ما الذي يفرق الفتوحات
الإسلامية عن أن تكون احتلالا كسائر الغزوات التوسعية لغيرها الأمم؟!
الجواب يطول ويتشعب، لكن
خلاصته ومختصره هو النظر إلى طبيعة "الحروب" في كل من التصور الإسلامي
والتصور الغربي.
في التصور الإسلامي تقوم
الحياة على التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل، وهذا التدافع بدأ منذ اللحظة الأولى
لخلق البشرية، حين أبى إبليس السجود لآدم فاستعلنت العداوة بين الطرفين إذ تعهد
إبليس أن يبذل ما استطاع لإضلال بني آدم ليستكثر منهم في أهل النار، ثم كانت أول
الوقائع الكبرى في التاريخ الإنساني هي إخراج آدم وزوجه من الجنة، وهو الذي كان
بداية الامتحان الكبير للبشرية، والذي سُجِّلت خلاصته في الآية الكريمة {قَالَ اهْبِطَا
مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:
123، 124]. والقرآن من أوله إلى آخره هو تسجيل لمراحل هذا الصراع بين الأنبياء
وخصومهم، وهذه الأمة التي هي آخر الأمم تحمل رسالة الهداية للعالمين والتي عرَّفها
ربعي بن عامر بقوله الموجز البليغ "ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة
العباد إلى عبادة الله رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور
الأديان إلى عدل الإسلام".
فالخلاصة أن المسلمين
ينظرون إلى هذه الحياة من منظار التدافع بين الحق والباطل، مهتهم فيها إخراج الناس
من الظلمات إلى النور، بمعنى إدخالهم في الدين ورفع المظالم عن المستضعفين.. ومن
ثَمَّ فهي رؤية رسالية تماما، تتعلق بالأفكار والعقائد والقناعات والتصورات.
بينما الرؤية الغربية كما
تعرض نفسها تحوم حول "الرخاء والرفاهية"، أي أنها رؤية مادية في
طبيعتها، وتختلف حول هذا الهدف النظريات والفلسفات، فيختلفون حول تحقق هذا الهدف
من خلال السيطرة على الأسواق بنظام مركزي أم من خلال ترك الحرية للأسواق لتنظيم نفسها
أم ببعض الخلط بين الطريقتين. وبغير دخول في تفاصيل تاريخية وفلسفية فإن المسار
العام للحضارة الغربية تاريخيا انتهى إلى العلمانية المادية والتفسير الوضعي
للعلوم الإنسانية، وسيادة "القوة" كمعيار وحيد يُقاس عليه وإليه. ولهذا
أخرجت هذه الفلسفة تفسيرا صراعيا للحياة، يجعل الصراع من قوانين الحياة وطبائعها ليهلك
فيه الضعيف لصالح الأقوى، وليس في هذا أي ضرر أخلاقي، لأن الأخلاق نفسها صارت من
العلوم الوضعية لا المعيارية، بمعنى: أن علم الأخلاق هو "دراسة الأخلاق كما
تظهر في الواقع كطبائع وقوانين" لا "دراستها كمطلق ينبغي أن يُتطلع إليه".
ولهذا فيمكن بسهولة أن
تنشأ في سياق الحضارة الغربية فلسفات ترى أن التخلص من الضعفاء والفقراء عمل جليل
وواجب، بينما يمتنع تماما أن تظهر مثل هذه الآراء في سياق الحضارة الإسلامية
لتناقضها الكامل مع أصول التصور الإسلامي ونصوصه الصريحة.
في ظلال الفلسفة الغربية
يتأسس علم الاقتصاد –كمثال- على قاعدة أن الموارد محدودة بينما احتياجات البشر غير
محدودة، فيكون التعريف البسيط للاقتصاد هو: إدارة الموارد المحدودة لتلبية
الاحتياجات غير المحدودة، بينما يمتنع هذا التصور كله في التصور الإسلامي الذي
يؤمن أن الله خلق الكون بحكمة وتدبير وميزان، وأن احتياجات البشر تكفيها الموارد
المخلوقة لهم في الأرض، إذ الأرض كلها مسخرة لهم، وكل ما فيها قد خُلِق بتقدير {وَالْأَرْضَ
مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ
(20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ} [الحجر: 19 - 21].
وإذن، فالإشكال في الحضارة
الغربية إشكال في طبيعة الكون نفسه، ذلك الذي يحتوي على موارد محدودة لا تكفي
البشر، ومن ثم يكون منطقيا أن تظهر حلول تقوم على التخلص من البشر في كل مراحل
تاريخ الغرب وفي كل مذاهبهم، وهو ما كان: فإن الملك ليكورجوس (الوثني) حاكم إسبرطة
كان يقتل الأطفال الضعفاء والمشوهين لأنهم لن ينفعوا المجتمع ولا الدولة، وهو ما
نادى به بعد قرون طويلة نيتشه (الملحد) الموغل في الفردية والساعي إلى إيجاد
الإنسان السوبر مان، وبينهما القس (المسيحي) الشهير مالتوس صاحب نظرية أن الفقر والمرض
والزلازل أشياء إيجابية، وهي نوع من تكفير الطبيعة عن خطاياها في الإتيان ببشر أكثر
من مواردها.
وهنا نعود إلى موضوعنا عن
الجهاد والاحتلال:
إن انطلاقة المسلمين إلى
الجهاد وفتح الأراضي لم يكن يحمل أية قيمة مادية تهتم بجباية الأموال واستخلاصها
من البلدان المفتوحة، بل بنشر الدين ودعوة الناس إليه، ولهذا فإن هذه الحركة سعت
في تعمير البلدان المفتوحة لا في إفقارها واستخلاص أموالها لصالح العاصمة
الإسلامية، بل وكثيرا ما تكرر في التاريخ أن تنهض عاصمة في أقصى المشرق أو أقصى
المغرب بينما تكون العاصمة الإسلامية أقل منها حالا في الحضارة والعمران، بينما لم
يكن ممكنا أن يحدث هذا في حقبة الاحتلال الغربي الذي كان منهجه استخلاص موارد البلاد
لحساب تحقيق رفاهية بلاده.
ليس يوجد في التاريخ عاصمة
تحت استطاعت أن تفوق باريس أو لندن أو واشنطن أو موسكو، بينما نستطيع أن نعدد
مناطق على وجه هذه الأرض لم تكن شيئا مذكورا في التاريخ إلا في فترة الحكم
الإسلامي مثل إسبانيا وصقلية وعواصم آسيا الوسطى، فلقد دخل الإسلام هذه المناطق
ولم تكن قبله شيئا، ثم أُخْرج منها فعادت بعده لا شيء في مسرح التاريخ، ولم تكن
فيها عواصم الخلافة الإسلامية، بل كلها كان بعيدا عن عاصمة الخلافة.
وليس يوجد في التاريخ قوم
دخلوا في دين المحتل أفواجا دون أن ترصد واقعة واحدة فيها إكراه على اعتناق هذا
الدين، بل قوم يجاهدون مع الفاتحين لفتح المناطق التي تليهم (مثلا: طارق بن زياد
فاتح الأندلس مغربي وليس عربيا)، بينما لست تجد في عصر المحتلين الغربيين جنودا من
الأقوام الواقعين تحت الاحتلال في الجيوش إلا بطريقة الإكراه والإجبار، وهذا كله
فضلا عن الأخوة الحقيقية التي يتعامل بها المسلمون مع من دخل في دينهم مقابل
العنصرية والطبقية القبيحة التي يتعامل بها المحتلون الغربيون مع الجنود الذين
أجبروهم على الحرب في صفوفهم.
ونستطيع أن نعدد مع ذلك
كله أخلاق المسلمين في الحروب مقارنة مع أخلاق غيرهم في الاحتلال، وهذا حديث يطول
ويطول، ونستطيع أن نكتب فيه كتابا كاملا لا يقل عن ألف صفحة نعتمد فيه فقط على
أقوال المؤرخين الغربيين دون سواهم. فإن شهرة هذا تُعجز عن كتمانه أو إخفائه.
إن مجرد الانطلاق من رؤية
رسالية قيمية ترى واجبها في نشر دين ورفع مظالم عن المظلومين يختلف اختلافا هائلا
في طبائعه وسياساته عن الانطلاق من رؤية مادية نفعية غايتها تحقيق
"القوة"، وقد صدق من قال:
حكمنا
فكان العدل منا سجية .. فلما حكمتم سال بالدم أبطح
وأحللتم
قتل الأسارى وقد كنا .. نمرّ على الأسرى نمن ونصفح
فحسبكم
هذا التفاوت بيننا .. وكل إناء بالذي فيه ينضح
نشر في الخليج أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق