ولد أردوغان (26 فبراير 1954م) في أسرة فقيرة تسكن حي
قاسم باشا وهو من أفقر أحياء اسطنبول، وكان والده قبطانا بحريا قد استقر به المقام
في هذا الحي مهاجرا من قريته ريزه في الشمال التركي على ساحل البحر الأسود، وظل
أردوغان في حي قاسم باشا حتى أتم دراسته الثانوية التي قضاها في مدارس الأئمة
والخطباء إذ كانت تلك رغبة أبوه المعروف بالتدين حتى كان أهل قريته يضعون عنده
أماناتهم ويستودعونه أموالهم، وكان حي قاسم باشا من الأحياء التقليدية التي تسود
فيها قيم وتقاليد المجتمعات الشرقية القديمة كقوة العلائق بين الناس وشيوع الحمية
والمروءة والحسبة الاجتماعية[1]،
وتشير بعض المصادر إلى انضمامه لطريقة إسماعيل أغا النقشبندية الصوفية إلا أن بعض
المقربين منه ينفون هذا وربما يكون النفي لكون الطرق الصوفية ممنوعة قانونا[2]،
وعمل أردوغان صغيرا في بيع الخبز (السميط) والماء للمساعدة في توفير المال ولشراء
الكتب[3]،
وباختصار: فإن نشأة أردوغان وبيئته تدل على أنه نقيض للنظام التركي السائد، فهو
ابن الطبقة التي طحنتها توجهات السياسة التركية العلمانية المدينية النخبوية.
أحب أردوغان كرة القدم وتنقل بين أكثر من نادٍ وفريق،
وكاد يدخل إلى مرحلة احترافها لولا الرفض القاطع لأبيه، ثم تخرج (1981م) في معهد
علوم الاقتصاد والتجارة، والذي صار بعدئذ كلية الاقتصاد والتجارة بجامعة مرمرة،
وعمل بعدها موظفا في البلدية[4]،
وتفتحت في كل تلك المراحل مواهبه وميوله القيادية، وكان كثير القراءة محبا
للشِّعر، يروق له كثيرا الشاعر الشهير محمد عاكف أرصوي صاحب الجهود الوافرة في
الدعوة الإسلامية والملقب بـ "شاعر الإسلام" في تركيا[5]
وعميد الأدب الإسلامي في تركيا نجيب فاضل قيصاكورك وهو من أنصار النورسيين وقد
سُجِن مرات وأغلقت مجلته الإسلامية وكان مندريس يُتَّهم بمساندته[6].
بدأ أردوغان مسيرة نشاطه منذ الخامسة عشرة من عمره، فقد
التحق وقتها عضوا باتحاد الطلبة الأتراك بمدارس الأئمة والخطباء الذي كان حينئذ في
أخصب فتراته الثقافية والتربوية، وحين تفتح وعيه السياسي كانت الساحة التركية تشهد
صولات المحاولة الإسلامية الأقوى ورجلها الأشهر: نجم الدين أربكان، فحين كان
أردوغان في السادسة عشرة من عمره كان أربكان يؤسس حزب النظام الوطني، وحين كان في
السابعة عشرة أُغلق الحزب، ثم حين كان في الثامنة عشرة كان أربكان يعود إلى ساحة
السياسية بحزبه الجديد "السلامة" (1972م)، وهو الحزب الذي التحق به
أردوغان وشهد تطور مسيرته السياسية، ولم تمض أربع سنوات حتى كان أردوغان رئيس جناح
الشباب لحزب السلامة في اسطنبول (1976م) بفوزه في الانتخابات الداخلية لشُعَب حزب
الشباب، وهو فوز انتزعه وحيدا على غير رغبة قيادة الحزب في اسطنبول[7]،
وظل في موقعه هذا حتى حظر العسكر الأحزاب (1980م)، ثم تولى رئاسة شعبة اسطنبول في
حزب الرفاه 1985[8]،
وترشح لانتخابات البرلمان 1987 عن منطقة باي أوغلو وزيتن بورنو[9]،
ثم ترشح من تلقاء نفسه –وعلى غير رغبة المركز العام ولا شعبة اسطنبول- لانتخابات
المحليات 1989 عن منطقة باي أوغلو التي لم تعط الحزب في الانتخابات الأخيرة سوى
3%، وكانت قيادة الحزب تنظر بقلق لخسارة واحد من أهم كوادرها في الانتخابات
المحلية بينما كان يرى أنه يستطيع أن يحقق النجاح إن أُطْلِقت يده في إدارة
الانتخابات بأساليبه التي يصفها أنصاره بأنها أكثر انفتاحا على الشعب وأكثر أخذا
بالوسائل العلمية، وأسفرت الانتخابات عن خسارته بفارق بسيط عزاه بعض أنصاره إلى
تلاعب في الدفاتر والأرقام رفضت السلطات التحقيق فيه[10]،
إلا أن تقدمه على هذا النحو أثبت عمليا نجاعة أفكاره وأساليبه وعزز من مكانته داخل
الحزب، بل تذكر بعض التقديرات أن استعمال أردوغان للطاقة النسائية في الانتخابات
جلب للرفاه مليون امرأة على مدى ستة أعوام[11].
وصار عضوا في الهيئة العليا لحزب الرفاه (أكتوبر 1993م)[12].
وفي (1994م) كان أردوغان أقوى شخصية في حزب الرفاه بعد
أربكان، وكان يشرف من موقعه الحزبي –رئيس شعبة اسطنبول- على عدد من رؤساء البلديات
التي فاز فيها الحزب في الانتخابات الماضية، وأنشأ لجنة في الشعبة لإدارة المحليات
لتتابع أعمال البلديات وتجمع رؤساءها لتنقل الخبرات ويُبحث في حل المشكلات، ولما
حان موعد انتخابات بلدية اسطنبول الكبرى أيَّد ترشحه لها من داخل الحزب 3308 عضوا من
بين 3993 كذلك أيده 70% من جمهور حزب الرفاة[13].
ويعد فوز أردوغان بمنصب رئيس بلدية اسطنبول الكبرى أقوى
انتصار لحزب الرفاه على مستوى البلديات في أهم محافظة تركية، وقد حقق في منصبه هذا
أقوى نجاحات اقتصادية وإدارية شهدتها تركيا في تاريخها الحديث وتغير بها وجه اسطنبول
وتخلصت من مشكلات مزمنة كالتلوث والقمامة والمياه والصرف الصحي والمواصلات وغيرها[14]،
فكانت نجاحاته –رغم الحملات الإعلامية العلمانية العاتية- رصيدا كبيرا في ميزانه
وميزان حزب الرفاه، وصار أردوغان حديث الساعة في وسائل الإعلام. وقد حاولت الحكومة
التركية تغيير وتبديل القوانين المنظمة لميزانيات البلديات للخصم من صلاحياته
والموارد التي تحت تصرفه والقوانين المنظمة للإشراف على بعض القطاعات لتنقلها من
يد البلدية إلى يد الحكومة المركزية، ونشبت في هذا سجالات ومعارك سياسية وإعلامية
عديدة، ثم أنشأت الحكومة هيئة لإدارة اسطنبول تنزعها عمليا من يد أردوغان وكاد
الأمر يمضي لولا أن جاءت انتخابات (ديسمبر 1995م) بما لا تشتهي سفنهم[15]،
إذ فاز حزب الرفاه فيها بالأغلبية (185 مقعدا) وصار أربكان هو رئيس الحكومة
الائتلافية، فتوقف بهذا مشروع الهيئة، واستمر أردوغان بغير مضايقة من الحكومة فترة
أربكان، ثم جاء الانقلاب العسكري الناعم (1997م) فكان من تداعياته محاكمة أردوغان
بتهمة إلقاء أبيات شعر دينية تحريضية في ديار بكر (12 ديسمبر 1997م) وإغلاق حزب
الرفاه، ثم عزل أردوغان بقرار محكمة من رئاسة بلدية اسطنبول (5 نوفمبر 1998م)، ثم
مُنِع من العمل بالسياسة، ليُسدل الستار على تجربة دامت أربع سنوات وشهورا[16].
سُجِن أردوغان ثلاث مرات؛ الأولى بُعيْد انقلاب 1980
لمدة أيام لتهمة التظاهر في ظل الأحكام العرفية، والثانية حين دخل في اشتباك لفظي
مع رئيس المجلس الانتخابي لمحليات باي أوغلو إذ اتهمه أردوغان بالسُّكْر الذي أدى
إلى التلاعب في النتائج فاتهمه بالتعدي عليه فحوكم وسُجِن لمدة أسبوع (1989)،
والثالثة بعد واقعة أبيات الشعر الشهيرة التي ألقاها ضمن خطاب شعبي في ديار بكر
-(12 ديسمبر 1997م) قبيل أيام من إغلاق حزب الرفاه- والتي اعتبرها خصومه دينية
تحريضية، فحكم عليه بالسجن لعشرة أشهر وغرامة مالية، ثم خفف فسُجِن لأربعة أشهر،
وكان وداع الناس له يوم سجنه دليل واضح على أن تركيا صار لها زعيم شعبي جديد[17]،
ولما خرج من السجن كان على موعد مع مرحلة جديدة: انشق فيها عن حزب أستاذه أربكان
وأسسوا معا الحزب الجديد: حزب العدالة والتنمية.
إذا تجاوزنا الصفات القيادية التي يتمتع بها الزعماء
عادة كالقوة والذكاء والثقة والصبر والتأثير في الجماهير[18]،
سنبصر في شخصية أردوغان عددا من الصفات من أهمها:
- تدينه؛ فقد كان وفيا لتخرجه من مدارس الأئمة
والخطباء حتى أنه ألحق أبناءه الأربعة بها، ثم أكملت ابنتاه الدراسة خارج تركيا
لئلا يتخليْن عن الحجاب، وتسفر كثير من عباراته في خطابات مختلفة عن أنه يطرح نفسه
–أو حزبه- كامتداد للحقبة والأبطال العثمانيين وكخصم للحقبة العلمانية التي يحملها
مسؤولية انحدار تركيا ويزدريها لاستخفافها بقيم الأتراك وتراثهم، وصرَّح غير مرة
أمام سؤال العلمانية أنه "مسلم
مخلص"، ويروي صديقه في السجن أنه كان يصلي الصبح في خمس وأربعين دقيقة، وأنه حين أُبْلِغ
في السجن بمحاولة اغتيال وطلب منه أن يرتدي سترة واقية من الرصاص امتنع ثم صلى
ركعتين وقال: "هكذا ارتديت السترة الواقية الحقيقية"[19].
- اهتمامه المبكر بالبُعْد الأممي؛ فقد كانت
اجتماعات شعبة حزب الرفاه في اسطنبول تتجاوز دائرتها الصغيرة فتناقش –أو تقيم
فعاليات لمناقشة- الموضوعات المطروحة على الساحة السياسية محليا ودوليا مثل مشكلة
الأكراد ومشكلات دول البلقان وحرب الخليج الثانية والقضية الفلسطينية والجمهوريات
التركية المستقلة عن الاتحاد السوفيتي المنهار والانقلاب العسكري في الجزائر مطلع
التسعينيات، وتناولت كلمته التي ألقاها قُبِيْل دخوله السجن أحوال المسلمين في
كوسوفا[20].
- اهتمامه بالتفاصيل الإنسانية الصغيرة مثل حضور
جنازة صديق ولو في وقت عصيب[21]،
ومواصلة العلاقات مع من وقف إلى جواره في انتخابات أو من سُجِن معه مرة أو سجَّان
مدّ إليه يد عطف[22]،
واهتمامه بقراءة الرسائل الواردة إليه مهما كانت غزيرة والرد عليها بنفسه ولو كان
المرسل طالبة صغيرة، وحضور زواج فتاة عرف أنها أخَّرت زواجها حتى يخرج من السجن[23].
وهو إلى ذلك خطيب مفوه يهتم بالخطاب العاطفي ويستدل في خُطَبه بالشِّعر،
ولما سألته مؤسسة الجناح النسائي في حزب العدالة والتنمية عماذا تقرأ أوصاها بأن
تقرأ كتابا في "بلاغة النبي"[24]،
وتكشف خطب أردوغان عن أفكار واضحة في قضايا فكرية مثل تطور مفهوم الإدارة في
الواقع المعاصر، وفلسفة الديمقراطية وموقعها في النظم السياسية وإشكالياتها مع
الخصوصيات الثقافية[25].
نشر في تركيا بوست
[5] عيسى
مصطفى يوجار: محمد عاكف.. عصره وجهوده في الدعوة الإسلامية، رسالة دكتوراة لكلية
الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، السعودية، بإشراف: محمد قطب، 1410هـ = 1989/
1990م. ص229 وما بعدها.
[17] بسلي
وأوزباي: قصة زعيم ص66 وما بعدها، 237 وما بعدها، 270؛ Cemal Karakas: Turkey, Islam and Laicism, p. 31
[18] وصفته برقية للسفارة الأمريكية في تركيا (2004م) بأنه يتبنى مواقف تتسم
"بالزهو المتعجرف" ويمتلك طموحا لا حدود له ينبع من الاعتقاد بأن الله
قد اصطفاه لقيادة تركيا، كما يملك "نزعة انعزالية متسلطة". كِرِم
أوكْتِم: الأمة الغاضبة ص201.
[25] بسلي
وأوزباي: قصة زعيم ص166، 231، 241. عبد الرحمن تيغ وآخران: مقتطفات من خطب رجب طيب
أردوغان ص98، 100، 105، 106، 108، 109، 285.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق