ذكرنا في مقال سابق أننا سنركز على
ثلاثة اقتباسات استفادتها أوروبا من المسلمين في سياق الاحتكاك الحضاري بينهما،
هذه الثلاثة تندرج في حديثنا عن منهج الإسلام في بناء المجتمع والذي خصصنا له
مجموعة المقالات السابقة، والحاصل: أن هذه الاستفادات كان لها إسهام كبير في
النهضة الأوروبية المعاصرة.
تكلمنا عن "التخلص منسيطرة الكنيسة والإقطاع"، ونجعل هذه السطور للحديث عن "قوة
المجتمع"، ونترك تكوين الاتحاد للمقال القادم إن شاء الله تعالى.
تأثر المجتمع الغربي بهذا النمط
الهيكلي الذي يجعل أفراد المجتمع منتظمين في تنظيمات هرمية، ففي الجانب الديني
يتوزع الكهنة ورجال الدين في تنظيم هرمي على رأسه البابا، وفي الجانب الدنيوي فإن
عامة الناس تابعون للإقطاعي، الذي هو -أيضًا- درجة من درجات الهيكل الهرمي الذي
يترأسه الإمبراطور. هذان النظامان تسببا في إضعاف القوة الاجتماعية لعموم الناس؛
بل إن ضعف هذه القوة الاجتماعية هو في ذاته شرط لاستقرار المؤسسات الحاكمة: البلاط
والكنيسة، ومن ثم كان الحرص قائمًا على أن تظل قوة العامة مفككة ومتناثرة.
بينما الحال على نقيض ذلك في عالم
الإسلام، فلا وساطات كهنوتية، ولا أمراء إقطاع، يهيمن المنهج على الجميع، ولا
يندرج الناس في تنظيمات هرمية، بل إن صورة المجتمع الإسلامي على غرار صورة صلاة
الجماعة، لا يضبط الناس خلف الإمام ولا يؤم الإمام جموع الناس إلا برباط المنهج
والإسلام، كما أن صوت الإمام يصل إلى الناس جميعًا في اللحظة ذاتها، ويفضل بعض
الباحثين تشبيه صورة المجتمع الإسلامي بشروق الشمس على الأرض، حيث مركز التأثير
خارج نطاق الناس، وتأثر الناس به رباط معنوي غير عضوي، ووصول الأمر أو الأثر يكون
لكل الناس في وقت واحد. وفي حين تمثل جماعة العلماء ضغطًا لتصحيح الأوضاع؛ فإنهم
بلا سلطة مادية على الناس، ثم إن لكل مسلم حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانتظام
في روابط طبيعية: كالقبيلة والعشيرة والرحم والجغرافيا، أو اختيارية كجماعات الحرف
والمهن وطلبة العلم وغيرهم، كل هذا دون معوق من سلطة، وكان المجتمع يوقف الأوقاف
على أوجه الخير؛ فيمول حركته الحضارية تمويلاً ذاتيًّا يجعل الأمة مزدهرة
حضاريًّا؛ حتى إن ضعفت سياسيًّا وعسكريًّا.
منذ القرن الحادي عشر –وهو عصر الحروب
الصليبية- بدأ ظهور تنظيمات شعبية في أوروبا كانت بذرة النقابات، وقد بدأت بطبقة
"جديدة من الناس الأحرار المستقلين من الوكلاء التجاريين، والتجار،
والحرفيين، والعمال المهرة، وهم في الغالب يكتسبون قوة من التنظيم في طوائف مهنية
وهيئات جماعية من الأفراد"([1])، وقد
استطاعت هذه الطوائف أن تكون أول شرخ مهم في سلطة الأساقفة والأباطرة والإقطاعيين،
فعلى سبيل المثال استطاعت نقابات التجار تحقيق تغيرات فارقة لصالح الأوروبيين؛ إذ
ارتبط تجار المدن في العصور الوسطى في نقابات؛ الغرض منها حماية أنفسهم من اعتداء
الأمراء ونهبهم من ناحية، ورعاية مصالحهم في الأسواق البعيدة من ناحية أخرى، ثم
أخذت النقابات في تنظيم شئون التجارة داخل المدينة، ففرضت معايير للجودة وتنظيمًا
لممارسة التجارة، وحين خرجت التجارة من طور البساطة إلى التعقيد ظهرت نقابات أصحاب
الحرف؛ الأمر الذي يعني الفصل بين التجارة والصناعة، وقد شكل تحالف الصناع والتجار
وبعض النبلاء ما يسمى (قومونات Communes)؛ بهدف الاستقلال الاقتصادي –أولاً- وهو ما
يستتبع استقلالاً سياسيًّا من سلطة الأباطرة والأساقفة، وعبر القرنين الثاني عشر والثالث
عشر استطاعت القومونات الانتصار في صراعها مع الأباطرة؛ مما حقق لها استقلالاً سياسيًّا
تامًّا، بل ودخلت بعده في إطار الهجوم والتوسع([2]).
إن قوة المجتمع كانت فرعًا عن التحرر
من استبداد الدولة؛ ذلك أن أوروبا عرفت فلسفة "التعاقد" بين الشعب
والسلطة؛ حيث تأخذ السلطة شرعيتها من كونها عقدًا واتفاقًا بين الناس، لا من حيث
تمتعها بحق إلهي للحكم، ولقد "أجمع كل رواد العقد الاجتماعي الذين سبقوا
الثورة الفرنسية على أن المجتمع المدني ما هو إلا ثمرة تعاقد الأفراد، وأن الدولة
هي الضامن لاستمراريته"([3]).
لقد تأخرت أوروبا نحو اثنتي عشر قرنًا
حتى وصلت إلى بعض ما قرره النظام الإسلامي؛ فالعلاقة "بين الأمة والإمام تقوم
على أساس عقد بين طرفين، تكون الأمة فيه هي الأصيل والإمام هو الوكيل"([4])،
وحتى في فترات الضعف وتوريث الحكم لم تكن شرعية الخليفة تعطى إلا ببيعة الناس لا
بمجرد الوراثة كما كان الحال في أوروبا، وبيعة الناس –وإن كانت شكلية في كثير من
الأحيان- فإنها تعبير عن الفارق بين النظامين الأوروبي والإسلامي. وأما ما لم يصل
إليه الغرب حتى الآن فهو فك ارتباط "المجتمع المدني" بالدولة، فلا تزال
قوة المجتمع المدني رهينة بحال الدولة ونظامها السياسي، وهو ما لم يكن قائمًا في
عالم الإسلام.
وفي مسار تقوية المجتمع اقتبس
الغربيون -أيضًا- نظام الوقف الإسلامي، حيث يستطيع المجتمع من تلقاء نفسه تنظيم
أمواله الطوعية في أمور النفع العام، وقد ظهرت أول إشارة إلى الوقف في النظم القانونية
الغربية في القانون الإنجليزي (1601م)، ثم اتخذت الأوقاف شكل الشخصية المعنوية
باسم مؤسسة (Foundation)، وصارت
تُعَرَّف بأنها "مؤسسة غير حكومية لا تقصد الربح وتهدف إلى رعاية هدف أو مصلحة
ذات نفع عام"، ومن أشهر هذه الأوقاف وقف كارنيجي؛ الذي أَسَّسه رجل الأعمال
الأمريكي أندرو كارنيجي (1911م)؛ ليعود بالتمويل على مؤسسة كارنيجي للسلام ومجلس
كارنيجي للأخلاق والعلاقات الدولية، وكذلك وقف روكفلر؛ الذي تأسَّس عام (1913م)،
وهناك الأوقاف المتخصِّصة بالتعليم، أو الصحَّة، أو البحث العلمي، أو مساعدة مرضى
القلب، أو مرضى الكُلْيَتَيْنِ، وغير ذلك، مع ملاحظة أن فكرة المؤسسة (Foundation) ما زالت لا
تشمل كل الأشكال القانونية لفكرة الوقف الإسلامي([5]).
بهذه التطورات صارت المجتمعات الغربية عوامل قوة، وصارت
منظمات المجتمع المدني إحدى العناصر الأساسية في المشهد الغربي، وهي تمارس ضغوطًا
كثيرة ومفيدة في مجالات عديدة.
نشر في ساسة بوست
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق