الجمعة، مارس 04، 2016

لماذا وكيف ومتى افترق الإخوان والجهاديون

نشأ عن سقوط الخلافة الإسلامية ردات فعل في العالم الإسلامي، عرفت باسم "الصحوة الإسلامية"، اشتهر منها على وجه التحديد حركتان كبيرتان: حركة الإخوان المسلمين بزعامة حسن البنا (1906 – 1949م) في العالم العربي، وحركة الجماعة الإسلامية بزعامة أبي الأعلى المودودي (1903 – 1979م) في شبه القارة الهندية.

وقد اشتهرت هاتان الحركتان لكثرة أتباعهما وقوة تأثيرهما وغزارة إنتاجهما الفكري الدعوي، ولا يكاد ثمة رمز في العالم الإسلامي طوال القرن العشرين لم يكن عضوا أو له اتصال أو تأثر في مسيرته الدعوية والفكرية والحركية بواحدة من هاتين الجماعتين الكبيرتيْن.

كان طبيعيا أن يتركز مجهود الجماعتيْن وتركيزهما على مقاومة الاحتلال الذي أسقط الخلافة وسيطر على العالم الإسلامي سعيا للتحرر وإعادة الخلافة من جديد.

لم يصل الزمان إلى عقد الستينيات إلا وكانت مصر وسوريا والهند وبعض البلاد العربية والأسلامية الأخرى قد تخلصت من الاحتلال الأجنبي ونشأت فيها حكومات "وطنية".. ومن هنا نشأ التحدي الجديد!

(1)
السؤال الكبير: هل ترك الاحتلال في موقع السلطة مسلمين ضالين أم ترك عملاء؟

يشير فيلسوف الجهاديين ومؤرخهم وأبرز منظريهم أبو مصعب السوري[1] إلى أن التيار الجهادي تأسس على كتب الرجليْن الكبيريْن: سيد قطب (خصوصا: معالم في الطريق) وأبي الأعلى المودوي (خصوصا: المصطلحات الأربعة).

وخلاصة الكتابيْن، وهي خلاصة أفكار الرجلين عموما، أن الاحتلال ترك في موقع السلطة من بعده خونة وعملاء يواصلون مهمته في محاربة الدين وتغييبه عن واقع الناس، وفي إقصائه عن أهم خصائصه "الحاكمية"، إذ الإسلام دين ودولة ولا بد أن تكون السلطة خاضعة له وحارسة له كذلك. ومن ثَمَّ صارت المجتمعات الإسلامية محكومة بهيمنة أنظمة "جاهلية" فرَّغت الإسلام من مضمونه ومحتواه حتى صار عموم الأمة لا يعرف معنى المصطلحات الرئيسية في دينه ومقتضياتها ولوازمها، وصار مطلوبا أن تقوم في الأمة طليعة واعية ومجاهدة تثير الوعي بما طمسه الاحتلال وعملاؤه من أصول الدين وثوابته، وتقوم بجهادهم فتزيل هيمنتهم وتعيد الإسلام إلى موقعه من جديد.

إلا أن الإخوان كانت لهم إجابة أخرى، إذ تصدى المرشد الثاني حسن الهضيبي للرد على هذين الكتابين بكتابه الشهير "دعاة لا قضاة"، والذي خلاصته بوضوح: أن الحكام الذين يهيمنون على الأمة إنما هم مسلمون وإن كانوا عصاة أو ضلالا أو ظالمين، والواجب هو دعوتهم وتوعيتهم، وهاجم بشدة محاولات تكفيرهم، وحصر واجب الإخوان في أنهم "دعاة" لا "قضاة".

وقد أثير كلام كثير حول هذا الكتاب، وما إن كان الذي ألفه هو الهضيبي نفسه، أم ابنه مأمون الهضيبي، أم حتى رجال أمن الدولة (كما في رواية رجل أمن الدولة: فؤاد علام)، وثار تبعا لذلك جدل تاريخي كبير حول العلاقة بين سيد قطب وحسن الهضيبي، وهل كان الهضيبي يرضى عما يفعله سيد قطب خارج السجن من تكوين تنظيم جديد بناء على أفكار "المعالم" أم لا[2].

والذي يهمنا في هذا السياق أن جماعة الإخوان تبنَّت موقف الهضيبي وكتابه، وسارت عليه، واعتبرت أن الحكام الذين ورثوا حقبة الاحتلال مسلمين ينبغي دعوتهم والتعاون معهم والاستفادة بكل ما من شأنه توسيع مساحات الدعوة في ظل أنظمتهم.

وهنا بدأ الافتراق الأول والكبير الذي سيصنع تيارين وتاريخيْن مختلفيْن.

فالنتاج الفكري الإخواني يغلب عليه الإصلاح، والنظر فيما يجب أن يكون عليه أمر الدعوة في المجتمع بشكله الحالي، وكيف يمكن أسلمة السياسية والتعليم والإعلام والاقتصاد والإدارة والفن والترفيه، والطريق في هذا كله هو الدخول فيه والإصلاح المتدرج والانتقال خطوة خطوة، ومن ثم لم تظهر مشكلة في دخول البرلمان أو تولي المسؤوليات في المؤسسات والوزارات، بل والسعي للانتشار فيما أمكن من المؤسسات، ولا تزال العقلية الإخوانية –حتى بعد انقلاب السيسي- تنظر بريبة وتوجس وتخوف لمن يقول بهدم المؤسسات.

بينما يؤمن الفكر الجهادي أنه لن يستلم دولة بهذا الشكل الحالي أبدا، لن يسمح له أعداؤه بهذا، فضلا عن كون بناء الدولة هذا ونظامها غير شرعي من الأساس، ولذا يغلب على النتاج الفكري الجهادي مسائل المقاومة والمواجهة والسياسات الأمنية، بل إن النجاح في المسعى الجهادي يفرض على الفكر الجهادي التفكير في "إدارة الفوضى" أو "إدارة التوحش" كما هو عنوان كتاب لواحد من أبرز منظريهم: أبي بكر ناجي (خليل الحكايمة)، فليس من همِّ الجهاديين بناء دولة ولذا لا ينتشر في كتاباتهم تصور لما بعد الاستيلاء على السلطة، ذلك أنهم يرون أن نجاحهم في إسقاط أنظمة قطرية سيترتب عليه نزول الاحتلال الأجنبي مرة أخرى، ولذا همُّهم هو سلسلة جهاد دائم، والتفكير في تصورات الدولة هو في أحسن الأحوال أمر مؤجل لم يأت وقته، ولن يأتي قريبا!

وهكذا كان الإخوان هم الأقرب إلى التفاصيل والأكثر في كوادر "إدارة الدولة" إلا أنهم ذابوا فعليا في النظام الإقليمي ومن ورائه النظام العالمي ولم يكن لديهم تصور لحالة ما إذا اختلفت قوانين اللعبة: لعبة احتوائهم داخل منظومة الدولة. بينما كان الجهاديون الأقرب إلى فهم النظام العالمي والتنبه له لكنهم لم يحاولوا اختراقه من داخله ولا بث كوادرهم فيه للتعلم والتدرب حتى ولو بغرض الانقلاب عليه.

ومن هنا كانت الإخوان يظهرون في صدارة التجارب السلمية أو القانونية البرلمانية، بينما يظهر الجهاديون في التجارب الثورية أو الصراعات.

(2)
الافتراق السلفي: كيف تفاعلت السلفية مع الإخوان والجهاديين؟

هاجر الإخوان من الجحيم الناصري في الخمسينات والستينيات إلى أنحاء العالم لكن كثيرا منهم استقر في السعودية والخليج، ثم لحقهم في الستينيات والسبعينيات إخوان سوريا المهاجرين من جحيم حزب البعث، وكانت مصر وسوريا من أوائل الدول العربية التي استقلت، وكانتا لعمقهما الحضاري والثقافي في طليعة البلاد التي نشأ فيها نظام تعليمي وكثرت فيها الكوادر المتعلمة، ولذا صارت البلدان التي استقلت في حاجة إلى هذه الكوادر، فنشأت حاجة متبادلة بين اللاجئين والبلاد المضيفة.

ظهرت الطفرة النفطية في السعودية، وكانت العلاقات منهارة بينها وبين مصر، وحيث كانت السعودية أرض الحرمين وتستمد شرعيتها من فكرة دينية "الوهابية" فقد كان رفع الشعار الإسلامي هو الموافق لرسوخ النظام داخليا ولتوسعه خارجيا، وشهدت تلك الحقبة النزاع المصري السعودي كأنما هو نزاع إسلامي قومي.

والمهم في سياقنا الآن أمران:

·         الأول: أن الهجرة الإخوانية التي استقرت في بلاد الخليج تفاعلت مع السلفية التي بدأت تزدهر وتنتشر كتبها وأفكارها بأثر الغنى والنفط.

·         والثاني: أن السعودية صارت بوضعها الجديد منطقة جذب للناس من جميع العالم الإسلامي: إما الطلاب الذين يدرسون، وإما العمال الذين يؤسسون لدولة تدلف طريق التصنيع، وإما الكوادر البشرية التي تطلب الرزق.

فانبثق في هذه المرحلة حركتان دعويتان هما من نتاج التقاء الإخوان والجهاديين بالسلفية، هما:

1.    السلفية الجهادية: حيث وجد الجهاديون تأصيلات شرعية فقهية موسعة فيما نشر من التراث الفقهي لابن تيمية وابن القيم ومجموعة فتاوى الدعوة النجدية، وأبرز ما في هذه المسائل هو ما تعلق الركائز الأساسية للفكر الجهادي: الحاكمية والجاهلية، أي ما تعلق بالسلطة والتشريع، وما يترتب عليه من الولاء والبراء وأحكام الديار وحكم من لم يحكم بما أنزل الله وحكم البرلمان (باعتبارها مؤسسات تشريع لا تأبه ولا تلتزم بشريعة الله).

2.    السلفية الحركية: وهي الفكر السلفي إذ يستفيد من التنظيم والحركية الإخوانية، يُشار إليها أحيانا بـ "السرورية" التي أسسها السوري محمد سرور زين العابدين، أو بتيار الصحوة الذي ظهر في الخليج من بعد السبعينات والثمانينات، وينسب إليه جل مشايخ الصحوة في السعودية كناصر العمر وسلمان العودة وغيرهما.. إلا أن هذه الحركة تجنبت بشكل شبه كامل مسائل السلطة والحكام، أو لنقل: دخلت فيها بالقدر البسيط ومن الباب الإصلاحي الدعوي المتدرج الهادئ الرفيق مع "ولاة الأمر". فلو اعتبرنا أنها الطبعة السلفية من حركة الإخوان فيمكن أن نقول بصيغة أخرى أنها الإخوان بعد دخول عقلية سلفية ونزع مسائل الخلافة وتحرير الأوطان والتصدي لجور الحكام.

كان الفارق ضعيفا وبسيطا في المرحلة الأولى، بل ومتنازعا عليه كما هو الحال في تبني كلا من الإخوان والجهاديين لسيد قطب والمودودي وتنازعهما النسبة إليهما، والتنازع حول حقيقة العلاقة بين حسن الهضيبي قطب، فلم يظهر في الإخوان من ينكر على سيد قطب إلا في السنوات العشر الأخيرة، والقرضاوي –وهو شيخ الإخوان- كتب عن المودودي كتابا يكثر فيه من الثناء عليه، وهو حتى حين نقد سيد قطب أحاط نقده هذا بكل عبارات الثناء على الشهيد والتأكيد على إخلاصه وحسن نواياه وعظيم تضحيته.

أما في هذه المرحلة فالفارق واضح وجلي وكبير، وبين كلا المدرستين سجالات وجدالات وخصومات كثيرة، والرموز متمايزون تماما، وأخف ما قد يكون بين المدرستين أن يعذر بعضهما بعضا ويريان الفارق بينهما فارق توقيت أو توزع مهمات، وأسوأ ما كان بينهما هو توظيف الأنظمة لكل منهما ضد الآخر.

(3)
الافتراق الأمني العالمي: التوظيف أو المطاردة

لئن اختلفت المدرستان فقد جمعت بينهما حرب أفغانستان التي كانت مرحلة سطوع للتيار الجهادي، وبرز فيها من العرب اسمان: عبد الله عزام الإخواني الذي صار رأس الجهاد في عصره، وأسامة بن لادن الذي أسس تنظيم القاعدة الحامل للواء السلفية الجهادية إلى أن نازعه عليها تنظيم "الدولة الإسلامية".

في حرب أفغانستان التقت كافة المصالح، المصلحة الدولية التي تقودها أمريكا لمواجهة الاتحاد السوفيتي والثأر لهزيمتها في فيتنام، ومصلحة الأنظمة العربية التي تريد غسل سمعتها بالدفاع عن المسلمين والتخلص من الإسلاميين "المزعجين"، ومصلحة الجهاديين الذين طاف بخيالهم أن أفغانستان قد تكون دار مهجر كالمدينة المنورة تقوم فيها الدولة الإسلامية المنشودة، ويبدأ منها تحرير البلاد الإسلامية.

وفي هذه الحرب أيضا التقت كافة الأطياف والمدارس الإسلامية على اختلافاتها، فمنها من عمل في الجهاد ومنها من عمل في الدعوة ومنها من عمل في التعليم ومنها من عمل في الإغاثة، ومنها من عمل في أكثر من باب، إذ الساحة مفتوحة والمصالح متلاقية.

لذلك ازدهر الجهاد الإسلامي حتى حقق أكبر نصر في العصر الحديث: إسقاط الاتحاد السوفيتي، ودفع الأفغان أغلب الثمن (2 مليون شهيد، 5 ملايين لاجئ من شعب تعداده 16 مليونا)، فبدأ من بعده عصر القطب الواحد بكافة آثاره وتوابعه.

منذ اللحظات الأولى لعصر القطب الواحد أعلنت أمريكا أنها ستواجه العدو الجديد، الخطر الأخضر: الإسلام. لذلك فيمكن اعتبار عام (1990م) لحظة فارقة في مسيرة التيار الإسلامي.

فمن ناحية أعلنت الحرب على الجهاديين الذين وجدوا أنفسهم بين حرب أهلية أفغانية –دبرها ورعاها الأمريكان وحلفاؤهم في باكستان والسعودية- كما وجدوا أنفسهم مطاردين أو مُغتالين في باكستان، وإذا عادوا إلى بلادهم فتحت لهم قضايا "العائدون من أفغانستان". ومن بعد ما كانت الحركات الجهادية تستطيع الاستفادة من تناقضات الأنظمة المحلية، جاء عصر القطب الواحد ليجمع كل هذه الأنظمة في سياق واحد ويجعلهم جميعا تحت نظام تعاون وتنسيق أمني واحد، مما جعل أي حركة جهادية تواجه نظاما إقليميا موحدا لا نظام دولة بمفردها.

ومن ناحية أخرى فقد نزلت أمريكا "علنا" بقواتها وجيوشها إلى الجزيرة العربية (حيث أقدس مقدسات المسلمين) ضمن سياق حرب الخليج، مما أثار أزمة عاصفة بين سائر التيار الإسلامي من ناحية وسائر الأنظمة من ناحية أخرى. وفي نفس ذلك العام (1990م) كانت التجربة الجزائرية تقول بأن الديمقراطية ستأتي بالإسلاميين، لذا فلقد كانت العاصفة الإقليمية والدولية ضد الإسلاميين جميعا، فصارت الأنظمة لا تقبل من "التيارات المعتدلة" إلا الذوبان الكامل فيها والقبول التام بسياساتها، بل ولا بد من معاونتها في ضرب التيارات الجهادية "المتطرفة".

وهنا في تلك المرحلة حدث الافتراق الأعنف بين المدرستيْن: الجهادية والإخوانية، إذ صار الجهاديون في حالة مطاردة محمومة، كما صار الإخوان في حالة توظيف تام، واستعملوا علانية في أكثر من مكان لضرب الجهاديين فكريا. وتبادلت المدرستان الاتهامات، فأخفها أن يقول الإخوان: الجهاديون أخطأوا الإعداد وأخطأوا التوقيت واستعجلوا الثمرة أو أن يقول الجهاديون: الإخوان ضلُّوا وعصوا، وأسوأها أن يُكَفِّر الجهاديون الإخوان أو أن يتعاون الإخوان مع الأنظمة الحاكمة في ضرب الجهاديين عمليا.

وما إن خفت شأن الجهاديين حتى تحولت الأنظمة وإعلامها إلى الإخوان لتزيدهم قبولا بالتوظيف وتختبر مدى اندماجهم في نظام الدولة الحديثة وقيم الرأسمالية العالمية.

نشر في ساسة بوست 



[1] مصطفى بن عبد القادر، سوري من حلب، اعتقل من باكستان 2006م على يد جهاز الأمن الباكستاني وسُلِّم إلى الأمريكان الذين سلَّموه إلى السوريين، ولا يعرف خبره إلى لحظة كتابة هذه السطور.
[2] وقد حاولت جهدي استقصاء هذا الموضوع وقابلت عددا من رموز هذه الفترة وأبناءهم واستمعت لرواياتهم، ولكن الروايات في هذه المسألة تناقضت وتضاربت بشكل كامل، ولم أصل حتى هذه اللحظة ليقين بشأن حقيقة علاقة الرجليْن: حسن الهضيبي وسيد قطب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق