظلموا، وذلك أنهم لم يكونوا فيه ولا علم لهم
بأموره، وقد اقتصرت على تصحيح هذا ثلاثا وثلاثين سنة شفاهة وما كنت أود أن أكتب
علنا لولا أن بعض الإخوان صار ينشر مذكراته وصارت تنشرها له صحف واسعة، فوجب
التصحيح بالتأليف والكتابة.
5. بتدبير عجيب التقيت بمصطفى مشهور الذي فاتحني في
الانضمام للإخوان، ولما أبديت له عدم تحمسي للأحزاب ذكر لي أن الإخوان المسلمين لا
يسعون للحكم تحت الاستعمار بل يعملون على جهاده بالقوة والسلاح، وتلا علي بعض آيات
الجهاد التي سمعتها مندهشا ومبهورا، فبرغم نشأتي مسلما في قرية مسلمة إلا أن كل
مصادر تعرفي على الإسلام في المسجد أو المدرسة لا تتناول شأن الجهاد أبدا حتى
انحصر الإسلام في ذهني في العبادات والأخلاق ولم أشعر أن فيه جهادا! ثم اصطحبني
إلى دار الإخوان فسمعت البنا يتكلم في شأن الجهاد كلاما واضحا بيٍّنًا فانبثق في
نفسي نور ساطع وخرجت وأنا إخوان أبحث عن طريقة التنفيذ. ففاتحت مشهور في ضرورة
تكوين جيش مسلم فأخذني إلى عبد الرحمن السندي بصفته المسؤول عن تكوين هذا الجيش،
وكان السندي شابا ديِّنًا عازما واعدا صادقا رقيقا، وسرعان ما استقر أمرنا على وضع
قواعد تنظم هذا الجيش. ولن أنطلق في وصف هذا الجيش إلا من خلال كلام أعدائه فيه،
أولئك القضاة الذين حاكموه في ظل الاحتلال بقوانين استثنائية وضعها مجرمون على
أهون الأشياء، ليطمئن القراء أنهم يقرأون الحقيقة بلا أي زيف، فالفضل ما شهدت به
الأعداء.
6. أعلن النقراشي استسلامه أمام العصابات الصهيونية
ونادى الأمم المتحدة بفرض هدنة دائمة مع العدو، وهو ما طرب له اليهود، وسرعان ما
تحول إلى الداخل وأعلن أنه اكتشف عدوا داخل مصر هو أشرس وأخطر من اليهود، وهم
الإخوان المسلمون، وأن الحكومة اكتشفت في سيارة الجيب أوراقا ووثائق تثبت خطورة
هذه الجماعة، وأصدر أمرا بحل الجماعة، ووجَّه إلى اعتقال أفرادها حتى من كانوا
يجاهدون مع الجيش المصري في فلسطين، وجاء في قرار الحل حظر إنشاء أي هيئة تتولى
شيئا مما كان يدعو إليه الإخوان، أي أنه حظر -عمليا- الدعوة للإسلام ومبادئه. إن
الدماء لا تنتظر أمرا إداريا لتغلي في العروق، وهذا حال يدفع الدماء لتغلي من
تلقاء نفسها، ولا يمكن لوم بعض شباب تتحد إرادتهم في هذا الظرف المثير على قتل هذا
الداعي إلى الكفر بالله والمستسلم لليهود! بل لقد توقع النقراشي نفسه أنه
"سيدفع ثمن هذا القرار رصاصة أو رصاصتين في صدره".
إلى هنا انتهت المساحة المخصصة، ونواصل في المقال القادم
إن شاء الله تعالى.
نشر في مدونات الجزيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق