"ونحن نرقب ذلك اليوم الذي يتحول فيه
الحجر بأيدي حماس إلى رصاص، ويتبدل الحجر، وتحل القنبلة والبندقية".
عبد الله عزام
– قبل استشهاده بستة أشهر
(1) شيخان
شيخان من فلسطين، ومن حركة الإخوان المسلمين، كان لهما نصيب
الأسد من حركة الجهاد الإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين: عبد الله عزام،
وأحمد ياسين!
وعزام أصغر من ياسين بأربع سنوات، لكن سبقه إلى الشهادة
بخمسة عشر عاما، وكان عزام يلقب قرينه أحمد ياسين بـ "رمز صمود الحركة
الإسلامية"[1]، وهما مثلان في علو الهمة وعظمة النفس، فالإنتاج الفكري
لعزام ضخم كأنما هو إنتاج شيخ متفرغ للعلم مع أنه شيخ المجاهدين العرب في أعظم
ملحمة جهادية في القرن العشرين (حرب أفغانستان)، وأما ياسين فقد صار مثلا في
التاريخ: قعيد يؤسس حركة مقاومة في ظروف مستحيلة!
ومن المؤسف أن تراث الشيخين لا يُعامل بالاحترام ولا
بالاهتمام اللائق به من شباب المسلمين، وفي القلب منهم شباب الحركات الإسلامية
الذين يفورون بالغضب والطاقة، ولئن كان البعض يتهيب الإقدام على الإرث الكبير
لعزام، فما هو عذر من يتخلف عن الاهتمام بالحلقات الثمانية الوحيدة التي تمثل
خلاصة فكر وتجربة الشيخ أحمد ياسين؟! (وأعني بها: حلقات شاهد على العصر).
والشيخان امتداد أصيل لحسن البنا وسيد قطب، وكلاهما
يعترف لكليهما بالفضل والأثر في نفسه وفكره، ولقد كتب عزام كتابا عن قطب سمَّاه
"عملاق الفكر الإسلامي"، وكان ياسين يجتهد في شبابه لإدخال وتدريس
الظلال إلى قطاع غزة بطباعته ونشره، ومن المثير للأحزان الآن القول: بأن نجاح
الشيخين في عملهما هو بمقدار ما فارقا فيه النهج الذي صارت إليه الجماعة الأم في
مصر، وهو ما سنرى بعضه بعد قليل، وربما نتعرض لبعضه الآخر في مقالات لاحقة.
وكنا قد وعدنا في المقال الماضي أن نستكمل بعض الدروس من سيرة وخلاصة تجربة الشيخ أحمد ياسين، فالله
المستعان.
(2) مرحلة الاستضعاف
لم يقبل الشيخ ياسين أن تكون الحركة الإسلامية في أي وقت
من الأوقات تحت تحكم السلطة العميلة أو حتى "رفاق الكفاح" (!!)
العلمانيين، لو صحَّ التعبير، صحيحٌ أنه سعى ما وسعه الجهد ألا يثور اقتتال داخلي
بين حماس وبين فتح أو سلطة فتح فيما بعد، إلا أنه في الوقت نفسه لم يُرق كرامته
وكرامة الحركة الإسلامية سعيا لهذا التوافق ولم يجعل يده الأدنى والأسفل ليشتري
سلاما مع فتح ومع السلطة.
لقد دخل الشيخ ياسين مواجهات بعضها دموي مع فتح منذ
الثمانينات، وبدأ هذا حين أرادوا وضع شيوعيين ومسيحيين في مجلس أمناء الجامعة
الإسلامية (فرع الأزهر بغزة) فوقف الإسلاميون ضد هذه المحاولة وأفشلوها، وكانت
جهودهم تلك تصب في صالح محمد عواد العميد القديم للجامعة رغم أنه لم يكن صالحا بل
لا يحب نصرة الإسلام كما يصفه الشيخ ياسين، لكن الحفاظ على إسلامية الجامعة كان هو
الهدف الأول والأكبر، وهو ما تمّ، وكان هذا في عام (1980م).
بعد ذلك بعامين كانت الحركة الإسلامية تخوض مواجهة أخرى
ليكون رئيس الجامعة إسلاميا فيحفظ لها هويتها ومظهرها الإسلامي ورشحوا لها د. محمد
صقر المشهود له بالعلم بدلا من رياض الأغا العلماني ذي الفساد المالي والاتصالات
مع اليهود والذي تتكرر منه الشكوى، وتمسكت الحركة الإسلامية بمرشحها ووصل الأمر
إلى صدام دموي بين الشباب في الجامعات واغتالت فتح واحدا من الأساتذة الإسلاميين،
وفي النهاية فرضت الحركة الإسلامية رأيها وفشلت بلطجة فتح في انتزاع الجامعة وتلقى
شبابها ما يستحقون، وخرجت الحركة الإسلامية منتصرة في هذه المعركة، وانتهى زمن
إجبارها علنا على شيء لا تريده لتبدأ بعدئذ مرحلة التفاهم.
لكن مرحلة التفاهم "العلني" يصحبها كذلك
محاولات اغتيال وتصفية سرية، فقد حدث أن أدخلت فتح قناصا تابعا لها إلى قطاع غزة
لاغتيال بعض عملاء إسرائيل، فدسَّت في قائمة العملاء أسماء تابعة للحركة الإسلامية،
فلما اكتشف الشيخ ياسين هذا حذرهم وهددهم "أوعى، والله بتحرقوا البلد
أنتم"! فكفُّوا وانتهى الأمر.
ثم انتقل الأمر لنزاعات الشباب، وتجرأوا ذات يوم على جرح
فتاة في وجهها وإلقاء "ماء نار" على شاب فأصيب بالعمى، فكان الرد جاهزا،
يقول الشيخ: "فمش معقول نتحمل أن واحد يفقد عينيه وهم بيتفرجوا عليه، وست طالبة
في الجامعة يروحوا يضربوا بالشكل هذا، كلام مش منطقي.. ناخد قرار بضرب عناصر معينة
منهم اللي إلها يد في هذا، فهم قاموا بالرد وضربوا عناصر منا.... بس الأغلبية كانت
منهم، يعني الضرب منا واحد بس، هم انضربوا كذا واحد، واتكسروا وانتهت بعد هيك بمصالحة
يعني ضمنية، تهدئة داخلية بدون صراعات تانية".
والملاحظ في هذه الوقائع جميعا أن الحركة الإسلامية كانت
في بداياتها الأولى، أي أنها في "مراحل الاستضعاف" بالتعبير المشهور،
لكنها مع ذلك لم تستلذ البقاء في هذه المرحلة ولم تسكت عن كل حق نزولا عند
"سمات المرحلة"، وإنما كان الاستضعاف هو التحدي الذي تحاول دائما
مغالبته والتخلص منه والتحول عنه.
وقد تطور الأمر إلى ما هو أكثر من ذلك فيما بعد، وذلك أن
حركة فتح منذ أن صار لها سلطة عملت على القضاء على الحركة الإسلامية والانفراد
تماما بالساحة، وجرت في هذا الصدد مواجهات أخرى، لكن الشيخ ياسين كان حاسما في عدم
السماح بالقضاء على الحركة الإسلامية، وآل الأمر إلى إغلاقات شكلية للمكاتب لكن
الأنشطة تظل كما هي.
(3) حدود المواجهة
في المقابل ينبغي أن نذكر كذلك أن هذه المواجهات هي
مواجهات محسوبة لا مفتوحة، ومنضبطة لا مندفعة، وهي بغرض الردع لا بغرض إشعال حرب، وهو
من فقه المرحلة كذلك، فمثلما ابتلينا بمن استلذ بمرحلة الاستضعاف ابتلينا كذلك بمن
يريد القفز من مرحلة الولادة إلى مرحلة التمكين، أو كما يقول أحد إخواننا العقلاء:
نحن بين منهج "سلميتنا أقوى من الرصاص" ومنهج "بندقيتنا أقوى من
الصواريخ والطائرات والبوارج"!!
إن الشيخ الذي أعد شبابه لمثل هذه المواجهات هو نفسه من
منعهم من محاربة السلطة الفلسطينية حتى بعد توقيعها اتفاقية أوسلو لئلا يؤدي هذا
إلى حرب داخلية، لا سيما إن كانوا لا يستطيعون حسمها لصالحهم، وهو نفسه الذي عاقب
بعض شبابه لأنه في غمرة الحماس هاجم مبنى الهلال الأحمر (وكان حينئذ قلعة
الشيوعيين) ودمَّر خمارة وكازينو، وأخبرهم أنهم بهذا أشبه بالعملاء الذين ينفذون
رغبة الإسرائيليين بإشعال اقتتال داخلي، بل ويضعون أنفسهم أداة لفتح (التي
استثارتهم) في حربها مع الجبهة الشعبية (اليسارية الشيوعية)، وهي معركة يجب ألا
تحشر الحركة الإسلامية نفسها فيها، كذلك أخبرهم أن الخمارة والكازينو وغيرهما إنما
هو "عدو مؤجل" بينما ينبغي الالتفات لأصل المرض وهو الذي سمح بوجود هذه
الخمارات والكازينوهات من الأساس.
وهو نفسه الذي أصرَّ ألا يكون ثمة اقتتال بين فصائل
الشعب الفلسطيني ما وسعه ذلك، وقبل أن تناور السلطة سياسيا بالإغلاق الشكلي
للمكاتب الإدارية التي تمثل واجهة نشاط الحركة الإسلامية، مع بقاء الأنشطة كما هي.
لكن أمرا هنا ينبغي
الالتفات له، وهو حرص الشيخ على الاستفادة حتى من أخطاء شبابه، فأولئك الذين
تحمسوا وهاجموا مبنى الهلال الأحمر (قلعة الجبهة الشعبية) ودمروا خمارة وكازينو،
أثاروا على الحركة الإسلامية هياجا إعلاميا واتهامات بالعنف والإرهاب ... إلى آخر
هذه الترهات، وطُلِب منه أن يصدر بيان استنكار فرفض، وقال: لسنا متهمين حتى نصدر
بيانات، فليثبتوا هم أولا أننا نحن من فعلنا. ثم كان تقييمه للحدث (رغم رفضه له)
أن له وجها إيجابيا وهو "إظهار قوة الحركة الإسلامية على الساحة".
وهذا درس ينبغي أن يستفيد
منه من يعاني من إسهال الاستنكار والإدانة حتى لو لم يكن له أي علاقة بالموضوع لا
من قريب ولا من بعيد!!
(4) دروس في بناء التنظيم
كان الشيخ ينفصل عمليا عن تنظيم الإخوان القديم في
فلسطين، وكان يعرف أنه يبدأ طورا جديدا من الحركة الإسلامية، أو بتعبيره هو "أنا
لا يعنيني الأسماء، أنا يعنيني الجوهر، ويهمني الجوهر، أنا الآن بدي أبدأ طور جديد
من الحركة الإسلامية في المواجهة والمقاومة، فسأعطي هذا الطور من الحركة الإسلامية
اسماً جديداً يتمشى مع الواقع، والواقع يحتاج أن يكون هنا مقاومة، ولذلك لابد أن تسمى
الحركة بحركة المقاومة الإسلامية".
ومن كان هذا شأنه لا بد أن يؤسس عمله على:
أ. صبر مديد: لا يسع من بدأ في عمل جماعي إلا أن
يبذل الكثير والكثير والكثير من المجهود والعنت، مع الصبر والمشقة، وهذا الشيخ
القعيد النحيف الضعيف يحكي أنه بدأ العمل بعشرة أفراد فقط، لكنهم بعد وقت صاروا
اثنين أو ثلاثة فحسب!! فلم يصبه هذا بيأس أو بتردد وإنما تابع العمل وواصل البناء.
وظل الشيخ ياسين ينتظر ثلاثة عشر عاما حتى تحول عمله إلى
تيار، إذ بدأ عمل الأسر منذ سنة 1967، واستمر بلا انقطاع حتى تحول إلى تيار بعد
1980.
ب. مغالبة الأقدار بعضها ببعض: وهي سنة كونية، ولا نحتاج أن نذكرها إلا لأن بعض
الشباب في غمرة الحماس يظن أنه سيبدأ المواجهة الآن مع "النظام العالمي"
كله، ويظن أنه قادر على اختراق كل الحدود والقيود لمجرد عدم اعترافه بها.. وهو أمر
لم تفعله حركة مقاومة من قبل، بل كل حركة تبدأ من واقع هي خاضعة فيه لظروف لا تملك
منها فكاكا، فتظل تعمل تحت السقوف القائمة وبالحدود المتاحة وبالقوانين المفروضة
عليها، وهي في كل هذا تتحين الفرصة لتعديل وضعها وتقوية نفسها حتى تصل إلى خرق هذه
السقوف والحدود والقوانين.
هذا الشيخ أحمد ياسين بدأ العمل في نشاطه الإسلامي "المعلن"
بتصاريح من الإسرائيليين،
وأسسوا الجمعية الإسلامية بتصاريح من الداخلية الإسرائيلية، وتحالف في بعض الأحيان
مع فتح ضد اليسار كما في انتخابات الهلال الأحمر، وكان يلتقي ويتفاوض مع مسؤولين
من فتح، وقَبِل بكثير من الأوضاع التي فرضتها السلطة الفلسطينية ومن قبلها
الإسرائيلية مما لم يمكنه دفعه، أو كان دفعه يترتب عليه ضرر أشد. وكل هذه أمور
يحتاج الشباب المسلم العامل أن يعيها ويفقهها كي لا يكون وقودا لشعارات وعبارات
خيالية تحرق الجهود في معارك عبثية وعدمية.
جـ. الشورى الحقيقية
والمؤسسية: كان الشيخ ياسين مؤسس
التنظيم لكنه لم يكن التنظيم كله، بل إنه في لحظة ما عرف أن التحقيقات الإسرائيلية
ستقود إليه فترك التنظيم تماما ليتولاه غيره، فلما اعتقلوه فعلا (1984م) لم يتوقف
التنظيم ولم يتأثر بغيابه، ثم لما خرج من الاعتقال أخذ إجازة سنة من التنظيم لئلا يتتبع
اليهود أمر التنظيم، ثم لما عاد إلى التنظيم عاد جنديا لا في القيادة.
وكثير من مراحل المواجهة
مع فتح أو السعي للتسلح أو غيره تم والشيخ ياسين في السجن أو خارج التنظيم. ولما
اندلعت الانتفاضة كرر هذا الأسلوب، يقول: "اعتقلوا قبلي، واعترفوا عليَّ كمؤسس،
واللي بدأ الانتفاضة، والسلطة (الإسرائيلية) من هنا وجدت أنه مش في مصلحتها تعتقلني،
فسابتني في الخارج لكي تصطاده من حولي، وتعرف الأمور، أنا في تلك الفترة اعتزلت كل
العمل، وتركت العمل لآخرين يشتغلوا في عمل الانتفاضة والخطة وكله كل شيء".
د. الانضباط والاتزان: اعتمد الشيخ ياسين نهج رصد وتصفية عملاء الاحتلال قبل نهج العمليات ضد
الاحتلال نفسه، فأول عمليات الجهاز العسكري كانت محاولات كشف شبكات العملاء
التابعين للإسرائيليين، وكانوا يقصدون القبض عليه والتحقيق معه لكشف شبكة العمالة،
وكان التحقيق مع العميل يصوَّر ثم تعرض اعترافاته على لجنة تقوم بعملية التحليل
والمحاكمة في نفس الوقت، قبل أن تصدر حكمها عليه، ولم يكونوا يقدمون على ذلك قبل
الاشتباه الأكيد في أمره، واستطاعوا كشف العديد من الشبكات ومن أساليب الإسقاط.
ومع ذلك، فهم لما قتلوا مشتبها به بالعمالة قبل أن يثبت عليه هذا بشكل قاطع دفعوا
الدية لأهله.
ه. السرية: اعتمد الشيخ كذلك نهج السرية، فلم يكن يعلن لا عن تصفية عملاء، ولا في
المرحلة التالية عن العمليات التي قاموا بها ضد الاحتلال أو المستوطنات، يقول: "ولم
تكن بيانات، كنت أحب العمل وأُبْقي العدو تائها".
(5) درس في طبائع الشعوب
من بين كل كلام الشيخ علق
بذهني هذه العبارات التي تمثل بحد ذاتها درسا في طبائع الشعوب التي يجب أن يفققها
العاملون للإسلام، يفقهونها ليعملوا على بصيرة لا لينشغل بعضهم بشتم هذه الشعوب،
يذكر الشيخ وهو يصف صعوبة البدايات أن الناس كانت تحب عبد الناصر وتكره الإخوان
المسلمين في ذلك الوقت، حتى أنهم هتفوا لما مات "الله حي وناصر حي"،
وذلك لأن "الدعاية المصرية في غرس المقاومة العربية في ذلك الوقت فظيعة جداً
.. فظيعة جداً، لا تتصورها قد إيش"، و"كان الناس في ذهول عند موته"
حتى إن بعض الخطباء لما خطب ضد عبد الناصر هاجمه الناس، ويحكي الشيخ عن رجل كبير
جاءه بعد الخطبة واستنكر عليه عدم ثنائه وترحمه على عبد الناصر، وقال له: ماذا
تريد من عبد الناصر؟ يطبق الإسلام أم يحارب إسرائيل، فقال الشيخ ياسين: "الاثنين
واحد، إذا لم يأخذ الإسلام سلاحه معناه إنه مهزوم، ولذلك هو لم يؤدي الأمانة اللي ربنا
استأمنه عليها".
ويضيف الشيخ أن الدعاية
والإعلام يجعل الناس مخدرين، ويضرب مثلا على ذلك بحال الشعب المصري بعد هزيمة
يونيو 1967، "كان الشعب المصري اللي طلع يهتف لعبد الناصر بعدما استقال .. طيب
ما هو الثاني مخدر خالص، طيب.. واحد حقق هزيمة، وقال: أنا بأتحمل الهزيمة، وبيتحملها
وبيرجع يمسك المسؤولية تاني، وبيهتفوله فمعناها برضه إن الشعب مخدر خالص، مافيش في
العالم واحد بيتحمل هزيمة وبيرجع على الكرسي تاني، لكن هذا الواقع هو اللي صار في بلدنا".
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق