صدر الشهر
الماضي في اسطنبول كتاب "نظريات ونماذج بيت المقدس" لأستاذ العلاقات
الدولية د. عبد الفتاح العويسي، وفي هذا الكتاب مزجٌ بين فروع عدة من علوم السياسة
والتاريخ والعلاقات الدولية، ولذا فقد كان هو مطلع سلسلة عنوانها "نحو تصور
جديد للعلاقات الدولية" مما يجعلنا نتوقع أن السلسلة تخبيء لنا المزيد منها.
كذلك جاء العنوان الفرعي للكتاب على هذا النحو "لتفسير الأحداث المعاصرة
وتوجيهها وصناعة التاريخ المستقبلي".
المؤلف اسم معروف
مشهور في الدراسات المقدسية، وهو حقل الدراسات الأكاديمية المتعلقة ببيت المقدس،
وهو مؤسس ومدير الوقف المعرفي لدراسات بيت المقدس، الذي يقيم مؤتمرا علميا سنويا
في هذا المجال، وتصدر عنه مجلة فصلية محكمة أيضا، فضلا عما يصدر من الدراسات الأخرى
خارج هذه السياقات.
لست هنا في
معرض التعريف بالمؤلف أو الكتاب، مع أن الأمر يستحق ويبدو شيقا ومثيرا، لكن سأركز
على مسألة واحدة تعد جوهر الفكرة التي بُنِي عليها الكتاب، وهي فكرة تحولت –مع
دراسات المؤلف عبر عقود- إلى نظرية في العلاقات الدولية، والواقع أن هذه النظرية
تفتح الطريق للتفكير في عدد من الأمور بشكل مختلف، وبشكل عام فإن قوة النظرية هو
فيما تطرحه من نموذج تفسيري جديد قادر على ضمِّ عدد من الظواهر في سياق واحد.
في هذه السطور
أسوف تعريفا عاما لهذه النظرية مؤملا أن يفتح هذا الطريق لقراءة الكتابة ومواصلة البحث
في الآفاق الجديدة التي يفتحها هذا التفسير الجديد.
بدأت النظرية
من قول الله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى الذي باركنا حوله).
إذن، فالمسجد
الأقصى كما في الآية هو مركز البركة، وتنتشر البركة من حوله، أي أننا لو رسمنا
خريطة مفترضة للبركة، فستبدأ دوائر البركة تنداح من مركز المسجد الأقصي وتتسع
حوله.
لكن أين تنتهي
مساحة البركة هذه؟.. فرسَّام خريطة البركة يريد أن يعرف أن يقف!
يجيب المؤلف:
إلى المسجد الحرام! ويستدل على اختياره هذا بالآية نفسها، فقد حددت الآية ذلك
بعبارة (من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)، وبهذا فإن المسافة من المسجد الحرام
إلى المسجد الأقصى هو نصف قطر دائرة البركة.
وبهذا تكون
الدائرة التي مركزها المسجد الأقصى وحافتها المسجد الحرام هي دائرة البركة الكبرى
المذكورة في آية سورة الإسراء.
يضيف المؤلف،
ولا يمنع هذا من رسم دوائر أصغر منها، لأن منطقة بيت المقدس لها فضائل خصوصيات
أخرى وردت في العديد من الأحاديث والآثار، وكذلك منطقة الشام لها خصوصيات أخرى
وردت في آحاديث وآثار أخرى، ومن ثَمَّ قام المؤلف بتقسيم دائرة البركة الكبيرة هذه
إلى دائرتين أصغر منها.
الدائرة الأولى:
وهي مركز إشعاع البركة الأقوى المنطلق من بيت المقدس، ويشمل إقليم بيت المقدس.
والدائرة
الثانية: التي هي متوسطة في البركة، وهي أبعد قليلا، تشمل منطقة مصر والشام وجزيرة
قبرص في البحر المتوسط.
وما إن تم هذا
الرسم وجرى توقيع هذه الدوائر على الخريطة حتى بدأت تظهر نتائج مثيرة للتأمل، وهي
النتائج التي تحتاج مجهود المؤرخين وأساتذة العلاقات الدولية في البحث وراءها
وتعميقها لتكوين النظرية الجيوسياسة الخاصة ببيت المقدس.
من خلال مجهود
بحثي تاريخي، توصل الدكتور خالد عبد الفتاح العويسي، مدرس التاريخ بجامعة ماردين، وهو
ابن المؤلف، إلى رسم إقليم بيت المقدس، الذي يمثل الدائرة الأولى من البركة،
الدائرة الضيقة الصغيرة التي ينطبق عليها أحاديث وآثار فضائل بيت المقدس. وعلى
مجهوده هذا تم اعتماد مساحة الدائرة الأولى.
يمكن بمجهود
تاريخي بسيط إثبات الارتباط التاريخي القوي بين مصر والشام، وأنهما يمثلان جناحان
لقوة الأمة، وعبر التاريخ الإسلامي كان اتحاد مصر والشام في دولة واحدة يمثل لحظة
من لحظات قوة الأمة، كما كان انفصالهما في حكمين مختلفين هو من لحظات ضعف الأمة،
هذا أمر يمكن لباحث التاريخ استدعاءه بسهولة، وهو يمثل ركنا ركينا من النظرية
الجيوسياسة للعالم الإسلامي.
لكن النتائج
الجديدة التي جاءت بها النظرية، وهي التي تدعو للدهشة والتأمل، كانت أعمق من هذه
النظرة السريعة: لقد أظهرت دوائر الرسم أن المسافة بين بيت المقدس وحلب هي نفسها
المسافة بين بيت المقدس والإسكندرية، أي أن الإسكندرية وحلب هما على حافة نفس
الدائرة المرسومة من مركز بيت المقدس. وهو ما يعني حسب النظرية أن كمية البركة
الواصلة إليهما من بيت المقدس متساوية، وهو ما يعني حسب النظرية أيضا أنهما بأهمية
واحدة في الوزن الجيوسياسي في النظرية العامة للأمة.
باستدعاء
التاريخ هنا سنرى أن المدينتين كليهما كانتا من معاقل الجهاد في العديد من فترات
تاريخ الأمة، ثم من معاقل الثقل المالي الاقتصادي في العديد من الفترات أيضا.. ومما
يلفت النظر أن بداية تحرير الشام في عصر الدولة الزنكية كان في حلب، وبداية تحرير
مصر في نفس العصر كان من الإسكندرية بمجهود صلاح الدين وأسد الدين شيركوه. لن نمضي
الآن وراء الاستنتاج فإنما المقصود هنا التعريف بما قد يأتي من نتائج مدهشة.
وعلى ذات
الغرار فإن من أعجب النتائج أيضا أن المسافة بين بيت المقدس والمدينة المنورة هي
ذات المسافة بينها وبين أنقرة. ولقد كانت أنقرة (التي تضم في جنباتها مدينة عمورية
القديمة) هي المدينة الثانية المقدسة لدى الإمبراطورية البيزنطية، ولذلك أرادها
المعتصم بالفتح ليثأر من غارة الروم في وقته، وسمي فتحها بفتح الفتوح في القصيدة
الشهيرة لأبي تمام "السيف أصدق إنباء من الكتب"، كما أن المدينة المنورة
هي المدينة الثانية المقدسة في الإسلام.
كذلك فإن
المسافة بين بيت المقدس ومكة هي ذات المسافة بينها وبين اسطنبول، اسطنبول التي هي
القسطنطينية والتي هي المدينة المقدسة الأولى للإمبراطورية البيزنطية، والتي بشر
النبي بفتحها وكان فتحها عملا غير مجرى التاريخ كله، حتى عرف فاتحها بالسلطان
الفاتح. كما أن مكة هي المدينة المقدسة الأولى في الإسلام.
يجادل المؤلف،
صاحب النظرية، بأن موقع المدينة من خط البركة هو نفسه موقعها من الوزن الجيوسياسي
للأمة، ولذلك أخد في تتبع مواقع المدن وخرج بنتائج تستحق التأمل والتدبر، وهي
للوهلة الأولى مثيرة ومدهشة، وتلفت النظر إلى بعض المدن الواقعة على خطوط
استراتيجية مهمة، كما ستعيد لفت النظر إلى تاريخ بعض المدن المغمور المطمور، ليعاد
فهم العلاقة بين السيطرة على هذه المدن.
لا ريب ستثير النظرية من الدهشة بقدر ما ستثير من الخلاف، ولكن المقصود هنا
هو التعريف بها ولفت النظر إليها، عسى أن يساعد هذا علماء الأمة ومفكريها
والحريصين عليها في إطار سعيهم لفهم سنن الحياة ومسار التاريخ وقوانين الجغرافيا
وموازين العلاقات الدولية.
ما شاء الله.
ردحذفبارك الله فى علمك وعملك
ردحذفنريد رابط الكتاب مشكورا محفوظا بالسلامة
ردحذفبارك الله فيك. رابط الكتاب من فضلك
ردحذف