اقرأ أولا: موجز التجربة
الإسلامية في تركيا العلمانية
هي أقوى تجربة إسلامية في تركيا منذ دخولها الحقبة
العلمانية وحتى ذلك الوقت، حمل لواءها الزعيم الإسلامي الكبير: نجم الدين أربكان (29 أكتوبر 1926 – 27 فبراير 2011م). وهي التجربة التي نشأ في رحمها حزب العدالة
والتنمية.
يُعَدّ نجم الدين أربكان أول سياسي إسلامي في تركيا منذ
دخولها الحقبة العلمانية، فلقد كان السياسيون خلافه علمانيون، ومن نُسِب منهم إلى
العاطفة الإسلامية كمندريس أو أوزال أو ديميريل إنما كانوا يعلنون اعتناق
العلمانية وكانوا ليبراليين يفتحون المساحة لبعض المظاهر الإسلامية من منطلق
الحريات، الحريات التي يستلزمها موقع تركيا كعضو في المعسكر الغربي الليبرالي ضد
المعسكر الشرقي الشيوعي، وفي حين انتهى مندريس نهاية درامية بإعدامه انتهى أوزال
نهاية نصف درامية بموت مشكوك فيه وانتهى ديميريل نهاية عادية بذوبانه في النظام
وأفول نجمه، ثم كانت الإثارة كلها متكثفة في الحياة الحافلة لنجم الدين أربكان!
على أنه ينبغي أن نقول بأنه لولا راديكالية نجم الدين ما سطع نجم أوزال ولا أفل
نجم ديميريل ولا ظل نجم مندريس ذكرى تثير الشجون الإسلامية.
لقد كان نجم الدين أهم شخصية إسلامية في تاريخ تركيا
العلمانية.
ينحدر أربكان من نسل أمراء السلاجقة، وُلِد في مدينة
سنوب شمال تركيا، لأسرة متدينة يعمل أبوه قاضيا، وتربى في أحضان الطريقة النقشبندية،
تخرج في كلية الهندسة باسطنبول محققا المركز الأول على دفعته (1948م)، فعُيِّن
معيدا فيها، ثم أرسل إلى بعثة في ألمانيا (1951م) وهناك حصل على الدكتوراه من
جامعة أخن (1953م) وعمل هناك رئيسا لمهندسي الأبحاث بمصنع محركات في مدينة كولون،
وكانت له إضافات في صناعة المحركات، ثم عاد إلى تركيا (1955م) وترقى في المراتب
العلمية فكان أصغر أستاذ مساعد في جامعة اسطنبول وهو في سن السابعة والعشرين، ثم
أسس مصنع "المحرك الفضي" (1956م) لإنتاج محرك الديزل وكان في الثلاثين
من عمره، ولم تزل شركته رائدة في هذا المجال، ثم تولى منصب الأمين العام لاتحاد
غرف التجارة والصناعة والبورصة التركية (1967م) ثم صار رئيس الاتحاد عام (1986م)،
واستثمر هذا الموقع في خدمة الصناعة الوطنية والدفاع عمن تضررت مصالحهم الاقتصادية
من المهمشين ورجال الأناضول، فاصطدم بالعلمانيين وحيتان الأموال والرئيس ديميريل
الذي هاجمه أربكان، وتحت ضغوط إعلامية علمانية قوية أُجْبر على ترك الاتحاد وأسس
أول أحزابه السياسية ليستمر في الدفاع عن مصالح أمته[1].
لم يكن تأسيس الحزب أول انخراطه بالسياسة، بل كانت بداية
المشوار السياسي قديمة منذ تخرجه في الجامعة، إذ انضم إلى حزب العدالة الذي كانت
قيادته قد آلت إلى سليمان ديميريل، ومع ظهور توجهه الإسلامي رفض ديميريل أن يضعه
على قوائم انتخابات 1969 خروجا من الضغوط العلمانية، إلا أن أربكان ترشح مستقلا في
مدينة قونية وفاز[2]!
أسس أربكان حزب النظام الوطني (26 يناير 1970م)، وكان
أول حزب إسلامي تعرفه الدولة التركية، إذ أظهر أربكان هويته بكل وضوح، وخطب في
مؤتمره الأول قائلا: "أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام" وهاجم الشيوعيين
والماسونيين وسيطرتهم على الإعلام والاقتصاد وقال: ليس أمامنا إلا العمل معا لنصل
تاريخنا المجيد بحاضرنا الذي نريد أن يكون مشرفا"، لكن الحزب أغلق بعد عام
وأربعة أشهر (20 مايو 1971م) مع حظر ممارسة السياسة على أعضاء الحزب لخمس سنوات،
فاضطر أربكان أن يغادر تركيا، ثم عاد بعد هدوء الأوضاع نسبيا (1972) ليدفع بعضَ
الإسلاميين ممن لم ينطبق عليهم هذا الحكم لتأسيس حزب جديد: حزب السلامة الوطني (11
أكتوبر 1972م)، وخفَّف من لهجته الإسلامية وتبنى "صورة أكثر واقعية [تبتعد
عن] استخدام شعارات تنادي بالتوجه الإسلامي"[3]،
فخاض انتخابات (1973م) وفاز بـ 11.8% من الأصوات (48 مقعدا) فحلَّ بذلك في المركز
الثالث، واستفاد من الخلاف والانقسام بين الحزبين الكبيرين (حزب العدالة وزعيمه
سليمان ديميريل 149 مقعد = 29.8% – وحزب الشعب الجمهوري وزعيمه بولنت أجاويد 186
مقعد = 33.3%) فاضطر أجاويد أن يأتلف مع أربكان فحصل حزب السلامة على 7 وزارات
وصار أربكان نائبا لرئيس الوزراء، وقد ساعدته الظروف الدولية وموقف الغرب من قضية
قبرص في رفع صوته بمعاداة الغرب والتحرر منه والاتجاه نحو العالم الإسلامي وإبراز
الهوية الإسلامية[4]،
لكن الحكومة الائتلافية سقطت بعد تأسيسها بتسعة أشهر، وبعد اختناق سياسي اضطر حزب
العدالة أن يتحالف مع حزب السلامة، فصار أربكان نائبا لرئيس الوزراء، ولما جاءت
انتخابات (يونيو 1977م) تراجع حزب السلامة إلى 6.8% (24 مقعدا)، لكنه حافظ على
موقعه في الائتلاف الحكومي بقيادة حزب العدالة بستة وزارات وبقاء أربكان نائبا
لرئيس الوزراء، وانهار الائتلاف ثم دخل في ائتلاف آخر مع حزب الشعب وانهار أيضا
كما هي الحالة المسيطرة على عقد السبعينات[5].
دخلت الساحة الإقليمية كلها تطورا جديدا بالثورة الخمينية في إيران
(1979م)، وهي الثورة التي أعطت زخما لكل الإقليم، وكان من توابعها في تركيا أن ذهب
وفد من حزب السلامة مهنئا الخميني ثم أرسل الخميني رسالة إلى أعضاء حزب السلامة
متمنيا لهم النجاح في إقامة دولة إسلامية في تركيا، وفي ذلك الوقت حشد حزب السلامة
لمظاهرة ضخمة في مدينة قونية (6 سبتمبر 1980م) تقول بعض التقديرات بأنها بلغت ربع
المليون احتجاجا على القرار الإسرائيلي بضم القدس، ومع ما تمر به البلاد من أزمات
واضطرابات، كانت المظاهرة مناخا جامعا اختلطت فيه الروح الإسلامية بالروح
الاحتجاجية ورُفِعَت فيها شعارات تعلن الإسلام وترفض العلمانية، وهكذا بدا كأن
أربكان سيكرر تجربة الخميني في إيران، ولا ريب أن تكرار التجربة جال بخيال
الكثيرين من الإسلاميين وأعداءهم، ولهذا لم يكن الجواب إلا انقلابا عسكريا (1980م)
قاده كنعان إيفرن، فحلَّ الأحزاب وفرض الإقامة الجبرية على زعمائها[6]،
أما أربكان فساقوه إلى السجن ثم أطلق سراحه مع حظر من ممارسة السياسة لأربع سنوات[7].
لكن الرجل الموصوف بذي الأرواح المتعددة سيعود للسياسة من جديد، وهو ما
نعرض له في المقال القادم إن شاء الله تعالى.
نشر في تركيا بوست
[5] لمزيد من
التفاصيل، انظر: منال الصالح: نجم الدين أربكان ص53 وما بعدها، 105 وما بعدها؛ Rabasa, Larrabee: The Rise of Political Islam, p. 40-1.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق