اقرأ أولا:
لئن وقع اختلاف في تأثير النظام العلماني على الإسلاميين
وما إذا كان قد هَزَمَ الإسلاميين أو كانوا هم من تعلموا وتطوروا بالتجارب، فإن
الثابت أن صورة الإسلاميين ونهجهم عند بداية تركيا العلمانية كانت على خلاف الصورة
التي صاروا عليها عند نهاية القرن العشرين.
لقد ظل الإسلام –بالرغم من كل قهر الدولة ومطارداتها- الهوية العميقة للأتراك، وقد جاهد الأتراك للدفاع عن هويتهم بقدر ما استطاعوا، فبالجهاد حينا، وبالسياسة أحيانا، وبالدعوة والتعليم في كل حين.
شهدت البداية مواجهات مسلحة ضد الجمهورية العلمانية عبر سلسلة ثورات لأتباع الطريقة النقشبندية خلال العشرينات والثلاثينيات وُوجهت جميعها بعنف لا رحمة فيه[1]، وكان أبرزها حركة الشيخ سعيد بيران الكردي (فبراير 1925م) في شرق تركيا بجيش "قوامه 15 ألف مقاتل واستولى على جزء كبير من ديار بكر والمحافظات المتاخمة لها... واستطاع الجيش احتواءها في مارس من ذات العام بالاستعانة بقصف جوي مكثف. وشُنِق الشيخ سعيد وأتباعه، وتم ترحيل الكثير من القبائل التي اشتركت في التمرد إلى غرب الأناضول"[2]، وبرزت في هذا السياق مقاومة لأتباع الطريقة التيجانية إذ كانوا يحطمون أو يلطخون تماثيل أتاتورك ويتحدون منع الأذان بالعربية وكانوا من الجرأة بحيث تظاهروا أمام المجلس الوطني[3]!
وظهر كثير من المقاومة الدعوية العلمية التي تقتصر على الوعظ ونشر الدعوة وتربية الأتباع والأبناء، وبرزت فيها أسماء علماء كبار منهم: الشيخ عاطف الإسكليبي الذي أُعْدِم بسبب كتاب ينكر ارتداء القبعة تشبها بالغرب وقد صدر قبل قوانين الزي الأتاتوركية، والشيخ سليمان حلمي الذي تصدى سرًّا لتعليم اللغة والحرف العربي بعد قانون كتابة التركية بالحرف اللاتيني[4]، وأشهر هؤلاء قاطبة كان الشيخ سعيد النورسي صاحب الرسائل الذائعة "رسائل النور" والذي تحول أتباعه إلى تيار كبير معروف[5].
وما إن أتيحت الفرصة أمام تشكيل أحزاب سياسية حتى ظهرت أحزاب إسلامية إلى الساحة، كحزب حماية الإسلام الذي أسسه نجمي كوناش ومصطفى أوزباك (19 يوليو 1946م) غير أنه أغلق بعد 23 يوم بذريعة مخالفة الدستور، وحزب المحافظين وأسسه الجنرال رفعت أيتل خان ولقي نفس المصير، وحزب الأمة الذي أسسه المارشال فوزي جقمق (25 يوليو 1948م) ولم يكن بأفضل من سابقيه، مما اضطر الإسلاميين للدخول إلى السياسة عبر الأحزاب العلمانية وخصوصا اليمينية التي لا تعادي الدين[6].
وبالعموم فقد ارتخت قبضة الكمالية منذ الدخول في التعددية، وصارت مطاردة الإسلام في تركيا أقرب إلى سلطة تطارد منافسيها السياسيين وتضطهدهم منها إلى سلطة ذات مشروع عقدي علماني يطارد أعداءه الحضاريين، وإن ظلت العناوين والشعارات المرفوعة عقدية فكرية صارخة، وكان موقع تركيا في المعسكر الغربي يسمح بمساحة للإسلام كحائط صد ضد الشيوعية.
لقد شهد عهد مندريس ما يشبه انقلابا في صيغة الدولة العلمانية الكمالية إذ افْتُتِحَتْ في عهده مدارس الأئمة والخطباء وسُمح للأئمة بدروس تطوعية في المدارس وأقر رفع الآذان باللغة العربية وتخصيص دروس دينية في الإذاعة. وكان انقلاب (1960م) محتاجا إلى الوقوف ضد الشيوعية، فكان دستور (1961م) موصوفا بالليبرالية ويحفظ الحريات وحقوق التجمع مما أتاح فرصة واسعة أمام النمو الإسلامي[7] الذي صار يُغازَل من قِبَل الأحزاب التي باتت في حاجة إلى دعم الجمهور الذي يميل للإسلام أو كانت على الأقل حريصة على إثبات أنها لا تعادي الدين[8]، وبهذا لم ينته ما أسس له مندريس من مساحة حريات ولم يُنقَض كل ما بناه، بل كان عهد سليمان ديميريل نسخة مخففة من عهد مندريس فيما يخص الساحة الإسلامية[9].
لذلك ما إن انتهى عقد الستينيات إلا وكان المزاج الإسلامي مهيمنا على الساحة[10]، فظهرت أحزاب إسلامية كحزب "الوحدة التركي" الذي أسسه الجنرال صدقي أولاي عميد الكلية الحربية (1967م) وحزب "تحرير تركيا"[11]، إلا أن هذه الأسماء انطفأت سريعا، ولم يبق في الأفق سوى اسم أول محاولة للزعيم الإسلامي القادم: نجم الدين أربكان، ذلك هو حزب النظام الوطني (يناير 1970م)، وهو الحزب الذي صار يصارع النظام العلماني العسكري فيغلقونه فيعود باسم جديد، فكانت سلسلة أحزاب بدأت بـ "السلامة الوطني" ثم الرفاه ثم الفضيلة ثم السعادة.
ازدهر النمو الإسلامي في السبعينيات، وشهدا هذا العقد نموا كبيرا في الإقبال على كتب الحركة الإسلامية المترجمة من العالم العربي، وكانت كتب حسن البنا وسيد قطب والمودودي وغيرهم الأكثر رواجا، وانتشرت المكتبات الإسلامية، وكثرت المجلات الإسلامية في تلك الفترة والتي كانت تتخذ من الأدب غطاءً لمضامينها الإسلامية[12]، ثم كان عهد أوزال فرصة ممتازة لنمو وتمدد الحركات الإسلامية بشتى أطيافها، خصوصا مع ازدهار قطاع الاقتصاد الذي كان ثمرة لما بدأ قبل ذلك من ظهور طبقة رجال أعمال في فئة من قدموا قديما إلى العواصم جراء سياسات الدولة الأتاتوركية فسكنوا أطراف المدن الكبرى أو كانوا قوة عاملة في مصانع الدولة، ثم صاروا فيما بعد ينافسون في القطاع المالي، وهم الذين سيُعرفون فيما بعد باسم "الموسياد" كما ستُعرف مناطقهم الصناعية باسم "نمور الأناضول"، فصار هؤلاء مددا للأحزاب الإسلامية كما صارت الأحزاب الإسلامية تدافع عنهم ضد حيتان المال والأعمال الأتراك أو الأجانب باعتبارهم طليعة الاقتصاد المحلي ضد الإغراق الأجنبي[13].
ومثلما ظهرت أحزاب إسلامية تنافس النظام العلماني وتشتبك معه، ظهرت في أطياف هذا التيار الإسلامي جماعةٌ بدت أقرب إلى الإسلام الذي تريده الدولة العلمانية، وهي جماعة فتح الله كولن التي هي طيف من التيار النورسي إلا أنها لم تكتف بالاستقامة الشخصية بل سعت لصناعة بيئة إسلامية بالعمل الدعوي والتعليمي والاقتصادي وابتعدت عن العمل السياسي[14]، وقد فضلت هذه الجماعة ألا تواجه النظام بل أن تخادعه فسعت من جهة أخرى إلى اختراق مؤسسات الدولة وألزمت أفرادها الذين أهلتهم لهذا بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يصمهم بالإسلامية فصار لها نفوذ كبير داخل جهاز الدولة، وهي في طريقها هذا تلقت دعما حكوميا صريحا أحيانا كما تعرضت للمضايقات والضغوط أحيانا أخرى باعتبار مؤسساتها التعليمية والمالية رافدا داعما ومساندا للأحزاب الإسلامية، رغم أنها ملتزمة دائما بمعارضة هذه الأحزاب وكانت الحركة الإسلامية الوحيدة التي تعارض أربكان وتوالي الجيش والحكومة الرسمية ولم تعترض على انقلاب (1997م)[15]، ولهذا يُختلف في شأنها كثيرا وما إذا كان منهجها وسيلة ذكية اعتمدها الإسلاميون في تركيا أم أن النظام العلماني صنع بذكاء جماعة إسلامية وظيفية على صبغته ومثاله؟! وسيزداد هذا الاختلاف وتشتد إثارته حين تحقق هذه الجماعة أعلى تأثير ونفوذ في نفس اللحظة التي ينجح فيها حزب العدالة والتنمية –تلاميذ أربكان- في أن يكون على رأس السلطة، إذ سيشن كل منهما على الآخر حربا ضروسا.
ومن عجائب المقادير أن تكون الجاليات التركية في أوروبا، وبالأخص ألمانيا، هي نقطة انطلاق للحركة الإسلامية التركية، ذلك أن قسما كبيرا من قوة العمالة التركية هاجرت إلى الغرب مع سوء الأحوال في تركيا واحتياج أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى العمالة، ثم مع وجود حرية في أوروبا لم يكن يتوفر مثلها في تركيا، فكانت النتيجة أن أدى ذلك كله إلى نشاط الحركة الإسلامية في جاليات الخارج[16].
والحصيلة النهائية أن تركيا "في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين بدأت تشهد وعيا متزايدا لمن يوصفون بالمحافظين أو الإسلاميين أو من وُصِفت حركتهم بالصحوة الإسلامية، كان محورهم الأول: إعادة التوازن للعقل التركي الحديث بأن يتوافق مع نفسه وذاته بما يقنعه ويطمئنه، وبأنه لا يستطيع أن يعيش خارج تاريخه الذاتي ولو كان غير مشرف، فكيف به وهو ينتمي إلى أعرق تاريخ وأشرفه، فكيف يتم فصله عن تاريخه وهويته بالقهر والكذب والإرهاب الأمني والسياسي"[17]، لقد فشلت الكمالية أن تكون بديلا للإسلام[18]، ولهذا تأسف كاتب تركي معجب بأتاتورك –عند مطلع التسعينيات- بأن الكمالية تتشقق وأن الإسلام بات أقوى شيء في تركيا وأن الكمالية لم تفهم موقع الإسلام من هوية الأتراك[19].
إلا أن اللافت للنظر أن الديمقراطية والتعددية التركية –وإن كانت قشرة للدولة العميقة- استطاعت استيعاب المجهود الإسلامي داخلها، وبقدر ما ظلت الدولة العميقة تخشى من اختراق أو اختطاف الإسلاميين للدولة عبر هذه الآلية، بقدر ما أمنت من تحول المجهود الإسلامي نحو الحركات السرية والقتال المسلح[20].
في المقالات القادمة بإذن الله تعالى نتعرض لتجربة نجم الدين أربكان.
نشر في تركيا بوست
[4] د. هدى
درويش: الإسلاميون وتركيا العلمانية.. نموذج الإمام سليمان حلمي، (القاهرة، دار
الآفاق العربية، 2008م) ص159 وما بعدها.
[6] محمد زاهد
جل: التجربة النهضوية التركية.. كيف قاد حزب العدالة والتنمية تركيا إلى التقدم
(بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات، 2013م)، ص52، 53.
[8] Lapidus: A History
of Islamic Societies, p. 509; Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p.
35-7; Binnaz Toprak: The Religious Right, p. 634.
[11] منال
الصالح: نجم الدين أربكان ودوره في السياسة التركية 1969 – 1997 (بيروت: الدار
العربية للعلوم ناشرون، 2012م) ص48، 49.
[15] Ihsan Yilmaz:
Ijtihad and Tajdid by conduct, in: Yavuz, Esposito: “Turkish Islam and the
Secular State”, p. 226; Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 15-8.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق