رغم ما يبدو أول الأمر من بساطة الكتابة في مسألة
"تميز تركيا في حقوق الإنسان"، إلا أن الواقع بخلاف ذلك، وذلك أن ملف
تقدم تركيا في حقوق الإنسان من الملفات التي تواطأ الجميع على كتمانها، وكان شيخنا
محمد الغزالي يقول: "ما رأيت أحدا تواطأ الناس على هضمه كالحقيقة".
إن الدراسات والتقارير الغربية لا تركز على حقوق الإنسان
كما هو المتوقع –ولو زَعْمًا- بقدر ما تركز على النموذج التركي من حيث خطورته على
أوروبا، ومدى عودته إلى هويته الإسلامية، ومدى الرضا العلماني والعسكري عن نموذج
حزب العدالة والتنمية. بل حتى التقارير الحقوقية الغربية –وقد طالعت عددا مما صدر
في السنوات الأخيرة- تشبه المنشورات ضد السياسة التركية.
وفي المقابل فإن الدراسات العربية تركز على رصد ومتابعة
النموذج التركي في السياسة والاقتصاد والتأثير على العالم العربي والموقف من
القضايا العربية، ولا تحفل بمسألة تطور وضع حقوق الإنسان في تركيا، اللهم إلا
الأطراف المعادية لتركيا فإنها تهتم بهذا الجانب مستخدمة إياه في تشويه ومهاجمة
السياسة التركية في حقبتها الجديدة.
هذا الذي تجاهلته –أو زيفته التقارير- كان يخالف واقعا
عشته بنفسي لعام ونصف في تركيا، وعاشه معي ملايين المهاجرين والمطاردين من العالم
العربي، ولذلك كان الحصول على الحقيقة الموثقة بالأرقام من خلال دراسات ميدانية أمرا
عسيرا، حتى أنني استعنت ببعض الأصدقاء الأتراك والعرب العاملين في مجال الإعلام
التركي للحصول على دراسات معمقة عن تطور حقوق الإنسان في تركيا، وكانت الإجابة
مخيبة للآمال كذلك.
عندئذ ذهبت إلى البحث عن معنى حقوق الإنسان في فكر
وفلسفة حزب العدالة والتنمية، وفي أبرز النصوص المكتوبة المعبرة عن هذا التفكير.
إن كل زعماء العالم –حتى أشدهم طغيانا وانتهاكا لحقوق
الإنسان- يتغنى بحقوق الإنسان، ويدرج في خطاباته وتصريحاته عبارات محفوظة مكرورة
مملولة، لكن ما وجدته في الأدبيات الفكرية للحزب يعبر عن فكر ورؤية وعمق لا عن مجرد
زخارف ومحسنات كلامية.
إن العمق الذي يكتبه فيلسوف الحزب ورئيسه الآن، أحمد
داود أوغلو، يذهب حتى يحلل البنية التي تحكم الإنسان في النظام السياسي، ولذلك
جاءت كتبه كدروس معمقة في نقد النموذج الغربي الذي ظاهره الحفاظ على حقوق الإنسان
بينما حقيقته التحكم بالإنسان والتسلط عليه. وإثبات تفوق النموذج الإسلامي الذي
سلب الإنسان حق التسلط والتحكم بالإنسان.
ففي كتابه "الفلسفة السياسية" يعزو تناقض
النموذجين الغربي والإسلامي إلى أن الأول دائما وفي شتى تصوراته الفلسفية –القديمة
والوسيطة والحديثة- الفوارق بين الله والإنسان، فمنح الإنسان سلطة إلهية مما ترتبت
عليه آثار بعيدة في النظام السياسي، بينما حرص النموذج الإسلامي على التوحيد الذي
يجعل الإنسان مفارقا لله ولا يمكن أن يحوز سلطة إلهية مما كان له آثاره الهائلة في
النظام السياسي. ويجدر النظر إلى أن هذا الكتاب صدر عام 1993م، أي
قبل وجود حزب العدالة والتنمية بقرابة العقد من الزمن.
وفي
كتابه "العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية"، والذي
صدر قبل ميلاد الحزب بثمانية أعوام، يرصد داود أوغلو كيف أنه "في الحضارة
الغربية يتولد الاختلال الأخلاقي من اعتمادية المعرفة على مؤسسة السلطة، والتي
بدورها تعمل داخل إطار استبدادي بسبب قدرة مراكز القوى على إنتاج معرفة مناسبة
كافية لتوليد نظام قيمي ملائم يعمل لمصالحها الذاتية"[1].
وفي كتابه الأهم "العمق الاستراتيجي"، والذي
يرسم فيه مستقبل الدولة التركية، يؤسس لنظرة نحو الإنسان يقول فيها: "أكثر
العناصر حساسية في الانفتاح الاستراتيجي للدولة هو العلاقة المشروعة بين الإرادة
السياسية لمركز النظام وبين العنصر البشري المؤهل للمجتمع المدني. وإذا أردنا
التعبير عن ذلك بتعبيرات تُستخدم كثيرا في الوقت المعاصر فإنه يمكن وصف هذه
العلاقة بنقطة الالتقاء بين "عمق الدولة" و"عمق الأمة". إن
الدولة التي لم تصل إلى عمق الأمة، ولم تحقق معه وحدة روحية نابعة عن نظام القيم
المشتركة، لن ينتج عنها إلا صورة سيئة للقوة. إن أهم بعد للعلاقة المشروعة بين
العنصر البشري والنظام السياسي هو عنصر الثقة؛ فالدولة التي لا تثق بعنصرها البشري
لا يمكنها الانفتاح على آفاق استراتيجية، بحيث تضع أهدافا تكتيكية لتحريك القوى
الكامنة للمجتمتع، أو أن تستخدم الوسائل المناسبة لهذه الأهداف في التوقيت الصحيح
والمناسب"[2].
هذه الرؤية العميقة لجوهر حقوق الإنسان ومدى توفرها في
بيئة النظام السياسي القائمة، موجودة أيضا منذ قديم عند مؤسس الحزب وزعيمه رجب طيب
أردوغان، ففي كلمته التي ألقاها في ختام مؤتمر الديمقراطية (1997م) نظَّر لضرورة
أن يضيف المجتمع "أحكام قِيَمه ومعتقداته وعاداته وتقاليده باعتبارها خميرة الثقافة
السياسية لهذه التجربة الديمقراطية"، وعندئذ تخرج الديمقراطية من كونها ثرثرة
نخبوية بل ووسيلة من وسائل الاستبداد والتسلط النخبوي على المجتمع لتكون روحا
حقيقية يؤديها المجتمع كواجبات يومية، ويغذي بها قناعاته الثقافية[3]، أما اختزال حق الإنسان في مجرد شكل وهيكل الانتخابات
فمآله إلى أن ينتج "نظاما ديكتاتوريا متسترا خلف مظهر ديمقراطي"[4].
نحن هنا أمام تحليل أعمق لمسألة حقوق الإنسان، إنه في
جوهره نقد للنموذج الغربي الذي يصطنع شكلا آخر من العبودية والتحكم ثم يلبسها ثوب
الحرية ولافتة الديمقراطية وعنوان الانتخابات، وهو نقدٌ يُبنى عليه رؤية أخرى
مفادها علاقة صحيحة سوية بين الدولة والأمة، أو بين "عمق الدولة وعمق
الأمة" بتعبير داود أوغلو. وهذا المعنى يتردد كثيرا في خطابات وكلمات
أردوغان، لكننا نكتفي هنا بأقواها في الدلالة:
1. "لا يمكن لدولة إنسانها ضعيف أن تكون قوية"
ديار بكر – 24 يونيو 2007
2. "بالنسبة لنا كل إنسان خاص، وكل إنسان غال وقيّم.
لكل إنسا الحق في امتلاك الفرص والحقوق التي يستحقها"
اجتماع الكتلة البرلمانية – 13 مايو 2008
3. "الإنسان أساس كل شيء. ولذلك يجب أن تصنع السياسة
من أجل سعادة الإنسان وراحته، سلامته وطمأنينته"
مؤتمر حزب العدالة والتنمية – 3 أكتوبر 2009
4. "الإنسان أولا، ومن ثَمَّ تأتي الدولة. وليست
الدولة هي الأولى ليأتي الإنسان بعدها"
الاجتماع الاستشاري - 22 نوفمبر 2009
5. "في هذا البلد ستنهار البنية الإقطاعية بالتأكيد،
ويجب عليها أن تنهار وأن تنحط، لأننا لا نقبل عبودية الإنسان للإنسان. وخصوصا في
قيمنا الحضارية، لا عبودية لدينا لغير الخالق. ولهذا السبب: إن السيادة للأمة دون
قيد أو شرط"
سيرت – 6 مايو 2005
6. "الحقائق، الحقوق والحريات لا تتغير وفقا للأشخاص.
الحقيقة هي حقيقة في كل زمان ومكان"
اجتماع رؤساء المقاطعات – 21 مارس 2008
7. "يجب علينا جميعا أن نعلم أننا متساوون كأسنان
المشط في القاسم المشترك بيننا وهو الإنسانية، سواء منا الشرقي والغربي، المسلم
والمسيحي، المتدين والعلماني، الغني والفقير، الأبيض والأسود"
أمريكا – 7 ديسمبر 2009
بقيت نقطة، وقد أجلتها إلى نهاية الورقة لأنها ذات دلالة
في منهج التعامل الغربي مع حقوق الإنسان في تركيا، وهي: القضية الكردية.
إن القضية الكردية حاضرة في كل دراسة أو تقرير عن الحالة
التركية، وكثيرا ما حضرت في الماضي من بوابة حقوق الإنسان، وبغير شك فإن الأكراد
عانوا كثيرا لنحو قرن من الزمن، وكانوا من الفئات التي سحقتها السياسات القديمة، إلا
أن السياسات الجديدة مثلت تحولا كبيرا في التعامل مع الملف الكردي، غير أن
التقارير الحقوقية لا تأبه كثيرا لما تحقق وتركز على ما لم يتحقق بعد، وبالعموم،
فإن الدراسات الغربية عن تركيا تنظر إلى القضية الكردية كمدخل لعدم استقرار تركيا
لا كمدخل لاستقرارها بتعديل الأوضاع السيئة الموروثة. ولذلك فهي تمر على التحسن
بعبارة أو بضع عبارة، بينما تفرد باقي الصفحات لرصد المخالفات مع مساحة من التعنت
والتعسف ظاهرة وواضحة.
إن مسألة حقوق الإنسان في
تركيا هي من الحقائق الواضحة التي يعد البحث عن أدلة وجودها تعسف، كقول الشاعر:
وليس يصح في الأذهان شيء
.. إذا احتاج النهار إلى دليل
أو كقول الآخر:
فقد تنكر العين نور الشمس
من رمد .. وينكر الفم طعم الماء من سقم
فالدليل هو ملايين
المهاجرين المتدفقين على تركيا من سائر أنحاء العالم الإسلامي، فكلٌ منهم دليلٌ
على الواقع، فضلا عما لقيه هؤلاء من ضيافة وحسن ترحاب من إخوانهم الأتراك، وليس
يعرف طعم الأمن إلا من ذاق الخوف. والحق أن منح الخائفين الأمان لا يقل بحال عن
منح الجائعين الطعام ومنح الظامئين الشراب، بل لربما يزيد، إذ جوهر تميز الإنسان
عن الحيوان هو شعوره بهذا الأمن الذي يعيد إليه شعوره بإنسانيته التي ما هاجر وترك
بلده إلا لأنها سُحقِت أو كادت تُسْحق وتموت!
ولهذا أردد مع جميع
إخواني: شكرا تركيا..
نشر في تركيا بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق