تخلصت أوروبا من الكنيسة ومن أباطرة
العصور الوسطى ومن الإقطاعيين، لكنها استبدلت بهم نموذجًا أدهى وأمرّ؛ ذلك هو
"دين العلمانية" و"نظام الدولة المركزية".
كلا الأمرين تابع للآخر، فلا بد لأي
مجتمع من قيم حاكمة ومبادئ عليا، ثم لا بد لهذه القيم والمبادئ من أناس
يطبقونها ويحكمون بها، فكانت العلمانية هي المبدأ، وكان نظام الدولة المركزية هو
نموذج التطبيق.
فأين يكمن الضرر؟
يكمن في أن انتهاء وجود الإله من حياة
البشر قد جعلهم عبيدًا لأنفسهم وشهواتهم وأهوائهم، لا يؤمنون إلا بما ينفع ويضر
بشكل مباشر واضح، وبهذا انتفى مبدأ الأخلاق والقيم العليا والمُثُل العظيمة، التي
انزوت مع الدين في جنبات الكنائس، وصارت اختيارًا شخصيًّا بحتًا، ولهذا أنتج الغرب
كل البشائع الإنسانية، التي جعلته "أكبر مجرم في التاريخ"([1])، "وحينما
سئل فاكيلاف هافل (رئيس جمهورية التشيك) عن الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع، أجاب
قائلاً: هذا الوضع له علاقة ما بأننا نعيش في أول حضارة ملحدة في التاريخ البشري،
فلم يعد الناس يحترمون ما يُدعى القيم الميتافيزيقية العليا، والتي تمثل شيئًا
أعلى مرتبة منهم، شيئًا مفعمًا بالأسرار، وأنا لا أتحدث هنا بالضرورة عن إله شخصي،
إذ إنني أشير إلى أي شيء مطلق ومتجاوز، هذه الاعتبارات الأساسية كانت تمثل دعامة
للناس وأُفُقًا لهم؛ ولكنها فقدت الآن، وتكمن المفارقة في أننا بفقداننا إياها
نفقد سيطرتنا على المدنية، التي أصبحت تسير من دون تحكم من جانبنا، فحينما أعلنت
الإنسانية أنها الحاكم الأعلى للعالم، في هذه اللحظة نفسها، بدأ العالم يفقد
بُعْدَه الإنساني"([2]).
وهنا تحققت نبوءة توماس هوبز الذي
"أعلن أن حالة الطبيعة (أي حالة الإنسان بعد انسحاب الإله من الكون) هي حالة
من حرب الجميع ضد الجميع، فالإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وسيتم التعاقد الاجتماعي
بين البشر لا بسبب فطرة خَيِّرة فيهم؛ وإنما من فرط خوفهم وبسبب حب البقاء،
فيُنَصِّبون الدولة التنين حاكمًا عليهم؛ حتى يمكنهم أن يحققوا ولو قدرًا ضئيلاً
من الطمأنينة"([3]).
وهنا صارت الدولة في مكان الإله، بل
هي -كما يقول هيجل- "الحلول الإلهي على الأرض"، وسيادتها هي السلطة
المطلقة، وعلى الأفراد أن يخضعوا لهذه السلطة التي تحدد من الداخل إرادة الأفراد([4]).
وصارت كفاءة الدولة تقاس بمدى قدرتها
على السيطرة التامة على كافة ما يحدث على أرضها من أنشطة، ولم يختلف هذا بين مذهب
ومذهب في الفكر الغربي؛ "فالسيطرة على السكان مهمة أساسية لأي سلطة حكومية
تهيمن عليها جماعات المصلحة، وعلى الرغم من أن القوتين الدوليتين في زمن الحرب
الباردة (أمريكا والاتحاد السوفيتي) كانتا على طرفي نقيض... فإنهما اشتركتا في قوة
السلطة المحلية عند تعاملهما مع قضية السيطرة على شعبيهما"([5]).
وحين حلت الدولة محل الإله لم يكن لها
لا علم الإله ولا رحمته ولا ارتفاعه عن النقائص، وحين حلَّ السياسيون والنخبة محل
العلماء والمفتين لم يكن لهم لا تقوى العلماء ولا خشيتهم، بل دخل البشر في حكم
البشر، فاستعبد البشرُ البشرَ فأذلوهم وقهروهم، غير أن الأشكال تغيرت؛ فصارت أكثر
خداعًا وتلوينًا، وأشهر نمطين لهذا الخداع: الشيوعية والرأسمالية.
فأما الشيوعية فقد ادعت أنها سبيل
العدالة الاجتماعية، وضد الإقطاعيين والملوك المستبدين، ولمنع احتكار السلع، ثم
كان تطبيقها أعنف استبدادًا من كل الملوك، وأشرس من كل الإقطاعيين، ولم يتحقق في
ظلالها إلا العدالة في الفقر؛ حيث صارت الشعوب فقيرة لا تجد الكفاف، بينما تركزت
الثروة في يد "الرفاق" الذين يحكمون باسم الشعب، ويقيمون المذابح
والسجون باسم الشعب، ويتصرفون في مال الشعب بأهوائهم؛ زاعمين أنها "إرادة
الشعب"، وقد طُوِيت صفحة الشيوعية مخلفة وراءها سجلاًّ من المذابح والحروب
والفقر العام والفساد الكبير.
وأما الرأسمالية فقد ادعت أنها ضد
الاحتكار الاقتصادي وضد الاستبداد السياسي، لكنها أنتجت أكبر المحتكرين، ورعت
ودعمت أكابر المستبدين، وهي تسيطر على الشعب عبر الإعلام والأموال، ويظن الناس
أنهم يختارون رؤساءهم، وأنهم يغيرونهم كل فترة؛ بينما تظل الحقيقة أنهم يدورون في
مسرح يتحكم فيه رجال الأعمال، الذين يتحكمون في الإعلام والاقتصاد؛ فبالإعلام
يخدعون الجماهير ويسوقون رجالهم إلى الحكم، وبه وبالاقتصاد يتحكمون في السياسيين
والبرلمانيين وصناع القرار([6])، وفي حين يحسب
الأمريكيون –مثلاً- أنهم يستطيعون اختيار رئيسهم فإنهم لا يدركون أنهم إنما
يختارون بين شبيهين لا يختلفان إلا في تفاصيل صغيرة.
هذه الأزمة القائمة في الغرب حين
زُرِعت في بلادنا كانت أسوأ وأشد فتكًا وتدميرًا!
فالعلمانية كانت رغبة شعبية ونتيجة
طبيعية لانحرافات الكنيسة، ولم تكن كذلك في بلادنا، ولذا غُرِست بالقهر والعسف
والاستبداد، وكان لا بد من وجود حكومات عسكرية تذيق الشعوب الويلات؛ لكي
تتمكن من ترسيخ أمرها، وهذا الترسيخ لا يتم إلا بنظام الدولة المركزية، الذي ينزع
عن الأمة فاعليتها وترابطها وتماسكها ومصادر قوتها.
أثمر نظام الدولة المركزية في بلادنا
أسوأ الثمر؛ فقد سيطرت الدولة على الأوقاف الخيرية، التي هي تمويل الأمة لنفسها
وحضارتها، وضربت الدولة نظام القبائل والعصبيات لحساب النزعة الفردية، التي تجعل
العلاقة قائمة بين الدولة والفرد على نحو ما هي بين الإله والعبد، وتحكمت الدولة
في المساجد ونظم التعليم ومنافذ الثقافة، وصار المواطن لا يستطيع أن يدرس أو يتعلم
أو يقرأ أو يسمع إلا ما تريده الدولة أو تسمح به، وهو لا يستطيع أن يمارس نشاطًا
ولو خيريًّا إلا إذا سمحت به الدولة، وصار العلماء في يد الدولة؛ إن نطقوا بما
أرادت أعطتهم الرواتب والمناصب، وإلا أعطتهم المعتقلات والمشانق، ولا يستطيع الخطيب
أن يخطب في الناس ولا أن يدرس لهم ولا أن يقرئهم القرآن إلا بعد تصريح من
الدولة... وهكذا صارت وجوه الحياة جميعها. فإذا استحضرنا حقيقة أن الذي حكمنا في
عصور ما بعد الاحتلال كان على مذهب الغرب؛ عرفنا أي مصيبة نزلت ببلادنا على يد
أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتا[7].
كان طبيعيًّا والحال هكذا أن يختفي
ترابط الناس وتماسكهم، وأن ينزوي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تضمر حاسة
الشعور بالمسئولية، وأن تصير الأمة بعد أن انقسمت أوطانًا قد انقسمت –داخل الوطن
الواحد- إلى أفراد متفرقين، بل كان هذا التفرق من ضرورات الاستبداد ومقاصده التي
تعمدها، ألم يذكر الله أن فرعون لكي يستبد بأهل مصر {جَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا}
[القصص: 4]؟!
ولم يقف الحال عند تمزق روابط المجتمع، بل جاءهم من
الغرب ما يجعلهم أفرادًا مولعين بالانفراد ومتخلين عن الروابط والأواصر
الاجتماعية.. لقد أصابتهم لعنة غربية أخرى، تلك هي "النزعة الفردية"،
وهي موضع حديثنا في المقال القادم وهو الأخير –بإذن الله- من هذه السلسلة الطويلة.
نشر في ساسة بوست
[7] استعرض
الشيخ محمد عبده "آثار محمد علي في مصر" في مقال مهم، يعد "النموذج
المصري" لما جرى بعد ذلك في عالمنا الإسلامي، ولأهميته فقد ضعناه في
الملحقات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق