ما هي تلك الحضارة التي تكثر الألسنة من
تردادها، ويحب المثقفون تكرارها، بل وأحيانا تُقام باسمها الحروب؟!
لقد أطال المؤرخون وعلماء الحضارات في تعريف
الحضارة ومجالاتها، وذهبوا في ذلك مذاهب شتى، ومنهم من يفرِّق بين
"الحضارة" و"الثقافة" باعتبار أن الحضارة هي صورة النشاط
المادي بينما الثقافة هي صورة النشاط الروحي والفكري، وأصحاب هذا
الفصل بين الكلمتين والمعنييْن هم الفلاسفة الألمان بشكل رئيسي[1]، وإليه مال
الرئيس المجاهد علي عزت بيجوفيتش وقال: "الثقافة هي تأثير الدين على الإنسان أو
تأثير الإنسان على نفسه، بينما الحضارة هي تأثير الذكاء على الطبيعة أو العالم الخارجي".
الثقافة معناها "الفن الذي يكون به الإنسان إنسانًا"، أما الحضارة فتعني
"فن العمل والسيطرة وصناعة الأشياء صناعة دقيقة"، الثقافة هي "الخلق
المستمر للذات"، أما الحضارة، فهي "التغيير المستمر للعالم"[2].
ومنهم من يجعل الحضارة كلمة جامعة تشمل صورة
النشاط المادي والثقافي معا.
وأصل كلمة "الحضارة" في لسان العرب
وفي الغرب تعني المدينة أو ما هو فوق البادية أو فوق القرية، ففي لسان العرب
"الحضارة هي الإقامة في الحضر، والحاضرة خلاف البادية"[3]، وهو كذلك
في الإنجليزية (civilization)
وأصلها من كلمة (civis)[4].
وقد ظلت دلالة المعنى العام الإجمالي لم تتغير
عبر القرون، رغم ما حلَّ بالتعريف من منازعات هي نفسها من آثار المعركة الحضارية
المشتعلة في هذه القرون، فقد اعتبر بعضهم أن الحضارة إنما تعني المنجزات المادية، فمن
ذلك تعريف ابن خلدون بأن الحضارة "أحوال عادية زائدة
على الضروري من أحوال العمران، زيادة تتفاوت بتفاوت الرقة، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة
تفاوتا غير منحصر"[5]، ومنه تعريف
تونيز وألفريد فيبر الذي يرى الحضارة: "طائفة من معارف فنية تُتخذ منهجا،
وممارسة عملية، أي مجموعة من الوسائل والطرق للتصرف إزاء الطبيعة"[6].
بينما البعض الآخر شاع في تعريفاتهم التركيز على
الروح والفكر والثقافة، فمن ذلك تعريف كريستوفر داوسون بأن الحضارة
"تتأسس من عملية أصيلة خاصة من الإبداع الثقافي لشعب بعينه"[7]، ويوافقه فرناندو بروديل الذي يقول:
الحضارة هي مساحة ثقافية، بل أول مساحات الثقافة[8]، ويوافقهما شيخ العربية أبي فهر محمود
شاكر إذ يقول: "الحضارة ليست هي العرض الظاهر من قوتها
وبنيانها وفنونها وكل ما يقوم به نعت الحضارة، بل الحضارة هي السر الذي يعمل في إيجاد
ذلك واستنباته، وإخراجه على الأرض واستثماره: هي سر الحبة التي تنبت الدوحة، والذرَّة
التي تقوم بها المادة"[9].
وسعى قوم آخرون إلى الجمع بين الأمرين؛ إما
كمحاولة للتوفيق أو عن قناعة بأن النشاط المادي لا بد حتما أن يصدر عن منظومة
فكرية ويكون ثمرة لنشاط ثقافي، كما أن مجرد النشاط الفكري الثقافي الذي لم يصدر
عنه نشاط وإنتاج مادي لا يُمكن أن يُطلق عليه "حضارة"، فكم وُجِد بشرٌ
من غير حضارة بينما لم يوجد بشر من غير فكر وثقافة أبدا. ومن أولئك أوسولد شبنجلر الذي يقول بأن
"الحضارة هي المصير الحتمي للثقافة"[10]، ومثله مالك بن نبي الذي يعرف الحضارة
بأنها "مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل
فرد من أفراده المساعدة الضرورية المناسبة"[11]، ومثلهما حسين مؤنس الذي يعرف الحضارة
بأنها "ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان؛ لتحسين ظروف حياته،
سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودا أم غير مقصود، وسواء أكانت
الثمرة مادية أو معنوية"[12].
ومما يلفت النظر ويثير التأمل هو المقارنة بين
تعريف الحضارة لدى أشهر رجليْن خاضا هذا الموضوع: ابن خلدون، وول ديورانت.
فابن خلدون عَرَّف الحضارة وهو في ظلال بيئة
إسلامية، فكان أميل بها إلى النشاط المادي؛ فالحضارة عنده "هي تفنّن في التّرف
وإحكام الصّنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه؛ من المطابخ والملابس والمباني والفرش
والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله؛ فلكلّ واحد منها صنائع في استجادته والتّأنّق
فيه"[13].
بينما مال ول ديورانت وهو في ظلال بيئة مادية،
فكان أميل بها إلى النشاط الثقافي؛ يقول: "الحضارة هي نظام اجتماعي يعين الإنسان
على الزيادة من إنتاجه الثقافي"[14].
فلعل ذلك خير دليل على أن الحضارة تشمل الأمرين معا، والعقلاء إنما يوازنون بها
أحوال مجتمعاتهم وتوجهاتها؛ فيسددون ويقاربون ويشحذون النظر إلى موضع النقص
والخلل!
وأيا ما كان الاختلاف حول التعريف فلقد درج المؤلفون في
الحضارات على تناول الحضارة من خلال دراسة "العلوم والآداب والفنون والصناعات
والنظم والمعتقدات"[15]، وقد
قسَّم ول ديورانت الحضارة إلى أربعة عناصر "الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية،
والعقائد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون"[16].
وكالعادة ليس ثمة اتفاق كامل على وصف الموضوعات
وتقسيمها، ولكن المخطط العام يدور حول هذه المجالات التي وضعناها في هذا المخطط:
وغير خافٍ أن لكل مجال من هذه المجالات تقسيمات
فرعية أخرى، وغير خافٍ كذلك ما يكون بين هذه المجالات وبعضها من التشابك والعلاقة
والتأثير المتبادل، فالحضارة هي مزجٌ ومزاج مستخلص من هذا كله بعد عملية تفاعلات
غير محدودة عبر زمن زاخر بالتفاصيل والمؤثرات غير المرئية.
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي: "كانت هذه
الحضارة (الغربية)، بمعناها الواسع، مجموع عقائد ومناهج فكرية، وفلسفات ونظم
سياسية واقتصادية، وعلوما طبيعية وعمرانية واجتماعية، وتجارب خاصة مرت بها الشعوب
الأوروبية التي تزعمت هذه الحضارة في رحلتها الطويلة، وكانت مظهر تقدم العلم
البشري وعلوم الطبيعة، وعلم الآلات والعلوم الرياضية، ومجموع نتائج جهود علماء
وباحثين عبر القرون؛ فكانت مزيجا غريبا من أجزاء لا يكون الحكم عليها واحدا
متشابها"[17]. ويقول: "إن
من أصعب العمليات وأدقها هو تحليل الحضارة التي اختمرت تحليلا كيميائيا وفرز
العناصر التي دخلت فيها في عهود مختلفة، وفترات تاريخية معينة، وإرجاعها إلى أصلها
ومصدرها، وتحديد مقاديرها ومداها من التأثير والقبول، وتعيين من يرجع إليه الفضل
في هذا العطاء الحضاري والتغيير الجذري"[18].
نشر في الخليج أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق