البحث في "حقوق الحيوان في الإسلام" من أكثر
الأمور التي أثرت فيّ، فقد كنت قبله لا أتوقع نصوصا مفصلة ولا شاملة إلى هذا الحد،
حتى إذا بدأت في البحث فاجأتني غزارة نصوص الوحي بما لم أتوقع، ثم جاء ميراث أجدادنا
الفقهاء ليشرح ويفصل ويرتب فاستوى الأمر بناء مدهشا عجيبا يسر الناظرين، خالدا على
مر السنين.
والحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام، فما أحسب أن من
ينظر في هذا المبحث ممن لا يكون مسلما ثم لا تضربه الدهشة مما يرى، ثم يبقى على
اعتقاده القديم في أن هذا الدين ليس بوحي، وإنما نتاج الزمان في القرن السادس
الميلادي والمكان في صحراء الجزيرة القاحلة والبيئة الجاهلية التي لم تكن تقيم
للإنسان فضلا عن غيره من الأحياء حقا.
وباستقراء النصوص في هذا الموضوع بدا لنا أنها خمسة
حقوق: حق الحياة، حق الرعاية الصحية، حق العناية في المأكل والمشرب والراحة، حق
الإيواء للحيوان الذي لا يستطيع الاستقلال بحياته، حق جودة النسل.
ونبدأ في هذه الأسطر القادمة بـ "حق الحياة"
تاركين بقية الحقوق لمقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
1. حق الحياة
وهو حق جاء به
الإسلام لحماية الكائنات من الانقراض، وذلك في زمن لم يعرف فيه أحد معنى
"التوازن البيئي" ولم يتفطن فيه أحد لمشكلة انقراض الأنواع والسلالات.
وأول حفظ للنوع
كان في عهد سيدنا نوح عليه السلام، حين أوصاه الله بأن يضع في السفينة من كل نوع
زوجين، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ
اثْنَيْنِ...} [هود: 40] وحكمة هذا "بقاء أصل النسل بعد الطوفان"[1].
وقد أرشد النبي
r إلى هذا المعنى إذ يقول: "لولا
أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم"[2].
وقد اختلف
العلماء في معنى "الأسود البهيم" الذي أمر النبي بقتله، والأقرب من
مجموع أقوالهم أنه الكلب الضار، مثل المريض والعقور، وأما ما لا ضرر فيه فقد
"استقرَّ الشرع على النهى عن قتل جميع الكلاب التي لا ضرر فيها؛ سواء الأسود
وغيره"[3].
ومما يلفت
النظر هنا قول الإمام الخطابي حول الحكمة من هذا النهي، فقد ظهر في كلامه معنى
"التوازن البيئي" الذي عُرف بعده بنحو ألف عام، قال: "كره إفناء
أمة من الأمم، وإعدامَ جيل من الخلق حتى يأتي عليه كله، فلا يبقي منه باقية؛ لأنه
ما مِنْ خلق لله تعالى إلاَّ وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة"[4]، وما كان هذا
الكلام ليخرج إلا من رجل يؤمن في قرارة نفسه أن هذا الكون مخلوق بقدر وكل شيء فيه
معلوم وموزون.
وإذن، فثمة
محددان جاءت بهما الشريعة لما أبيح قتله من الدواب؛ الأول: صدور الأذى عنه،
والثاني: المنع من الإبادة أو التعقب لإفناء السلالة.
وبهذا ضبط
العلماء ما قد يفهم من حديث عائشة رضي الله عنها والذي فيه إباحة قتل بعض الدواب
حتى في الحرم، وهو قوله r: "خمسٌ
فواسقُ[5]
يُقْتَلْن في الحرم: الفأرة والعقرب والحُدَيَّا والغراب والكلب العقور"[6].
وقد استنبط
العلماء من تسميتها بالفواسق الحكمة في قتلها، فالفسوق في اللغة هو الخروج، وهذه
الدواب خرجت عن طبيعة الدواب بما لها من طبيعة الأذى والضرر، وقيل لخروجها عن حكم
الحيوان في تحريم قتله في الحرم[7].
فالعلة هي
الأذى، وبذلك يكون العدد ليس منحصرا في الخمس، وهذا قول أكثر العلماء. قال ابن
دقيق العيد: "التنوين (خمسٌ) يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى، وقد يشعر
بأن الحكم المرتب على ذلك -وهو القتل- معلَّل بما جعل وصفًا وهو الفسق؛ فيقتضي ذلك
التعميم لكل فاسق من الدواب"[8]. وقال ابن
حجر: "التقييد بالخمس وإن كان مفهومه اختصاص المذكورات بذلك، لكنه مفهوم عدد،
وليس بحجة عند الأكثر، وعلى تقدير اعتباره فيحتمل أن يكون قاله r أولاً، ثم بين
بعد ذلك أن غير الخمس يشترك معها في الحكم؛ فقد ورد في بعض طرق عائشة بلفظ أربع، وفي بعض طرقها بلفظ ست، فأما طريق
أربع فأخرجها مسلم من طريق القاسم عنها فأسقط العقرب، وأما طريق ست
فأخرجها أبو عوانة في المستخرج من طريق المحاربي عن هشام عن أبيه عنها فأثبتها وزاد الحية، ويشهد
لها طريق شيبان التي تقدمت من عند مسلم، وإن كانت
خالية عن العدد... وقد وقع في حديث أبي سعيد t عند أبي داود نحو رواية شيبان وزاد السبع العادي فصارت سبعًا..."[9].
والكلب العقور –عند
جمهور العلماء[10]- هو كل دابة
تعقِر الناس أو تخيفهم، قال الإمام مالك: "كل ما عقر الناس وَعَدَا عليهم
وأخافهم؛ مثل: الأسد، والنمر، والفهد، والذئب فهو الكلب العقور"[11].
وحيث كان الأذى
هو علة الحكم بالقتل، فقد أخرج العلماء من هذا الحكم الغراب الصغير الذي يأكل الحب
من ذلك (غراب الزرع)، وعند المالكية خلاف في قتل صغير الحية والعقرب التي لا تتمكن
من الأذى[12].
وهكذا حافظت
شريعة الإسلام على حق الأنواع في البقاء والحياة، وحافظت بهذا على التوازن البيئي،
ومنعت مما عانت منه البشرية بعدئذ بانقراض بعض الأنواع وبعض السلالات من أنواع
أخرى.
نشر في إسلام أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق